مصابيح الأصول

علاء الدين بحر العلوم

مصابيح الأصول

المؤلف:

علاء الدين بحر العلوم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز نشر الكتاب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٨

غيرها كموارد الاستفهام ، والتعجب ، والتمنى ، والترجى ، وغير ذلك. فلا يكاد يعقل معنى متحصل من إيجاد المعنى باللفظ.

فالصحيح ان الهيئات الانشائية وقسم من الحروف قد وضعت لا براز امر نفسانى.

وبعد ان ابطلنا قول المشهور ـ فى مقام الفرق بين الجمل الخبرية ، والانشائية ـ فنقول : والصحيح فى مقام الفرق هو ان الجمل الخبرية تدل على حكاية ثبوت النسبة فى الخارج ، او عدمها بمقتضى التزام كل شخص على نفسه فى مقام التعبير بهذه الهيئة الخاصة. نعم الحكاية التى كشفت عنها نفس الهيئة ، واصبحت مدلولة لها تقبل الاتصاف بالصدق والكذب. فان المحكى إن كان مطابقا لما هو ثابت خارجا ، وفى نفس الامر كان (صدقا) وإن لم يكن مطابقا كان (كذبا) فهما من صفات المدلول والمنكشف ، واما الدال وهو اللفظ فليس فيه قابلية الاتصاف بكل واحد منهما. نعم يتصف اللفظ بالصدق والكذب تبعا لاتصاف المدلول ، وهذا امر آخر. والحاصل ان المتكلم حسب التزامه وتعهده اخذ على نفسه بأنه متى ما جاء بجملة خبرية فقد قصد بذلك الحكاية عن ثبوت النسبة خارجا ، أو عن عدمها. فلو نصب قرينة على الخلاف لم يكن ذلك خلاف ما تعهد به. وإنما يلزم هذا المعنى إذا لم ينصب قرينة ، وقد أراد من الجملة معنى آخر غير قصد الاخبار والحكاية.

(واما الجمل الانشائية) فالتحقيق انها تبرز أمرا نفسانيا ثابتا فى قرارة المتكلم ـ حيث انه قد التزم على نفسه بانه متى ما عبر بالجملة انشائية فقد أبرز أمرا اعتباريا فى نفسه ، او أمرا غير اعتبارى كالتمنى والترجى وامثالهما. وهذا الامر المبرز لا يقبل الاتصاف بالصدق والكذب ، وإنما

٦١

يدور مدار اعتبار الشخص نفسه فهو امر دائر بين الوجود والعدم.

فالمتحصل من هذا ان كلا من جملتى الخبر والانشاء تبرز شيئا فى ضمير المتكلم غاية الامر المبرز فى الجملة الخبرية هو الحكاية عن ثبوت النسبة ، او عدمها خارجا ، وفى الجملة الانشائية هو الامر النفسانى من الاعتبار او غيره. فهما مشتركان من ناحية الابراز.

اما من ناحية الصدق والكذب فهما مختلفان. فالجملة الخبرية بعد ان كان المبرز فيها الحكاية والاخبار امكن اتصاف ذلك بالصدق والكذب من حيث المطابقة للواقع وعدمها. واما الجمل الانشائية فالمبرز فيها امر نفسانى ، وهو غير قابل للاتصاف بكل واحد منها ، وإنما يدور مدار اعتبار الشخص نفسه ، فهو إما موجود وإما معدوم.

وقد تحصل مما ذكرنا ان المستعمل فيه اللفظ فى الجملة الخبرية غيره فى الجملة الانشائية. وبذلك يظهر التأمل ـ فيما افاده صاحب الكفاية (قده) فى مبحث الطلب ـ من ان الشخص ربما يعبر بجملة خبرية ، ويقصد بها الطلب مثل يعيد ويتوضأ ، بدعوى ان هذا النوع من الطلب يكون آكد فى البعث من الصيغة ـ حيث ابرز بصيغة الاخبار عن وقوع المطلوب به فى مقام طلبه لاظهار ان الآمر لا يرضى إلا بوقوعه ـ فكانت الجملة الخبرية مستعملة عنده فى معناها ، وهو الدلالة على ثبوت النسبة. إلا ان الداعى الحقيقى هو الطلب. وقد عرفت ان الجملة الانشائية لا تحكى عن ثبوت النسبة وعدمها ، وإنما تبرز الاعتبار النفسانى الخاص.

مضافا الى ان ذلك لو تم لجاز لكل أحد أن يستعمل الجملة الاسمية فى معناها ، ويقصد منها الطلب. مع اننا لم نشاهد ذلك اصلا. نعم بعض الجمل الاسمية تستعمل فى مقام الانشاء مثل زوجتى طالق ، وأنت حر.

٦٢

ولكنه فى مقام انشاء المادة لا الوجوب ومع ذلك لا تكون مستعملة فى معناها من حكاية ثبوت النسبة ، وإنما تدل على ابراز الاعتبار الخاص.

(أسماء الاشارة)

ذكر صاحب الكفاية ـ قده ـ ان الوضع والموضوع له والمستعمل فيه عام فى اسماء الاشارة ، والموصول ، والضمائر والتشخص إنما جاء من جهة الاستعمال. فان كلمة (هذا) وضعت لمفهوم المفرد المذكر ، و (أنت) لمفهوم المفرد المخاطب ، و (هو) لمفهوم المفرد الغائب. ولكنه عند الاستعمال وارادة هذه المعانى من اللفظ يحصل التشخص دون ان يكون له الدخل فى الوضع ، وفى المستعمل فيه ، فأوضاع هذه الاسماء كأوضاع الحروف.

