مصابيح الأصول

علاء الدين بحر العلوم

مصابيح الأصول

المؤلف:

علاء الدين بحر العلوم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز نشر الكتاب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٨

التعلم بحيث استلزم ترك الواجب فالعقل يحكم بوجوب التعلم عليه فان فى تركه احتمال مخالفة التكليف الفعلى المنجز وهو مساوق لاحتمال العقوبة ولا مؤمن من ذلك لان البراءة لا تجرى فى صورة التمكن من الفحص عن الدليل.

(القسم الثانى) ان يكون ترك التعلم قبل الوقت مؤثرا فى فقد التمييز من الواجب بمعنى ان العبد لا يتمكن من الامتثال العلمى التفصيلى بعد الوقت ولكن كان متمكنا من احراز الواجب اجمالا كما اذا كان المكلف به مرددا بين المتباينين كالقصر ، والاتمام ، فلو ترك العبد التعلم قبل الوقت فقد استوجب فقدان التمييز مع امكانه احراز امتثال الواجب ولو بطريق الاحتياط ، وفى هذا القسم لا يجب عليه التعلم قبل الوقت لعدم اعتبار التمييز ، ولذلك ذكرنا انه يجوز الاحتياط وان استلزم التكرار للمتمكن من الاجتهاد والتقليد.

(القسم الثالث) ان يكون ترك التعلم قبل الوقت مؤثرا فى فقد احراز الواجب فى ظرفه دون اصل امتثاله بان يتمكن المكلف من الامتثال الاحتمالى دون العلمى وهذا كما لو كان الوقت ضيقا ولم يستطع العبد إلّا اتيان فعل واحد ، اما القصر ، او الاتمام ، وفى هذا القسم يجب عليه التعلم من جهة قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل فان فى الاكتفاء بما يحتمل انطباق المأمور به عليه احتمال المخالفة للتكليف الفعلى من غير مؤمن فلا محالة يحتمل الضرر ومعه يجب دفعه ، وليس الملاك فى ذلك احتمال تفويت الغرض الملزم.

(القسم الرابع) ان يكون ترك التعلم قبل الوقت موجبا لترك الواجب فى وقته ، اما للغفلة عن التكليف اصلا ، وهذا كثيرا ما يتفق فى

٣٤١

المعاملات فان المعاملة الفاسدة اذا تحققت فبعد النقل والانتقال الخارجى يغفل طرفا المعاملة عن الحكم بالحرمة فى التصرفات الخارجية وذلك من جهة انه لم يتعلم حكم هذه المعاملة ـ واما لعدم التمكن من الاتيان به كالصلاة التى هى مجموعة من تكبير ، وقراءة ، وركوع ، وسجود ، وغير ذلك فانها تحتاج الى زمن يمكن التعلم فيه ، وفى هذا القسم يجب التعلم قبل الوقت من باب وجوب تحصيل المقدمات المفوتة فلو ترك العبد التعلم قبل الوقت فقد فوت غرضا ملزما ، ومعه يستحق العقاب لقاعدة ان الامتناع بالاختيار لا ينافى الاختيار.

هذا كله فيما اذا لم يكن الواجب مقيدا بقدرة خاصة شرعا من جهة التعلم ، واما اذا كانت القدرة الخاصة ماخوذة فيه فالتعلم غير واجب لا قبل حصول القيد لانه لا وجوب ليجب التعلم مقدمة لاتيان المكلف به ، ولا بعده لانه لا يستطيع العبد الاتيان به ، ومعه لا يكون الوجوب فعليا فلا وجوب للتعلم قبل الوقت ، ولكن لو التزمنا بالوجوب فى هذه الصورة فلا بدّ من الالتزام بمقالة المقدس الاردبيلى (قده) وهو الوجوب النفسى للغير فيجب التعلم بالنسبة الى من كان التكليف لو لا العجز الحاصل من جهة عدم التعلم متوجها اليه ، واما بالنسبة الى غيره فلا معنى للوجوب النفسى كالرجال بالنسبة الى تعلم احكام النساء فانه لا يجب عليهم ذلك نفسا ، نعم يجب الاجتهاد فى هذه الاحكام كفاية وهذا خارج عن محل الكلام ـ هذا كله بحسب الكبرى ـ واما الصغرى اعنى اخذ القدرة الخاصة فى الملاك بلحاظ التعلم ـ فغير محققة لانه ليس لدينا واجب من الواجبات مقيدا بالقدرة الخاصة من جهة التعلم اذ ليس للتعلم دخل فى صيرورة العمل ذا ملاك ملزم ، والدليل عليه هو كل ما ورد من الادلة على وجوب

٣٤٢

التعلم والسؤال ، ـ منها ـ ما ورد من انه يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال : له هلا عملت فيقول : ما علمت فيقال له : هلا تعلمت ، فان المستفاد منه تحقق الملاك ولو بالنسبة الى العاجز من ناحية ترك التعلم فتعجيز النفس من هذه الجهة لا يجوز.

هذا كله فى البحث عن وجوب التعلم فى الموارد التى يعلم المكلف بابتلائه بالحكم فيها كالصلاة ، والصيام ، وكذا يجب التعلم فى موارد الاطمينان بحصول الابتلاء به.

