مصابيح الأصول

علاء الدين بحر العلوم

مصابيح الأصول

المؤلف:

علاء الدين بحر العلوم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز نشر الكتاب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٨

و (كيف كان) فالاصل العملى متعذر هنا فى المسألتين ، نعم ربما يجرى فى ناحية اخرى ، وهى فى الثمرة التى ـ ذكرناها سابقا ـ فيما لو كانت المقدمة محرمة وقد توقف على اتيانها واجب اهم ـ فحينئذ ـ يلزم ملاحظة دليل الحرمة ، فان كان لدليل تحريم المقدمة اطلاق لزم التمسك به ورفع اليد عن التحريم بمقدار الضرورة ، وذلك فى المقدمة الموصلة التى تيقنا زوال التحريم عنها ، واما الافراد الباقية وهى التى لم تكن موصلة فهى باقية على حرمتها عملا باطلاق دليلها ، وان لم يكن لدليل التحريم اطلاق فتجرى اصالة البراءة عن الحرمة فى كل مقدمة لاحتمال وجوبها المنافى للحرمة سواء أكانت موصلة ام لا ـ هذا كله فى الاصل العملى.

و (اما المقام الثانى) فالذى يمكن ان يستدل به على الوجوب ادلة ثلاثة : (الدليل الاول) استدلال الاشاعرة وفى مقدمتهم ـ ابو الحسن الاشعري ـ وحاصله : ان المقدمة لو لم تكن واجبة لجاز تركها و ـ حينئذ ـ فان بقى الواجب على وجوبه لزم التكليف بما لا يطاق ، وإلّا خرج الواجب المطلق عن كونه مطلقا الى كونه شروطا.

بيان ذلك : ان المولى اذا اوجب شيئا فلا بدّ له من ايجاب جميع مقدمات ذلك الشىء فلو لم يوجب تلك المقدمات لجاز تركها ، وهذا يستلزم احد محذورين : اما ان يبقى وجوب ذى المقدمة بحاله ، وهو محال لانه تكليف بما لا يطاق ، او يزول الوجوب الا عند حصول مقدمته فيلزم انقلاب المطلق الى المشروط.

و (لا يخفى ما فيه) فاننا نلتزم بعدم الملازمة بين عدم المنع من ترك المقدمة ، والمنع من ترك ذيها ، اذ المقدمة وان لم تجب بحكم الشرع إلّا انها واجبة بحكم العقل و ـ حينئذ ـ فان ترك المكلف الواجب النفسى

٤٠١

بترك مقدمته فقد عصى ويكون سقوط الوجوب من جهة العصيان ، لا من جهة ترخيص الشارع فى الترك فلا يلزم التكليف بما لا يطاق ، او انقلاب الوجوب من المطلق الى المشروط ، و (بعبارة اخرى) ان الترخيص الشرعى وان امكن بالنسبة الى المقدمة ، إلّا ان حكم العقل باللابدية ، والتوقف لا يسمح للعبد ان يخالف ويترك ذلك ، اذ لازم ترخيص المولى لترك المقدمة انه لا عقاب يترتب من قبله على نفس ترك المقدمة من حيث هى ، اما من حيث فوات الواجب النفسى الذى هو ذو المقدمة ، فالمولى له الحق فى المعاقبة ، والمؤاخذة ولا مفرّ للعبد من ذلك وعلى تقدير ان يرخص المولى بالترك مع حكم العقل بالاتيان ففوات الواجب النفسى من العبد انما كان بالعصيان اذ بامكانه المبادرة الى الفعل ما دام العقل حاكما باللابدية التى لا يستطيع من التخلف عنها ، نعم لو اريد من عدم الوجوب عدم الوجوب العقلى لصح كلامه إلّا انه خارج عن المقام.

(الدليل الثانى) ما جاء به فى الكفاية : من ان الكتاب ، والسنة ، وسائر الاوامر العرفية ، مصرحة بالامر بالمقدمة حين ارادة ذيها ـ مثل قوله تعالى ـ (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) و (قوله عليه‌السلام) اغسل ثوبك من ابوال ما لا يؤكل لحمه ، وفى الاوامر العرفية ـ مثل ـ اخرج الى السوق ، واشتر اللحم ، فالاوامر هنا لا بدّ لها من ملاك ، وهو اما ان يكون غير ملاك ذى المقدمة فيلزم ان تكون واجبة بالوجوب النفسى وهو خلاف الغرض ، او يكون الملاك هو المقدمية الى الواجب النفسى ، واذا ثبت هذا المعنى فى مثل هذه الموارد فالتعدى الى غيرها لجهة وحدة الملاك امر جائز و ـ حينئذ ـ فالوجوبات التى وردت وغيرها لا بد من كونها مولوية غيرية ، وإلّا لزم كونها واجبات نفسية ولا يقول

٤٠٢

بها احد.

