مصابيح الأصول

علاء الدين بحر العلوم

مصابيح الأصول

المؤلف:

علاء الدين بحر العلوم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز نشر الكتاب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٨

الاصولية بمباحث الالفاظ ـ يستدعى خروج الكثير من المسائل ، والالتزام بان ذكرها للاستطراد. وهذا واضح الفساد. وإن ارادوا بها ان ذوات الادلة الاربعة موضوع العلم ، فالبحث عن اصل الدليلية وإن كان بحثا عن العوارض إلا ان تخصيص الموضوع ـ بالادلة الاربعة ـ يستدعى خروج غير واحد من المسائل عن علم الاصول ، لان البحث فيها ليس بحثا عن عوارض الادلة الاربعة. ولهذا التزم الشيخ الانصارى (قده) بارجاع البحث عن خبر الواحد الى البحث عن ثبوت السنة به ومعنى ذلك : ان السنة التى هى عبارة عن قول المعصوم (ع) او فعله او تقريره ، ـ كما انها تثبت بالخبر المتواتر وبالقرينة القطعية ـ هل تثبت بخبر الواحد؟. وهذا بحث عن عوارض السنة.

ولا يخفى انه غير مفيد. (اولا) ـ إن غاية ما جاء به كان تصحيحا للبحث عن خبر الواحد والتعادل والترجيح واما مثل الشهرة الفتوائية والاستصحاب ونحوهما ، فالتوجيه المذكور لا يشملهما ، لعدم كشفهما عن السنة ، وإنما يكشفان عن ثبوت نفس الحكم الشرعى. فالبحث عنهما لا يعود الى السنة.

و (ثانيا) ـ انه لو اختص التوجيه بخبر الواحد والتعادل والترجيح ، فمع ذلك لا يتم ايضا ، لانه إن اريد بالثبوت الثبوت الحقيقى الخارجى ، فالبحث عن ثبوت السنة بالخبر ـ الذى مرجعه الى البحث عن تأثير الخبر فى وجود السنة ـ باطل جزما ، فان المؤثر فى وجود السنة نفس المبادى والمقدمات التى حصلت حينها. اما نقل زرارة ـ مثلا ـ لمقالة الامام عليه‌السلام ، فهو حكاية عن السنة ومن المعلوم تقدم المحكى على الحاكى رتبة واستحالة ان يكون المحكى معلولا للحكاية او الحاكى. وإن اريد به الثبوت

٢١

الحقيقى الذهنى ، فالبحث عنه يرجع الى البحث عن حصول العلم الوجدانى بثبوت السنة من الخبر على نحو لا يحصل التشكيك فيه. وهذا باطل ايضا ، لان المراد من الخبر الذى يبحث عن حجيته هو القابل للصدق والكذب ، اما الموجب للقطع بالثبوت فليس بمبحوث عنه. وإن اريد به الثبوت التعبدى ـ بمعنى ان الشارع المقدس هل جعل خبر الواحد حجة كاشفة عن ثبوت السنة ـ فهو صحيح وبحث عن العوارض ؛ إلا انه بحث عن عوارض الخبر لا السنة ، لان معنى جعل الحجية لذلك الخبر ان الشارع اعطاه صفة الطريقية ، وتمم جهة كشفه الناقص عن الواقع وهذا من عوارض الكاشف لا المنكشف. فما تكلفه الشيخ (قده) غير سديد.

والظاهر ان علم الاصول ليس له موضوع اصلا ، بل هو عبارة عن جملة مسائل وقواعد متشتتة ، جمعها اشتراكها فى الدخل فى الغرض الذى لأجله دون ذلك العلم. وهذه القواعد ـ على اختلاف ما يحصل منها من حيث القطع بالحكم الواقعى ، او التعبد به ، او الوظيفة الشرعية عند الشك فى الحكم ، او الوظيفة العقلية التى يرجع اليها أخيرا ـ كلها تحصل غرضا واحدا ، وهو : تحصيل الوظيفة الفعلية فى مقام العمل. وهذا المقدار يكفى فى معرفة علم الاصول.

وإن أبيت عن ذلك ، والتزمت بوجود الموضوع فى جميع العلوم ، فنقول : موضوع علم الاصول عبارة عن جامع انتزاعى من موضوعات مسائل الاصول على اختلافها ، التى غايتها تحصيل الحجة الفعلية فى مقام العمل.

* * *

٢٢

(الوضع)

والبحث عنه يقع فى جهات اربع :

(الاولى) ـ دلالة الالفاظ على معانيها ، وهل هى ذاتية أو جعلية.

(الثانية) ـ تعيين الواضع ، وهل هو الله سبحانه وتعالى أو البشر.

(الثالثة) ـ حقيقة الوضع.

(الرابعة) ـ تقسيم الوضع.