(ولا يخفى) اننا لو التزمنا فى الحروف باتحاد معانيها مع الاسماء ، وان الاختلاف من جهة اللحاظ. فهذا المعنى لا نلتزمه فى اسماء الاشارة واخواتها. وذلك لانهم إن ارادوا من الاشارة الدلالة على المعنى ـ كما يقال الكلام الفلانى يشير الى كذا ـ فذلك لا اختصاص له باسماء الاشارة ، بل يجرى فى جميع الالفاظ الموضوعة ، لانها تدل على معانيها وتحكى عنها.

وإن ارادوا معنى آخر للاشارة ـ وهو الاشارة الزائدة على الدلالة على المعنى ـ فلا بد للواضع من لحاظها مع المعنى ، ثم وضع اللفظ بإزائها. وذلك لاجل ان الاشارة إذا لم تكن مما يلزمه الاستعمال فلا بد فى اختصاصها بمورد دون مورد من تخصيص الواضع إياها بذلك المورد ، وهذا ينافى القول بخروجها عن الموضوع له ، والمستعمل فيه. وإنما تجىء من قبل الاستعمال.

٦٣

والصحيح ان يقال : إن كل شخص إذا تأمل فى وضع أسماء الاشارة واستعمالها وجد كلمة (هذا) التى هى اسم من الاسماء لا تدل على مفهوم المفرد المذكر ، بل تدل على واقع ذلك المفهوم ، فهى موضوعة بازاء واقع ذلك المفهوم الكلى الذى قد يكون من المفاهيم الجزئية من زيد وعمرو والكتاب والدار ... الخ. وقد يكون من المفاهيم الكلية كمداليل أسماء الاجناس. والاستعمال فى ذلك الواقع لا بد وان يقترن بالاشارة الحسية الخارجية من الراس ، او العين ، او اليد ، او بالاشارة الباطنية فكانت الاشارة الحسية شرطا للدلالة ، حيث ان الواضع قد وضع كلمة (هذا) للدلالة على واقع المفرد المذكر بشرط الاشارة إليه. فاذا استعملت ولم يأت بالاشارة الى ما اريد منها فقد انتفت الدلالة فكل مورد تستعمل فيه كلمة (هذا) ـ كما لو قال : هذا زيد ـ فلا بد من اقترانها بالاشارة كاليد او العين او الرأس. ولا يصح لاحد ان يترك هذه الاشارة معتمدا على مجرد كلمة (هذا) فقط. وهكذا حينما يقال : (هذا محال) مشيرا بكلمة (هذا) الى اجتماع الضدين مثلا ، او (إن هذا المطلب صحيح) مشيرا باشارة باطنية الى مطلب خاص. وهكذا اسماء الموصول والضمائر على هذا القياس.

وقد ظهر من هذا ان اسماء الاشارة واخواتها موضوعة بالوضع العام ، والموضوع له خاص. لما عرفت ان الموضوع له واقع ذلك المفهوم ، وإن كان المتصور نفس المفهوم ، ولكن تصوره كان مرآة الى واقعه.

والمتحصل من هذا ان القسم الثالث من الوضع ممكن وواقع ، لا كما ذهب اليه صاحب الكفاية ـ قده ـ من ان القسم الثالث ممكن وغير واقع.

٦٤

(الاستعمال المجازى)

هل صحة استعمال اللفظ فى المعنى المناسب للمعنى الحقيقى تستند الى الوضع النوعى أو انها بالطبع؟ وجهان ، بل قولان : ذهب صاحب الكفاية ـ قده ـ الى الثانى. بتقريب ان كل مورد يستحسن الطبع استعمال لفظ فى معنى ، ويراه مناسبا يجوز الاستعمال فيه ، وإن منع الواضع من ذلك. ولا يجوز ذلك فيما لا يستحسنه الطبع ، وإن أذن الواضع.

ثم إن النزاع فى هذه المسألة يتوقف على ان تثبت مغايرة بين المعنى المجازى ، والحقيقى. بحيث يستعمل اللفظ تارة فى المعنى الحقيقى ، واخرى فى المجازى. اما لو التزمنا بمقالة السكاكى ـ من عدم المغايرة بين المعنيين ، وإنما هناك استعمال واحد فى المعنى الحقيقى غاية الامر ان له فردين حقيقى وادعائى ـ وهو يختلف فى مرحلة التطبيق دون الاستعمال فلا تغاير بين المعنيين ليقع النزاع فى صحة استعمال اللفظ فى غير ما وضع له من دون إذن من الواضع وعدمها فلو قال القائل : جئنى بأسد ـ مثلا ـ فقد استعمل اللفظ فى معناه الحقيقى ـ وهو الحيوان المفترس ـ إلا أنه طبق هذا المفهوم على الرجل الشجاع ، وفى ذلك نوع من المبالغة ، وهى لا تتأتى لو قال : جئنى برجل شجاع.