و (غير خفى) ان الاستدلال المذكور انما يتم ان ثبت وجوب هذه الموارد وجوبا غيريا ، واما بناء على انه ارشاد الى ما تعلق به من الجزئية ، والشرطية ، والمانعية ـ كما هو الصحيح ـ فالاستدلال باطل.

والذى يدل على ما قلناه امران :

(الاول) ما ورد من امثال هذه الاوامر فى الاجزاء ، كما جاء فى بعض فقرات رواية ابى بصير : عن ابى عبد الله عليه‌السلام واذا رفعت رأسك من الركوع فاقم صلبك حتى ترجع مفاصلك ، واذا سجدت فاقعد مثل ذلك ، واذا كان فى الركعة الاولى ، والثانية. فرفعت رأسك من السجود فاستتم جالسا حتى ترجع مفاصلك الخ ، فانها ترشد الى الجزئية دون ان تكون مأمورا بها بالامر المولوى الغيرى ، وإلّا لكان نقضا لما قاله (قده) سابقا من عدم اتصاف الاجزاء بالمقدمية فان الاجزاء لا تتصف بالوجوب الغيرى ، اذن فما ذلك الا لان الامر بها ارشاد الى جزئيتها للصلاة.

(الامر الثانى) ما ورد نظيره فى العقود بالمعنى الاعم كما جاء فى قوله تعالى (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) فان ذلك ارشاد الى بطلان الطلاق بدون الاشهاد دون ان يكون الامر غيريا مولويا ، اذ لا وجوب نفسى هنا ليتوقف عليها ، و ـ مقامنا من هذا القبيل ـ فان قول المولى : اذا صليت فتطهر ، انما هو ارشاد الى بطلان الصلاة بدون الطهارة.

(الدليل الثالث) ما جاء به صاحب الكفاية ، وشيخنا الاستاذ (قدس‌سرهما) من شهادة الوجدان ، والارتكاز العقلى على ذلك ، فان الانسان اذا اشتاق الى شىء واراده فهو وان لم يلتفت الى مقدمات ذلك الشىء إلّا انه لو رجع الى وجدانه والتفت الى ما يتوقف عليه نفس مراده ، لاشتاق اليها

٤٠٣

كاشتياقه الى نفس الواجب ، بلا فرق فى هذه الجهة بين الارادة التكوينية ، والارادة التشريعية ، وان اختلف المتعلق فى كل منهما عن الآخر.

و (غير خفى) انه ان اريد من الارادة : الشوق المؤكد الذى هو من الصفات النفسانية الخارجية عن حيز القدرة ، والاختيار ، بمعنى ان الانسان ربما يشتاق الى فعل من الافعال لتوجه القوى الظاهرية ، والباطنية نحوه ، فيكثر شوقه حتى يبلغ مبلغ الارادة ، والطلب ، اما من نفسه ، او غيره ، فهو يشتاق الى مقدمات ذلك الشىء اذا التفت اليها (ففيه) ان الارادة بهذا المعنى ليست من سنخ الاحكام ، بل من الصفات النفسانية ، و ـ قد عرفت ـ ان الارادة التشريعية انما هى من سنخ الاحكام الناشئة عن ارادة ، واختيار.

وان اريد منها : اعمال القدرة نحو الفعل الذى هو معنى الاختيار ـ كما ذكرناه غير مرة ـ من ان الانسان اذا اراد شيئا فلا بد وان يبذل وسعه ويعمل قدرته فى سبيل تحصيل الخير لنفسه ، فهذا وان كان من مقولة الافعال ، إلّا ان الارادة التشريعية بهذا المعنى باطلة ، وذلك فان اعمال القدرة فى فعل الغير ليس واقعا تحت اختيار المولى وارادته لا بنفسه ولا بمقدماته.

