التفسير القيّم

ابن القيّم الجوزيّة

التفسير القيّم

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الشيخ إبراهيم محمّد رمضان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

لو لا حفظ الله وعصمته. فهذا أشد من نظر العائن ، بل هو جنس من نظر العائن فمن قال : إنه من الإصابة بالعين أراد : هذا المعنى. ومن قال : ليس به. أراد : أن نظرهم لم يكن نظر استحسان وإعجاب. فالقرآن حق.

وقد روى الترمذي من حديث أبي سعيد «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتعوذ من عين الإنسان» فلو لا أن العين شر لم يتعوذ منها.

وفي الترمذي من حديث على بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير حدثني حابس بن حبة التميمي حدثني أبي : أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «لا شيء في الهام. والعين حق».

وفيه أيضا من حديث وهيب عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين ، وإذا استغسلتم فاغسلوا» وفي الباب عن عبد الله بن عمرو. وهذا حديث صحيح.

والمقصود : أن العائن حاسد خاص. وهو أضر من الحاسد. ولهذا ـ والله أعلم ـ إنما جاء في السورة ذكر الحساد دون العائن. لأنه أعم. فكل عائن حاسد ولا بد. وليس كل حاسد عائنا. فإذا استعاذ من شر الحاسد دخل فيه العائن. وهذا من شمول القرآن وإعجازه وبلاغته.

وأصل الحسد : هو بغض نعمة الله على المحسود ، وتمني زوالها.

فالحاسد عدو النعم. وهذا الشر هو من نفسه وطبعها. ليس هو شيئا اكتسبه من غيرها ، بل هو من خبثها وشرها ، بخلاف السحر. فإنه إنما يكون باكتساب أمور أخرى ، واستعانة بالأرواح الشيطانية. فلهذا ـ والله أعلم ـ قرن في السورة بين شر الحاسد وشر الساحر. لأن الاستعاذة من شر هذين تعم كل شر يأتي من شياطين الإنس والجن. فالحسد من شياطين الإنس والجن ، والسحر من النوعين.

٦٤١

وبقي قسم ينفرد به شياطين الجن ، وهو الوسوسة في القلب. فذكره في السورة الأخرى ، كما سيأتي الكلام عليها إن شاء الله. فالحاسد والساحر يؤذيان المحسود والمسحور بلا عمل منه. بل هو أذى من أمر عنه. ففرق بينهما في الذكر في سورة الفلق.

والوسواس إنما يؤذي العبد من داخل بواسطة مساكنته له ، وقبوله منه. ولهذا يعاقب العبد على الشر الذي يؤذيه به الشيطان من الوساوس التي تقترن بها الأفعال ، والعزم الجازم. لأن ذلك بسعيه وإرادته ، بخلاف شر الحاسد والساحر فإنه لا يعاقب عليه. إذ لا يضاف إلى كسبه ولا إرادته. فلهذا أفرد شر الشيطان في سورة ، وقرن بين شر الساحر والحاسد في سورة. وكثيرا ما يجتمع في القرآن الحسد والسحر للمناسبة. ولهذا كان اليهود أسحر الناس وأحسدهم. فإنهم لشدة خبثهم : فيهم من السحر والحسد ما ليس في غيرهم. وقد وصفهم الله في كتابه بهذا وهذا. فقال : ٢ : ١٠٢ (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ. وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ ، وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا ، يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ. وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ. وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا : إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ ، فَلا تَكْفُرْ. فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ. وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ، وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ. وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ، وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

والكلام على أسرار هذه الآية وأحكامها وما تضمنته من القواعد والرد على من أنكر السحر ، وما تضمنته من الفرقان بين السحر وبين المعجزات الذي أنكره من أنكر السحر خشية الالتباس. وقد تضمنت الآية أعظم الفرقان بينهما ـ في موضع غير هذا.

وإذ المقصود الكلام على أسرار هاتين السورتين وشدة حاجة الخلق إليهما ، وأنه لا يقوم غيرهما مقامهما.

٦٤٢

وأما وصفهم بالحسد فكثير في القرآن. كقوله تعالى : ٤ : ٥٥ (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) وفي قوله : ٢ : ١٠٩ (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ).

والشيطان يقارن الساحر والحاسد ، ويحادثهما ويصاحبهما. ولكن الحاسد تعينه الشياطين بلا استدعاء منه للشيطان. لأن الحاسد شبيه بإبليس ، وهو في الحقيقة من أتباعه. لأنه يطلب ما يحبه الشيطان من فساد الناس ، وزوال نعم الله عنهم ، كما أن إبليس حسد آدم لشرفه وفضله ، وأبى أن يسجد له حسدا. فالحاسد من جند إبليس. وأما الساحر فهو يطلب من الشيطان أن يعينه ويستعينه. وربما يعبده من دون الله ، حتى يقضي له حاجته ، وربما يسجد له.