ثم إن القول بتوقف صحة الاستعمال فى المعنى المجازى على إذن الواضع يتوقف على ان يكون هناك واضع مخصوص ، قد جعل اللفظ لمعنى حقيقى ثم ياذن فى استعماله فى معنى مناسب للمعنى الحقيقى ـ لعلاقة مصححة لذلك الاستعمال ـ بحيث كان كل من يريد الاستعمال لا بد من لحاظه لتلك العلاقة. اما لو تم القول بأن الواضع ليس شخصا واحدا ، بل

٦٥

كل مستعمل واضع ـ حسب تعهده والتزامه على نفسه ـ بانه متى جاء بلفظ مخصوص فقد اراد منه تفهيم معنى خاص. فالتزامه كما كان ـ بالاضافة الى المعنى الحقيقى كذلك ـ كان بالاضافة الى المعنى المجازى ، وإنه متى ما جاء باللفظ الخاص ، مقترنا مع القرينة فقد أراد منه معنى مخصوصا. فلا يكون هناك متابعة فى مقام الاستعمال ، وبما ـ انك قد عرفت ـ ان حقيقة الوضع عبارة عن التعهد والالتزام وإن كل مستعمل واضع ، وليس فى البين متابعة.

فالصحيح ما ذهب اليه صاحب الكفاية ـ ره ـ من أن العلائق فى الاستعمالات المجازية لا تحتاج إلى الوضع بل المرجع فيها هو الطبع. هذا وللالتزام بما ذهب اليه السكاكى مجال واسع. ومعه يرتفع النزاع من أصله ، ولا مجال معه للقول بأن صحة الاستعمال فى موارد الاستعمالات المجازية تتوقف على اذن من الواضع.

(استعمال اللفظ وارادة شخصه)

وقع الخلاف بين القوم فى صحة استعمال اللفظ ، وإرادة شخصه ، أو صنفه ، أو نوعه ، أو مثله. وهل هو بالوضع ، أو بالطبع. ذهب صاحب الكفاية ـ قده ـ الى الثاني. كما ذهب غيره الى الاول. وهذا النزاع مبنى على ان يكون الاستعمال فى هذه الموارد كسائر الاستعمالات الأخر التى يؤتى بها للحكاية والدلالة ، وأما اذا كان استعمال اللفظ وإرادة شخصه ليس من هذا القبيل فالنزاع منتف.

(بيان ذلك) ان الغرض من الوضع ـ كما عرفت سابقا ـ إحضار المعنى امام السامع ، وتفهيم المقاصد له. وهذا يحتاج الى مبرز ـ يمكن بسببه

٦٦

ان يحضر المعنى فى الذهن ـ فكانت الالفاظ هى المتكفلة لهذا الامر. اما الاشياء التى هى بارزة امام المخاطب بنفسها فالحاجة لا تدعونا للاستعانة بلفظ للحكاية عنها ، فانه يلزم تحصيل الحاصل ومن هذا القبيل نفس الالفاظ فانها موجودة أمام السامع لا تفتقر فى مقام الاظهار إلى لفظ آخر يبرزها ، وربما يتعلق الغرض بالحكم عليها وهو يختلف :

(فتارة) يحكم على اللفظ بشخصه ، وبما هو هو ـ كما لو قلنا : (زيد ثلاثى) وأريد به شخصه ، فهذا النحو خارج عن مرحلة الاستعمال ـ لانه ليس كسائر الاستعمالات المتعارفة ، بل هو من قبيل إحضار نفس الموضوع ـ فيكون إطلاق اللفظ وإرادة شخصه صحيحا.

وقد تصدى صاحب الكفاية ـ قده ـ لتصحيح هذا النحو من الاستعمال بما حاصله ان للفظ حيثيتين : أحدهما ـ حيثية صدوره من المتكلم ـ وثانيهما ـ حيثية تعلق الارادة به ، وكونه مرادا. فمن حيث كونه صادرا دال ، ومن حيث كونه مرادا مدلول ، ويكفى فى تعدد الدال والمدلول هذا الاعتبار.

ولا يخفى ما فيه ـ : فان دلالة اللفظ على كونه مرادا ، وإن كان صحيحا. إلّا ان هذه الدلالة عقلية لان كل فعل يصدر عن فاعله فاما بالطبع ، أو بالقسر ، أو بالاختيار. ومع انتفاء الاولين يتعين الثالث عقلا ، وذلك كما لو صدر القيام من زيد فانه يدل على صدوره من فاعله ، وعلى كونه اختياريا ، وهذه دلالة عقلية والكلام ليس فى الدلالة العقلية ، بل فى الدلالة الاستعمالية. بأن يستعمل اللفظ فى معنى فالسامع ينتقل الى اللفظ أولا ، وإلى المعنى ثانيا. وهذه الدلالة الاستعمالية فى شىء واحد مستحيل ، إذ لا معنى لكون شىء واحد منتقلا إليه أولا باعتباره لفظا ومنتقلا إليه ثانيا باعتباره معنى.

