التفسير القيّم

ابن القيّم الجوزيّة

التفسير القيّم

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الشيخ إبراهيم محمّد رمضان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

بالله ، ولله ، وفي مرضاته ، متصلا بالظفر بالبغية ، وحصول المطلوب ، ضد مخرج الكذب ومدخله ، الذي لا غاية له يوصل إليها ، ولا له ساق ثابتة يقوم عليها. كمخرج أعدائه يوم بدر ، ومخرج الصدق : كمخرجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو وأصحابه في تلك الغزوة. وكذلك مدخله المدينة كان مدخل صدق بالله ، ولله ، وابتغاء مرضاة الله. فاتصل به التأييد والظفر والنصر ، وإدراك ما طلبه في الدنيا والآخرة ، بخلاف مدخل الكذب الذي رام أعداؤه أن يدخلوا به المدينة يوم الأحزاب. فإنه لم يكن لله ، ولا بالله ، بل كان محادة لله ولرسوله. فلم يتصل به إلا الخذلان والبوار.

وكذلك مدخل من دخل من اليهود والمحاربين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حصن بني قريظة فإنه لما كان مدخل كذب أصابهم معه ما أصابهم.

فكل مدخل ومخرج كان بالله ولله وابتغاه مرضاة الله : فصاحبه ضامن على الله. فهو مدخل صدق ومخرج صدق.

وكان بعض السلف إذا خرج من داره رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم إني أعوذ بك أن أخرج مخرجا لا أكون فيه ضامنا عليك. يريد أن لا يكون المخرج مخرج صدق. ولذلك فسر مدخل الصدق ومخرجه : بخروجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة ، ودخوله المدينة. ولا ريب أن هذا على سبيل التمثيل. فإن هذا المدخل والمخرج من أجلّ مداخله ومخارجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإلا فمداخله ومخارجه كلها مداخل صدق ومخارج صدق ، إذ هي لله وبالله وبأمره ، ولابتغاء مرضاته.

وما خرج أحد من بيته ودخل سوقه أو أي مدخل آخر إلا بصدق أو بكذب. فمخرج كل واحد ومدخله لا يعدو الصدق والكذب. والله المستعان.

وأما لسان الصدق : فهو الثناء الحسن عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سائر الأمم بالصدق ، ليس ثناء بالكذب. كما قال عن إبراهيم وذريته من الأنبياء والرسل

٣٦١

عليهم صلوات الله وسلامه ١٩ : ٥٠ (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا).

والمراد باللسان هاهنا : الثناء الحسن. فلما كان الصدق باللسان ، وهو محله ، أطلق الله سبحانه ألسنة العباد بالثناء على الصادق ، جزاء؟ وعبر به عنه.

فإن اللسان يراد به ثلاثة معان : هذا ، واللغة ، لقوله تعالى : ١٤ : ٥ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) وقوله : ٣٠ : ٢٢ (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) وقوله : ١٦ : ١٠٣ (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ).

ويراد به الجارحة نفسها كما في قوله : ٧٥ : ١٦ (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ).

وأما قدم الصدق : ففسر بالجنة ، وفسر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفسر بالأعمال الصالحة.

وحقيقة القدم : ما قدموه ، ويقدمون عليه يوم القيامة. وهم قدموا الأعمال والإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويقدمون على الجنة التي هي جزاء ذلك.

فمن فسره بها أراد ما يقدمون عليه. ومن فسره بالأعمال وبالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنهم قدموها وقدموا الايمان به بين أيديهم. فالثلاثة قدم صدق.

وأما مقعد الصدق : فهو الجنة عند الرب تبارك وتعالى.

ووصف ذلك كله بالصدق مستلزم لثبوته واستقراره ، وأنه حق مستلزم لدوامه ونفعه وكمال عائدته. فإنه متصل بالحق سبحانه ، كائن به وله. فهو صدق غير كذب ، وحق غير باطل. ودائم غير زائل ، ونافع غير ضار. وما للباطل ومتعلقاته إليه سبيل ولا مدخل.

قول الله تعالى : ١٧ : ٤٥ (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) وقوله : ٤١ : ٥ (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ

٣٦٢

حِجابٌ) على أصح القولين. والمعنى : جعلنا بين القرآن إذا قرأته وبينهم حجابا يحول بينهم وبين فهمه وتدبره ، والأيمان به ، وبيّنه قوله : ١٧ : ٤٥ (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً).