وفي كتب السحر والسر المكتوم من هذا عجائب. ولهذا كلما كان الساحر أكفر وأخبث وأشد معاداة لله ولرسوله ولعباده المؤمنين كان سحره أقوى وأنفذ. وكان سحر عباد الأصنام أقوى من أهل الكتاب ، وسحر اليهود أقوى من سحر المنتسبين إلى الإسلام. وهم الذين سحروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفي الموطأة عن كعب قال : «كلمات أحفظهن من التوراة ، لولاها لجعلتني يهود حمارا : أعوذ بوجه الله العظيم ، الذي لا شيء أعظم منه ، وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ، وبأسماء الله الحسنى ، ما علمت منها وما لم أعلم : من شر ما خلق ، وذرأ ، وبرأ».

والمقصود : أن الساحر والحاسد كل منهما قصده الشر ، لكن الحاسد بطبعه ونفسه وبغضه للمحسود ، والشيطان يقترن به ويعينه ، ويزين له حسده ، ويأمره بموجبه. والساحر بعلمه ، وكسبه ، واستعانته بالشياطين.

٦٤٣

فصل

وقوله : (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) يعم الحاسد من الجن والإنس. فإن الشيطان وحزبه يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله. كما حسد إبليس أبانا آدم ، وهو عدو لذريته ، كما قال تعالى : ٣٥ : ٦ (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) ولكن الوسواس أخص بشياطين الجن ، والحسد أخص بشياطين الإنس. والوسواس يعمهما ، كما سيأتي بيانهما. والحسد يعمهما أيضا. فكلا الشيطانين حاسد موسوس. فالاستعاذة من شر الحاسد تتناولهما جميعا.

فقد اشتملت السورة على الاستعاذة من كل شر في العالم.

وتضمنت شرورا أربعة يستعاذ منها : شرا عاما. وهو شر ما خلق. وشر الغاسق إذا وقب. فهذان نوعان.

ثم ذكر شر الساحر والحاسد ، وهما نوعان أيضا. لأنهما من شر النفس الشريرة. وأحدهما يستعين بالشيطان ويعبده ، وهو الساحر. وقلّما يتأتى السحر بدون نوع عبادة للشيطان ، وتقرب إليه : إما بذبح باسمه ، أو بذبح يقصد به هو ، فيكون ذبحا لغير الله ، وبغير ذلك من أنواع الشرك والفسوق.

والساحر وإن لم يسم هذا عبادة للشيطان. فهو عبادة له ، وإن سماه بما سماه به. فإن الشرك والكفر هو شرك وكفر لحقيقته ومعناه ، لا لاسمه ولفظه. فمن سجد لمخلوق ، وقال : ليس هذا بسجود له ، هذا خضوع وتقبيل الأرض بالجبهة ، كما أقبّلها بالنعم ، أو هذا إكرام : لم يخرج بهذه الألفاظ عن كونه سجودا لغير الله فليسمه بما يشاء.

وكذلك من ذبح للشيطان ودعاه واستعاذ به ، وتقرب إليه بما يحب. فقد عبده ، وإن لم يسم ذلك عبادة ، بل يسميه استخداما ، وصدق. هو استخدام من الشيطان له. فيصير من خدم الشيطان وعابديه. وبذلك يخدمه

٦٤٤

الشيطان ، لكن خدمة الشيطان له ليست خدمة عبادة. فإن الشيطان لا يخضع له ولا يعبده ، كما يفعل هو به.

والمقصود : أن هذا عبادة منه للشيطان. وإنما سماه استخداما. قال تعالى : ٣٦ : ٦٠ (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ؟ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) وقال تعالى : ٣٤ : ٤٠ ، ٤١ (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ : أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ؟ قالُوا : سُبْحانَكَ ، أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ ، بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ، أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ).

فهؤلاء وأشباههم عباد الجن والشياطين. وهم أولياؤهم في الدنيا والآخرة. ولبئس المولى ، ولبئس العشير. فهذا أحد النوعين.

والنوع الثاني : من يعينه الشيطان ، وإن لم يستعن هو به. وهو الحاسد. لأنه نائبة وخليفته. لأن كليهما عدو نعم الله ، ومنغصها على عباده.

فصل

وتأمل تقييده سبحانه شر الحاسد بقوله «إذا حسد» لأن الرجل قد يكون عنده حسد ، ولكن يخفيه ، ولا يرتب عليه أذى بوجه ما ، لا بقلبه ، ولا بلسانه ، ولا بيده ، بل يجد في قلبه شيئا من ذلك ولا يعامل أخاه إلا بما يحب الله. فهذا لا يكاد يخلو منه أحد إلا من عصمه الله.

وقيل للحسن البصري : أيحسد المؤمن؟ قال : ما أنساك لإخوة يوسف.

لكن الفرق بين القوة التي في قلبه من ذلك وهو لا يطيعها ولا يأتمر بها ، بل يعصيها طاعة الله وخوفا وحياء منه ، وإجلالا له. أن يكره نعمه على عباده ، فيرى ذلك مخالفة لله وبغضا لما يحب الله ، ومحبة لما يبغضه. فهو يجاهد نفسه على دفع ذلك ، ويلزمها بالدعاء للمحسود ، وتمنى زيادة الخير له ، بخلاف ما إذا حقق ذلك وحسده ، ورتب على حسده مقتضاة : من الأذى بالقلب ، واللسان والجوارح فهذا الحسد المذموم. هذا كله حسد

٦٤٥

تمنى الزوال.