٦٧

كما وقد تصدى لتصحيح هذا النحو بعض مشايخنا المحققين ـ قده ـ وافاد ما حاصله : ان التضايف وان كان من اقسام التقابل إلا انه ليس كل متضايفين متقابلين فان العالم والمعلوم ، والمحب والمحبوب من قبيل المتضائفين مع اتحادهما فى بعض الموارد كعلم الانسان بنفسه ، فنفسه عالم ونفسه معلوم ، وكحب الانسان نفسه ، فنفسه محب ونفسه محبوبة. والدلالة من هذا القبيل ، فانه تعالى دال على نفسه ، ومدلول. كما ورد في دعاء الصباح : يا من دل على ذاته بذاته. وفى دعاء الحسين عليه‌السلام يوم عرفة : أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك متى غبت حتى تحتاج الى دليل يدل عليك ـ. فكان تعالى قد دل على نفسه بنفسه ـ وليس شىء آخر أظهر منه حتى يدل عليه ـ فهو دال وهو مدلول. مع ان الدال والمدلول من المتضائفين. ويظهر من هذا ان التعدد الاعتبارى كاف فى المتضائفين فليكن الامر كذلك فيما نحن فيه.

(ولا يخفى ما فيه) فان ما افاده ـ قده ـ من ان المتضائفين قد يتحدان وجودا ، وإن كان متينا جدا إلا ان خصوص التضايف بين المستعمل والمستعمل فيه لا يعقل فيه الاتحاد ، بل لا بد من التعدد. لما عرفت انه لا معنى للانتقال إلى شىء واحد اولا باعتباره لفظا ، والانتقال إليه ثانيا باعتباره معنى فكيف يعقل ان يكون شىء واحد مستعملا ومستعملا فيه.

بل الصحيح ما عرفت انه ليس كسائر موارد الاستعمال ، بل هو احضار نفس الموضوع.

فان قلت : لازم ذلك ان تكون القضية مركبة من جزءين : النسبة والمحمول ، وتكون حينئذ فاقدة للموضوع مع ان القضية مركبة من ثلاث.

قلت : إن الموضوع عبارة عن كلمة (زيد) بنفسها فأحد الاجزاء

٦٨

الثلاثة عبارة عن وجود نفس الموضوع ، والجزآن الباقيان متحققان بدالهما. فالهيئة دلت على النسبة ولفظ الثلاثى دل على معنى الثلاثى فاكتملت اجزاء القضية.

(واخرى) يطلق اللفظ ، ويراد به نوعه ـ كما لو قال القائل : زيد ثلاثى ـ واراد به نوعه. وهذا ايضا خارج عن حقيقة الاستعمال لانه من قبيل إحضار نفس الموضوع فى القضية ، والحكم عليه. فالحكم فيه ، وإن كان صورة على الفرد الخارجى إلا انه فى الحقيقة على الطبيعة باعتبار ان حضور الفرد بنفسه فى الذهن حضور للنوع بنفسه ، وذلك لان الموجود الذهنى اذا الغيت عنه الخصوصيات لا محالة يكون كليا. بخلاف الموجود الخارجى فانه إذا الغيت عنه الخصوصيات لا يكون كليا ، بل هو امر جزئى. لان الموجود الخارجى عين التشخص والجزئية وعليه فلا استعمال فى مثل إرادة النوع ايضا ، بل الموضوع القى بنفسه ، وحكم عليه بحكم.

واما اطلاق اللفظ وارادة صنفه او مثله ـ فالمعروف انه من قبيل الاستعمال لتعدد الدال والمدلول فيهما. فان قولنا : (زيد) فى ضرب زيد فاعل ـ اذا اريد منه خصوص هذا المثال فهو من قبيل اطلاق اللفظ ، وارادة مثله. وان أريد منه ما يتعقب جملة فعلية فهو من قبيل اطلاق اللفظ وارادة صنفه. وهكذا لو قلنا : (ضرب) فى ضرب زيد فعل ماضى ـ ففى المقام أمران : (احدهما) ـ كلمة زيد الاولى. (ثانيهما) كلمة زيد الثانية وهكذا فى المثال الثانى. ولا ريب ان احدهما يكون دالا والآخر مدلولا ، فيتأتى منه الاستعمال.

ولكن الصحيح انه من قبيل احضار نفس الموضوع. لما عرفت أن الحروف وضعت لتضييق المعانى الاسمية ، وأن المعنى لم يرد على عمومه ،

٦٩

بل أريد منه حصة خاصة. ففى قولنا : (زيد) فى ضرب زيد ثلاثى قد أحضر نفس الموضوع فى ذهن المخاطب ، وحكم عليه بحكم ، لكن لا على اطلاقه ، بل خصوص ما وقع فى هذه الجملة بخصوصها ، أو خصوص ما وقع بجملة خاصة ، وعلى اى حال فقد جيء بنفس الموضوع ، وأحضر بلا واسطة لفظ. وقد أفادت كلمة (فى) التضييق. فزيد الاول هو بنفسه موضوع وقد حضر بلا وساطة شىء ـ لكن الحكم لما كان مختصا بخصوص حالة من احواله فقد قيده بذلك ، وأفاد الحرف هذا المعنى ـ فليس فى البين دال ومدلول.

وأما ما ذكره فى الكفاية ـ قده ـ من أن ذلك يعنى إحضار نفس الموضوع فيما إذا أريد منه مثله ، أو صنفه. ربما لا يكون ممكنا لان قولنا : (ضرب) فى ضرب زيد فعل ماضى لا يصح بغير أن يكون مستعملا فى مثله ، أو فى صنفه فانه لا يمكن أن يكون بنفسه من الفعل الماضى ـ لان الافعال لا تقع مبتدأ بها.

