التفسير القيّم

ابن القيّم الجوزيّة

التفسير القيّم

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الشيخ إبراهيم محمّد رمضان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

سورة الأنبياء

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣))

جمع في هذا الدعاء بين حقيقة التوحيد ، وإظهار الفقر والفاقة إلى ربه ، ووجود طعم المحبة في التملق له ، والإقرار له بصفة الرحمة ، وأنه أرحم الراحمين.

والتوسل إليه بصفاته سبحانه ، وشدة حاجته هو وفقره. ومتى وجد المبتلي هذا كشفت عنه بلواه. وقد جرب أنه من قالها سبع مرات ولا سيما مع هذه المعرفة كشف الله ضره.

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧))

أصح القولين في هذه الآية : أنها على عمومها.

وفيها على هذا التقدير وجهان.

٣٨١

أحدهما : أن عموم العالمين حصل لهم النفع برسالته. أما أتباعه : فنالوا بها كرامة الدنيا والآخرة.

وأما أعداؤه المحاربون له : فالذين عجل قتلهم وموتهم خير لهم لأن حياتهم زيادة لهم في تغليظ العذاب عليهم في الدار الآخرة. وهم قد كتب عليهم الشقاء ، فتعجيل موتهم خير لهم من طول أعمارهم في الكفر.

وأما المعاهدون له : فعاشوا في الدنيا تحت ظله وعهده وذمته. وهم أقل شرا بذلك العهد من المحاربين له.

وأما المنافقون فحصل لهم بإظهار الايمان به حقن دمائهم وأموالهم وأهليهم واحترامها وجريان أحكام المسلمين عليهم في التوارث وغيرها.

وأما الأمم النائية عنه : فإن الله سبحانه رفع برسالته العذاب العام عن أهل الأرض ، فأصاب كل العالمين النفع برسالته.

الوجه الثاني : أنه رحمة لكل أحد ، لكن المؤمنون قبلوا هذه الرحمة فانتفعوا بها دنيا واخرى ، والكفار ردوها ، فلم يخرج بذلك عن أن يكون رحمة لهم ، لكن لم يقبلوها ، كما يقال : هذا دواء لهذا المرض. فإذا لم يستعمله لم يخرج عن أن يكون دواء لذلك المرض.

٣٨٢

سورة الحج

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١))

المرضع : من لها ولد ترضعه. والمرضعة : من ألقمت الثدي للرضيع.

وعلى هذا فقوله تعالى : (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) أبلغ من مرضع في هذا المقام. فإن المرأة قد تذهل عن الرضيع إذا كان غير مباشر للرضاعة. فإذا التقم الثدي واشتغلت برضاعه لم تذهل عنه إلا لأمر هو أعظم عندها من اشتغالها بالرضاع.

وتأمل رحمك الله السر البديع في عدوله سبحانه عن كل حامل إلى قوله : (ذاتِ حَمْلٍ) فإن الحامل قد تطلق على المهيأة للحمل ، وعلى من هي في أول حملها ومباديه. فإذا قيل : ذات حمل لم يكن إلا لمن قد ظهر حملها وصلح للوضع كاملا ، أو سقطا. كما يقال : ذات ولد.

٣٨٣

فأتى في المرضعة بالتاء التي تحقق فعل الرضاعة دون التهيؤ لها.

وأتى في الحامل بالسبب الذي يحقق وجود الحمل وقبوله للوضع. والله سبحانه وتعالى أعلم.

قول الله تعالى ذكره :

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١))

فتأمل هذا المثل ومطابقته لحال من أشرك بالله. وتعلق بغيره.

ويجوز لك في هذا التشبيه أمران.

أحدهما : أن تجعله تشبيها مركبا. ويكون قد شبه من أشرك بالله وعبد معه غيره برجل قد تسبب إلى هلاك نفسه هلاكا لا يرجى معه نجاة. فصور حاله بصورة حال من خرّ من السماء فاختطفته الطير في الهواء فتفرق مزعا في حواصلها ، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطارح البعيدة.