وهذه الثلاثة هي الثلاثة المذكورة في قوله : ٤١ : ٥ (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) فأخبر سبحانه أن ذلك جعله.

فالحب يمنع من رؤية الحق ، والأكنة تمنع من فهمه ، والوقر يمنع من سماعه.

وقال الكلبي : الحجاب هاهنا مانع يمنعهم من الوصول إلى رسول الله بالأذى من الرعب ونحوه مما يصدهم عن الإقدام عليه. ووصفه بكونه مستورا فقيل : بمعنى ساتر. وقيل : على النسب ، أي في ستر والصحيح : أنه على بابه ، أي مستورا عن الأبصار فلا يرى. ومجيء مفعول بمعنى فاعل لا يثبت. والنسب في مفعول لم يشتق من فعله ، كمكان محول أي ذي حول ، ورجل مرطوب ، أي ذي رطوبة. فأما مفعول فهو جار على فعله فهو الذي وقع عليه الفعل. كمضروب ومجروح ومستور.

قول الله تعالى ذكره :

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)

و «من» هاهنا لبيان الجنس ، لا للتبعيض. فإن القرآن كله شفاء. كما قال في الآية الأخرى ١٠ : ٥٧ (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ ، وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ).

فهو شفاء للقلوب من داء الجهل ، والشك والريب. فلم ينزل الله سبحانه من السماء شفاء قط أعم ولا أنفع ، ولا أعظم ، ولا أسرع في إزالة الداء من القرآن.

٣٦٣
٣٦٤

سورة الكهف

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨))

فإذا أراد العبد أن يقتدي برجل فلينظر هل هو من أهل الذكر أو من الغافلين؟ وهل الحاكم عليه الهوى أو الوحي؟ فإن كان الحاكم عليه هو الهوى وهو من أهل الغفلة. كان أمره فرطا.

ومعنى الفرط قد فسر بالتضييع ، أي أمره الذي يجب أن يلزمه ويقوم به ، وبه رشده وفلاحه : ضائع ، قد فرط فيه.

وفسر بالإسراف ، أي قد أفرط بالإهلاك. وفسر بالخلاف للحق. وكلها أقوال متقاربة.

والمقصود : أن الله سبحانه وتعالى نهي عن طاعة من جمع هذه الصفات. فينبغي للرجل أن ينظر في شيخه وقدوته ومتبوعه. فإن وجده كذلك فليبعد منه وإن وجده ممن غلب عليه ذكر الله تعالى عزوجل واتباع

٣٦٥

السنة ، وأمره غير مفروط عليه ، بل هو حازم في أمره فليستمسك بغرزه.

وقد سئل أبو العباس ثعلب عن قوله تعالى : (أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) فقال : جعلناه غافلا. قال : ويكون في الكلام : أغفلته ، سميته غافلا : ووجدته غافلا.

قلت : الغفل الشيء الفارغ ، والأرض الغفل : التي لا علامة بها ، والكتاب الغفل : الذي لا شكل عليه. فأغفلناه : تركناه غافلا عن الذكر فارغا منه. فهو إبقاء له على العدم الأصلي ، لأنه سبحانه لم يشأ له الذكر ، فبقي غافلا ، فالغفلة وصفه. والإغفال فعل الله فيه بمشيئته ، وعدم مشيئته لتذكرة. فكل منهما مقتض لغفلته. فإذا لم يشأ له التذكر لم يتذكر ، وإذا شاء غفلته امتنع منه الذكر.

فإن قيل : فهل تضاف الغفلة والكفر والأعراض ونحوها إلى عدم مشيئة الرب لأضدادها ، أم إلى عدم مشيئته لوقوعها؟

قيل : القرآن قد نطق بهذا وبهذا. قال تعالى : ٥ : ٤١ (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) وقال : ٥ : ٤١ (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) وقال : ٦ : ١٢٥ (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ. وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ).

فإن قيل : فكيف يكون عدم السبب المقتضي موجبا للأثر؟

قيل : الأثر إن كان وجوديا فلا بد من مؤثر وجودي ، وأما العدم فيكفى فيه عدم سببه وموجبه. فيبقى على العدم الأصلي. فإذا أضيف إليه ، كان من باب إضافة الشيء إلى دليله. فعدم السبب دليل على عدم المسبب. وإذا سمي موجبا ومقتضيا بهذا الاعتبار فلا مشاحّة في ذلك وإما أن يكون العدم أثرا ومؤثرا فلا.