(اما الجهة الاولى) فقد يدعى ان دلالة الالفاظ على المعانى ليست بجعلية ، بل هى ذاتية على نحو كان مجرد اطلاق اللفظ ـ بطبعه ـ يستدعى الانتقال الى المعنى ، لوجود العلقة الذاتية بينهما ولا يخفى ما فيه ، فانهم إن ارادوا بذلك ان العلقة ـ القائمة بين طبيعى اللفظ والمعنى ـ علة تامة فى الانتقال لدى الجميع ، فلازمه ان يعرف كل شخص جميع لغات العالم من دون حاجة الى تحمل مشقة التعليم ، فالعربى يلزمه ان يعرف اللغة الفارسية وغيرها ، والفارسى عليه ان يعرف اللغة العربية وغيرها ، باعتبار ان الدلالة علة تامة للانتقال وهذا ـ بالوجدان ـ باطل ، لأنا نجد اهل لسان واحد لا يحيطون بخصوصيات لسانهم ، فضلا عن الاحاطة بجميع اللغات. وإن ارادوا بذلك ان طبع اللفظ فيه اقتضاء وقابلية للانتقال ، ولذا يختار الواضع لفظا مخصوصا ، ويضعه لمعنى مخصوص ، فالمناسبة الموجودة بين اللفظ والمعنى نظير الملازمات العقلية التى هى من الامور الواقعية وإن لم تكن من الموجودات الخارجية ، ففيه انه إن اريد ان هذه المناسبة ثابتة فى الواقع ـ إن لم يلتفت إليها الواضع عند الجعل فهو امر ممكن. ومن الامثال المعروفة ان الاسماء تنزل من السماء ، لكنه لا دليل

٢٣

عليه. وإن اريد من هذه المناسبة ان الواضع يلتفت اليها حين الوضع ، فينبعث بسببها الى اختيار لفظ مخصوص ـ فهو باطل جزما ، لان الواضع عند الوضع لا يلتفت دائما الى وجود مناسبة ذاتية بين اللفظ والمعنى ، لتكون تلك المناسبة قد دعته لاختيار لفظ مخصوص من بين سائر الالفاظ ، كما نشاهد ذلك فى الاعلام الشخصية وأسماء الاجناس. وقد يخترع الواضع لفظا مخصوصا ، فيضعه للمعنى فى الوقت الذى ليس لذلك اللفظ سابقة فى عالم الالفاظ ، فيكون كالمرتجل من هذه الجهة.

هذا. وربما يتحقق الوضع من الصبيان أحيانا. وبديهى انهم لا يلتفتون الى وجود مناسبة بين الامرين ـ لو كانت هناك مناسبة لينبعثوا بسببها الى الاختيار.

وربما يقال بانه لو لا المناسبة الذاتية بين اللفظ والمعنى للزم الترجيح بلا مرجح ، وهو باطل.

والجواب عنه : (اولا) ـ ان المحال هو الترجح بلا مرجح كالمعلول بلا علة والفعل بلا فاعل ، واما الترجيح بلا مرجح فليس بمحال. (بيان ذلك) : ان الترجيح امر اختيارى يمكن ان يرجح الشخص احد الفعلين على الآخر ، وإن لم تكن فيه مزية تستوجب التقديم. وسببه انه لما كانت ضرورته تدعوه الى إيجاد أحد الفعلين ، وكان كل منهما وافيا فى القيام بالغرض ، فلا ريب ان تلك الضرورة هى التى تدعوه لان يختار احدهما ويترك الآخر ، وإن لم تكن مزية وخصوصية فى الفرد الذى اختاره ، مثلا : لو فرضنا ان هناك اوانى متعددة من الماء ، وكان كل إناء مساويا للآخر فى جميع الخصوصيات المحتملة : من البرودة والكمية وما شاكلهما ، ومن الاتفاق ان الانسان اضطر الى شرب الماء ليرفع عطشه ، بحيث كان كل

٢٤

إناء وافيا فى القيام بالغرض فهل تراه يمتنع عن الشرب ، ويعرض نفسه للخطر مدعيا ان إقدامه على واحد من الاوانى مستلزم للترجيح بلا مرجح ، او تراه يقدم على شرب ما فى الاناء بعد ان كان مضطرا الى فعل الجامع ، وهو شرب مطلق الماء الذى يتأتى حصوله بكل واحد من الاناءات؟ وضرورى ان العقل لا يرى قبحا فى ترجيح احد الامرين بعد اضطراره الى الى الجامع. وما نحن فيه كذلك ، فان الواضع حيث احتاج الى وضع طبيعى اللفظ لطبيعى المعنى لغرض التفاهم ، وكان كل لفظ قابلا للجعل ومحصلا للغرض ، فاختياره خصوص لفظ لا يستلزم الترجيح بلا مرجح ، وإن لم يكن فيه خصوصية. وعليه فالترجيح بلا مرجح ليس بمحال.

و (ثانيا) ـ انه على تقدير ان يكون الترجيح بلا مرجح محالا كالترجح بلا مرجح ، فلا نسلّم ان الترجيح الحاصل فى خصوص لفظ هو المناسبة الذاتية ، بل لعله شىء آخر من الامور الخارجية ، فلا يتم المدعى.

و (ثالثا) ـ ان الترجيح ـ على تقديره ـ إنما هو فى نفس الفعل دون المتعلق ، باعتبار ان عمل الواضع ينبغى ان يشتمل على الخصوصية ، مع انهم قالوا : إن الالفاظ مشتملة على المناسبة الذاتية لا نفس الوضع.

فالمتحصل مما تقدم ان دلالة الالفاظ على المعانى ليست ذاتية.