وعلى هذا لا تنظر إلى كل فرد من أفراد المشبه ومقابله من المشبه به.

الثاني : أن يكون من التشبيه المفرق ، فيقابل كل واحد من أجزاء الممثل بالممثل به.

وعلى هذا فيكون قد شبه الايمان والتوحيد في علوه وسعته وشرفه بالسماء التي هي مصعده ومهبطه. فمنها هبط إلى الأرض وإليها يصعد منها. وشبه تارك الايمان والتوحيد بالساقط من السماء إلى أسفل سافلين ، من حيث التضييق الشديد والآلام المتراكمة. والطير التي تتخطف أعضاءه وتمزقه كل ممزق بالشياطين التي يرسلها سبحانه وتعالى عليه تؤزه أزّا وتزعجه وتدفعه إلى مظان هلاكه. فكل شيطان له مزعة من دينه وقلبه ، كما أن لكل طير مزعة من لحمه وأعضائه والريح التي تهوى به في مكان سحيق : هو هواه الذي يحمله

٣٨٤

على إلقاء نفسه في أسفل مكان وأبعده من السماء.

قول الله تعالى ذكره :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣))

حقيق على كل عبد أن يستمع قلبه لهذا المثل ، ويتدبره حق تدبره. فإنه يقطع مواد الشرك من قلبه.

وذلك أن المعبود أقل درجاته أن يقدر على إيجاد ما ينفع عابده وإعدام ما يضره. والآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله لن تقدر على خلق الذباب ، ولو اجتمعوا كلهم لخلقه ، فكيف بما هو أكبر منه ، بل لا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سلبهم شيئا محا عليهم من طيب ونحوه ، فيستنقذوه منه. فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو من أضعف الحيوانات ، ولا على الانتصار منه ، واسترجاع ما سلبهم إياه. فلا أعجز من هذه الآلهة ، ولا أضعف منها. فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله؟

وهذا المثل من أبلغ ما أنزله الله سبحانه في بطلان الشرك ، وتجهيل أهله ، وتقبيح عقولهم ، والشهادة على أن الشيطان قد تلاعب بهم أعظم من تلاعب الصبيان بالكرة ، حيث أعطوا الآلهة التي من بعض لوازمها القدرة على جميع المقدورات ، ولإحاطة بجميع المعلومات ، والغني عن جميع المخلوقات ، وأن يصمد إلى الرب في جميع الحاجات ، وتفريج الكربات ، وإغاثة اللهفات ، وإجابة الدعوات ـ فأعطوها الصور وتماثيل يمتنع عليها القدرة على أقل مخلوقات الإلة الحق ، وأذلها وأصغرها وأحقرها. ولو اجتمعوا لذلك وتعاونوا عليه.

٣٨٥

وأدل من ذلك على عجزهم وانتفاء آلهتهم : أن هذا الخلق الأقل الأذل والعاجز الضعيف لو اختطف منهم شيئا واستلبه فاجتمعوا على أن يستنقذوه منه لعجزوا عن ذلك ولم يقدروا عليه.

ثم سوى بين العابد والمعبود في الضعف والعجز بقوله : (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) قيل : الطالب والعابد ، والمطلوب : المعبود ، فهو عاجز متعلق بعاجز.

وقيل : هو تسوية بين السالب والمسلوب منه وهو تسوية بين الإله والذباب في الضعف والعجز.

وعلى هذا فقيل : الطالب الإله الباطل ، والمطلوب الذباب يطلب منه ، ما استلبه منه.

وقيل : الطالب الذباب ، والمطلوب الإله فالذباب يطلب منه ما يأخذه مما عليه.

والصحيح : أن اللفظ يتناول الجميع ، فضعف العابد والمعبود والمستسلب.

فمن جعل هذا إلها مع القوي العزيز ، فما قدر الله حق قدره ، ولا عرفه حق معرفته ولا عظمه حق تعظمه.

٣٨٦

سورة المؤمنون

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١))

والفردوس : اسم يقال على جميع الجنة. ويقال : على أفضلها وأعلاها ، كأنه أحق بهذا الاسم من غيره من الجنات.