فهذا من غرائب الكلام. حيث أن الفعل ، وإن امتنع كونه مبتدأ حين استعماله فى معناه لاشتماله على النسبة المستفادة من الهيئة المخصوصة ، إلا أن (ضرب) فى المثال ليس المراد منها إلا لفظها دون المعنى ، والحكم إنما تعلق باعتبار لفظها لا غير. واللفظ يقع مبتدأ من دون مانع.

فالمتحصل من جميع ذلك أن اطلاق اللفظ ، وإرادة شخصه ، أو نوعه ، أو صنفه ، أو مثله ليس كسائر الاستعمالات. بل هو من قبيل إحضار نفس الموضوع فى القضية ، والحكم عليه.

٧٠

(تبعية الدلالة للارادة)

دلالة اللفظ على المعنى عند اطلاقه تنقسم الى قسمين :

(القسم الاول) الدلالة التصورية : وهى انتقال ذهن السامع العالم بالوضع الى المعنى بمجرد وصول جوهر اللفظ الى مسامعه ـ بلا فرق فى صدوره من متكلم صاحب شعور قصد المعنى ، أم لم يقصد ، أو غير صاحب شعور ـ بل حتى لو صدر ذلك اللفظ من اصطكاك حجر بحجر فانه يوجب الانتقال الى المعنى.

(القسم الثانى) الدلالة التصديقية ـ وهى على نحوين :

(فتارة) يدل اللفظ على أن المتكلم أراد تفهيم معنى خاص حسب التزامه وتعهده ، وإنه لو قصد غيره لنصب قرينة عليه. وهذه هى ـ الارادة الاستعمالية ـ ويشترط فى هذه الدلالة أن يحرز السامع ان المتكلم فى مقام بيان تفهيم المعنى. اما لو سمع اللفظ من وراء جدار ، وتردد فى اللافظ هل هو إنسان او غيره. وعلى فرض الاول فهل كان فى مقام تفهيم المعنى ، وأن اللفظ صدر منه بغير شعور واختيار فالدلالة الثانية لا تتم لفقدان الشرط.

(واخرى) هى دلالة اللفظ على أن ما قصد المتكلم تفهيمه مراد له واقعا ، وليس فى مقام الاستهزاء ، والسخرية ، والامتحان ، ونحو ذلك. وتسمى هذه (بالارادة الجدية) فان إرادة كل واحد من هذه المعانى التى هى على خلاف ظاهر كلام المتكلم واقعا محتاجة الى قرينة واضحة ، ومتى لم ينصب قرينة على الخلاف فالارادة الجدية تكون مطابقة للارادة الاستعمالية لثبوت السيرة العقلائية على ذلك.

٧١

والبحث ـ فعلا ـ فى الدلالة الوضعية التى نشأت من جعل الواضع لفظا مخصوصا لمعنى مخصوص ، وهل هى نفس الدلالة التصورية التى لا تدور مدار ارادة المتكلم فلا تكون الدلالة الوضعية تابعة للارادة ، او هى الثانية التصديقية التى تتبع إرادة المتكلم فتكون الدلالة تابعة للارادة؟.

ذهب المشهور إلى الاول ـ كما ذهب الى ذلك المحقق النائينى (قده) ـ حيث قال : ولا يتفوّه عاقل من تبعية الدلالة للارادة ـ بينما ذهب الشيخ الرئيس ، وتبعه المحقق الطوسى الخواجة نصير الدين الى الثانى. وان الدلالة تتبع الارادة.

والصحيح ما ذهب إليه العلمان. والوجه فى ذلك : اننا ذكرنا سابقا فى حقيقة الوضع انه عبارة عن الالتزام والتعهد بانه متى ما عبر المتكلم بلفظ خاص فقد أراد به معنى مخصوصا وهذا الالتزام لا بد وأن يتعلق بامر اختيارى اذ للشخص ان يلتزم بهذا القرار ، وله أن لا يلتزم به. ولا ريب ان مجرد الانتقال من اللفظ إلى المعنى ـ كما هو مقتضى الدلالة التصورية ـ ليس بامر اختيارى كى ينطوى تحت قرار الشخص ، والتزامه. فلا مناص من ان يكون تعهده متعلقا بتفهيمه إرادة معنى خاص حينما يتكلم بلفظ مخصوص.

(وبعبارة أخرى) لو لا تعلق الحاجة بالتلفظ فى مقام إرادة تفهيم المعنى لما احتاج الشخص الى وضع الالفاظ. فدلالة اللفظ على المعنى إنما تكون فى مورد إرادة المتكلم تفهيمه ، ولازمه أن تكون الدلالة الوضعية تابعة للارادة. بل على فرض ان لا يكون الوضع من قبيل التعهد والالتزام فالدلالة الوضعية أيضا تتبع الارادة. لان الغاية التى تدعو الانسان الى الوضع هى قصد التفهيم والتفاهم لا غير. واذا كانت الغاية هى ـ ذلك ـ

٧٢

فمن الضرورى انها لا تحصل إلّا في الموارد التى يريد المتكلم ابراز المعنى باللفظ حال ارادته له ، وايصاله للغير. فبناء عليه تكون الدلالة التى جعلها الواضع تابعة للارادة ، هى الدلالة التصديقية.

اما الدلالة التصورية فليست مرتبطة بالواضع ، ولم تنشأ من جعله ، بل نشأت من كثرة الاستعمال ، وأنس الذهن بالانتقال الى المعنى عند سماع اللفظ ، فهى ليست بالدلالة الوضعية.