واما الموارد التى يحتمل ابتلاؤه بها فهل يجب تعلم الاحكام فيها؟ المعروف بين القوم هو وجوب التعلم على المكلف بالملاك السابق.

وربما يقال : بعدم وجوبه استنادا الى استصحاب عدم الابتلاء بالاضافة الى الزمن المستقبل لكونه فعلا متيقنا بعدم ذلك.

واشكل على هذا بامرين :

«الامر الاول» ان دليل الاستصحاب لا يشمل هذا القسم من الاستصحاب المسمى ـ بالاستصحاب الاستقبالى ـ لانه لا يستفاد منه الا الحكم ببقاء ما كان متيقن الحدث سابقا الى زمان الشك وفى المقام ليس الامر كذلك.

«الامر الثانى» ان الاستصحاب يجرى فى مورد يكون المستصحب اثرا شرعيا ، او ذا اثر شرعى ، ومع انتفاء ذلك لا يجرى الاستصحاب اصلا ، والاثر هنا مرتب على مجرد احتمال الابتلاء من جهة دفع الضرر المحتمل لا على واقعه ليرتفع باصالة العدم ، ولا اشكال ان نفس الاحتمال محرز وجدانا فالاستصحاب لا اثر له ، و (بعبارة اخرى) احتمال الابتلاء هو محل الاثر وهو وجوب دفع الضرر وهذا الاحتمال حاصل فعلا بالوجدان ،

٣٤٣

اما الابتلاء الواقعى فلا اثر له ليرتفع بواسطة الاستصحاب.

واجيب عن هذين الامرين :

(اما عن الاول) فلان اطلاق دليل الاستصحاب شامل لهذا القسم باعتبار ان مفاده كل شىء متيقن حادث لا يرفع اليد عنه بالامر المشكوك سواء كان المتيقن سابقا ام فعليا.

(واما عن الثانى) فان موضوع الاثر وان كان مجرد احتمال الابتلاء وهو محرز بالوجدان ، إلّا ان استصحاب عدم الابتلاء ان جرى كان رافعا للابتلاء الواقعى رفعا تعبديا ، وبذلك يرتفع احتمال الابتلاء ارتفاعا موضوعيا ، فيكون دليل الاستصحاب رافعا لموضوع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، نعم الاشكال على الاستصحاب من امرين آخرين :

«الامر الاول» العلم الاجمالى بالابتلاء بقسم من الاحكام الشرعية فى زمانه وان لم تكن موارد الانطباق معلومة بالتفصيل ، ومقتضى ذلك عدم جريان الاصول النافية فى اطرافه من جهة تعارض الاستصحاب فى الاطراف.

«الامر الثانى» ان هذا الاستصحاب لا يجرى ، من جهة ان الاوامر الدالة على وجوب تعلم الاحكام مثل «فاسألوا اهل الذكر» ومثل النبوى الشريف «طلب العلم فريضة» ومثل (هلا تعلمت) وما شاكل ذلك ، واردة مورد هذا الاستصحاب فان فى غالب الموارد لا يقطع الانسان ، ولا يطمئن بالابتلاء ، بناء على جريان الاستصحاب فيلزم عدم وجوب التعلم فلا يبقى تحت هذه العمومات الا موارد نادرة وهذا لا يمكن الالتزام به ـ ونظيره ما سيجىء إن شاء الله تعالى فى وجه تقدم قاعدة الفراغ على الاستصحاب ـ نعم هذا فى الموارد التى يقع ابتلاء المكلف فيها ، اما الموارد التى يقل

٣٤٤

الابتلاء بها ـ كاغلب مسائل الخلل والشكوك ـ مثل ما لو شك المكلف انه توضأ ، او جامع زوجته ، ونظائره مما هو نادر الابتلاء فلا يجب عليه التعلم فيها بحكم العقل.

تنبيهان

«التنبيه الاول» ان وجوب التعلم الذى فرضناه سواء كان بملاك دفع الضرر المحتمل ام فوت المصلحة الملزمة انما يختص بالبالغين الذين ادركوا سن البلوغ فما زاد ، واما الصبيان فلا يجب عليهم التعلم لو علموا بفوات الواجب او احرازه منهم بعد البلوغ ان تركوا التعلم قبل ذلك ، والوجه فيه : ان البالغ لو ترك التعلم وفات الواجب منه فالعقاب ليس على فوت الواجب لعدم القدرة عليه فى زمانه لاشتراطه بالقدرة ، بل على تفويت المصلحة الملزمة من اجل تفويت مقدمته اختيارا وهذا المعنى لا يتاتى فى الصبيان لان ترك المقدمة الاختيارية فى حقهم قبل الوقت لا تستوجب عقابا ، باعتبار ان اختيار الصبى كلا اختيار فهو وان تركها بالاختيار إلّا ان اختياره محكوم بالعدم من جهة رفع القلم عن الصبى ، نعم يؤدب الصبى ويمرّن على الصلاة والصيام لسبع ، او تسع ، وهو امر آخر.