٣٦٦

وهذا الإغفال ترتب عليه اتباع هواه ، وتفريطه في أمره.

قال مجاهد : كان أمره فرطا : أي ضياعا.

وقال قتادة : ضاع أكبر الضيعة.

وقال السدي : هلاكا.

وقال أبو الحسن بن الهيثم : أمر فرط : متهاون به مضيّع. والتفريط تقديم العجز.

: أمر فرط : متهاون به مضيّع. والتفريط تقديم العجز.

وقال أبو إسحاق : من قدم العجز في أمر أضاعه وأهلكه.

وقال الليث : الفرط الأمر الذي يفرط فيه. يقال : كل أمر فلان فرط.

وقال الفراء : فرطا متروكا ، فرط فيما لا ينبغي التفريط فيه ، واتبع ما لا ينبغي اتباعه. وغفل عما لا يحسن الغفلة عنه.

قول الله تعالى ذكره : (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ (٥٧))

وهي جمع كنان ، كعنان وأعنة. وأصله : من الستر والتغطية.

ويقال : كنه ، وأكنه ، وكنان ، بمعنى واحد ، بل بينهما فرق. فأكنه ، إذا ستره وأخفاه. كقوله تعالى : ٢ : ١٧٧ (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) وكنه : إذا صانه وحفظه ، كقوله : ٣٧ : ٤٩ (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) ويشتركان في الستر ، والكنان : ما أكنّ الشيء وستره. وهو كالغلاف.

وقد أقروا على أنفسهم بذلك فقالوا : ٤١ : ٥ (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) فذكروا غطاء القلب : وهو الأكنة ، وغطاء الأذن ، وهو الوقر ، وغطاء العين وهو الحجاب.

والمعنى : لا نفقه كلامك ، ولا نسمعه ، ولا نراك.

٣٦٧

والمعنى : إنا في ترك القبول منك بمنزلة من لا يفقه ما تقول ، ولا يراك. قال ابن عباس : قلوبنا في أكنة : مثل الكنانة التي فيها السهام. وقال مجاهد : كجعبة النّبل. وقال مقاتل : عليها غطاء فلا نفقه ما تقول.

قوله تعالى: (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١))

وهذا يتضمن معنيين.

أحدهما : أن أعينهم في غطاء عما تضمنه الذكر من آيات الله ، وأدلة توحيده ، وعجائب قدرته.

والثاني : أن أعين قلوبهم في غطاء عن فهم القرآن وتدبره ، والاهتداء به. وهذا الغطاء للقلب أولا ، ثم يسري منه إلى العين.

٣٦٨

سورة مريم

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩))

وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح ، فيوقف بين الجنة والنار ، فيقال : يا أهل الجنة ، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ، ويقولون : نعم. هذا الموت ، ثم يقال : يا أهل النار ، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ، ويقولون : نعم. هذا الموت. قال : فيؤمر به فيذبح. قال : ثم يقال : يا أهل الجنة ، خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت. ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) متفق عليه. وفي الصحيحين أيضا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «يدخل أهل الجنة الجنة ، ويدخل أهل النار النار ، ثم يقوم مؤذن بينهم ، فيقول : يا أهل الجنة ، لا موت ، ويا أهل النار ، لا موت. كلّ خالد فيما هو فيه» وعنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا صار أهل الجنة إلى الجنة ، وصار أهل النار إلى النار ، أتى بالموت ، حتى يجعل بين النار والجنة. ثم ينادي مناد : يا أهل الجنة ، لا موت. ويا أهل النار لا موت. فيزداد أهل الجنة فرحا. ويزداد أهل النار حزنا» وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٣٦٩

قال «إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أتى بالموت ملبّبا ، فيوقف على السور الذي بين أهل الجنة وأهل النار ، ثم يقال : يا أهل الجنة ، فيطّلعون خائفين. ثم يقال : يا أهل النار ، فيطلعون مستبشرين يرجون الشفاعة. فيقال لأهل الجنة وأهل النار : هل تعرفون هذا؟ فيقول هؤلاء وهؤلاء : قد عرفناه ، هو الموت الذي وكّل بنا ، فيضجع فيذبح ذبحا على السور ، قم يقال : يا أهل الجنة خلود لا موت ، ويا أهل النار خلود ولا موت» رواه النسائي والترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح.