وللحسد ثلاث مراتب : إحداها هذه.

والثانية : تمنى استصحاب عدم النعمة. فهو يكره أن يحدث الله لعبده نعمة ، بل يحب أن يبقى على حاله من جهله ، أو فقره ، أو ضعفه ، أو شتات قلبه عن الله ، أو قلة دينه. فهو يتمنى دوام ما هو فيه من نقص وعيب. فهذا حسد على شيء مقدر. والأول حسد على شيء محقق. وكلاهما حاسد ، عدو نعمة الله ، وعدو عباده ، وممقوت عند الله تعالى ، وعند الناس. ولا يسود أبدا ، ولا يواسى فإن الناس لا يسوّدون عليهم إلا من يريد الإحسان إليهم. فأما عدو نعمة الله عليهم فلا يسوّدونه باختيارهم أبدا إلا قهرا يعدونه من البلاء والمصائب التي ابتلاهم الله بها. فهم يبغضونه وهو يبغضهم.

والحسد الثالث : حسد الغبطة ، وهو تمنى أن يكون له مثل حال المحسود من غير أن تزول النعمة عنه. فهذا لا بأس به ، ولا يعاب صاحبه ، بل هذا قريب من المنافسة ، وقد قال تعالى : ٨٣ : ٢٦ (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) وفي الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا ، وسلطه على هلكته في الحق. ورجل آتاه الله الحكمة. فهو يقضى بها ويعلمها الناس» فهذا حسد غبطة ، الحامل لصاحبه عليه كبر نفسه ، وحب خصال الخير ، والتشبه بأهلها ، والدخول في جملتهم ، وأن يكون من سبّاقهم وعليتهم ومصلّيهم لا من فساكلهم (١) فتحدث له من هذه الهمة المنافسة والمسابقة والمسارعة ، مع محبته لمن يغبطه ، وتمنى دوام نعمة الله عليه. فهذا لا يدخل في الآية بوجه ما.

فهذه السورة من أكبر أدوية الحسد. فإنها تتضمن التوكل على الله ،

__________________

(١) الفسكل بوزن قنفذ وذبرج الفرس الذي يجيء في حلبة السباق آخر الخيل.

٦٤٦

والالتجاء إليه ، والاستعاذة به من شر حاسد النعمة. فهو مستعيذ بولي النعم وموليها. كأنه يقول : يا من أولاني نعمته وأسداها إليّ أنا عائذ بك من شر من يريد أن يستلبها مني ، ويزيلها عني. وهو حسب من توكل عليه ، وكافى من لجأ إليه ، وهو الذي يؤمن خوف الخائف ، ويجير المستعير. وهو نعم المولى ونعم النصير. فمن تولاه واستنصر به ، وتوكل عليه وانقطع بكليته إليه ، تولاه وحفظه وحرسه وصانه. ومن خافه واتقاه أمّنه مما يخاف ويحذر. وجلب إليه كل ما يحتاج إليه من المنافع ٦٥ : ٢ ، ٣ (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ. وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) فلا تستبطئ نصره ورزقه وعافيته. فإن الله بالغ أمره. وقد جعل الله لكل شيء قدرا. لا يتقدم عنه ولا يتأخر. ومن لم يخفه أخافه من كل شيء ، وما خاف أحد غير الله إلا لنقص خوفه من الله. قال تعالى : ١٦ : ٩٨ ، ٩٩ (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ. إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) وقال : ٣ : ١٧٥ (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ. فَلا تَخافُوهُمْ ، وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي يخوفكم بأوليائه ، ويعظمهم في صدوركم. فلا تخافوهم ، وأفردوني بالمخافة أكفكم إياهم.

فصل

ويندفع شر الحاسد عن المحسود بعشرة أسباب.

أحدها : التعوذ بالله من شره ، والتحصن به واللجأ إليه. وهو المقصود بهذه السورة ، والله تعالى سميع لاستعاذته ، عليم بما يستعيذ منه ، والسمع هنا المراد به : سمع الإجابة ، لا السمع العام. فهو مثل قوله : «سمع الله لمن حمده» وقول الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ١٤ : ٣٩ (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) ومرة يقرنه بالعلم ، ومرة بالبصر ، لاقتضاء حال المستعيذ ذلك. فإنه يستعيذ به من عدو يعلم أن الله يراه ، ويعلم كيده وشره. فأخبر الله تعالى هذا المستعيذ

٦٤٧

ذلك. فإنه يستعيذ به من عدو يعلم أن الله يراه ، ويعلم كيده وشره. فأخبر الله تعالى هذا المستعيذ أنه سميع لاستعاذته ، أي مجيب ؛ عليم بكيد عدوه ، يراه ويبصره ، لينبسط أمل المستعيذ ، ويقبل بقلبه على الدعاء.

