التفسير القيّم

ابن القيّم الجوزيّة

التفسير القيّم

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الشيخ إبراهيم محمّد رمضان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

سورة التكوير

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣))

وقرأ قارئ (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) ، وفي الحاضرين أبو الوفا ابن عقيل. فقال له قائل : يا سيدي ، هب أنه أنشر الموتى للبعث والحساب ، وزوج النفوس بقرنائها بالثواب والعقاب ، فلم هدم الأبنية وسيّر الجبال ، ودكّ الأرض ، وفطّر السماء ، ونثر النجوم ، وكوّرت الشمس؟

فقال : إنما بني لهم الدار للسكنى والتمتع ، وجعلها وجعل ما فيها للاعتبار والتفكر والاستدلال عليه : لحسن التأمل والتذكر. فلما انقضت مدة السكنى وأجلاهم من الدار خرّبها ، لانتقال الساكن منها. فأراد أن يعلمهم بأن الكون كان معموا بهم. وفي إحالة الأحوال ، وإظهار تلك الأهوال ، وبيان المقدرة بعد بيان العزة ، وتكذيب لأهل الإلحاد ، وزنادقة المنجمين ،

٥٦١

وعبّاد الكواكب والشمس والقمر والأوثان ، فيعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين. فإذا رأوا آلهتهم قد انهدمت ، وأن معبوداتهم قد انتثرت وانفطرت ، ومحالّها قد تشققت ظهرت فضائحهم وتبين كذبهم ، وظهر أن العالم مربوب محدث ، مدبّر ، له رب يصرفه كيف يشاء ، تكذيبا لملاحدة الفلاسفة القائلين بالقدم.

فكم لله من حكمة في هدم هذه الدار ، ودلالة على عظيم عزته وقدرته ، وسلطانه ، وانفراده بالربوبية ، وانقياد المخلوقات بأسرها لقهره ، وإذعانها لمشيئته. فتبارك الله رب العالمين.

٥٦٢

سورة المطففين

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤))

قال : هو الذنب بعد الذنب. وقال الحسن : هو الذنب على الذنب ، حتى يعمى القلب.

وقال غيره : لما كثرت ذنوبهم ومعاصيهم أحاطت بقلوبهم.

وأصل هذا : أن القلب يصدأ عن المعصية ، فإذا زادت غلب عليه الصدأ حتى يصير رانا ، ثم يغلب حتى يصير طبقا وقفلا وختما. فيصير القلب في غشاوة وغلاف ، فإذا حصل له ذلك بعد الهدى والبصيرة انتكس ، فصار أعلاه أسفله ، فحينئذ يتولاه عدوه ، ويسوقه حيث أراد ، والمعافى من عافاه الله.

وقال في شفاء العليل.

وأما الران : فقد قال الله تعالى : (كَلَّا ، بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا

٥٦٣

يَكْسِبُونَ) قال أبو عبيدة : غلب عليها. والخمر ترين على عقل السكران ، والموت يرين على الميت ، فيذهب به ، ومن هذا الحديث أسيفع جهينة وقول عمر : «فأصبح قدرين به» أي غلب عليه ، وأحاط به الرّين.

وقال أبو معاذ النحوي : الرين أن يسود القلب من الذنوب ، والطبع : أن يطبع على القلب. وهو أشد من الرين. والأقفال أشد من الطبع. وهو أن يقفل على القلب.

وقال الفراء : كثرت الذنوب والمعاصي منهم ، فأحاطت بقلوبهم ، فذلك الرين عليها.

وقال أبو إسحاق : ران غطّى ، يقال : ران على قلبه الذنب يرين رينا. أي غشيه. قال : والرين كالغشاء يغشي القلب. ومثله العين.

قلت : أخطأ أبو إسحاق. فالغين ألطف شيء وأرقه. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وإنه ليغان على قلبي ، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة» وأما الرين والران : فهو من أغلظ الحجب على القلب وأكثفها وقال مجاهد : هو الذنب على الذنب ، حتى تحيط الذنوب بالقلب وتغشاه ، فيموت القلب.

وقال مقاتل : غمرت القلوب أعمالهم الخبيثة ، وفي سنن النسائي والترمذي من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء ، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه. وإن زاد زيد فيها حتى تعلو قلبه. وهو الران الذي ذكر الله (كَلَّا ، بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)» قال الترمذي : هذا حديث صحيح.