وهذا الكبش والأضجاع والذبح ومعاينة الفريقين ذلك حقيقة لا خيال ولا تمثيل ، كما أخطأ فيه بعض الناس خطأ قبيحا. وقال : الموت عرض والعرض لا يتجسم ، فضلا عن أن يذبح.

وهذا لا يصح. فإن الله سبحانه ينشئ من الموت صورة كبش يذبح ، كما ينشئ من الأعمال صورا يثاب بها صاحبها ويعاقب ، والله تعالى ينشئ من الأعراض أجساما تكون الأعراض مادة لها. وينشئ من الأجسام أعراضا ، كما ينشئ سبحانه من الأعراض أعراضا. ومن الأجسام أجساما.

فالأقسام الأربعة ممكنة مقدورة للرب تعالى ، ولا يستلزم جمعا بين النقيضين ، ولا شيئا من المحال ، ولا حاجة إلى تكلف من قال : إن الذبح لملك الموت ، فهذا كله من الاستدراك الفاسد على الله ورسوله ، ومن التأويل الباطل الذي لا يوجبه عقل ولا نقل ، وسببه : قلة الفهم لمراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كلامه ، فظن هذا القائل : أن لفظ الحديث يدل على أن نفس العرض يذبح.

وظن غالط آخر : أن العرض يعدم ويزول ، ويصير مكانه جسم يذبح ، ولم يهتد الفريقان إلى هذا القول الذي ذكرناه ، وأن الله سبحانه ينشئ من الأعراض أجساما ويجعلها مادة لها ، كما في الصحيح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «تجيء البقرة وآل عمران يوم القيامة كأنهما غمامتان ـ الحديث» فهذه هي القراءة التي

٣٧٠

ينشئ منها الله سبحانه غمامتين. وكذلك قوله في الحديث الآخر «ما تذكرون من جلال الله : من تسبيحه وتحميده وتهليله؟ يتعاطفن حول العرش ، لهن دوي كدوي النحل ، يذكرن بصاحبهن» ذكره أحمد. وكذلك قوله في عذاب القبر ونعيمه للصورة التي يراها المقبور «فيقول : من أنت؟ فيقول : أنا عملك الصالح ، وأنا عملك السيء» وهذا حقيقة لا خيال ، ولكن الله سبحانه أنشأ للمؤمن من عمله صورة حسنة وللفاجر من عمله وصورة قبيحة.

وهل النور الذي يقسم بين المؤمنين يوم القيامة إلا نفس إيمانهم؟ أنشأ الله سبحانه لهم منه نورا يسعى بين أيديهم؟ فهذا أمر معقول ، وإن لم يرد به النص ، فورود النص به من باب تطابق العقل والسمع.

وقال سعيد عن قتادة : بلغنا أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن المؤمن إذا اخرج من قبره صور الله له عمله في صورة حسنة وبشارة حسنة ، فيقول له : من أنت؟ فو الله إني لأراك امرأ صدق ، فيقول : أنا عملك ، فيكون له نورا وقائدا إلى الجنة. وأما الكافر فإذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة ، وبشارة سيئة ، فيقول : من أنت؟ فو الله إني لأراك امرأ سوء ، فيقول له : أنا عملك ، فينطلق به حتى يدخله النار» وقال مجاهد مثل ذلك.

وقال ابن جريج : يمثل له عمله في صورة حسنة ، وريح طيبة ، يعارض صاحبه ويبشره بكل خير ، فيقول له : من أنت؟ فيقول : أنا عملك ، فيجعل له نورا بين يديه ، حتى يدخله الجنة ، فذلك قوله : ١٠ : ٩ (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) والكافر يمثل له عمله في صورة سيئة وريح منتنة ، فيلازم صاحبه ويليله ، حتى يقذفه في النار.

وقال ابن المبارك : حدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن أنه ذكر هذه الآية ٣٧ : ٥٨ ، ٥٩ (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى ، وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ؟) قال : علموا أن كل نعيم بعده الموت : أنه يقطعه ، فقالوا :

٣٧١

أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى ، وما نحن بمعذبين؟ قيل : لا ، قالوا : إن هذا لهو الفوز العظيم.