وتأمل حكمة القرآن ، كيف جاء في الاستعاذة من الشيطان الذي نعلم وجوده ولا نراه بلفظ «السميع العليم» في الأعراف وحم السجدة. وجاءت الاستعاذة من شر الإنس الذين يؤنسون ويرون بالأبصار بلفظ «السميع البصير» في سورة حم المؤمن. فقال : ٤٠ : ٥٦ (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ ، إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ ، فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) لأن أفعال هؤلاء أفعال معاينة ترى بالبصر. وأما نزغ الشيطان فوساوس ، وخطرات يلقيها في القلب ، يتعلق بها العلم. فأمر بالاستعاذة بالسميع العليم فيها. وأمر بالاستعاذة بالسميع البصير في باب ما يرى بالبصر ، ويدرك بالرؤية. والله أعلم.

السبب الثاني : تقوى الله ، وحفظه عند أمره ونهيه. فمن اتقى الله تولّى الله حفظه ، ولم يكله إلى غيره. قال تعالى : ٣ : ١٢١ (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعبد الله بن عباس «احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك» فمن حفظ الله حفظه الله ، ووجده أمامه أينما توجه. ومن كان الله حافظه وأمامه فممن يخاف؟ ومن يحذر؟.

السبب الثالث : الصبر على عدوه ، وأن لا يقاتله ولا يشكوه ، ولا يحدث نفسه بأذاه أصلا. فما نصر على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه ، والتوكل على الله ولا يستطل تأخيره وبغيه. فإنه كلما بغى عليه كان بغيه جندا وقوة للمبغى عليه المحسود ، يقاتل به الباغي نفسه. وهو لا يشعر. فبغيه سهام يرميها من نفسه إلى نفسه. ولو رأى المبغى عليه ذلك لسرّه بغيه عليه. ولكن لضعف بصيرته لا يرى إلا صورة البغي ، دون آخره ومآله. وقد قال تعالى : ٢٢ : ٦٠ (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ

٦٤٨

اللهُ) فإذا كان الله قد ضمن له النصر ، مع أنه قد استوفى حقه أولا ، فكيف بمن لم يستوف شيئا من حقه ، بل بغى عليه وهو صابر؟ وما من الذنوب ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم. وقد سبقت سنة الله : أنه لو بغى جبل على جبل لجعل الباغي منهما دكا.

السبب الرابع : التوكل على الله. فمن يتوكل على الله فهو حسبه. والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم. وهو من أقوى الأسباب في ذلك. فإن الله حسبه ، أي كافيه. ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه ، ولا يضره إلا أذى لا بد منه ، كالحر والبرد ، والجوع والعطش ، وإما أن يضره بما يبلغ منه مراده فلا يكون أبدا.

وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاء له ، وهو في الحقيقة إحسان إليه وإضرار بنفسه ، وبين الضرر الذي يتشفى به منه. قال بعض السلف : جعل الله لكل عمل جزاء من جنسه ، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته لعبده ، فقال : ٦٥ : ٣ (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) ولم يقل : نؤته كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال ، بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه ، وواقيه ، فلو توكل العبد على الله حق توكله وكادته السموات والأرض ومن فيهن لجعل له ربه مخرجا من ذلك ، وكفاه ونصره.

وقد ذكرنا حقيقة التوكل وفوائده ، وعظم منفعته ، وشدة حاجة العبد إليه في «كتاب الفتح القدسي» وذكرنا هناك فساد من جعله من المقامات المعلولة ، وأنه من مقامات العوام. وأبطلنا قوله من وجوه كثيرة. وبينا أنه من أجلّ مقامات العارفين ، وأنه كلما علا مقام العبد كانت حاجته إلى التوكل أعظم وأشد ، وأنه على قدر إيمان العبد يكون توكله.

وإنما المقصود هنا ذكر الأسباب التي يندفع بها شر الحاسد ، والعائن ، والساحر ، والباغي.

٦٤٩

السبب الخامس : فراغ القلب من الاشتغال به والفكر فيه ، وأن يقصد أن يمحوه من باله كلما خطر له. فلا يلتفت إليه ، ولا يخافه ، ولا يملأ قلبه بالفكر فيه.

وهذا من أنفع الأدوية ، وأقوى الأسباب المعينة على اندفاع شره. فإن هذا بمنزلة من يطلبه عدوه ليمسكه ويؤذيه ، فإذا لم يتعرض له ولا تماسك هو وإياه ، بل انعزل عنه لم يقدر عليه. فإذا تماسكا وتعلق كل منهما بصاحبه ، حصل الشر وهكذا الأرواح سواء. فإذا علق روحه وشبّثها به ، وروح الحاسد الباغي متعلقة به يقظة ومناما ، لا يفتر عنه ، وهو يتمنى أن يتماسك الروحان ويتشبثا. فإذا تعلقت كل روح منهما بالأخرى عدم القرار. ودام الشر ، حتى يهلك أحدهما. فإذا جبذ روحه منه ، وصانها عن الفكر فيه والتعلق به ، وأن لا يخطره بباله. فإذا خطر بباله بادر إلى محو ذلك الخاطر ، والاشتغال بما هو أنفع له وأولى به. بقي الحاسد الباغي يأكل بعضه بعضا. فإن الحسد كالنار ، فإذا لم تجد ما تأكله أكل بعضها بعضا.