و (اما الجهة الثانية) وهى تعيين الواضع ـ فقد ذهب شيخنا الاستاذ المحقق النائينى (قده) الى ان الواضع لجميع لغات العالم هو الله تبارك وتعالى ، وليس هناك من البشر من تحمل عناء هذا الامر ومشقته. وقد اعتبر الوضع من الامور المتوسطة بين التكوين والتشريع ، فانه ليس من الامر التشريعية المتوقف إيصالها على إرسال رسل وانزال كتب ، ولا من التكوينية التى جبل البشر على إدراكها ، كالجوع والعطش وغيرهما مما يدركه

٢٥

الانسان ، بل مطلق الحيوان ، بطبعه وجبلته ، بل الوضع وسيط بين الامرين ، فان الله سبحانه وتعالى يلهم الانسان قوة النطق وفهم الالفاظ ، فينبعث ـ بتلك القوة التى منحها الله تعالى اياه ـ الى جعل الالفاظ للمعانى المعهودة طمعا فى تحصيل غرضه ، وهو التفهيم والتفاهم بين سائر افراد البشر ، كما دل عليه قوله تعالى : (الرَّحْمنُ ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ ، عَلَّمَهُ الْبَيانَ) وعلى هذا نجد الاطفال ينبعثون ـ بدافع الالهام الالهى ـ الى التعبير عن مقاصدهم بالفاظ خاصة ، وهذا امر صادق يدل على ان الواضع للغات هو الله تبارك وتعالى ثم ايد (قده) مطلبه بامرين :

(الاول) ـ ان الالفاظ والمعانى من الكثرة بمكان لا يمكن ان يتصورها جماعة ، فضلا عن شخص واحد.

(الثانى) ـ لو كان هناك واضع مخصوص ، لنقل لنا التاريخ اسمه نقلا متواترا او آحادا ، مع ان التاريخ لم يحدثنا بذلك.

واما ما ورد على الالسنة من ان الواضع يعرب بن قحطان. فأمر ليس بثابت.

و (الجواب عن ذلك) ان ما ادعاه (قده) ـ من وجود امر متوسط بين التكوين والتشريع ـ غير ثابت ، إذ الموجود الخارجى إما أن يكون أمرا واقعيا لا يدور تحققه مدار الاعتبار ، فهو تكوينى. وإما ان يكون أمرا جعليا يدور مدار الاعتبار ممن بيده الاعتبار ، فهو تشريعى ، فالواسطة منتفية

واما دعوى الالهام فمسلّم ، كما جاء ، فى قوله تعالى : (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) ولكنه غير مختص بالوضع ، بل يشمل امورا كثيرة : (منها) ـ ان الله تعالى يلهم الانسان ببناء دار له ليستقر فيها ، كما ويلهمه بحياكة ثوب له

٢٦

ليلبسه ، فيتقى به من البرد مثلا وهكذا فى سائر الامور ، بل لا اختصاص فى ذلك بالبشر خاصة ، فان الحيوان يلهم فى افعاله ، وقد يكون إدراكه فى بعض الموارد ارقى من إدراك البشر : فالطفل الصغير قد لا يخشى من الحية حين يراها تمشى على الارض ، بخلاف الفارة ، فانها حين تجد هرة امامها تفر منها لتنقذ حياتها. وهذا إلهام الهى كما قال تعالى سبحانه : (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى).

ثم إن الوضع وليد الحاجة بين طبقات البشر ، لغرض التفاهم وسير حركة الحياة ، وهو يختلف باختلاف الامم والزمان ومقدار الحاجة اليه ، فالمجتمع المتألف من افراد لم تدخل اليهم الحضارة هو مجتمع بدائى ينطوى على نفسه لا يحتاج الى الامور الاساسية من الحياة ، فهو يقتصر على اصطلاحات يضعها لنفسه تمشيا مع مقتضيات حاجاته الضيقة. اما المجتمع الحضارى الذى يتغير ويتطور مع الزمن ، فان أسباب المشاكل الاجتماعية والآلات الحضارية تقتضى ان يخلق ألفاظا واصطلاحات وتعاريف تتلاءم التطورات التى تقتضيها تلك التغيرات ، فلقد عثرت الدراسات على اطفال عاشوا مع الحيوانات ، فعند ما حاولوا دراستهم وطبيعة حياتهم رأوا انهم يمشون على اثنين ، ولكنهم لا ينطقون بلسان متعارف ، وإنما افترضوا لهم لغة خاصة لا يفهمها إلا من عاش عيشتهم. من هذا نستطيع ان نفهم ان المجتمع ـ لحاجته ـ هو الذى يضع الالفاظ المقتضية لطبيعة العصر ، لان الحاجة كما يقولون أم الاختراع ، فالبدوى ـ الذى يقضى حياته فى الصحراء ـ لا يحتاج إلا الى مجموعة خاصة من الالفاظ التى تتطلبها حياته البدوى ، بينما نرى الذى يعيش فى القرى والارياف اكثر حاجة من هذا البدوى واوسع لغة ، لتطور حياته نسبيا ، وهكذا كلما تطورت الحياة وتكثرت

٢٧

حاجاتها ازدادت تبعا لذلك لغتها الخاصة. إذا فالحاجة هى التى تفرض على المجتمع وضع التعابير والالفاظ ، فأبونا آدم عليه‌السلام وزوجته عاشا فى عصر لم تفرض عليهما الحاجة اكثر من كلمات معدودة يقضيان بها حاجتهما ، ولكن الاجيال المتعاقبة اخذت تخترع لها الفاظا حسبما تمليه عليها مقتضيات زمانها وتفرضه عليها متطلبات عصرها.