وان اريد منها : معنى آخر وهو ان المولى اذا تعلق شوقه بفعل الغير يعتبر امرا فى نفسه ، ويبرزه بمبرز يدل عليه ، ويفيد ان الفعل ملقى على ذمة المكلف ، فهذا لا محذور فيه ، إلّا ان تسرية احكام الارادة التكوينية الى الارادة التشريعية غير ممكن ، لانه من اسراء حكم موضوع الى موضوع آخر ، و (بعبارة اخرى) ان اريد بها جعل شىء فى ذمة المكلف ، فالوجدان لا يشهد بما ذكروه من ان المولى اذا جعل شيئا على ذمة شخص فلا بد وان

٤٠٤

يجعل فى ذمته مقدمات ذلك الشىء ، اذ لا ملازمة بين الجعلين ، بل ربما لا يكون ملتفتا الى توقفه على مقدمات اصلا فكيف يجعلها فى هذا الحال ، مع ان الجعل من افعال النفس المتوقفة على الالتفات.

فالصحيح ان يقال : انه لا دليل على وجوب المقدمة وجوبا مولويا شرعيا ، كما وان الوجدان ليس بشاهد على تعلق الارادة المولى بالمقدمات بعد تعلقها بشىء ، بل الوجدان شاهد على عدم ذلك ، للزوم اللغوية فى الخطاب المولوى ، وذلك فان العقل بعد ان راى الواجب موقوفا على مقدمة ، ورأى العبد لا يستطيع على امتثال الواجب النفسى المأمور به الا بعد الاتيان بمقدمته ، يحكم ضرورة باتيان تلك المقدمة والمبادرة نحوها توصلا لامتثال الواجب النفسى ، فلو امر الشارع المقدس بوجوب المقدمة امرا مولويا بعد اطلاعه على حكم العقل بذلك لا يكون امره لغوا ، لعدم ترتب الاثر عليه ، نعم لو صدر الامر منه بهذه الكيفية لا يكون امره إلّا ارشادا الى حكم العقل بذلك.

والحاصل ان المقدمة انما تجب بحكم العقل دون الشرع.

مقدمة المستحب

ثم لو بنينا على وجوب المقدمة شرعا ، فلا نقول : باختصاصه بالوجوب فقط ، بل الامر يسرى الى المقدمات المستحبة ايضا ـ التى يتوقف عليها الامر الاستحبابى بنفس الملاك المتقدم فى المقدمة الوجوبية ، غاية الامر فى مقدمة الواجب تكون الارادة الزامية كنفسه ، وفى مقدمة الندب تكون الارادة غير الزامية كنفسه.

مقدمة الحرام

قسّم شيخنا الاستاذ (قده) مقدمة الحرام الى ثلاثة اقسام.

٤٠٥

(القسم الاول) هو الذى لا يتوسط بين المقدمة وذيها اختيار وارادة للفاعل ، بمعنى ان الانسان لو اتى بالمقدمة فذو المقدمة يقع خارجا قهرا عليه على نحو لا يقدر المكلف على التخلف عن ارتكاب الحرام ـ نظير العلة والمعلول ـ والحكم فى هذا القسم ـ اعنى حرمة المقدمة ـ يكون نفسيا لا غيريا ، واذ النهى الوارد على ذى المقدمة وارد عليها حقيقة لانها هى المقدورة للمكلف دونه.

(القسم الثانى) هو الذى يتوسط بين المقدمة وذيها اختيار وارادة للفاعل ، ولكن المكلف يقصد بالمقدمة التوصل الى الحرام ـ بمعنى انه بعد اتيانه المقدمة يكون قادرا على ترك الحرام واتيانه ، ولكنه يرتكب المقدمة بقصد التوصل الى الحرام وفى هذا القسم حكم (قده) بالحرمة وتردد فيها بين النفسية والغيرية ، وان ذلك من قبيل التجرى ، او السراية ، من ذى المقدمة بعد ظهور حرمتها ايضا.

(القسم الثالث) هو الذى يتوسط بين المقدمة وذيها اختيار وارادة للفاعل ويكون المكلف بعد اتيانه المقدمة قادرا على اتيان ذيها ، ولكن لديه صارف عن اتيانه ، وفى هذا القسم حكم (قده) بعدم حرمة المقدمة وانما المحرم نفس ذى المقدمة باعتبار ان فاعل المقدمة لم يقصد التوصل بها الى الحرام ، ولم يكن علة فى الوقوع فى الحرام ، فلا وجه لحرمتها ، اذ المفروض انه مع الاتيان بها يتمكن من ترك الحرام ومعه لا يكون ملاك المقدمية موجودا فيها.