وهذا باب عظيم النفع لا يلقّاه إلّا أصحاب النفوس الشريفة والهمم العلية ، وبين الكيس الفطن وبينه حتى يذوق حلاوته وطيبه ونعيمه كأنه يرى من أعظم عذاب القلب والروح اشتغاله بعدوه ، وتعلق روحه به ، ولا يرى شيئا آلم لروحه من ذلك ، ولا يصدق بهذا إلا النفوس المطمئنة الوادعة اللينة ، التي رضيت بوكالة الله لها ، وعلمت أن نصره لها خير من انتصارها هي لنفسها. فوثقت بالله ، وسكنت إليه ، واطمأنت به ، وعلمت أن ضمانه حق ، ووعده صدق ، وأنه لا أوفى بعهده من الله ، ولا أصدق منه قيلا. فعلمت أن نصره لها أقوى وأثبت وأدوم ، وأعظم فائدة من نصرها هي لنفسها ، أو نصر مخلوق مثلها لها ، ولا يقوى على هذا إلا بالسبب السادس :

وهو الإقبال على الله ، والإخلاص له ، وجعل محبته ورضاه والانابة

٦٥٠

إليه في محل خواطر نفسه ، وأمانيها تدب فيها دبيب تلك الخواطر شيئا فشيئا ، حتى يقهرها ويغمرها ويذهبها بالكلية. فتبقى خواطره وهواجسه وأمانيه كلها في محاب الرب ، والتقرب إليه وتملقه وترضيه ، واستعطافه وذكره ، كما يذكر المحب التام المحبة محبوبه المحسن إليه الذي قد امتلأت جوانحه من حبه. فلا يستطيع قلبه انصرافا عن ذكره ، ولا روحه انصرافا عن محبته. فإذا صار كذلك فكيف يرضى لنفسه أن يجعل بيت أفكاره وقلبه معمورا بالفكر في حاسده والباغي عليه ، والطريق إلى الانتقام منه ، والتدبير عليه؟ هذا ما لا يتسع له إلا قلب خراب لم تسكن فيه محبة الله وإجلاله ، وطلب مرضاته. بل إذا مسّه طيف من ذلك واجتاز ببابه من خارج ، ناداه حرس قلبه : إياك وحمى الملك. اذهب إلى بيوت الخانات التي كل من جاء حلّ فيها ، ونزل بها. مالك ولبيت السلطان الذي أقام عليه اليزك وأدار عليه الحرس ، وأحاطه بالسور ، قال تعالى حكاية عن عدوه إبليس : أنه قال : ٣٨ : ٨٢ ، ٨٣ (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) فقال تعالى : ١٥ : ٤٢ (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) وقال : ١٦ : ٩٩ ، ١٠٠ (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) وقال في حق الصديق يوسف صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ١٢ : ٢٤ (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ).

فما أعظم سعادة من دخل هذا الحصن ، وصار داخل اليزك ، لقد آوى إلى حصن لا خوف على من تحصّن به. ولا ضيعة على من آوى إليه ، ولا مطمع للعدو في الدنو إليه منه (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

السبب السابع : تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه. فإن الله تعالى يقول : ٤٢ : ٣٠ (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما

٦٥١

كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) وقال لخير الخلق ، وهم أصحاب نبيه دونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ٣ : ١٦٥ (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ : أَنَّى هذا؟ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ).

فما سلط على العبد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه أو لا يعلمه ، وما لا يعلمه العبد من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها. وما ينساه مما عمله أضعاف ما يذكره.

وفي الدعاء المشهور «اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم. واستغفرك لما لا أعلم».

فما يحتاج العبد إلى الاستغفار منه مما لا يعلمه أضعاف أضعاف ما يعلمه. فما سلط عليه مؤذ إلا بذنب.

ولقي بعض السلف رجل فأغلظ له ونال منه ، فقال له : قف حتى أدخل البيت ، ثم أخرج إليك. فدخل فسجد لله وتضرع إليه وتاب ، وأناب إلى ربه. ثم خرج إليه فقال له : ما صنعت؟ فقال : تبت إلى الله من الذنب الذي سلطك به عليّ.

وسنذكر إن شاء الله تعالى أنه ليس في الوجود شر إلّا الذنوب وموجباتها. فإذا عوفي العبد من الذنوب عوفي من موجباتها. فليس للعبد إذا بغي عليه وأوذي وتسلط عليه خصومه شيء أنقع له من التوبة النصوح.