وبذلك يظهر الجواب عما ذكره اولا من تأييد القول بان الواضع هو الله سبحانه وتعالى فانه يتم اذا كان الوضع دفعيا وفى زمان معين من شخص واحد أو من جماعة مخصوصين واما إذا كان تدريجيا حسبما تقتضيه الحاجة ، فلا محذور فى تصدى البشر له ، بل هو الواقع فى الخارج كما عرفت. وبه يندفع ما ذكره من التأييد الثانى ، باعتبار ان الواضع ليس شخصا واحدا ليتصدى التاريخ الى ذكره ، بل الوضع ـ كما قلنا ـ ينشأ من احتياج كل أمة الى الفاظ تعبر بها عن مقاصدها فى مقام التفهيم لتنظيم امورها وبيان حوائجها. وهذا لا يستدعى أن يحدثنا التاريخ به.

و (اما الجهة الثالثة) ـ وهى بيان حقيقة الوضع ـ وانه هل الوضع من الامور الواقعية ، او من الامور الاعتبارية؟

(فيه اقوال)

القول الاول ـ كما عن بعض الاعاظم المحققين (قده) بتوضيح منا ـ بان الوضع من الامور الواقعية الحقيقية ، وليس من سنخ الجواهر والاعراض ، لان الاول منحصر بالامور الخمسة : العقل ، والهيولى ، والنفس ، والصورة ، والمادة. والوضع لا يعود الى واحد منها ، كما انه ليس من الثانى ، لان الاعراض منحصرة فى المقولات التسع. والوضع اجنبى عنها ، مضافا الى

٢٨

ان الاعراض تتوقف ـ فى وجودها ـ على وجود معروضاتها ، بخلاف الوضع ، فانه وان كان يعرض على متعلق ، إلا انه لا وجود له خارجا ، بل طبيعى اللفظ يوضع لطبيعى المعنى. اما اللفظ الخارجى فليس بموضوع للمعنى ، وإلا لا نعدم الوضع بانعدام ذلك الموجود ، بل ربما يوضع اللفظ لشىء لا وجود له : كالعنقاء ، أو يجعل لشىء مستحيل بحسب الوجود : كشريك البارى.

وكيف كان فالوضع ـ بحسب الحقيقة ـ ليس من قبيل الجواهر والاعراض ، بل هو من سنخ الملازمات العقلية غير القابلة للانفكاك. وهذه الملازمات العقلية من الامور الواقعية ، وهى سنخ من الوجودات التى يدركها العقل ، فلو قلنا : العدد إن كان زوجا فهو قابل للقسمة على المتساويين ، فالملازمة ـ بين الزوجية وقبول القسمة على المتساويين ـ امر واقعى وسنخ من الوجود يتعقله العقل ، والقضية الشرطية تصدق بصدق الملازمة وإن لم يكن طرفاها صادقين ، كالملازمة بين تعدد الآلهة والفساد فى قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا ...) ولكن هذه الملازمة العقلية (تارة) لا تنتهى الى جعل جاعل ، بل تكون موجودة وثابتة من الازل حتى النهاية : كالملازمات التكوينية ... و (اخرى) تنتهى الى جعل جاعل على نحو لم تكن ثابتة من البداية ازلا ، وإنما جعلت ابتداء فاصبحت ثابتة بين الامرين من حين جعلها ، وهى مع ذلك من الامور الواقعية.

اما الوضع فهو من قبيل الثانى ، حيث ان الواضع ـ قبل وضعه ـ تصور اللفظ مجردا عن المعنى ، وتصور المعنى من دون اللفظ ، وليس بين الاثنين ملازمة ، ثم بعد ذلك جعل ما تصوره من اللفظ على المعنى المتصور ، فاوجد علقة وربطا بينهما ، وصار كلما يطلق اللفظ فى مورد

٢٩

يلزم منه الانتقال الى المعنى الموضوع له ، فالعلقة والملازمة جعلية من قبل الواضع ، وهى من الامور الواقعية.

ولا يخفى ان الملازمة ـ المدعى ثبوتها بين اللفظ والمعنى المستوجبة للانتقال ـ إن اريد بها ثبوتها مطلقا فى حق كل واحد من دون اختصاص لها بالعالمين بالوضع ، فهو باطل بالبداهة ، لاننا نجد الاشخاص الذين لم يطلعوا على الوضع لا يمكنهم الانتقال بمجرد سماع اللفظ. ولو كانت الملازمة ثابتة بينهما على الاطلاق ، لما امكن الانفكاك ، وإن اريد بها ثبوتها فى خصوص من علم بالوضع دون غيره ، فذلك امر معقول ، ولكنه خلاف الفرض ، إذ المفروض ان الملازمة عين الوضع. وهنا الملازمة متأخرة عن الوضع برتبتين.

القول الثانى ـ إن الوضع من الامور الاعتبارية. ومتعلق ذلك الاعتبار هو الملازمة بين اللفظ والمعنى ، فيكون الوضع عبارة عن جعل الملازمة بينهما بحسب الاعتبار لا بحسب الواقع ، كما تقدم عن بعض الاعاظم (قده).