وكان يزيد الرقاشي يقول في كلامه : أمن أهل الجنة من الموت ، فطاب لهم العيش ، وأمنوا من الأسقام ، فهنأهم في جوار الله طول المقام ، ثم يبكي حتى تجري دموعه على لحيته.

٣٧٢

سورة طه

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠))

قيل : المصدر مضاف إلى الفاعل ، أي لأذكرك بها.

وقيل : مضاف إلى المذكور ، أي لتذكروني بها ، واللام على هذا لام التعليل ، وقيل : هي اللام الوقتية ، أي أقم الصلاة عند ذكري كقوله :

١٧ : ٧٨ (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) وقوله تعالى : ٢١ : ٤٧ (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ).

وهذا المعنى يراد بالآية ، لكن تفسيرها به على أنه معناها فيه نظر ، لأن هذه اللام الوقتية بابها أسماء الزمان والظروف. والذكر : مصدر ، إلا أن يقدر زمان محذوف ، أي عند وقت ذكري ، وهذا محتمل.

والأظهر : أنها لام التعليل ، أي أقم الصلاة لأجل ذكري ، ويلزم من هذا أن تكون إقامتها عند ذكره ، وإذا ذكر العبد ربه ، فذكر الله سابق على ذكره ، فإنه لما ذكره ألهمه ذكره. فالمعاني الثلاثة حق.

قول الله تعالى ذكره.

٣٧٣

(إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩))

تأمل كيف قابل الجوع بالعرى ، والظمأ بالضحى.

والواقف مع القالب ربما يخيل إليه : أن الجوع يقابل بالظمأ ، والعرى بالضحى.

والداخل إلى بلد الفقه عن الله : يرى هذا الكلام في أعلى الفصاحة والجلالة لأن الجوع ألم الباطن ، والعرى ألم الظاهر ، فهما متناسبان في المعنى ، وكذلك الظمأ مع الضحى ، لأن الظمأ موجب لحرارة الباطن ، والضحى موجب لحرارة الظاهر فاقتضت الآية نفي جميع الآفات ظاهرا وباطنا.

قول الله تعالى ذكره :

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤))

لما أخبر سبحانه عن حال من اتبع هداه وماله من الرغد وطيب الحياة في معاشه ومعاده أخبر عن حال من أعرض عن الهدى ولم يتبعه ، فقال : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) أي عن الذكر الذي أنزلته ، فالذكر هنا مصدر مضاف إلى الفاعل ، كقيامي وقراءتي ، لا إلى المفعول ، وليس المعنى : ومن أعرض عن أن يذكرني ، بل هذا لازم المعنى ومقتضاه من وجه آخر سنذكره.

وأحسن من هذا الوجه : أن يقال : الذكر هاهنا مضاف إضافة الأسماء ، لا إضافة المصادر إلى معمولاتها.

والمعنى : ومن أعرض عن كتابي ولم يتبعه ، فإن القرآن يسمى ذكرا ، قال تعالى : ٢١ : ٥٠ (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) وقال تعالى : ٣ : ٥٨

٣٧٤

(ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) وقال تعالى : ٦٨ : ٥٢ (وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) وقال تعالى : ٤١ : ٤١ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) وقال تعالى : ٣٦ : ١١ (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) وأمثالها كثير.

فإضافته كإضافة الأسماء الجوامد التي يقصد بها إضافة العامل إلى معموله.

ونظيره في إضافة اسم الفاعل قوله : ٤٠ : ٣ (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ) فإن هذه الإضافات لا يقصد بها قصد الفعل المتجدد ، وإنما قصد بها قصد الوصف الثابت اللازم ، ولذلك أرت أوصافا على أعرف المعارف ، وهو اسم الله تعالى في قوله : ١٤٥ : ٢ ـ ٣ (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ.)

فصل

قوله تعالى : ٢٠ : ١٢٤ (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) فسره غير واحد من السلف بعذاب القبر ، وجعلوا هذه الآية أحد الأدلة الدالة على عذاب القبر ، ولهذا قال : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى ، قالَ : رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً؟ قالَ : كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) أي تترك في العذاب ، كما تركت العمل بآياتنا. فذكر عذاب البرزخ وعذاب دار البوار.

ونظيره قوله تعالى في حق آل فرعون ٤٠ : ٤٦ (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) فهذا في البرزخ ٤٠ : ٤٦ (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) فهذا في القيامة الكبرى.