فما ذكر شيخنا الاستاذ (قده) من لزوم التعلم على الصبى مدعيا انه لا يمكن التمسك لرفع الوجوب عنه بحديث الرفع لانه لا يرفع الحكم العقلى ، والمفروض فى المقام لزوم التعلم عليه عقلا (ممنوع) لان حكم العقل بذلك انما هو فيما اذا لم يرد تعبد شرعى على خلافه فحكمه تعليقى ، ولذا قلنا : بعدم وجوبه على تقدير جريان استصحاب عدم الابتلاء فيما بعد ، وحديث الرفع وما يشبهه من الادلة الشرعية وارد على حكم

٣٤٥

العقل ومزيل لموضوعه وجدانا اذ لا نحتمل الضرر بعد ورود المؤمن الشرعى.

«التنبيه الثانى» نقل شيخنا الاستاذ (قده) عن بعض الرسائل العملية للشيخ الانصارى (قده) انه حكم فيها بفسق تارك تعلم مسائل الشك والسهو فيما يبتلى به عامة المكلفين وقد تعجب (قده) ونسب الاشتباه الى من جمع فتاواه فى الرسالة ، وعلل ما ذكره باحد امور ثلاثة :

«الامر الاول» ان يدعى وجوب التعلم نفسا كما قاله المحقق الاردبيلى (قده) فيكون المخالف مستحقا للعقوبة ولكنه خلاف مبناه (قده) حيث لم يلتزم بالوجوب النفسى ، وانما يلتزم بالوجوب الطريقى.

«الامر الثانى» ان يكون مستند الحكم هو التجرى ، وانه قبيح يستحق فاعله الذم ، ويوجب الفسق وان لم يستوجب العقاب ، ولكن هذا ابعد من الاول اذ لا وجه للحكم بفسق من عمل عملا لا يستحق العقوبة عليه

«الامر الثالث» ان يكون المستند هو ان نفس مسائل السهو والشك لما كانت موردا لابتلاء المكلفين وجب على كل احد معرفتها ، ومخالفة الواجب تستدعى الحكم بفسق التارك ، ولكنه ابعد الفروض واشدها غرابة لفرض كون الوجوب طريقيا.

والصحيح ان يقال : ان التارك محكوم بالفسق نظرا الى التجرى ، فان العدالة على القول بانها الملكة الداعية الى اجتناب المحرمات ، وفعل الواجبات : لا تجتمع مع التجرى ، والاتيان بما يعتقد كونه مبغوضا فانه يكشف عن فقدان الملكة المزبورة ، ولا ينافى ذلك الحكم بعدم كونه معاقبا كما هو واضح ، فكان كل من ترك تعلم المسائل فقد تجرى بعمله وصار فاسقا فما جاء به الشيخ الانصارى (قده) صحيح ومتين.

٣٤٦

الواجب النفسى والغيرى

عرّف الواجب النفسى : بانه ما وجب لا للتوصل به الى واجب آخر.

وعرّف الواجب الغيرى : بانه ما وجب للتوصل به الى واجب آخر.

واشكل على التعريف الاول : بان لازمه صيرورة جلّ الواجبات ما عدى المعرفة غيرية لان الغرض منها تحصيل الغايات والفوائد المترتبة عليها بناء على تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد ـ كما عن العدلية ـ وهو الصحيح ولا ريب ان الغايات واجبة فكل ما يؤدى الى تحصيلها يجب مقدمة ، اما المعرفة فهى غاية الغايات ووجوبها لنفسها لا للتوصل به الى واجب آخر.

و (اجيب عنه) : بان الغايات وان كان وجودها محبوبا ولكنها حيث كانت غير مقدورة استحال تعلق الطلب بها فلا بدّ من تعلقه بنفس الفعل ومعه لا يصدق على الواجب انه غيرى لعدم واجب يتوصل به اليه.

و (ردّ الجواب) : بان الفائدة وان لم تكن مقدورة بالذات ، إلّا انها مقدورة بالواسطة ، وذلك للقدرة على اسبابها ، والمقدور بالواسطة كالمقدور بدونها من جهة صحة تعلق الخطاب به ، فالاغراض والفوائد يصح تعلق الحكم بها لانها مقدورة للقدرة على الافعال التى يترتب عليها.

وقد منع شيخنا الاستاذ (قده) تعلق الخطاب بمثل هذه الغايات ، حيث قسم الاغراض الى ثلاثة اقسام.

(القسم الاول) ما لا يتوسط بين الفعل الخارجى والغرض امر اختيارى ،

٣٤٧

وغير اختيارى كطلاق المرأة ، وقتل زيد ، وفى مثل هذا لا مانع من تعلق التكليف بالغرض والامر بتحصيله.

(القسم الثانى) ما يتوسط بين الفعل الخارجى والغرض امر اختيارى خاصة كطبخ اللحم ، والصعود على السطح ، (مثلا) فان كلا منهما موقوف على جملة من الامور الاختيارية بحيث لو لم تحصل خارجا لما حصل الغرض اصلا ، وفى هذا القسم ايضا لا مانع من تعلق التكليف بنفس الغرض باعتبار ان الواسطة اختيارية.