وأصل الفردوس : البستان ، والفراديس البساتين. قال كعب : هو البستان الذي فيه الأعناب. وقال الليث : الفردوس جنة ذات كروم ، يقال : كرم مفردس ، أي معرش. وقال الضحاك : هي الجنة الملتفة بالأشجار ، وهو اختيار المبرد. وقال : الفردوس ـ فيما سمعت من كلام العرب ـ : الشجر الملتف ، والأغلب عليه العنب ، وجمعه الفراديس. قال : ولهذا سمي باب الفراديس بالشام. وأنشد لجرير :

فقلت للركب ، إذ جد المسير بنا

يا بعد ما بين أبواب الفراديس

وقال مجاهد : هذا البستان بالرومية. واختاره الزجاج. فقال : هو

٣٨٧

بالرومية ، منقول إلى لغة العرب. قال وحقيقته : أنه البستان الذي يجمع كل ما يكون في البساتين. قال حسان :

وإن ثواب الله كل مخلد

جنان من الفردوس فيها يخلد

قول الله تعالى ذكره :

(مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١))

تأمل هذا البرهان الباهر بهذا اللفظ الوجيز البين. فإن الإله الحق لا بد أن يكون خالقا فاعلا ، يوصل إلى عابديه النفع ، ويدفع عنهم الضر فلو كان معه سبحانه إله لكان له خلق وفعل ، وحينئذ فلا يرضي شركة الإله الآخر معه ، بل إن قدر على قهره والتفرد بالالهية دونه فعل ، وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخلقه ، وذهب به ، كما ينفرد ملوك الدنيا بعضهم عن بعض بمماليكهم ، إذا لم يقدر المنفرد على قهر الآخر ، والعلو عليه. فلا بد من أحد أمور ثلاثة : وإما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه. وإما أن يعلو بعضهم على بعض. وإما أن يكونوا كلهم تحت قهر إله واحد ، يتصرف فيهم ولا يتصرفون فيه ، ويمتنع من حكمهم ولا يمتنعون من حكمه. فيكون وحده هو الإله الحق ، وهم العبيد المبوبون المقهورون.

وانتظام أمر العالم العلوي والسفلي وارتباط بعضه ببعض ، وجريانه على نظام محكم لا يختلف ، ولا يفسد. من أدل دليل على أن مدبره واحد ، لا إله غيره كما دل دليل التمانع على أن خالقه واحد ، لا رب غيره.

فذلك تمانع في الفعل والإيجاد ، وهذا تمانع في الغاية والألوهية.

فكما يستحيل أن يكون للعالم ربان خالقان متكافئان كذلك يستحيل أن يكون له إلهان معبودان.

٣٨٨

سورة النور

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥))

قال أبي بن كعب (١) : مثل نوره في قلب المسلم. وهذا هو النور الذي أودعه الله في قلب عبده من معرفته ومحبته والإيمان به وذكره. وهو نوره الذي أنزله إليهم فأحياهم به ، وجعلهم يمشون به بين الناس. وأصله في قلوبهم ، ثم تقوى مادته فتتزايد حتى تظهر على وجوههم وجوارحهم وأبدانهم ، بل وثيابهم ودورهم ، يبصره من هو من جنسهم ، وإن كان سائر الخلق له منكر فإذا كان يوم القيامة برز ذلك النور ، وصار بأيمانهم يسعى بين أيديهم في ظلمة

__________________

(١) أبي بن كعب : أخد الأربعة الذين جمعوا القرآن توفي سنة إثنين وعشرين للهجرة.

٣٨٩

الجسر حتى يقطعوه وهم فيه على حسب قوته وضعفه في قلوبهم في الدنيا.