وعلامة سعادته : أن يعكس فكره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه ، فيشتغل بها وبإصلاحها وبالتوبة منها. فلا يبقى فيه فراغ لتدبر ما نزل به ، بل يتولى هو التوبة وإصلاح عيوبه. والله يتولى نصرته وحفظه ، والدفع عنه ولا بد. فما أسعده من عبد ، وما أبركها من نازلة نزلت به. وما أحسن أثرها عليه ، ولكن التوفيق والرشد بيد الله. لا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع. فما كل أحد يوفق لهذا. لا معرفة به ، ولا إرادة له ، ولا قدرة عليه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

٦٥٢

السبب الثامن : الصدقة والإحسان ما أمكنه. فإن لذلك تأثيرا عجيبا في دفع البلاء ، ودفع العين ، وشر الحاسد. ولو لم يكن في هذا إلا بتجارب الأمم قديما وحديثا لكفى به. فما تكاد العين والحسد والأذى يتسلط على محسن متصدق ، وإن أصابه شيء من ذلك كان معاملا فيه باللطف والمعونة والتأييد. وكانت له فيه العاقبة الحميدة.

فالمحسن المتصدق في خفارة إحسانه وصدقته ، عليه من الله جنّة واقية ، وحصن حصين.

وبالجملة : فالشكر حارس النعمة من كل ما يكون سببا لزوالها.

ومن أقوى الأسباب : حسد الحاسد والعائن. فإنه لا يفتر ولا يني ، ولا يبرد قلبه حتى تزول النعمة عن المحسود. فحينئذ يبرد أنينه ، وتتطفئ ناره ، لا أطفأها الله. فما حرس العبد نعمة الله بمثل شكرها ، ولا عرضها للزوال بمثل العمل فيها بمعاصي الله. وهو كفران النعمة. وهو باب إلى كفران المنعم.

فالمحسن المتصدق يستخدم جندا وعسكرا يقاتلون عنه وهو نائم على فراشه. فمن لم يكن له جند ولا عسكر ، وله عدو. فإنه يوشك أن يظفر به عدوه ، وإن تأخرت مدة الظفر. والله المستعان.

السبب التاسع : وهو من أصعب الأسباب على النفس ، وأشقها عليها ، ولا يوفق له إلا من عظم حظه من الله ـ وهو إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه. فكلما ازداد أذى وشرا وبغيا وحسدا ازددت إليه إحسانا ، وله نصيحة ، وعليه شفقة. وما أظنك تصدّق بأن هذا يكون ، فضلا عن أن تتعاطاه.

فاسمع الآن قوله عزوجل : ٤١ : ٣٤ ـ ٣٦ (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).

٦٥٣

وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا. وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) وقال : ٢٨ : ٥٤ (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا ، وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ. وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ).

وتأمل حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ ضربه قومه حتى أدموه. فجعل يسلت الدم عنه ، ويقول «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» كيف جمع في هذه الكلمات أربع مقامات من الإحسان ، قابل بها إساءتهم العظيمة إليه؟.

أحدها : عفوه عنهم. والثاني : استغفاره لهم. والثالث : اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون. والرابع : استعطافه لهم بإضافتهم إليه. فقال «اغفر لقومي»

كما يقول الرجل لمن يشفع عنده فيمن يتصل به. هذا ولدي : هذا غلامي. هذا صاحبي ، فهبه لي.

واسمع الآن ما الذي يسهل هذا على النفس ، ويطيبه إليها وينعمها به.

اعلم أن لك ذنوبا بينك وبين الله ، تخاف عواقبها ، وترجوه أن يعفو عنها ويغفرها لك ويهبها لك. ومع هذا لا يقتصر على مجرد العفو والمسامحة ، حتى ينعم عليك ويكرمك ، ويجلب إليك من المنافع والإحسان فوق ما تؤمله. فإذا كنت ترجو هذا من ربك ، وتحب أن يقابل به إساءتك ، فما أولاك وأجدرك أن تعامل به خلقه ، وتقابل به إساءتهم؟ ليعاملك الله تلك المعاملة. فإن الجزاء من جنس العمل فكما تعمل مع الناس في إساءتهم في حقك يفعل الله معك في ذنوبك وإساءتك ، جزاء وفاقا. فانتقم بعد ذلك ، أو اعف ، وأحسن أو اترك. فكما تدين تدان ، وكما تفعل مع عباده يفعل معك.

فمن تصور هذا المعنى ، وشغل به فكره. هان عليه الإحسان إلى من أساء إليه.

٦٥٤

وهذا مع ما يحصل له بذلك من نصر الله ومعيته الخاصة. كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للذي شكا إليه قرابته ، وأنه يحسن إليهم ، وهم يسيئون إليه. فقال «لا يزال معك من الله ظهير ، ما دمت على ذلك».

هذا مع ما يتعجله من ثناء الناس عليه ، ويصيرون كلهم معه على خصمه. فإن كل من سمع أنه محسن إلى ذلك الغير ، وهو مسيء إليه. وجد قلبه وداءه وهمته مع المحسن على المسيء. وذلك أمر فطري ، فطر الله عليه عباده. فهو بهذا الإحسان ، قد استخدم عسكرا لا يعرفهم ولا يعرفونه ، ولا يريدون منه إقطاعا ولا خبزا.