و (فى جميعها نظر) ما عدى القسم الاخير.

(اما النقاش فى القسم الاول) فنقول : ان تحريم المقدمة يتبع القول بوجوب مقدمة الواجب لوحدة الملاك بينهما وهو توقف امتثال التكليف ،

٤٠٦

ففى مقدمة الواجب يتوقف امتثال الواجب على الاتيان بها ، وفى مقدمة الحرام يتوقف ترك الحرام على تركها ، واما ما ذكره (قده) من ان النهى حقيقة منصب عليها لانها هى المقدورة دونه فهو ـ على خلاف مبناه فى غير المقام ـ (من ان المقدور بالواسطة مقدور) والمعلول وان لم يكن مقدورا ابتداء ، إلّا انه مقدور بواسطة علته كما لا يخفى ـ نعم هنا لو ارتكب المقدمة يكون آثما لوقوعه فى الحرام الذى هو ذو المقدمة بسوء اختياره ، لان المفروض انه لا ينفك عنه لا ان المقدمة تكون محرمة بالحرمة الترشحية بحيث يكون مرتكبا لحرامين.

و (اما النقاش فى القسم الثانى) فهو ان اتصاف المقدمة بالحرمة الغيرية ممنوع ، وذلك لعدم توقف الاجتناب عن المحرم على ترك المقدمة فانه بعد الاتيان بالمقدمة قادر على ترك الحرام ، وليس المقام كمقدمة الواجب ، لان مقدمة الواجب عند تركها يتعذر الاتيان بالواجب ، وهنا عند الاتيان بالمقدمة لا يتعذر ترك الحرام.

واما الحرمة النفسية ـ فعلى تقديرها ـ تبتنى على حرمة التجرى وقد قلنا : ان التجرى لا يكون حراما شرعا ، نعم يظهر من بعض الاخبار كما روى عن النبى (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من ان القاتل والمقتول فى النار فقيل (يا رسول الله) هذا القاتل فما بال المقتول فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه نوى قتل صاحبه ، إلّا ان هذه الحرمة من جهة نية الحرام ، لا من جهة المقدمة ، هذا مع ان هناك روايات متعددة ذكرت فى مقدمة الوسائل ، وهى تعطى انه لا اثم فى نية الحرام ، ولا يكتب عليه الا بعد ارتكابه ، بينما تكتب له نية الخير قبل ارتكابه.

وقد جمع الشيخ الانصارى (قده) بين الطائفتين بوجهين : كان الثانى

٤٠٧

منهما محل الاعتماد عندنا ، وحاصله : ان نية السوء انما لا تكتب فيما اذا كان العبد قد ارتدع عنها برادع نفسانى ، وتكتب فيما لو لم يرتدع العبد عن تلك النية التى اضمرها فى نفسه وبقيت مستمرة عنده ـ او كان الرادع غير اختيارى كالموت ـ إلّا ان مانعا خارجيا منع من تحقيقها غير الارتداع النفسانى ، و (كيف كان) فالبحث عن كون نية الحرام حراما نفسيا ، او من باب التجرى ، او ليست بحرام ، شىء آخر غير حرمة المقدمة ولا ترتبط بها.

و (اما القسم الثالث) فالقول بعدم موجب للحرمة هو الحق لان اجتناب المحرم ، وتحصيل غرض المولى ؛ لا يتوقفان على ترك المقدمة وانما الفعل ، والترك ، كانا داخلين تحت ارادته ، واختياره ، فمن الضرورى اذن ان لا تتصف المقدمة بالحرمة الغيرية ـ لما عرفت ـ من عدم تمامية ملاك التوقف فيها ، فكان حكمها حكم عدمها.

فالمتحصل من مقدمة الحرام ، انها ليست بمحرمة الا فى صورة واحدة و (هى الاولى) وهذه تتوقف على ثبوت الوجوب شرعا ، وحيث انتفى ذلك فلا حرمة اصلا.

مقدمة المكروه

وهى معلومة من مقدمة الحرام ، والتفاصيل كلها جارية فيها ، إلّا ان البحث فى مكروهية مقدمتها تتم ـ بعد البناء على ان الشارع حكم بالكراهة بين المقدمة وذيها ـ وإلّا فلا ، فهى كالمحرم.

لقد تم (والحمد لله) الجزء الاول من كتابنا ويتلوه الجزء الثانى إن شاء الله تعالى

٤٠٨