(القسم الثالث) ما يتوسط بين الفعل الخارجى والغرض امر ليس باختيارى ، فيكون نسبة الفعل الى الغاية نسبة المعدّ الى المعدّ له ، وذلك كحصول الثمر والنتاج المتوقفين على زراعة الفلاح ، وسقايته للارض ، فان الثمرة ، والنتاج ، لا يترتبان على نفس عمل الفلاح بل يتوقفان على قوة الارض ، وتقبلها للزراعة ، وغير ذلك من الامور الخارجة عن قدرة الفلاح ، كذا شرب الدواء للمريض ، وتحسن صحته ، وفى هذا القسم لا يمكن تعلق الطلب بالغرض بل لا بد من تعلقه بنفس الفعل وان كانت الغاية باعثة على التكليف بما هو معدّلها.

والظاهر ان الغايات الداعية الى جعل الاحكام الشرعية من القسم الثالث ، ولا يمكن فى مواردها التكليف بنفسها بل التكليف يتعلق بمعداتها

و (غير خفى) ان ما جاء به (قده) صحيح ومتين ، إلّا ان ذلك بالنسبة الى الغرض الاقصى ، اما بالاضافة الى الاثر الاعدادى فلا مانع من تعلق التكليف به ، والاثر الاعدادى فيما نحن فيه من مثال الزراعة انما هو اعطاء قابلية الانتاج للارض بحيث ان سقيت ولوحظت ملاحظة كاملة كانت قابلة لذلك ، واما النتاج والثمر فهو غرض اقصى ، واثر نهائى ، وهو ليس

٣٤٨

بمقدور للفلاح ليكون المولى بصدد طلبه ، وعليه فموردنا مما يمكن تعلق الطلب فيه بنفس الغرض ، فاشكال صيرورة جلّ الواجبات غيرية باق على حاله.

(فالتحقيق ان يقال) : فى دفع الاشكال ان باب الاسباب والمسببات ، اما ان نلتزم بمقالة صاحب المعالم (ره) فيها من ان الامر بالمسبب عين الامر بالسبب ، او ندعى المغايرة بينهما ، فان التزمنا بالاول كانت جميع الافعال واجبة بالوجوب النفسى وليس هناك واجب غيرى لان الامر بالغاية امر بالفعل لا محالة ، وان التزمنا بالثانى ـ كما هو الصحيح ـ فلا يمكن تعلق التكليف به لانه يعتبر فى متعلق التكليف ـ مضافا الى لزوم كونه مقدورا ـ ان يكون مما يفهمه عموم الناس بحيث يمكن تحريكهم نحوه ، ومن المعلوم ان هذا الشرط غير موجود فى الفوائد ، والغايات ؛ لان العرف لا يرى حسنا فى توجه الطلب نحو النهى عن الفحشاء ، او باعداد النفس للانتهاء عن كل امر فاحش ، كما لا يرى حسنا فى قول الطبيب للمريض اعد نفسك لكل ما يعود عليك بالنفع وتحسن الحالة ـ بل الحسن يتم اذا قال ـ صل ـ او ـ اشرب الدواء ـ فالغاية وان كانت مقدورة إلّا ان الطلب لا يحسن عرفا تعلقه بها ، وليس كل مقدور يصح تعلق التكليف به ، نعم تلك الغاية بعثت المولى للايجاب وجعلت فى نفسه داعيا الى انشاء الطلب إلّا ان ذلك لا يستلزم وجوبها ، اذا فما عرّفه المشهور من ان الواجب النفسى ما وجب لا للتوصل به الى واجب آخر ، والغيرى ما وجب للتوصل به الى واجب آخر هو الصحيح.

ثم ان صاحب الكفاية (قده) بعد ان التزم بصحة تعلق التكليف النفسى بالآثار المترتبة على الفعل التى هى مقدورة بالواسطة ـ اجاب عن الاشكال

٣٤٩

المتقدم ـ بان الواجبات النفسية هى التى تعلق امر الشارع بها استنادا الى الحسن الذاتى المتحقق فيها وان كانت مقدمة لغرض آخر ملزم ، والواجبات الغيرية هى التى امر الشارع بها لواجب آخر من دون لحاظ حسنها الذاتى وان اشتملت عليه كالطهارات الثلاث ، فانها تجب بالوجوب الغيرى بلحاظ كونها مقدمات للصلاة ونحوها ، وان كانت مستحبة نفسا بلحاظ حسنها الذاتى.

و ـ بتعبير آخر ـ ايجاب الفعل ان كان ومنشؤه وسببه ملاحظة الشارع حسن الفعل فى حد ذاته فهو واجب نفسى ، وان كانت مقدمة لما يجب تحصيله وان كان منشؤه ملاحظة مقدميته لفعل آخر فهو واجب غيرى وان اشتمل على الحسن الذاتى.

و (غير خفى) ـ اولا ـ من ان لازم ما ذكر ان لا يكون شىء من الواجبات النفسية متمحضا فى الوجوب النفسى ، وذلك باعتبار اشتمالها على ملاكين النفسية ، والغيرية ، فان كل واجب نفسى بما انه مامور به لاجل المصلحة الملزمة المترتبة عليه فهو غيرى ، وبالنظر الى حسن الفعل من حيث هو فانه يقتضى ان يكون واجبا نفسيا ، وهذا التزام بالاشكال من ان جميع الواجبات النفسية واجبات غيرية.