ونظيره قوله تعالى : ٦ : ٩٣ (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ

٣٧٥

وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) فقول الملائكة «اليوم تجزون عذاب الهون» المراد به : عذاب البرزخ الذي أوله يوم القبض والموت.

ونظيره قوله تعالى : ٨ : ٥١ (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) فهذه الإذاقة هي في البرزخ. وأولها حين الوفاة فإنه معطوف على قوله : (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) وهو من القول المحذوف مقوله لدلالة الكلام عليه. كنظائره. وكلاهما واقع وقت الوفاة وفي الصحيح عن البراء بن عازب رضي الله عنه (١) في قوله تعالى : ١٤ : ٢٧ (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) قال «نزلت في عذاب القبر» والأحاديث في عذاب القبر تكاد تبلغ حد التواتر.

والمقصود : أن الله سبحانه أخبر أن من أعرض عن ذكره ـ وهو الهدى الذي من اتبعه لا يضل ولا يشقى ـ فإن له معيشة ضنكا. وتكفل لمن حفظ عهده أن يحييه حياة طيبة ، ويجزيه أجره في الآخرة. فقال تعالى : ١٦ : ٩٧ (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً. وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

فأخبر سبحانه عن فلاح من تمسك بعهده علما وعملا في العاجلة بالحياة الطيبة وفي الآخرة بأحسن الجزاء. وهذا بعكس من له المعيشة الضنك في الدنيا والبرزخ ونسيانه في العذاب بالآخرة.

وقال سبحانه : ٤٣ : ٣٦ ، ٣٧ (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ

__________________

(١) هو أبو عمارة البراء بن عازب الأنصاري الحارثي نزيل الكوفة كان من أقران ابن عمر استصغر يوم بدر ، توفي سنة إثنين وسبعين (انظر شذرات الذهب).

٣٧٦

شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) فأخبر سبحانه أن من ابتلاه بقرينه من الشياطين وضلاله به إنما كان بسبب إعراضه وعشوه عن ذكره الذي أنزله على رسوله. فكان عقوبة هذا الأعراض أن قيض له شيطانا يقارنه ، فيصده عن سبيل ربه ، وطريق فلاحه. وهو يحسب أنه مهتد ، حتى إذا وافى ربه يوم القيامة مع قرينة ، وعاين هلاكه وإفلاسه. قال : ٤٣ : ٣٨ (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ).

وكل من أعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله فلا بد أن يقول هذا يوم القيامة.

فإن قيل : فهل لهذا عذر في ضلاله؟ إذ كان يحسب أنه على هدى ، كما قال تعالى : ٧ : ٣٠ (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ).

قيل : لا عذر لهذا لا لأمثاله من الضلال الذين منشأ ضلالهم الإعراض عن الوحي الذي جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولو ظن أنه مهتد. فإنه مفرط بإعراضه عن اتباع داعي الهدى. فإذا ضل فإنما أتى من تفريطه وإعراضه. وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة ، وعجزه عن الوصول إليها. فذاك له حكم آخر. والوعيد في القرآن إنما يتناول الأول.

وأما الثاني : فإن الله لا يعذب أحدا إلا بعد إقامة الحجة عليه ، كما قال تعالى : ١٧ : ١٥ (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) وقال تعالى : ٤ : ١٦٥ (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) وقال تعالى في أهل النار : ٤٣ : ٧٦ (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) وقال تعالى : ٣٩ : ٥٦ ـ ٥٩ (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ : يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ ، وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ : لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ

٣٧٧

الْكافِرِينَ) وهذا كثير في القرآن.

فصل

وقوله تعالى : ٢٠ : ١٢٤ (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى. قالَ : رَبِّ ، لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً؟) اختلف فيه : هل هو من عمى البصيرة ، أو من عمى البصر؟ والذين قالوا : هو من عمى البصيرة إنما حملهم على ذلك قوله : ١٩ : ٣٨ (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا) وقوله : ٥٠ : ٢٢ (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) وقوله : ٢٥ : ٢٢ (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) وقوله : ١٠٢ : ٦ ، ٧ (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ. ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) ونظائر هذا مما أثبت لهم الرؤية في الآخرة. كقوله تعالى : ٤٢ : ٤٥ (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) وقوله : ٥٢ : ١٣ ، ١٤ (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا. هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ؟) وقوله : ١٨ : ٥٣ (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها).