وقال عبد الله بن مسعود «كلما أذنب نكتت في قلبه نكتة سوداء ، حتى يسود القلب كله» فأخبر سبحانه أن ذنوبهم التي اكتسبوها أوجبت لهم رينا على قلوبهم ، فكان سبب الران منهم. وهو خلق الله فيهم ، فهو خالق السبب

٥٦٤

ومسببه ، لكن السبب باختيار العبد ، والمسبب خارج عن قدرته واختياره.

قول الله تعالى ذكره :

(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠))

أخبر تعالى أن كتابهم كتاب مرقوم ، تحقيقا. لكونه مكتوبا كتابة حقيقية. وخص تعالى كتاب الأبرار : أنه يكتب ويوقع لهم به بمشهد المقربين من الملائكة والنبيين سادات المؤمنين. ولم يذكر شهادة هؤلاء لكتاب الفجار ، تنويها بكتاب الأبرار وما وقع لهم به ، وإشهارا له وإظهارا لمكانتهم بين خواص خلقه ، كما يكتب الملوك تواقيع يعظمون بين الأمراء وخواص أهل المملكة ، تنويها باسم المكتوب له ، وإشهارا بذكره. وهذا نوع من صلاة الله سبحانه وتعالى وملائكته على عبده.

٥٦٥
٥٦٦

سورة الانشقاق

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى :

(لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩))

أي حالا بعد حال. فأول أطباقه : كونه نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم جنينا ، ثم مولودا ، ثم رضيعا ، ثم فطيما ، ثم صحيحا أو مريضا ، غنيا أو فقيرا ، معافى أو مبتلى ـ إلى جميع أحوال الإنسان المختلفة عليه إلى أن يموت ، ثم يبعث ، ثم يوقف بين يدي الله ، ثم يصير الى الجنة أو النار.

فالمعنى : لتركبن حالا بعد حال ، ومنزلا بعد منزل ، وأمرا بعد أمر.

قال سعيد بن جبير وابن زيد : لتكونن في الآخرة بعد الأولى ، ولتصيرنّ أغنياء بعد الفقر ، وفقراء بعد الغنى.

وقال عطاء : شدة بعد شدة.

والطبق والطبقة : الحال. ولهذا يقال : كان فلان على طبقات شتّى. قال عمرو بن العاص : «لقد كنت على طبقات ثلاث» أي أحوال.

٥٦٧

قال ابن الاعرابي : الطبق الحال على اختلافها.

وقد ذكرنا بعض أطباق الجنين في البطن من حين كونه نطفة إلى وقت ميلاده. ثم نذكر الطباقات بعد ولادته إلى آخرها.

٥٦٨

سورة الطارق

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧))

قال الزجاج : قال أهل اللغة أجمعون : التربة ، موضع القلادة من الصدر ، والجمع : ترائب.

وقال أبو عبيدة : الترائب معلق الحلق من الصدر ، وهو قول جميع أهل اللغة ، وقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما. يريد صلب الرجل وترائب المرأة. وهو موضع قلادتها ، وهو قول الكلبي ومقاتل وسفيان وجمهور أهل التفسير وهو المطابق لهذه الأحاديث ، وبذلك أجرى الله العادة في إيجاد ما يوجده من أصلين ، كالحيوان والنبات وغيرهما من المخلوقات.

فالحيوان ينعقد من ماء الذكر وماء الأنثى ، كما ينعقد النبات من الماء والتراب والهواء. ولهذا قال تعالى : ٦ : ١٠١ (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ؟) فإن الولد لا يكون إلا من بين الذكر وصاحبته.

٥٦٩

ولا ينقض هذا بآدم وحواء أبوينا ، ولا بالمسيح ، فإن الله سبحانه خلط تراب آدم بالماء حتى صار طينا ، ثم أرسل الله الهواء والشمس عليه حتى صار كالفخار ، ثم نفخ فيه الروح ، وكانت حواء مستلّة منه ، وجزءا من أجزائه. والمسيح خلق من ماء مريم ، ونفخ الملك. فكانت النفخة له كالأب لغيره.

٥٧٠

سورة والشمس وضحاها

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠))

المعنى : قد أفلح من كبرها وأعلاها بطاعة الله ، وأظهرها ، وقد خاب وخسر من أخفاها ، وحقرها وصغرها بمعصية الله.

وأصل التدسية : الإخفاء. ومنه قوله تعالى : ١٦ : ٤٩ (أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) فالعاصي يدسّ نفسه بالمعصية ، ويخفي مكانها ، ويتوارى من الخلق من سوء ما يأتي به ، قد انقمع عند نفسه ، وانقمع عند الله ، وانقمع عند الخلق.