و (ثانيا) ان دعوى الحسن فى جميع الواجبات النفسية جزاف ، فان بعض الواجبات فى حد ذاتها مشتملة على الحسن الذاتى مع قطع النظر عن تعلق الامر بها كالسجود ـ مثلا ـ اما بقية الواجبات فليس لها حسن ذاتى كالصوم ، والخمس ، والزكاة ، والحج ، نعم الامر بها يكشف عن وجود ملاك ومصلحة فيها ، واما الحسن العقلى فهو يطرأ عليها بعد الامر باعتبار ان الاتيان بها يكون اطاعة للمولى ، والاطاعة حسنة عقلا.

٣٥٠

ثم انه هل يكون فى الواجبات قسم ثالث لا يكون نفسيا ولا غيريا؟ فقد يتوهم ذلك بالنسبة الى المقدمات المفوتة ـ كالغسل ليلا للجنب لصوم غد ـ معللا ذلك بعدم انطباق تعريف كل منهما عليه ، اما عدم وجوبه النفسى فلان تركه لا يستوجب العقاب عليه ، وانما يستحق العقاب من جهة ترك ذى المقدمة ، واما عدم وجوبه الغيرى فلان وجوبه حاصل قبل وجوب ذى المقدمة ومن شأن كل مقدمة ان يتاخر وجوبها عن وجوب ذيها ، هذا على تقدير ان لا نقول بالواجب المعلق ، واما ـ بناء على صحته ـ فالغسل ليلا واجب غيرى لان الوجوب فعلى مستفاد من قوله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) وهذا الاشكال انما يرد ان اخذنا بمقالة القائلين بان وجوب ذى المقدمة علة لوجوب المقدمة فانه لا معنى لتحقق المعلول قبل تحقق علته فلا تتصف المقدمات المفوتة بالوجوب الغيرى ، وان لم نقل : بهذه المقالة ولم نعتبر وجوب المقدمة معلولا لوجوب ذيها بل قلنا : كما هو التحقيق بان الوجوب الغيرى ما كان منشؤه اشتياق المولى الى ذيها لوجود ملاك ملزم فلا يرد الاشكال بل نلتزم بكون وجوبه وجوبا غيريا.

مقتضى الاصل عند الشك

اذا تردد فى واجب انه نفسى او غيرى فهل الاصل اللفظى او العملى يقتضى احدهما بالخصوص؟ والبحث يقع فى مقامين.

«المقام الاول» فى الاصل اللفظى.

اعلم ان مقتضى الاطلاق هو تعين الوجوب النفسى وهذا واضح على مسلك المشهور ، وذلك فان تقييد الوجوب بما اذا وجب الغير

٣٥١

محتاج الى مئونة زائدة فلو اطلق المولى كلامه ، وكان فى صدد البيان ، ولم يقيد الوجوب بقيد من القيود لزم التمسك باطلاق خطابه والحكم بالوجوب النفسى ، واما على مسلك الشيخ (ره) من استحالة تقيد الهيئة فحيث انه لا يخص الواجبات بالنفسية فقط غاية الامر فى مرحلة الاثبات يستشكل فى ارجاع القيد الى الهيئة باعتبار انها من المعانى الحرفية التى من شانها ان تكون جزئية فيمكن تقريب الاطلاق بوجهين :

«الوجه الاول» ان يؤخذ باطلاق الوجوب اذا عبّر المولى عن طلبه بجملة اسمية كما ورد فى الروايات «ان غسل الجنابة فريضة من فرائض الله» وما شاكل ذلك ـ فحينئذ ـ لا مانع من التمسك بالاطلاق لقبول المعنى الاسمى للتقييد.

«الوجه الثانى» التمسك باطلاق دليل الواجب ورفع ما يحتمل كونه مقدمة له وذلك فان معنى المقدمية ليس إلّا تقيد الواجب بذلك القيد ـ كالوضوء ـ بالنسبة الى الصلاة فلو اطلق المولى كلامه وقال «صل» وكان فى مقام البيان ولم يبين جهة تقيد الصلاة بالوضوء لزم التمسك باطلاق قوله «صل» ونفى كونه مقيدا بالوضوء ، ولازم هذا ان لا يكون الوضوء واجبا غيريا وحيث يعلم باصل كونه واجبا يحكم بكونه واجبا نفسيا لان اللوازم فى الادلة اللفظية تثبت بلا اشكال.

«المقام الثانى» فى الاصل العملى ويقع على صور :

«الصورة الاولى» ان يعلم المكلف وجوب شىء ـ كالوضوء ـ ويتردد فيه بين النفسى والغيرى وهو يعلم انه على تقدير كونه مقدمة لواجب لم يكن ذلك الواجب فعليا ـ كالطواف ـ (مثلا) لعدم الاستطاعة ، ففى مثل هذه الصورة لا يعلم المكلف ثبوت التكليف على كل حال بل يحتمل

٣٥٢

ذلك ، ومعه تجرى البراءة.