هذا مع أنه لا بد له مع عدوه وحاسده من إحدى حالتين : إما أن يملكه بإحسانه ، فيستعبده وينقاد له ، ويذل له ، ويبقى الناس إليه. وإما أن يفتت كبده ويقطع دابره ، إن أقام على إساءته إليه. فإنه يذيقه بإحسانه أضعاف ما ينال منه بانتقامه ، ومن جرب هذا عرفه حق المعرفة. والله هو الموفق والمعين. بيده الخير كله ، لا إله غيره ، وهو المسؤول أن يستعملنا وإخواننا في ذلك بمنه وكرمه.

وفي الجملة : ففي هذا المقام من الفوائد ما يزيد على مائة منفعة للعبد عاجلة وآجلة. سنذكرها في موضع آخر إن شاء الله تعالى.

السبب العاشر : وهو الجامع لذلك كله ، وعليه مدار هذه الأسباب ، وهو تجريد التوحيد ، والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم ، والعلم بأن هذه الآلات بمنزلة حركات الرياح ، وهي بيد محركها ، وفاطرها وبارئها ، ولا تضر ولا تنفع إلا بإذنه. فهو الذي يحسن عبده بها. وهو الذي يصرفها عنه وحده لا أحد سواه. قال تعالى : ١٠ : ١٠٧ (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ، وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما «واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على

٦٥٥

أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك».

فإذا جرد العبد التوحيد فقد خرج من قلبه خوف ما سواه ، وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله ، بل يفرد الله بالمخافة وقد أمنه منه. وخرج من قلبه اهتمامه به ، واشتغاله به وفكره فيه ، وتجرد لله محبة وخشية وإنابة وتوكلا ، واشتغالا به عن غيره ، فيرى أن إعماله فكره في أمر عدوه وخوفه منه واشتغاله به من نقص توحيده ، وإلا فلو جرد توحيده لكان له فيه شغل شاغل ، والله يتولى حفظه والدفع عنه ، فإن الله يدافع عن الذين آمنوا ، فإن كان مؤمنا بالله فالله يدافع عنه ولا بد. وبحسب إيمانه يكون دفاع الله عنه. فإن كمل إيمانه كان دفع الله عنه أتم دفع ، وإن مزج ، مزج له. وإن كان مرة الله عليه جملة. ومن أعرض عن الله بكليته أعرض الله عنه جملة. ومن كان مرة ومرة فالله له مرة ومرة.

فالتوحيد حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين ، قال بعض السلف : من خاف الله خافه كل شيء. ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء.

هذه عشرة أسباب يندفع بها شر الحاسد والعائن والساحر ، وليس له أنفع من التوجه إلى الله وإقباله عليه ، وتوكله عليه ، وثقته به ، وأن لا يخاف معه غيره ، بل يكون خوفه منه وحده ، ولا يرجو سواه ، بل يرجوه وحده ، فلا يعلق قلبه بغيره ، ولا يستغيث بسواه. ولا يرجو إلا إياه. ومتى علّق قلبه بغيره ورجاه وخافه : وكل إليه وخذل من جهته ، فمن خاف شيئا غير الله سلّط عليه. ومن رجا شيئا سوى الله خذل من جهته وحرم خيره. هذه سنة الله في خلقه. ولن تجد لسنة الله تبديلا.

فصل

فقد عرفت بعض ما اشتملت عليه هذه السورة من القواعد النافعة

٦٥٦

المهمة التي لا غنى للعبد عنها في دينه ودنياه ، ودلت على أن نفوس الحاسدين وأعينهم لها تأثير ، وعلى أن الأرواح الشيطانية لها تأثير بواسطة السحر والنّفث في العقد.

وقد افترق العالم في هذا المقام أربع فرق.

ففرقة : أنكرت تأثير هذا وهذا. وهم فرقتان.

فرقة : اعترفت بوجود النفوس الناطقة والجن ، وأنكرت تأثيرهما البتة. وهذا قول طائفة من المتكلمين ممن أنكر الأسباب والقوى والتأثيرات.

وفرقة أنكرت وجودهما بالكلية. وقالت : لا وجود لنفس الآدمي سوى هذا الهيكل المحسوس ، وصفاته وأعراضه فقط. ولا وجود للجن والشياطين سوى أعراض قائمة به. وهذا قول كثير من ملاحدة الطبائعيين وغيرهم من الملاحدة المنتسبين إلى الإسلام. وهو قول شذاذ من أهل الكلام الذين ذمهم السلف ، وشهدوا عليهم بالبدعة والضلالة.

الفرقة الثانية : أنكرت وجود النفس الإنسانية المفارقة للبدن ، وأقرت بوجود الجن والشياطين ، وهذا قول كثير من المتكلمين من المعتزلة وغيرهم.