فالطاعة والبر : تكبر النفس وتعزها وتعليها ، حتى تصير أشرف شيء وأكبره ، وأزكاه وأعلاه ، ومع ذلك فهي أذل شيء وأحقره وأصغره لله تعالى.

وبهذا الذل لله حصل لها العز والشرف والنمو ، فما صغّر النفس مثل ومعصيته الله ، وما كبرها وشرفها ورفعها مثل طاعة الله.

٥٧١
٥٧٢

سورة الضحى

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى :

(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١))

في هذا التحديث قولان.

أحدهما : أنه ذكر النعمة والإخبار بها. وقول العبد : أنعم الله علي بكذا وكذا.

قال مقاتل : يعني أشكر ما ذكر من النعم عليك في هذه السورة من الإيواء مع اليتم ، والهدى بعد الضلال ، والإغناء بعد العيلة. والتحدث بنعمة الله شكر .. كما في حديث جابر مرفوعا «من صنع إليه معروف فليجز به ، فإن لم يجد ما يجزي به فليثن عليه. فإنه إذا أثنى عليه فقد شكره ، وإن كتمه فقد كفره ، ومن تحلى بما لم يعط ، كان كلابس ثوبي زور».

فذكر أقسام الخلق الثلاثة. شاكر النعمة المثني بها ، والجاحد لها ، والكاتم لها ، والمظهر أنه من أهلها وليس من أهلها. فهو متحل بما لم يفعله.

٥٧٣

وفي أثر آخر مرفوع «من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير. ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله. والتحدث بنعمة الله شكر ، وتركه كفر. والجماعة رحمة ، والفرقة عذاب».

والقول الثاني : أن التحدث بالنعمة المأمور به في هذه الآية : هو الدعوة إلى الله ، وتبليغ رسالته ، وتعليم الأمة. قال مجاهد : هي النبوة. وقال الزجاج : أي بلغ ما أرسلت به ، وحدث بالنبوة التي آتاك الله.

وقال الكلبي : هو القرآن ، امره أن يقرأه على الناس.

والصواب : أنه يعم النوعين ، إذ كل منهما نعمة مأمور بشكرها ، والتحدث بها. وإظهارها من شكرها.

٥٧٤

سورة التكاثر

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨))

أخبر سبحانه أن التكاثر شغل أهل الدنيا وألهاهم عن الله والدار الآخرة ، حتى حضرهم الموت ، فزاروا المقابر دون الموت ، ولم يفيقوا من رقدة إلهاء التكاثر.

وجعل الغاية زيارة المقابر دون الموت ، إيذانا بأنهم غير مستبقين ولا مستقرين في القبور ، وأنهم فيها بمنزلة الزائرين ، يحضرونها مرة ثم يظعنون عنها ، كما كانوا في الدنيا كذلك زائرين لها ، غير مستقرين فيها ، ودار القرار هي الجنة أو النار.

ولم يعين سبحانه المتكاثر به ، بل ترك ذكره ، إما لأن المذموم هو نفس التكاثر بالشيء ، لا المتكاثر به. كما يقال : شغلك اللعب واللهو ،

٥٧٥

ولم يذكر ما يلعب ويلهو به ، وإما إرادة الإطلاق ، وهو كل ما تكاثر به العبد غيره من أسباب الدنيا ، من مال أو جاه أو عبيد. أو إماء أو بناء ، أو غراس ، أو علم لا يبتغى به وجه الله ، أو عمل لا يقر به إلى الله. فكل هذا من التكاثر الملهي عن الله والدار الآخرة. وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله ابن الشخّير أنه قال : «انتهيت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو يقرأ (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) قال يقول ابن آدم : مالي ، مالي ، وهل لك من مال إلا ما تصدقت فأمضيت ، أو أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت؟».