«الصورة الثانية» ان يعلم المكلف وجوب شىء فعلا ويتردد فيه بين كونه نفسيا وغيريا وهو يعلم انه على تقدير كونه غيريا فالواجب المتوقف عليه فعلى لم يصل الينا وجوبه ، وهذا وان لم نجد له مثالا فى الشبهات الحكمية ، ولكنه فى الشبهات الموضوعية كثير ، وهو ـ كما لو تردد المكلف فى منذور ، بين كونه وضوء ، او صلاة ـ وهو لا يعلم متعلق نذره بشخصه ولكنه واثق بان المنذور ان كان هو الوضوء كان وجوبه نفسيا ، وان كان هو الصلاة كان وجوبه غيريا وهو فى نفس الوقت لا يعلم وجوب الصلاة فهو يعلم اجمالا اما الوضوء وحده واجب ، او الوضوء مع الصلاة واجب ، فالحكم بوجوب الاتيان بالصلاة ايضا متوقف على القول بعدم انحلال العلم الاجمالى ، كما انه ان قلنا : بانحلاله كفى الاتيان بالوضوء ، ويمكن تقريب القول بعدم الانحلال بان الوجوب المعلوم بالاجمال هو الوجوب النفسى ، فانه يعلم بوجوب الوضوء ، او الصلاة نفسا ، والعلم بوجوب الوضوء على كل حال ليس متعلقا لوجوبه النفسى فلا يعقل الانحلال الذى مرجعه الى رجوع القضيتين المشكوكتين على سبيل منع الخلو الى قضية متيقنة ، وقضية مشكوكة ، وذلك لان المعلوم بالتفصيل فى المقام ليس من سنخ المعلوم بالاجمال.

ومن ذلك يظهر انه لا يقاس المقام ـ بمبحث الاقل والاكثر الارتباطيين ـ فان المعلوم بالتفصيل هناك من سنخ المعلوم بالاجمال لان الحكم اذا تعلق بمركب فلا محالة ينحل الى اجزاء ذلك المركب ، فيكون لكل جزء وجوب نفسى يعبّر عنه بالوجوب الضمنى ، فيعلم تفصيلا بان الاقل واجب بوجوب نفسى ويشك فى وجوب الجزء الزائد

٣٥٣

على ذلك ، وهذا هو معنى الانحلال.

وهذا المعنى لا يتأتى هنا ، اذا الحكم لا ينحل بالنسبة الى المقدمات الخارجية والوجوب النفسى لا يتعدى اليها فلا يمكن الالتزام بانحلال الوجوب النفسى للصلاة.

ولكن التحقيق هو الحكم بالانحلال بتقريب : انا نعلم ان ترك الوضوء على كل تقدير يستوجب عقابا ، اما على فرض كونه نفسيا فواضح ، واما على فرض كونه غيريا فكذلك ، لا لان ترك المقدمة يستوجب ذلك ، بل لتفويت الواجب النفسى به ، ومع القطع بان تركه يستوجب العقاب يلزم الاتيان به ، واما الصلاة فوجوبها النفسى محتمل وهو مجرى للاصل.

والحاصل اننا نعلم ان ترك الوضوء مستلزم لتحقق العقاب على كل حال بخلاف الصلاة فانها مستلزمة ذلك على تقدير ان الوجوب وارد عليها ، ومع الشك فى ذلك تجرى البراءة العقلية ، والشرعية ، ومعه لا يكون العلم الاجمالى منجزا ـ بناء على ما هو الصحيح ـ من ان التنجز فرع تعارض الاصلين ، وتساقطهما ، وفى المقام لا معنى لاجراء اصالة البراءة بالنسبة الى الوضوء.

«الصورة الثالثة» ما اذا علم تفصيلا بوجوب كل واحد منهما وشك فى ان احد الواجبين مقيد بوجود الواجب الآخر مع العلم بتماثل الوجوبين من حيث الاشتراط والتقييد فى بقية الجهات ، بمعنى اننا نعلم ان هذين الوجوبين متساويان اطلاقا وتقييدا ـ كالوضوء ، والصلاة ـ المقيدين بالوقت ، فقد حكم شيخنا الاستاذ (قده) فى هذه الصورة بجريان البراءة وذلك للشك فى الواجب النفسى وهو الصلاة انه مقيد بالوضوء ،

٣٥٤

وان جهة التقييد ملحوظة من قبل الشارع المقدس ليكون الوضوء واجبا غيريا ، او ليست ملحوظة ليكون واجبا نفسيا ، وحيث كنا نعلم بوجوب الصلاة ونشك فى التقييد ، فاصالة البراءة تجرى فى نفى التقييد وتكون النتيجة هى الاطلاق ، وعدم اشتراط الصلاة بالوضوء ، فللمكلف ان ياتى بالوضوء قبل الصلاة وبعدها.

«وفيه ما لا يخفى» فان جريان البراءة عن تقييد الصلاة بالوضوء معارض باصل آخر يجرى فى نفى احتمال الوجوب النفسى عن الوضوء ، وذلك فاننا نعلم تفصيلا بوجوب الوضوء وجوبا جامعا بين النفسى والغيرى ولا نعلم خصوصية احدهما من النفسى والغيرى ، فالعلم الاجمالى بثبوت احدى الخصوصيتين يمنع من جريان الاصل فى كل منهما ، ومعه يحكم العقل بالاحتياط ولا يتم إلّا باتيان الوضوء اولا ، ثم اتيان الصلاة بعده ، ومرجعه بحسب النتيجة الى ان وجوب الوضوء غيرى وليس بنفسى.