وأما النحو الثانى من الدلالة التصديقية ـ التى هى عبارة عن ارادة تفهيم المعنى للمتكلم واقعا ـ فقد ثبتت بالسيرة العقلائية حيث جرت سيرتهم على حمل كل ما يصدر من العاقل الشاعر على أنه صدر عن جد بلا فرق بين الاستعمالات وغيرها. ولا يعتنون باحتمال صدوره عن خطا ، أو سهو ، او سخرية ، فكل مورد لم تقم قرينة على الخلاف فيه فالعقلاء يحكمون بمطابقة المراد الجدى للمراد الاستعمالى.

وقد أورد صاحب الكفاية ـ قده ـ على تبعية الدلالة للارادة بوجوه :

الوجه الاول ـ ان قصد المعنى وتفهيمه من مقومات الاستعمال ، وهو بمرتبة متأخرة عن الوضع. وما هو من مقومات الاستعمال كيف يؤخذ فى المستعمل فيه أو الموضوع له؟.

والجواب عنه ـ انا لا ندعى وضع اللفظ بإزاء ارادة المعنى كى يتوجه عليه الاشكال ، وانما ندعى وضعه بإزاء المعنى حين ما يتعلق به ارادة التفهيم. فالمستعمل فيه نفس المعنى ، والالتزام قد تعلق بتفهيمه حين ما يتكلم بذلك اللفظ. فان الاستعمالات الخارجية انما هى فى مرحلة التطبيق لما تقرر التزامه عليه ، واخراج ما كان ثابتا بالقوة الى الفعل. فالمعنى

٧٣

ليس على اطلاقه وضع له اللفظ ، بل المعنى عند تعلق الارادة به ، ولا مانع من ان يكون قصد المعنى على هذا النحو مدلولا للفظ.

الوجه الثانى ـ لزوم التجريد عند الحمل والاسناد فى سائر الجمل ، مثل قولنا : زيد قائم. (فزيد) إن كان موضوعا للمعنى المراد كما ان (قائم) كذلك ، فلازمه عند الحمل والنسبة أن نجردهما من الارادة ، ونحمل (قائم) بعد تجريده عن قيد الارادة على (زيد) ، وضرورى اننا لا نشاهد تصرفا عند الحمل والاسناد ، وهذا يكشف عن عدم تبعية الدلالة للارادة.

والجواب عنه ـ انه بناء على ما حققناه من حقيقة الوضع ، ورجوعه الى التعهد بأنه متى ما قصد تفهيم معنى مخصوص أتى بلفظ خاص يكون المدلول بالذات للفظ هو نفس إرادة التفهيم. بمعنى ان الارادة هى المنكشف التصديقى للفظ ، والمعنى هو متعلق المدلول بالذات ، والنسبة فى سائر موارد الحمل انما توقع بين المتعلقات بمعنى ان الموضوع والمحمول متعلق المدلول التصديقى دائما أى متعلق الارادة ، والارادة إنما تتعلق بذات المعنى فى نفسه القابل للحمل والاسناد بلا تجريد.

الوجه الثالث ـ ان الالتزام بتبعية الدلالة للارادة يستلزم ان يكون الوضع فى الالفاظ بنحو الوضع العام ، والموضوع له الخاص. وذلك لان الواضع عند ما يريد جعل اللفظ للمعنى المراد يتصور مفهوم المعنى مع مفهوم الارادة ، وعند الجعل يضع اللفظ للمعنى بازاء الارادات الخارجية الواقعية من ارادة زيد وعمرو وبكر. وهذا يستلزم دائما أن يكون الوضع بالاضافة الى جميع الالفاظ عاما والموضوع له خاصا. وقد سبق أن بينا أنها تختلف باختلاف لحاظ المعنى على نحو ما ذكرناه فى التقسيم السابق.

والجواب عنه ـ ان التقسيمات التى حصلت من تعدد الاوضاع لم

٧٤

تكن فى الحقيقة بلحاظ الارادة ، بل للمعنى من حيث تعلق الارادة التفهيمية به. فالمعنى تارة يلحظ (كليا) ، واخرى (جزئيا) ، وثالثة (تفصيليا) ، ورابعة (اجماليا) بعنوان مشير إليه. وعلى فرض لحاظه الاولى فاما ان يوضع اللفظ بازائه ، وإما بازاء المصاديق. وجميع هذه التقسيمات تعود الى المعنى نفسه من دون دخل الارادة بذلك. والاشكال إنما يرد بناء على أخذ الارادة قيدا دخيلا فى المعنى ، بحيث يكون الموضوع له مركبا من المعنى والارادة. وقد عرفت ان ما ندعيه غير ذلك. فان ما ندعيه هو انه متى ما تعلقت ارادة المتكلم بتفهيم معنى خاص جعل كاشفه اللفظ الخاص. فانه التزم بأن لا يطلق اللفظ من دون أية قرينة إلّا اذا كان غرضه تفهيم معنى خاص. وهذا المعنى لا ينطبق إلّا على الدلالة التصديقية. فالمتحصل ان الدلالة الوضعية تابعة للارادة.