ثم توعد سبحانه من ألهاه التكاثر وعيدا مؤكدا ، إذا عاين تكاثره قد ذهب هباء منثورا ، وعلم أن دنياه التي كاثر بها إنما كانت خدعا وغرورا ، فوجد عاقبة تكاثره اليه لا له ، وخسر هنالك تكاثره. كما خسره أمثاله. وبدا له من الله ما لم يكن في حسابه ، وصار تكاثره الذي شغله عن الله والدار الآخرة من أعظم أسباب عذابه ، فعذب بتكاثره في دنياه ، ثم عذب به في البرزخ ، ثم يعذب به يوم القيامة. فكان أشقي الناس بتكاثره في دنياه ، ثم عذب في البرزخ ، ثم يعذب به يوم القيامة. فكان أشقي الناس بتكاثره. إذ أفاد منه العطب ، دون الغنيمة والسلامة. فلم يفز من تكاثره إلا بأن صار من الأقلين ، ولم يحظ من علوه به في الدنيا إلا بأن حصل مع الأسفلين.

فيا له تكاثرا ما أثقله وزرا ، وما أجلبه من غنى جالبا لكل فقر ، وخيرا توصل به إلى كل شر ، يقول صاحبه إذا انكشف عنه غطاؤه. يا ليتني قدمت لحياتي ، وعملت فيه بطاعة الله قبل وفاتي (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) فقيل له (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) تلك كلمته يقولها. فلا يعول عليها. ورجعته يسألها ، فلا يجاب إليها.

وتأمل قوله أولا «رب» استغاث بربه ، ثم التفت الى الملائكة الذين أمروا بإحضاره بين يدي ربه تبارك وتعالى ، وقال : «ارجعوني» ثم ذكر سبب سؤال الرجعة. وهو أن يستقبل العمل الصالح فيما ترك خلفه من ماله وجاهه

٥٧٦

وسلطانه وقوته وأسبابه ، فيقال له «كلا» لا سبيل لك إلى الرجعة ، وقد عمّرت ما يتذكر فيه من تذكر.

ولما كان شأن الكريم الرحيم أن يجيب من استقاله ، وأن يفسح له في المهلة ليتذكر ما فاته ـ أخبر سبحانه أن سؤال هذا المفرط الرجعة كلمة : هو قائلها ، لا حقيقة تحتها ، وأن سجيته وطبيعته تأبى أن تعمل صالحا. لو أجيب. وإنما ذلك شيء يقوله بلسانه ، وإنه لو ردّ لعاد لما نهى عنه ، وإنه من الكاذبين.

فحكمة أحكم الحاكمين ، وعزته وعلمه وحمده ، يأبى إجابته إلى ما سأل. فإنه لا فائدة من ذلك. ولو رد لكانت حاله الثانية مثل حاله الأولى ، كما قال تعالى : ٦ : ٢٧ (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ ، فَقالُوا : يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ، وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ).

وقوله : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) جوابه محذوف ، دل عليه ما تقدم ، أي لما ألهاكم التكاثر ، وإنما وجد هذا التكاثر وإلهاؤه عما هو أولى بكم لمّا فقد منكم علم اليقين ، وهو العلم الذي يصل به صاحبه إلى حد الضروريات ، التي لا يشك ولا يماري في صحتها وثبوتها. ولو وصلت حقيقة هذا العلم إلى القلب وباشرته لما ألهاه شيء عن موجبه ، ولترتب أثره عليه. فإن مجرد العلم بقبح الشيء وسوء عواقبه قد لا يكفي في تركه. فإذا صار له علم اليقين كان اقتضاء هذا العلم لتركه أشد. فإذا صار عين يقين ، كجملة المشاهدات ، كان تخلّف موجبه عنه اندر شيء.

وفي هذا المعنى قال حسان بن ثابت رضي الله عنه في أهل بدر : سرنا ، وساروا إلى بدر ، لحتفهم لو يعلمون يقين العلم ما ساروا

وقوله : (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ، ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ).

٥٧٧

قيل : تأكيد لحصول العلم. كقوله : ٧٨ : ٤ ، ٥ (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ، ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ).

وقيل : ليس تأكيدا ، بل العلم الأول عند المعاينة ونزول الموت. والعلم الثاني في القبر. وهذا قول الحسن ومقاتل. ورواه عطاء عن ابن عباس.

ويدل على صحة هذا القول : عدة أوجه.

أحدها : أن الفائدة الجديدة والتأسيس هو الأصل. وقد أمكن اعتباره ، مع فخامة المعنى وجلالته ، وعدم الإخلال بالفصاحة.

الثاني : توسط «ثم» بين العلمين ، وهي مؤذنة بتراخي ما بين المرتبين زمانا وخطرا.

الثالث : أن هذا القول مطابق للواقع. فإن المحتضر يعلم عند المعاينة حقيقة ما كان عليه ، ثم يعلم في القبر وما بعده ذلك علما يقينا ، هو فوق العلم الأول.