ولا يخفى ان المعنى المذكور وإن كان معقولا فى نفسه ، إلا انه لا يرجع إلى نتيجة ، لانه إن اريد بذلك اعتبار الملازمة بين اللفظ الموجود فى الخارج والمعنى الموجود خارجا بان يعتبر عند تحقق اللفظ خارجا وجود المعنى فى الخارج ، فهو امر خال عن الفائدة ، لان الانتقال الى المعنى إنما هو من الوجود الذهنى للفظ ، فلا اثر لفرض وجود واقع الماء فى الخارج عند تحقق لفظ الماء خارجا. وإن أريد به الملازمة بين وجود اللفظ ذهنا ووجود المعنى ذهنا ايضا ، فان كان المراد هو الملازمة بين وجوديهما الذهنيين على وجه الاطلاق فهو باطل ، إذ يلزمه ان يعتبر

٣٠

الجاهل بالوضع ـ عند تصوره اللفظ ـ عالما بالمعنى ، مع ان اعتبار الملازمة بين تصور اللفظ والمعنى ـ بالاضافة الى الجاهل ـ لغو محض. وإن ادعى أن الملازمة الاعتبارية ثابتة فى حق خصوص من علم بالوضع ، فهى لا محصل لها ، فان الملازمة ـ بين اللفظ والمعنى فى الوجود الذهنى ـ متحققة فى نفس الامر مع قطع النظر عن الاعتبار. وفى مثله لا معنى للاعتبار ، لانه من اعتبار ما هو ثابت فى حد نفسه ، فلا يبقى لاعتبار الملازمة بين اللفظ والمعنى وجه معقول.

القول الثالث ـ إن الوضع من الامور الاعتبارية ، وهو عبارة عن اعتبار وجود اللفظ وجودا للمعنى تنزيلا. (بيان ذلك) أن للشيء سنخين من الوجود : (احدهما) ـ وجود حقيقى الذى هو وجوده فى نظام الوجود من الجواهر والاعراض. (ثانيهما) ـ وجود اعتبارى ، وقوامه الاعتبار والفرض. فالملكية مثلا لها وجود حقيقى ، وهو إحاطة المحيط بالمحاط إحاطة خارجية ، ولها وجود اعتبارى كاعتبار شيء ما ملكا لزيد فى الوقت الذى يكون بينه وبين ملكه مسافة بعيدة. وقد ادعى أن الوضع من هذا القسم ، فان الواضع حين يجعل ربطا بين اللفظ والمعنى لا يقصد من ذلك إلّا أن المعانى توجد بوجود تلك الالفاظ ، بحيث يكون وجود اللفظ وجودا ثانيا للمعنى تنزيلا. وهو هو. ولذلك يسرى اليه ما للمعنى من القبح أو الحسن ويستحق ما يستحقه المعنى من الاهانة او التعظيم. ولهذا كانت اسماء الله تبارك وتعالى محرمة المس على الجنب ، وأنه لا يجوز تنجيسها ، وما شاكل ذلك. وبالعكس أسماء اعداء الله تعالى ، فانها تهان وتهتك بشتى الاساليب. وما ذلك إلّا لان وجود اللفظ وجود للمعنى تنزيلا.

وعليه فالوجودات ثلاث : حقيقى خارجى ، وحقيقى ذهنى ، ووجود لفظى.

٣١

فالوضع من الامور الاعتبارية : بمعنى أن اللفظ يعتبر وجودا ثانيا للمعنى ، فاذا أطلق اللفظ فقد وجد المعنى.

ولا يخفى (اولا) ـ أن المعنى المذكور وإن كان معقولا فى نفسه ، إلّا أن المانع من الالتزام به أنه أمر دقىّ محتاج الى التفات ونظر ، بينما نجد الوضع يصدر من الاطفال ، بل يمكننا ان ندعى صدور الوضع من بعض الحيوانات ـ على نحو الموجبة الجزئية ـ كما نشاهد فى الهرة عند ما تصرخ بصوت ، وهى تريد جمع اطفالها الصغار ، وربما تصرخ بصوت آخر وهى تريد ان تزجر ما قابلها من العدو ، وما شاكل ذلك.

(ثانيا) ـ ان الالتزام بهذا المعنى بلا ملزم ، فان الغرض من الوضع الدلالة على الشىء ، وهذا المعنى يقتضى الاثنينية بين الدال والمدلول عليه ، فجعله وجودا واحدا جعل من غير ملزم. واما ما ورد من دعوى ان اللفظ فى مرحلة الاستعمال يغفل عنه غالبا ، وهذا آية ان المتكلم يريد إيجاد المعنى فى الخارج ، فالجواب عنه ان المغفولية وإن كانت تامة فى الغالب ، لان المستعمل ليس من قصده إلا إظهار المعنى ، فنظره الى اللفظ نظر آلى وطريق الى المعنى ، فهو كالمشاهد فى المرآة إذا كان من قصده النظر الى صورته ، فلا يكاد يلتفت إلى المرآة نفسها إلا التفاتا آليا ، فتذهب عليه الخصوصيات الموجودة فيها ، اما الجاعل للمرآة والواضع للالفاظ ، فكل منهما ينظر الى الشىء نظرا استقلاليا ، ويرى جميع الخصوصيات ، إلا ان هذا لازم أعم لكون الوضع اعتبار وجود اللفظ وجودا للمعنى.

وكيف كان فهذا الوجه غير تام.

القول الرابع ـ ذهب بعض مشايخنا المحققين (قده) إلى ان الوضع

٣٢

من الامور الاعتبارية ، وقد استعمل بماله من المعنى اللغوى وهو وضع الشىء على الشىء ، وهذا يتحقق ـ تارة ـ فى امر حقيقى خارجى ، كوضع النصب على الامكنة للدلالة على انه رأس الفرسخ وما شاكل ذلك.

و (أخرى) يتحقق فى امر اعتبارى ، وهو عالم الالفاظ ، فيضع الواضع لفظا ليدل به على المعنى. والوضع بهذا المعنى مستعمل فى المعنى اللغوى ، كما يعبر عنه بالفارسية ب (گذاشتن). غاية الامر ليس مصداقه فردا خارجيا ، بل امر اعتبارى.