(وضع المركبات)

تختلف الجمل الكلامية بعضها عن بعض من حيث تعدد الوضع فيها وقلته فقد تكون جملة مشتملة على اوضاع ثلاثة وقد تشتمل اخرى على اربعة فصاعدا فلو لاحظنا جملة اسمية مؤلفة من مبتداء وخبر وكان كل منهما اسما جامدا مثل ـ زيد انسان ـ فبعد التحليل نجدها لا تزيد على اوضاع ثلاثة ، وضع للهيئة التركيبية التى تفيد الحكاية عن ثبوت نسبة الانسان لزيد ، ووضعان لمفردات القضية ، وضع لزيد ، ووضع للانسان وكل واحد من هذه الثلاثة موضوع لمعنى خاص. وقد يصادف طرف من القضية اسما مشتقا فيكثر الوضع لاشتمال ذلك الاسم على وضعين ، وضع من حيث المادة الذى هو وضع شخصى ، ووضع من حيث الهيئة وهو وضع نوعى ،

٧٥

وقد يضاف الى تلك الجملة حرف من الحروف او اضافة من الاضافات مثل زيد فى الدار ـ او زيد ضارب عمرو ـ او تشتمل على تقدم بعض الاشياء على بعض كما فى تقديم الضمير المنفصل على الفعل فيدل على الحصر مثل ـ اياك نعبد ـ بدلا من كلمة ـ نعبدك ـ وكما فى الاسماء التى لا تظهر حركات الاعراب عليها كموسى وعيسى فالمتقدم منهما فى كل جملة فعلية خبرية يدل على الفاعلية والمتاخر يدل على المفعولية والى غير ذلك مما يزيد عدد الوضع فى الجملة الواحدة تبعا لحاجة الواضع والمستعمل وقد اضاف بعضهم وضعا آخر وراء وضع مفرداتها وهيئاتها وهو وضع مجموع الجملة المركبة من المواد والهيئات لمجموعها ويسمى بالوضع للمركبات وهذا القول لا يرجع الى محصل لان القائل به ، ان اراد ان هناك وضعا وراء وضع المفردات والهيئة التركيبية فهذا الوضع ـ اولا ـ لغو صرف و ـ ثانيا ـ يستلزم الانتقال الى المعنى مرتين ـ اولا ـ بنحو الاجمال ثانيا ـ بنحو التفصيل ، وان اراد بذلك وجود وضع للهيئات التركيبية يفيد غير ما تفيده المفردات بموادها وهيئاتها كالحصر وامثاله فهذا لا باس به ، إلّا انه ليس بوضع للمجموع كما عرفت.

ومما ذكرنا يظهر بطلان تقسيم المجاز الى قسمين. مجاز فى المفرد. ومجاز فى المركب. فان المجاز ليس إلّا استعمال اللفظ فى خلاف ما وضع له ، والمركب كما عرفت ليس له وضع مستقل بحسب الحقيقة ليكون الاستعمال على خلافه استعمالا مجازيا ، نعم لا مانع من تشبيه بعض الجمل المركبة ببعض مثل قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) الخ ـ ، او قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) الخ.

٧٦

وربما يشبه بعض الجمل ببعض كما فى المثل المعروف ـ ما لى اراك تقدم رجلا وتؤخر اخرى ـ تشبيها بحالة الشخص المتردد وهو تشبيه امر معقول بامر محسوس. وكيف كان فليس الامر من قبيل المجاز ليكون للمركبات مجاز حتى يستلزم الوضع.

* * *

(علائم الحقيقة)

التبادر

هو انتقال الذهن من اللفظ الى المعنى من دون قرينة ، ولا بد لهذا الانتقال من موجب ، وهو لا يخلو : إما من اقتضاء ذات اللفظ وطبعه ، أو من جهة وضع الواضع وجعله له ، أو من أجل قرينة اقتضت ذلك ، أو من جهة العلم بالوضع. و (الاول) معلوم العدم ـ كما تقدم فى مبحث الوضع ـ فان طبع اللفظ لو اقتضى الانتقال إلى المعنى بلا حاجة الى الوضع للزم على كل شخص أن يعرف جميع لغات العالم ، وهو باطل بالضرورة. و (الثانى) كذلك ، فان مجرد الجعل لو كان سببا فى الانتقال للزم حصول الانتقال الى المعنى لكل شخص بمجرد تحقق الوضع خارجا ، وهو منتف بالضرورة ايضا. و (الثالث) كذلك ، لان الفرض ان لا تكون هناك قرينة ليستند الانتقال اليها ، فلا محالة يتعين (الرابع) وهو ان الانتقال نشأ من العلم بالوضع فيستكشف إنّا ان اللفظ حقيقة في هذا المعنى باعتبار انتقال من هو عالم بالوضع إليه. لان علمه فى هذا الحال موجب للانتقال ، ولهذا قيل : إن التبادر علامة الحقيقة.

(فان قلت) : إذا كان التبادر موقوفا على العلم بالوضع ، والمفروض

٧٧

أن العلم بالوضع يتوقف على التبادر فانه يلزم الدور.

(قلت) : يمكن الاجابة عنه بجوابين اشار لهما صاحب الكفاية ـ قده ـ :

الاول ـ إن التبادر عند اهل اللغة حجة على الجاهل الاجنبى عنها ـ كما لو أراد الرجل أن يعرف حقيقة لفظ فى معنى مخصوص عند أهل لغة ما فانه باستماعه إلى محاوراتهم يستطيع أن يقف على ما يفهمونه من اطلاق اللفظ ، فاذا رأى معنى من المعانى يتبادر إلى أذهانهم من نفس هذا اللفظ حكم بكون هذا اللفظ موضوعا له.