«الصورة الرابعة» وهى ما اذا علم تفصيلا وجوب كل واحد من الامرين وشك فى ان وجوب احدهما غيرى للآخر ؛ مع عدم العلم بتماثل الوجوب فيه من حيث الشرائط ـ كما اذا علمنا ان الصلاة ـ التى هى واجب نفسى مشروطة بالوقت ، وشككنا فى ان وجوب الوضوء نفسى ، او غيرى ؛ فعلى تقدير النفسية فهو غير مشروط بالوقت ، وعلى تقدير الغيرية فهو مشروط به لا محالة ، وذلك لتبعية الوجوب الغيرى للنفسى فى الاطلاق ، والتقييد ، كما هو مقتضى الملازمة العقلية ، فقد حكم شيخنا الاستاذ (قده) فى هذه الصورة بجريان البراءة من جهات :

«الاولى» بالنسبة لتقيد الصلاة بالوضوء فيحكم بصحة الصلاة حينئذ

٣٥٥

بغير وضوء ، «الثانية» للشك فى ان الوضوء واجب قبل الوقت او ليس بواجب فيحكم بعدم وجوبه قبل الوقت ، «الثالثة» للشك فى ان المكلف لو جاء بالوضوء قبل الوقت ـ وان قلنا بعدم وجوبه ـ هل يكون مسقطا ومجزيا عن الوضوء بعد الوقت؟ فان الشك ـ حينئذ ـ فى ان وجوب الوضوء بعد الوقت مطلق ، او مقيد بمن لم يتوضأ قبله ، فتجرى البراءة عن الوجوب بالنسبة الى من توضأ قبله ، واذا جرت البراءة فى ذلك فقد ثبت الخيار للمكلف من انه كيف شاء اتيان الوضوء قبل الوقت ، وبعده ، او قبل الصلاة ، او بعدها هذا ما افاده (قده).

و (غير خفى) ـ ان الصورة الاخيرة تقرب بوجهين :

«الوجه الاول» هو انا نعلم بوجوب الوضوء مرددا بين النفسى والغيرى من دون علم بالتماثل اطلاقا وتقييدا ، الا انا نعلم ايضا ان الوضوء لو كان واجبا نفسيا فهو واجب قبل الوقت ، ولو كان واجبا غيريا فهو واجب بعد الوقت ، ففى هذا الوجه لا يمكن اجراء البراءة من تقيد الصلاة بالوضوء ، ومن وجوبها النفسى قبل الوقت ، وذلك للزوم المخالفة القطعية العملية لما هو المعلوم بالاجمال ، حيث اننا نعلم اجمالا بان وجوب الوضوء اما نفسى او غيرى ، فهذا العلم الاجمالى وان كان بالنسبة الى التدريجيات ، إلّا انه ـ منجز على المختار ـ فيمنع من اجراء البراءة بالنسبة الى الوجوب النفسى والغيرى ، فلو رفعنا اليد عن الوجوب النفسى المحتمل بعد الوقت ، ورفعنا اليد ايضا عن الوجوب النفسى المحتمل قبل الوقت لزمت المخالفة القطعية وهو باطل ، فمقتضى العلم الاجمالى هو الحكم بالنفسية والغيرية من باب الاحتياط ولكن يكفى الاتيان بوضوء قبل الوقت فانه على تقدير الغيرية وان كان لا يجب الاتيان به

٣٥٦

قبل الوقت إلّا انه يجزى عن الوضوء بعده.

«الوجه الثانى» هو انا نعلم بوجوب مردد بين النفسى والغيرى بلا علم بالتماثل اطلاقا وتقييدا ، الا اننا واثقون بان وجوب الوضوء ان كان غيريا فهو بعد الوقت ، وان كان نفسيا فهو مطلق غير مقيد بما بعد الوقت ، او قبله ، ففى هذا الوجه لا معنى لاجراء البراءة عن وجوب الوضوء قبل الوقت لعدم احتمال التقيد به ، واما بعد الوقت فيحكم بوجوب الوضوء للعلم الاجمالى بوجوبه اما نفسيا ، او غيريا ، وهو منجز ـ حينئذ ـ بلا اشكال ، ولا يمكن اجراء البراءة عن الوجوب النفسى والغيرى.

نعم هنا شىء آخر ، وهو انه لو شككنا فى وجوب اعادة الوضوء بعد الوقت على تقدير كونه غيريا امكن رفعه بالبراءة ، وذلك لعدم وجوب الاعادة اما على فرض النفسية فواضح لانه مطلق ، واما على الغيرية فلان وجوب المقدمة وان تابع وجوب ذيها فى الاطلاق ، والاشتراط ، إلّا ان هذا لا ينافى الاتيان بها قبلا ، فان المقدار المعلوم على تقدير الغيرية هو اصل تقيد الواجب بها ، واما تقيده بها بخصوصية ان يؤتى بها بعد الوقت فهو مجهول ويدفع احتماله باصالة البراءة.

٣٥٧

الثواب على الواجب الغيرى

لا اشكال فى ان ترك الواجبات النفسية تستلزم العقاب من المولى باعتبار انه تمرد وطغيان عليه كما لا اشكال فى عدم استلزامه لترك الواجبات الغيرية من حيث انفسها لا من جهة ما يؤدى الى ترك الواجب النفسى ، انما الاشكال فى مقامين :

(المقام الاول) فى وجه ترتب الثواب على امتثال الواجب النفسى وهل هو بالاستحقاق او التفضل.