منهم من نوره كالشمس ، وآخر كالقمر ، وآخر كالنجوم ، وآخر كالسراج ، وآخر يعطي نورا على إبهام قدمه يضيء مرة ويطفأ أخرى ، إذ كانت هذه حال نوره في الدنيا ، فأعطي على الجسر بمقدار ذلك ، بل هو نفس نوره ظهر له عيانا ولما لم يكن للمنافق نور ثابت في الدنيا ، بل كان نوره ظاهرا لا باطنا أعطى نورا ظاهرا ماله؟؟؟ إلى الظلمة والذهاب.

وضرب الله عزوجل لهذا النور ومحله وحامله ومادته مثلا بالمشكاة وهي الكوّة في الحائط فهي مثل الصدر ، وفي تلك المشكاة زجاجة من أصفى الزجاج حتى شبهت بالكوكب الدري في بياضه وصفائه. وهي مثل القلب وشبه بالزجاجة لأنها جمعت أوصافا هي في قلب المؤمن ، وهي الصفاء والرقة والصلابة فيرى الحق والهدى بصفائه وتحصل منه الرأفة والرحمة والشفقة برقته ، ويجاهد أعداء الله تعالى ويغلظ عليهم ويشتد في الحق ، ويصلب فيه بصلابته ، ولا تبطل صفة منه صفة اخرى ولا تعارضها بل تساعدها وتعاضدها ٤٨ : ٢٩ (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) وقال تعالى : ٣ : ١٥٩ (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) وقال تعالى : ٦٦ : ٩ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ).

وفي أثر «القلوب آنية الله تعالى في أرضه ، فأحبها إليه أرقها وأصلبها وأصفاها».

وبإزاء هذا القلب قلبان مذمومان على طرفي نقيض.

أحدهما : قلب حجري قاس ، لا رحمة فيه ، ولا إحسان ولا بر ، ولا له صفاء يرى به الحق ، بل جبار جاهل ، لا علم له بالحق ولا رحمة فيه للخلق.

٣٩٠

وبإزائه قلب ضعيف مائي لا قوة ولا استمساك ، بل يقبل كل صورة وليس له قوة حفظ تلك الصور ، ولا قوة التأثير في غيره. وكل ما خالطه أثر فيه من قوي وضعيف ، وطيب وخبيث.

وفي الزجاجة مصباح ، وهو النور الذي في الفتيلة ، وهي حاملته. ولذلك النور مادة وهو زيت قد عصر من زيتونة في أعدل الأماكن تصيبها الشمس أول النهار وآخره ، فزيتها من أصفى الزيت وأبعده من الكدر ، حتى أنه ليكاد من صفائه يضيء بلا نار.

فهذه مادة نور المصباح. وكذلك مادة نور المصباح الذي في قلب المؤمن : هو من شجرة الوحي التي هي أعظم الأشياء بركة ، وأبعدها عن الانحراف ، بل هي أوسط الأمور وأعدلها وأفضلها ، لم تنحرف انحراف النصرانية ، ولا انحراف اليهودية بل هي وسط بين الطرفين المذمومين في كل شيء.

فهذه مادة مصباح الإيمان في قلب المؤمن.

ولما كان ذلك الزيت قد اشتد صفاؤه حتى كاد أن يضيء بنفسه ، ثم خالط النار فاشتدت بها إضاءته وقويت مادة ضوء النارية فيه كان ذلك نورا على نور.

وهكذا المؤمن : قلبه مضيء يكاد يعرف الحق بفطرته وعقله ، ولكن لا مادة له من نفسه ، فجاءت مادة الوحي فباشرت قلبه. وخالطت بشاشته فازداد نورا بالوحي على نوره الذي فطره الله تعالى عليه. فاجتمع له نور الوحي إلى نور الفطرة. نور على نور ، فيكاد ينطق بالحق ، وإن لم يسمع فيه أثرا ، ثم يسمع الأثر مطابقا لما شهدت به فطرته ، فيكون نورا على نور.

فهذا شأن المؤمن يدرك الحق بفطرته مجملا ، ثم يسمع الأثر جاء به مفصلا ، فينشأ إيمانه عن شهادة الوحي وعن شهادة الفطرة.