والذين رجحوا أنه من عمى البصر قالوا : السياق لا يدل إلا عليه. لقوله : ٢٠ : ١٢٤ (قالَ : رَبِّ ، لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى ، وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) وهو لم يكن بصيرا في كفره قط ، بل قد تبين له حينئذ أنه كان في الدنيا في عمى عن الحق ، فكيف يقول : وقد كنت بصيرا؟ وكيف يجاب بقوله : ٢٠ : ١٢٥ (كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) بل هذا الجواب فيه تنبيه على أنه من عمى البصر ، وأنه جوزي من جنس عمله. فإنه لما أعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله وعميت عنه بصيرته : أعمى الله بصره يوم القيامة. وتركه في العذاب ، كما ترك هو الذكر في الدنيا ، فجازاه على عمى بصيرته عمى بصره في الآخرة. وعلى تركه ذكره تركه في العذاب.

٣٧٨

وقال تعالى : ١٧ : ٩٧ (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ ، وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا).

وقد قيل في هذه الآية أيضا : إنهم عمى وبكم وصم عن الهدى ، كما قيل في قوله «ونحشره يوم القيامة أعمى ، قالوا : لأنهم يتكلمون يومئذ ويسمعون ويبصرون».

ومن نصر أنه العمى والبكم والصم المضاد للبصر والسمع والنطق قال بعضهم : هو عمى وصمم وبكم مقيد لا مطلق. فهم عمى عن رؤية ما يسرهم وسماعه. ولهذا قد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال «لا يرون شيئا يسرهم».

وقال آخرون : هذا الحشر حين تتوفاهم الملائكة يخرجون من الدنيا كذلك فإذا قاموا من قبورهم إلى الموقف قاموا كذلك. ثم إنهم يسمعون ويبصرون فيما بعد. وهذا مروي عن الحسن.

وقال آخرون : هذا إنما يكون إذا دخلوا النار واستقروا فيها سلبوا الأسماع والأبصار والنطق ، حين يقول لهم الرب تبارك وتعالى : ٢٣ : ١٠٨ (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) فحينئذ ينقطع الرجاء وتبكم عقولهم ، فيصيرون بأجمعهم عميا بكما صما لا يبصرون ولا يسمعون ولا ينطقون ، ولا يسمع منهم إلا الزفير والشهيق. وهذا منقول عن مقاتل.

والذين قالوا : المراد به العمى عن الحجة إنما مرادهم : أنهم لا حجة لهم ، ولم يريدوا أن لهم لهم حجة هم عمى عنها ، بل هم عمى عن الهدى ، كما كانوا في الدنيا. فإن العبد يموت على ما عاش عليه ، ويبعث على ما مات عليه.

وبهذا يظهر أن الصواب هو القول الآخر ، وأنه عمى البصر. فإن الكافر يعلم الحق يوم القيامة عيانا ، ويقر بما كان يجحده في الدنيا. فليس هو أعمى عن الحق يومئذ.

٣٧٩

وفصل الخطاب : أن الحشر هو الضم والجمع ، ويراد به تارة : الحشر إلى موقف القيامة. كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «انكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا» وكقوله تعالى : ٨١ : ٥ (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) وكقوله تعالى : ١٨ : ٤٢ (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) ويراد به الضم والجمع إلى دار المستقر. فحشر المتقين : جمعهم وضمهم إلى الجنة. وحشر الكافرين : جمعهم وضمهم إلى النار ، قال تعالى : ١٩ : ٨٥ (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) وقال تعالى : ٣٧ : ٢٢ ، ٢٣ (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) فهذا الحشر هو بعد حشرهم إلى الموقف ، وهو حشرهم وضمهم إلى النار. لأنه قد أخبر عنهم أنهم قالوا : ٣٧ : ٢١ (يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ. هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) ثم قال تعالى : ٣٧ : ٢٢ (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) وهذا الحشر الثاني.

وعلى هذا فهم ما بين الحشر الأول من القبور إلى الموقف ، والحشر الثاني من الموقف إلى النار ، فعند الحشر الأول : يسمعون ويبصرون ، ويجادلون ، ويتكلمون وعند الحشر الثاني : يحشرون على وجوههم عميا وبكما وصما. فلكل موقف حال يليق به ، ويقتضيه عدل الرب تعالى ، وحكمته. فالقرآن يصدق بعضه بعضا ٤ : ٨٢ (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).

٣٨٠