وليس ببعيد أن حال فهم اللغات من هذا القبيل ، كما أن أكثر مؤلفى القواميس اللغوية من القدماء كانوا يعتمدون على هذه الطريقة ، وعلى الاخص فى اللغة العربية حيث كانوا يتنقلون فى البوادى بين الاعراب لتسجيل معانى الالفاظ لديهم. وليس لهم طريق الا هذا النوع من التبادر.

وبهذا الوجه أمكن ثبوت الفرق بين الموقوف والموقوف عليه. بأن نقول : العلم بالوضع لدى الجاهل يتوقف على التبادر لدى اهل المحاورة وأما التبادر عند اولئك فيتوقف على علمهم به. ولا ربط لاحد العلمين بالآخر.

الثانى ـ ان التبادر حتى عند الشخص نفسه إذا كان من اهل اللغة يكون دليلا على الحقيقة ، وذلك بان نقول : إن أهل اللغة الواحدة كثيرا ما نراهم يستعملون الالفاظ فى معانيها بحسب مرتكزاتهم من دون التفاتهم الى خصوصيات المعنى ، بل قد يترددون فى تلك الخصوصيات. فاذا اراد الشخص أن يستكشف حال ذلك المعنى ، وخصوصياته من حيث السعة والضيق. فلازمه أن يرجع الى تبادره وما ينتقل ذهنه إليه من حاق اللفظ

٧٨

ليعرف المعنى تفصيلا ، وبصورة واضحة. فالعلم بالوضع ، وانه حقيقة فيه يتوقف على تبادر المعنى من اللفظ لديه. واما تبادره فيتوقف على العلم بالوضع ارتكازا ، أو فقل اجمالا. وبهذا ينحل الدور باختلاف الاجمال والتفصيل.

(فائدة)

إن المستكشف بالتبادر ليس المعنى الحقيقى الاول الذى جعله الواضع ابتداء. بل المستكشف به المعنى الحقيقى الفعلى الذى يفهمه العرف من اللفظ. ونعنى به المعنى الذى ظهر اللفظ فيه فعلا سواء كان هو المعنى الحقيقى الاول ، ام المنقول إليه. فلو تردد الشخص فيما يفهمه العرف فعلا. أهو بعينه المعنى الابتدائى الاول الذى كان متداولا فى عصر المعصوم عليه‌السلام ، أم غيره؟ فلفظ الصعيد ـ مثلا ـ إذا رأيناه ظاهرا فعلا فى مطلق وجه الارض ، وشككنا فى كونه هو المعنى الابتدائى فى زمن المعصوم عليه‌السلام فان اصالة عدم التغير ، او التبدل ، او النقل ، ومرجعها جميعا الى الاستصحاب القهقرى تثبت ذلك.

والسيرة العقلائية قائمة على ذلك ـ كما يظهر من مراجعة احوالهم فى استكشاف المراد من السجلات وغيرها ـ مما يثبت كونه هو المعنى الحقيقى عند التردد فيه فى الزمان السابق.

هذا كله مع العلم بان التبادر لم يكن لاجل قرينة أوجبت الانتقال الى المعنى. وأما لو تردد فى ذلك فليس فى البين اصل يثبت الاستناد الى مجرد حاق اللفظ لا الى القرينة ، واصالة عدم القرينة لا تثبت هذا المعنى ، لان مدركها اما الاستصحاب ، واما بناء العقلاء. و (الاول) غير جار إذ لا

٧٩

اثر لذلك شرعا ، و (الثانى) كذلك لان مجرى بناء العقلاء عند التمسك باصالة عدم القرينة فى الموارد التى يكون للفظ ظهور فى المعنى ، ويكون له معنى حقيقى ومجازى ، ثم شك فى المراد الجدى للمتكلم ، وانه هل اراد المعنى الحقيقى الذى كان اللفظ ظاهرا فيه ، او اراد غيره ونصب عليه قرينة؟ فبأصالة عدم القرينة يثبتون ان مراده هو المعنى الحقيقى.

وأما اذا علم ظهور اللفظ فى المعنى ، وعلم ارادة المتكلم له جدا ، ولكن شك فى استناده إلى القرينة ليكون الاستعمال مجازيا ، او الى الوضع ليكون حقيقيا. فالعقلاء لم يسبق لهم بناء فى مثل هذا.

(وبعبارة اخرى) العقلاء إنما يلتجئون الى اصالة عدم القرينة لتعيين مراد المتكلم جدا واما العلم به ، والشك فى كيفية الارادة لذلك المعنى فلا يرجعون الى اصالة عدم القرينة.

فالمتحصل ـ من جميع ما تقدم ـ ان التبادر علامة على المعنى الحقيقى الفعلى العرفى إذا علم استناده إلى نفس اللفظ. وهذا مختص بالعالم بالوضع فقط.

* * *

عدم صحة السلب :

قالوا : إن صحة الحمل ، وعدم صحة السلب من علائم الحقيقة. كما ان عدم صحة الحمل ، وصحة السلب من علائم المجاز. فاذا اردنا ان نعرف ان (الحجر جسم) ام ليس بجسم ـ مثلا ـ حملنا عليه ذلك فان وجدنا صحة مثل هذا الحمل من دون عناية نستكشف منه الحقيقة وإلّا فهو مجاز.

٨٠