(ولا يخفى ما فيه) اولا ـ انه من الامور الدقيقة التى تحتاج الى إعمال العناية ، وقد عرفت صدور الوضع حتى من الصبيان.

ثانيا ـ أنه ليس بتام فى حد ذاته ، لان الوضع الخارجى يتقوم بأمور ثلاثة ، ففى وضع النصب على الفرسخ لا بد من الموضوع : وهو النصب ، والموضوع عليه ، وهو المكان ، والموضوع له : وهو الدلالة على انه رأس الفرسخ الذى هو الغاية.

اما الوضع فى محل الكلام فمشتمل على امرين : موضوع ، وموضوع له. دون الموضوع عليه. فان اللفظ موضوع ، والدلالة على المعنى موضوع له. واما الموضوع عليه فليس بموجود. وربما قيل : بان المعنى هو الموضوع عليه ، ولكن ذلك غلط ، بل المعنى موضوع له. فان اللفظ وضع ليدل على المعنى كوضع النصب للدلالة على رأس الفرسخ. فالاركان فى الوضع ناقصة ، وإن أبيت إلا عن كون المعنى هو الموضوع عليه فالمفقود هو الموضوع له. وكيف كان ، فالوجوه التى ذكرت لبيان حقيقة الوضع كلها باطلة.

وبعد ان استعرضنا الاقوال المتقدمة ـ التى هى فى بيان

٣٣

حقيقة الوضع وبطلانها نقول :

إن الانسان لما كان محتاجا الى التفهيم والتفاهم بمقتضى طبيعة المجتمع الذى يعيش فيه ، كان مضطرا لان يخترع ما يسد به حاجته القائمة على اساس التفاهم ، ليتمكن من ابراز مقاصده ، وما يكنه فى قرارة نفسه من المعلومات التى يطلب ايصالها للآخرين ، فكانت الغاية المتوخاة من الوضع ليس إلا احضار المعانى امام المخاطبين. ومن البديهى ان الاشارة وإن كانت وسيلة للافهام إلا انها من العسر جدا ان تفى بالغرض الذى تتوقف عليه حياة الانسان الاجتماعية ، لاجل هذا اتخذ الانسان وسيلة اخرى اقصر من الاشارة ، واوفى بالمقصود. تلك هى الالفاظ ، فان الالفاظ تلقى المعنى امام السامع ، وتبرز مقصود المتكلم ، وهى وافية بجميع المقصود. فكان حالها كالاشارة من ناحية إفهام المقابل ؛ فكما ان المشير يمكنه ان يلفت نظر المخاطب الى ان المقصود من حركته هو المجيء ، كذلك اللافظ يمكنه ان يعبر بلفظ جاء للدلالة على هذا المعنى. غاية الامر الاشارة يمكن ان يلتفت اليها كل احد. بينما الالفاظ لا يلتفت اليها الا من اطلع على معاينها.

واذا اتضحت الفائدة والغاية من الوضع فنقول : الوضع حقيقته نفس القرار والاثبات والتعهد. فان كل فرد من اولئك الذين يتكلمون بلغة خاصة يتبانى مع جماعته ويأخذ عهدا على نفسه بانه متى ما تكلم بلفظ خاص فقد اراد منه معنى مخصوص ، لذا كان كل مستعمل واضعا باعتبار ان كل واحد من المستعملين قد اخذ عهدا على نفسه بهذا القرار. فاذا استعمل اللفظ فى مورد فقد جرى على طبق التزامه وتعهده. ومن قراره والتزامه هذا وتعهده على نفسه تنشأ العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى ،

٣٤

وتكون هناك مناسبة بينهما. اما قبل قراره فليس فى البين علقة وارتباط ، لا تشريعا ولا تكوينا.

نعم الانتقال الى المعنى قد يتأتى من مجرد صدور اللفظ من غير صاحب شعور ، كاصطكاك حجر بحجر ، فيتولد منه لفظ مخصوص ، إلا ان منشأ ذلك ليست العلقة الوضعية التى تحصل فى موارد الالتزام والتعهد ، بل السبب فى ذلك قبول الذهن ذلك على نحو ينتقل الى المعنى بمجرد الاطلاق.

فالذى تحصل من الوضع انه عبارة عن القرار والالتزام والتبانى على النفس بانه متى ما تكلم بلفظ خاص اراد منه معنى مخصوص. وهذا القرار المذكور يتأتى لدى كل فرد من افراد المجتمع

وما ينسب الى الآباء من انهم هم الواضعون فذلك للاسبقية ـ كما فى واضع القانون ـ وإلّا فالكل يشتركون بهذا الالتزام على هذا الاعتبار. نعم ينسب الوضع الى رئيس القبيلة او البلد لكن من جهة نيابته عن القوم وانه لسانهم.

وعلى ما ذكرناه صح تقسيم الوضع الى تعيينى ، وتعينى ؛ لان التعهد والالتزام (تارة) يحصل ابتداء من الواضع. و (اخرى) بوسيلة ثانية. وهى كثرة الاستعمال بحيث يصبح العرف بمجرد الاطلاق منتقلا الى المعنى وإن لم يعلم زمان التعهد وتاريخه.

هذه هى حقيقة الوضع ـ كما عرفت ـ انها من الامور الواقعية.