الفرقة الثالثة : بالعكس ، أقرت وجود النفس الناطقة المفارقة البدن ، وأنكرت وجود الجن والشياطين. وزعمت أنها غير خارجة عن قوى النفس وصفاتها. وهذا قول كثير من الفلاسفة الإسلاميين وغيرهم.

وهؤلاء يقولون إن ما يوجد في العالم من التأثيرات الغريبة والحوادث الخارقة فهو من تأثيرات النفس ، ويجعلون السحر والكهانة كله من تأثير النفس وحدها ، بغير واسطة شيطان منفصل ، وابن سينا وأتباعه على هذا القول ، حتى إنهم يجعلون معجزات الرسل من هذا الباب.

ويقولون إنما هي من تأثيرات النفس في هيولى العالم.

وهؤلاء كفار بإجماع أهل الملل. ليسوا من أتباع الرسل جملة.

٦٥٧

الفرقة الرابعة : وهم أتباع الرسل ، وأهل الحق : أقروا بوجود النفس الناطقة المفارقة للبدن ، وأقروا بوجود الجن والشياطين ، وأثبتوا ما أثبته الله تعالى من صفاتهما ، وشرهما ، واستعاذوا بالله منه. وعلموا أنه لا يعيذهم منه ، ولا يجيرهم إلّا الله.

فهؤلاء أهل الحق. ومن عداهم مفرط في الباطل ، أو معه باطل وحق. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

فهذا ما يسر الله من الكلام على سورة الفلق.

٦٥٨

سورة الناس

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلهِ النَّاسِ (٣) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٦))

قد تضمنت أيضا استعاذة ، ومستعاذا به ، ومستعاذا منه.

فالاستعاذة تقدمت.

وأما المستعاذ به : فهو الله (بِرَبِّ النَّاسِ. مَلِكِ النَّاسِ. إِلهِ النَّاسِ).

فذكر ربوبيته للناس ، وملكه إياهم ، وإلهيته لهم ، ولا بد من مناسبة في ذكر ذلك في الاستعاذة من الشيطان ، كما تقدم.

فذكر أولا معنى هذه الإضافات الثلاث. ثم وجه مناسبتها لهذه الاستعاذة ، فنقول :

الإضافة الأولى : إضافة الربوبية المتضمنة لحقهم وتدبيرهم ، وتربيتهم ، وإصلاحهم ، وجلب مصالحهم ، وما يحتاجون إليه ، ودفع الشر

٦٥٩

عنهم ، وحفظهم مما يفسدهم. هذا معنى ربوبيته لهم. وذلك يتضمن قدرته التامة. ورحمته الواسعة ، وإحسانه ، وعلمه بتفاصيل أحوالهم ، وإجابة دعواتهم ، وكشف كرباتهم.

الإضافة الثانية : إضافة الملك : فهو ملكهم المتصرف فيهم : وهم عبيده ومماليكه ، وهو المتصرف لهم المدبر لهم كما يشاء ، النافذ القدرة فيهم ، الذي له السلطان التام عليهم ، فهو ملكهم الحق : الذي إليه مفزعهم عند الشدائد والنوائب ، وهو مستغاثهم ومعاذهم وملجأهم. فلا صلاح لهم ولا قيام إلا به وبتدبيره فليس لهم ملك غيره يهربون إليه إذا دهمهم العدو ، ويستصرخون به إذا نزل العدو بساحتهم.

الإضافة الثالثة : إضافة الإلهية. فهو إلههم الحق ، ومعبودهم الذي لا إله لهم سواه ولا معبود لهم غيره. فكما أنه وحده هو ربهم ومليكهم لم يشركه في ربوبيته ولا في ملكه أحد ، فكذلك هو وحده إلههم ومعبودهم. فلا ينبغي أن يجعلوا معه شريكا في إلهيته ، كما لا شريك معه في ربوبيته وملكه.

وهذه طريقة القرآن يحتج عليهم بإقرارهم بهذا التوحيد على ما أنكروه من توحيد الإلهية والعبادة.

وإذا كان وحده هو ربنا وملكنا وإلهنا ، فلا مفزع لنا في الشدائد سواه. ولا ملجأ لنا منه إلا إليه. ولا معبود لنا غيره. فلا ينبغي أن يدعى ولا يخاف ولا يرجى ، ولا يحب سواه ، ولا يذلّ لغيره ، ولا يخضع لسواه ، ولا يتوكّل إلا عليه ، لأن من ترجوه وتخافه وتدعوه وتتوكل عليه : إما أن يكون مربّيك والقيم بأمورك ، ومتولي شأنك وهو ربك ، فلا رب سواه ، أو تكون مملوكه وعبده الحق ، فهو ملك الناس حقا ، وكلهم عبيده ومماليكه ، أو يكون معبودك وإلهك الذي لا تستغني عنه طرفة عين ، بل حاجتك إليه أعظم من حاجتك إلى حياتك وروحك ، وهو الإله الحق إله الناس الذي لا إله لهم سواه.

٦٦٠