الرابع : أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره من السلف فهموا من الآية عذاب القبر. قال الترمذي : حدثنا أبو كريب حدثنا حكام بن سليم الرازي عن عمرو بن أبي قيس عن الحجاج بن منهال بن عمرو بن زر عن علي رضي الله عنه قال : «ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) قال الواحدي : يعني أن معنى قوله : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) في القبر.

الخامس : أن هذا مطابق لما بعده من قوله : (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) فهذه الرؤية الثانية غير الأولى من وجهين : إطلاق الأولى ، وتقييد الثانية بعين اليقين ، وتقدم الأولى ، وتراخي الثانية عنها.

ثم ختم السورة بالإخبار المؤكد بواو القسم ولام التأكيد ، والنون الثقيلة

٥٧٨

عن سؤال النعيم. فكل أحد يسأل عن نعيمه الذي كان فيه في الدنيا : هل ناله من حلاله ووجهه أم لا؟ فإذ تخلص من هذا السؤال ، سئل سؤالا آخر : هل شكر الله تعالى عليه ، باستعانة به على طاعته أم لا؟

فالأول سؤال عن سبب استخراجه.

والثاني : عن محل صرفه. كما في جامع الترمذي من حديث عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس : عن عمره : فيما أفناه؟ وعن شبابه : فيما أبلاه؟ وعن ماله : من أين اكتسبه ، وفيما أنفقه؟ وفيما ذا عمل فيما علم؟».

وفيه أيضا : عن أبي برزة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره : فيما أفناه؟ وعن علمه : فيما عمل فيه؟ وعن ماله : من أين اكتسبه وفيما أبلاه؟» وقال : هذا حديث صحيح (١).

وفيه أيضا : من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة ـ يعني من النعيم ـ أن يقال له : ألم نصحّ جسمك؟ ونرويك من الماء البارد؟».

وفيه أيضا : من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه قال : «لما نزلت (لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قال الزبير : يا رسول الله : فأي النعيم نسأل عنه ، وإنما هو الأسودان : التمر والماء؟ قال : أما إنه سيكون» وقال : هذا حديث حسن.

وعن أبي هريرة نحوه. وقال «إنما هو الأسودان : العدو حاضر ، وسيوفنا على عواتقنا. فقال : إن ذلك سيكون».

__________________

(١) أخرجه الترمذي عن أبي برزة برقم ٢٤٦٧.

٥٧٩

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن ذلك سيكون» إما أن يكون المراد به : أن النعيم سيكون ويحدث لكم ، وإما ان يرجع إلى السؤال ، أي إن السؤال يقع عن ذلك ، وإن كان تمرا وماء ، فإنه من النعيم.

ويدل عليه : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح ـ وقد أكلوا معه رطبا ولحما ، وشربوا من الماء البارد ـ «هذا من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة» فهذا سؤال عن شكره والقيام بحقه.

وفي الترمذي من حديث أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يجاء بالعبد يوم القيامة ، كأنه بذج (١) فيوقف بين يدي الله تعالى ، فيقول الله : أعطيتك وخوّلتك ، وأنعمت عليك ، فماذا صنعت؟ فيقول : يا رب جمعته ، وثمرته ، فتركته أوفر ما كان ، فأرجعني آتيك به. فإذا أعيد لم يقدم خيرا ، فيمضي به إلى النار» (٢)».

وفيه من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يؤتى بالعبد يوم القيامة ، فيقول الله : ألم أجعل لك سمعا وبصرا ومالا ، وولدا ، وسخرت لك الأنعام والحرث ، وتركتك ترأس وترتع ، أفكنت تظن أنك ملاق يومك هذا؟ فيقول : لا. فيقول له : اليوم أنساك كما نسيتني».

وقال : هذا حديث صحيح.

وقد زعم طائفة من المفسرين : أن هذا الخطاب خاص بالكفار ، وأنهم هم المسؤولون عن النعيم. وذكروا ذلك عن الحسن ومقاتل. واختار الواحدي ذلك. واحتج بحديث أبي بكر «لما نزلت هذه الآية ، قال رسول الله : أرأيت أكلة أكلتها معك ببيت أبي الهيثم بن التيهان من خبز شعير ولحم ،

__________________

(١) أخرجه الترمذي بلفظ : يجاء بابن آدم يوم القيامة كأنخ بذج .. برقم ٢٤٢٧.

(٢) البذج ولد الضأن ، وجمعه بذجان.

٥٨٠