الجهة الرابعة : فى تقسيم الوضع :

الوضع باى معنى اعتبر لا بد للواضع ـ قبل الوضع ـ من ملاحظة كل من اللفظ والمعنى مستقلا ، ليكون على علم من امره. وبدون هذه

٣٥

الملاحظة فهو وضع مجهول لمجهول. فكان لزاما على كل واضع ان يلاحظ اللفظ والمعنى لحاظا استقلاليا ، ومن اجل هذا المعنى اختلف الاستعمال عنه باعتبار ان الاستعمال يوجب الغفلة عن اللفظ ، بحيث يكون النظر إليه آليا غالبا ؛ لان غرض المستعمل القاء المعنى امام المخاطب ، فالاتجاه الحقيقى إنما هو فى ناحية المعنى ، واما اللفظ فقد كان طريقا فى الوصول الى ذلك. وشأن كل طريق ان يكون مغفولا عنه ، وغير ملتفت إليه.

وبناء على هذا فالبحث يقع فى مقامين :

الاول ـ من حيث لحاظ اللفظ.

والثانى ـ من حيث لحاظ المعنى.

(اما المقام الاول) فلا بد للواضع من ملاحظة اللفظ اولا ملاحظة استقلالية ، من دون فرق بين ان يكون لحاظه له لحاظا شخصيا ، او بعنوان مشير اليه.

بيان ذلك : ان وضع الالفاظ على قسمين : شخصى ، ونوعى.

والاول : ـ على قسمين : قسم موضوع للمعنى بمادته وهيئته ـ كاسماء الجوامد ـ مثل الحجر والمطر وشبههما. فان لفظ الحجر لوحظ بمادته وهيئته الخاصة ، ووضع للجسم الحجرى بحيث لو تغيرت الهيئة ، او تبدلت المادة لما دل اللفظ على المعنى المذكور.

وقسم موضوع للمعنى بمادته الخاصة ـ كلفظ جلس ـ المؤلف بحسب المادة من الجيم واللام والسين ، فانه وضع لمعنى يقابل القيام من دون اختصاص لهذه الهيئة بالدلالة ، بل كل هيئة طرأت على هذه الحروف الثلاثة ، فاللفظ يدل على المعنى المذكور. وهذا لا ينافى شخصية الوضع

٣٦

بلحاظ المادة.

والثانى : ـ وهو ما وضع للمعنى بهيئته الخاصة كهيئة فعل محركة الثلاثة. فانها موضوعة للدلالة على المضى. حيث ان الواضع لم يتصور هيئة الماضى مثلا فى ضمن جميع المواد من قام ، وقعد ، وجلس ، ونام ، وغيرها. ليضع كل هيئة فى ضمن كل مادة لمعنى خاص ، وهكذا فى المضارع ، وباقى المشتقات. فان ذلك خلاف المقطوع من وضع اللغة العربية وغيرها ، بل يلاحظ الواضع عنوانا إجماليا مشيرا الى افراده العارضة على المواد ـ حسب اختلافها. وذلك العنوان مثل ما كان على زنة فعل محركة الثلاثة فيضعها للدلالة على المضى ، وهذه الهيئة فى أية مادة من المواد وجدت افادت تحقق الفعل فى الزمن الماضى. ومن اجل هذا كان وضع الهيئات وضعا نوعيا.

وربما يقال : بان الذى ادعى من الوضع الشخصى للمواد. ان اريد به ان مادة ـ ضرب ـ التى عبارة عن الحروف المتقاطعة قد وضع شخص هذا النوع فيها لمعنى قبال شخص نوع آخر فلازمه ان تكون الهيئة ايضا موضوعة بالوضع الشخصى ولا وجه للتفرقة بينهما لان شخص هيئة فاعل وضع لمعنى قبال هيئة مفعول المفيدة لمعنى آخر فكان كل واحد منهما شخص نوع قبال نوع آخر. وان اريد بوضع الهيئات التى اوضاعها نوعية ان هيئة فاعل وضعت للمتلبس بالمبدإ من دون تقيده بمادة خاصة فلازمه ان تكون المادة ايضا موضوعة بالوضع النوعى اذ لا اختصاص لها بهيئة مخصوصة بل تجتمع مع كل هيئة.

وقد ذكر بعض مشايخنا المحققين (قده) ان نسبة الهيئة الى المادة كنسبة العرض الى الجوهر فكما ان العرض لا يتقوم خارجا الا بالجوهر

٣٧

كذلك الهيئة لا تستقيم إلّا مع المادة.

وتوضيح ما افاده (قده) ان المادة المتألفة من الحروف المتقاطعة يمكن تصورها استقلالا بلا عروض هيئة عليها فتوضع فى ذاك الحال لمعنى خاص وتكون من قبيل الوضع الخاص والموضوع له الخاص فى جانب الموضوع له وان كانت قابلة بعد ذلك للتلبس بعدة هيئات.

اما الهيئة فلا يمكن تصورها إلّا بامرين ـ الاول ـ بالاشارة اليها بعنوان اجمالى للتوصل الى افرادها كما ترى اهل الادب يتخذون وزن فاعل او مفعول ليتوصلوا الى الهيئة المطلوب تفهيمها فيقولون ما كان على زنة فاعل فهو كذا وهذا كالوضع العام والموضوع له الخاص فى جانب الموضوع له.

الثانى ـ ان ياخذ هيئة عارضة على مادة خاصة مثل آكل او ماكول ويقصد بذلك الاشارة الى ما يكون على هذا الشكل وما يشابهه ثم يجعل لمعنى خاص من دون خصوصية فى مقام الجعل لهذه الهيئة العارضة على المادة وهذا من قبيل الوضع العام والموضوع له الخاص فى طرف المعنى الموضوع له. وكيف كان فهذا هو الفارق بين المادة والهيئة.