(المقام الثانى) فى ترتب الثواب على الواجب الغيرى.

اما البحث عن المقام الاول ـ فقد اختلف القوم فيه ، فذهب جمهور الفقهاء والمتكلمين الى الاول وهو الاستحقاق ، بينما ذهب المفيد (ره) وجماعة الى الثانى وهو التفضل بدعوى ان العبد ليس اجيرا فى عمله للمولى ليستحق الثواب عليه وانما جرى على طبق وظيفته وعبوديته من اطاعة امر مولاه ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذى يتفضل على عبده فيعطيه الثواب.

والقائل بالاستحقاق ان اراد من كلامه : ان العبد بعد امتثاله الواجب وقيامه باظهار العبودية يلزم على المولى ان يثيبه بحيث لو ترك ذلك لكان ظلما منه تعالى : فهذا غير صحيح قطعا ، لان العقل يحكم على العبد بمقتضى قانون العبودية ان يقوم باطاعة اوامر مولاه بلا تقاعس فى ذلك ـ وان اراد من ذلك : ان العبد لو قام بالامتثال واظهر الاخلاص

٣٥٨

لسيده فان ثواب سيده له لو تفضل عليه به يقع فى محله ، وفى مورد يليق به فهذا صحيح ومتين ، ولكنه عين التفضل.

وربما عاد النزاع بين الطرفين لفظيا ان اراد القائلون : بالاستحقاق ذلك منه.

و (اما البحث عن المقام الثانى) ـ وهو ترتب الثواب على الواجب الغيرى واستحقاقه ذلك فنقول : لا ينبغى الاشكال فى ان المراد من الاستحقاق ان كان هو المعنى الاول بمعنى لزوم اعطاء الثواب من المولى للعبد بحيث لو ترك ذلك لكان قبيحا ، فهو غير لازم قطعا بالنسبة الى الواجب الغيرى حتى لو قلنا : بلزومه بالنسبة للواجب النفسى ، وان كان هو المعنى الثانى ، وهو ما سبق من كون الثواب واقعا فى محله الذى هو المختار فى الثواب المترتب على الواجب النفسى فهو صحيح ، بل الالتزام بهذا لا يتوقف على القول بوجوب المقدمة شرعا اذ حتى على القول بعدم الملازمة بين وجوب المقدمة وذيها يتم هذا المبنى ، نعم لو اتى بالمقدمة بلا قصد التوصل الى الواجب النفسى فقد فات الثواب منه لعدم تأهيل نفسه له ، لعدم التفاته الى ذلك ، كما ان الواجب النفسى التوصلى اذا لم يقصد به ذلك لم يترتب عليه الثواب وان سقط الامر.

ثم انه بعد البناء على استحقاق الثواب فاعل الواجب الغيرى فهل يكون بالاتيان للمقدمة وذيها مستحقا لثوابين ، (احدهما) على الغيرى ، و (ثانيهما) على النفسى ، او لثواب واحد على خصوص النفسى ، ولكنه اكثر لاتيانه بالمقدمة؟ والظاهر هو الاول : وان ذهب صاحب الكفاية ، وشيخنا الاستاذ (قدس‌سرهما) الى الثانى ، والوجه فيما استظهرناه هو وجود ملاك الاستحقاق فى المقدمة وهو الانقياد واظهار الطاعة بقصد

٣٥٩

التوصل الى الواجب النفسى فكان الملاك الحاصل من الواجب الغيرى فى عرض الملاك الحاصل من الواجب النفسى فيستحق ثوابين.

والذى يؤيد ما قلناه : انه لو اتى بالمقدمة بقصد التوصل الى ذيها ثم لم يتمكن من الاتيان بذى المقدمة لمانع استحق الثواب على ما جاء به وليس هذا إلّا لانه انقاد بعمله واظهر الطاعة والاخلاص لمولاه فكان مستحقا للثواب ، وبهذا يفترق القولان بحسب النتيجة.

الاشكال فى عبادية الطهارات الثلاث

وقد اشكل على عبادية الطهارات الثلاث : الوضوء ، الغسل ، التيمم بامرين.

«الامر الاول» ـ ان الواجب الغيرى توصلى لا يترتب عليه ثواب ولا على تركه عقاب ، مع اننا نجد الطهارات الثلاث التى هى مقدمة للصلاة عبادة يترتب عليها الثواب ، فكيف يمكن الجمع بين المقدمة والثواب.

و (الجواب عنه) ظهر مما تقدم حيث قلنا : بعدم المنافاة بين كون الواجب غيريا وبين ترتب الثواب على امتثاله ، فان موضوع استحقاق الثواب فى المقدمة انما هو قيام العبد بالامتثال واظهاره الطاعة رجاء التوصل الى الواجب ، وهذا هو الذى يوجب صدق العبادية عليه واستحقاق الثواب فلا منافاة فى ذلك.

«الامر الثانى» ـ ان الاوامر المتعلقة بالطهارات الثلاث اوامر غيرية ، وهى توصلية لا تقتضى عبادية متعلقاتها ، مع انه لا اشكال فى لزوم الاتيان بها عبادة وانها لا تصح فيما اذا اتى بها لا بقصد القربة ، هذا مع ان

٣٦٠