وما افاده (قده) متين جدا وبه يرتفع الاشكال.

اما المقام الثانى ـ فى تقسيم الوضع بلحاظ المعنى : لا بد من ملاحظة المعنى قبل الجعل لحاظا استقلاليا بنحو التفصيل ، او الاجمال ، كليا كان الملحوظ ام جزئيا. وعلى سبيل المثال نرى الواضع يتصور كلى الانسان على نحو التفصيل كما إذا تصوره بجنسه وفصله ، وباقى الخصوصيات ، فيضع لفظا بازاء ذلك المعنى.

ويتصوره بنحو الاجمال فيشير إليه بنحو اجمالى. مثل عنوان المتكلم

٣٨

الذى هو بعض خواص الانسان الملحوظ طريقا الى نفس الذات ، ثم يضع لفظا بازاء ذلك المعنى المتصور هذا بالاضافة إلى المعنى الكلى ، وقد يتصور الواضع شخص زيد تفصيلا ـ كما لو احاط بخصوصياته ومزاياه ـ فيضع لفظا بازاء ذلك المعنى الخاص. وقد يتصوره إجمالا كما لو لاحظ عنوان ما تولد من ابنه ـ فيضع لفظ زيد له. فان هذا العنوان طريق يشير الى ما هو الموضوع واقعا وإن لم يكن له ولد فعلا.

والحاصل : ان العناوين (تارة) تلاحظ بنفسها استقلالا ، و (اخرى) طريقا الى غيرها ، ولا يختص التقسيم المذكور بالوضع خاصة ، بل يتأتى فى الاحكام المولوية. فمرة يلاحظ المولى عنوانا ويعلق حكمه به على نحو لا ينظر الحاكم إلا الى نفس هذه الطبيعة من دون خصوصية للافراد ، كما فى الامر باكرام العالم. و (ثانيا) يلحظ العنوان طريقا الى الافراد ، ومشيرا إليها ، كما لو قال : اكرم المقبل. فان عنوان المقبل قد اخذ إشارة الى من يريد الآمر اكرامه لخصوصية اخرى من دون ان يكون لإقباله دخل فى ذلك.

ومن هنا ظهر ان اقسام الوضع ثلاثة : (الاول) ـ وضع عام ، وموضوع له عام ـ كما لو تصور الواضع مفهوما كليا قابلا للانطباق على كثيرين تفصيلا ، ام إجمالا ثم وضع اللفظ بإزاء ذلك المعنى المتصور.

(الثانى) ـ وضع خاص ، وموضوع له خاص. ـ كما لو تصور الواضع مفهوما خاصا غير قابل للانطباق على كثيرين. مثل تصور شخص زيد بذاته ومشخصاته ، وباقى مميزاته ـ ثم وضع اللفظ بإزاء ذلك المعنى الخاص.

(الثالث) ـ وضع عام ، وموضوع له خاص. ـ كما لو تصور الواضع مفهوما كليا قاصدا لان يضع اللفظ لمصاديقه لا على نفسه ـ فيحتاج الى

٣٩

لحاظ عنوان يشار به الى تلك المصاديق والافراد ، وهو لا يمكن ان يكون نفس عنوان هذا المفهوم الكلى ، لانه لا يحكى إلا عن نفسه. فلا بد ـ كما عرفت ـ من لحاظه بعنوان يحكى ويشير الى ما هو الموضوع خارجا ، ولا بد من تقييد المفهوم بقيد ، وجعل المقيد عنوانا مشيرا إلى افراد الانسان. ذلك هو عنوان ما ينطبق عليه هذا المفهوم.

ولا ريب انه بملاحظة هذا العنوان قد لاحظ الافراد الخارجية على سبيل الاجمال فوضع اللفظ بإزاء ذلك المعنى على نحو القضايا الحقيقية.

ومن هنا علم استحالة القسم الرابع من الوضع ، وهو الوضع الخاص ، والموضوع له العام ـ لان العنوان الشخصى بما هو كذلك ليس فيه جهة إراءة ، وكشف لا عن الكلى ، ولا عن سائر أفراده. باعتبار انه لا يكشف إلّا عن تلك الحصة الخاصة من الكلى أما بقية الحصص فليس هو مرآتا لها. لذا قيل : (الجزئى لا يكون كاسبا ولا مكتسبا).

وقد ذهب بعض الاكابر الى دعوى إمكان القسم الاخير ، ببيان : ان الشخص ربما يشاهد جسما من بعيد ، ولا يعلم انه حيوان أم جماد ، بل ولا يعلم بدخوله فى اى نوع من الانواع ، فيضع لفظا بإزاء النوع المنطبق على هذا الشخص واقعا فيكون من الوضع الخاص والموضوع له العام.

ولكن ذلك غير صحيح ، إذ الشخص لم يتصور المعنى الكلى الجامع بتصوره لذلك المشاهد الخارجى بحيث كان الفرد الخارجى مرآتا لذلك الكلى ، وإنما كان تصور الفرد الخارجى سببا لتصور كليه فكان فى المقام تصوران : اولهما للفرد ، وثانيهما للكلى المنطبق على ذلك الفرد وغيره. ولا ريب ان اللفظ موضوع بازاء المعنى الثانى المتصور. غاية الامر ان الكلى المتصور قد يتصور بنفسه وقد يتصور بعنوانه ككلى هذا

٤٠