٣٩١

فليتأمل اللبيب هذه الآية العظيمة ومطابقتها لهذه المعاني الشريفة فقد ذكر سبحانه وتعالى نوره في السموات والأرض ، ونوره في قلب عباده المؤمنين : النور المعقول المشهور بالبصائر والقلوب ، والنور المحسوس المشهود بالأبصار الذي استنارت به أقطار العالم العلوي والسفلي. فهما نوران عظيمان ، وأحدهما أعظم من الآخر.

وكما أنه إذا فقد أحدهما من مكان أو موضع لم يعش فيه آدمي ولا غيره ، لأن الحيوان إنما يكون حيث يكون النور ، ومواضع الظلمة التي لا يشرق عليها نور لا يعيش فيها حيوان ولا يكون البتة ، فكذلك أمة فقد فيها نور الوحي والايمان ميتة ولا بد ، وقلب فقد منه هذا النور : ميت ولا بد ، لا حياة له البتة ، كما لا حياة للحيوان في مكان لا نور فيه.

قول الله تعالى ذكره :

٢٤ : ٣٥ (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ ، الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ ، لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ، يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ. نُورٌ عَلى نُورٍ ، يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ. وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ. وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

وقد فسر قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بكونه منور السموات والأرض ، وهادي أهل السموات والأرض ، فبنوره اهتدي أهل السموات والأرض.

وهذا إنما هو فعله ، وإلا فالنور الذي هو من أوصافه قائم به. ومنه اشتق له اسم النور ، الذي هو أحد الأسماء الحسنى.

والنور يضاف إليه سبحانه على أحد وجهين : إضافة صفة إلى موصوفها ، وإضافة مفعول إلى فاعله.

٣٩٢

فالأول كقوله عزوجل : ٣٩ : ٦٩ (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) فهذا إشراقها يوم القيامة بنوره تعالى ، إذا جاء لفصل القضاء.

ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدعاء المشهور «أعوذ بنور وجهك الكريم : أن تضلّني. لا إله إلا أنت».

وفي الأثر الآخر «أعوذ بوجهك ، أو بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات».

فأخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن الظلمات أشرقت لنور وجه الله ، كما أخبر تعالى : أن الأرض تشرق يوم القيامة بنوره.

وفي معجم الطبراني والسنة له ، وكتاب عثمان بن سعيد الدرامي وغيرها : عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال «ليس عند ربكم ليل ولا نهار ، نور السموات والأرض من نور وجهه».

وهذا الذي قاله ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أقرب إلى تفسيره الآية من قول من فسرها بأنه هادي أهل السموات والأرض.

وأما من فسرها بأنه منوّر السموات والأرض فلا يتنافى بينه وبين قول ابن مسعود.

والحق أنه نور السموات والأرض بهذه الاعتبارات كلها.

وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال «قام بيننا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخمس كلمات ، فقال : إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل ، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه».

وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل رأيت ربك؟ قال : نور. أنّي أراه».

٣٩٣

سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه‌الله يقول : معناه : كان ثمّ نور ، أو حال دون رؤيته نور ، فإنّي أراه؟

قال : ويدل عليه : أن في بعض الألفاظ الصحيحة «هل رأيت ربك؟ فقال : رأيت نورا».

وقد أعضل أمر هذا الحديث على كثير من الناس ، حتى صححه بعضهم فقال «نور إني أراه» على أنها ياء النسب. والكلمة كلمة واحدة. وهذا خطأ لفظا ومعنى. وإنما أوجب لهم هذا الأشكال والخطأ : انهم لما اعتقدوا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى ربه ، وكان قوله «أني أراه» كالانكار للرؤية حاروا في الحديث ورده بعضهم باضطراب لفظه.

وكل هذا عدول عن موجب الدليل.

وقد حكي عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب الرؤية له إجماع الصحابة على أنه لم ير ربه ليلة المعراج. وبعضهم استثني ابن عباس فيمن قال ذلك.

وشيخنا يقول : ليس ذلك بخلاف في الحقيقة ، فإن ابن عباس لم يقل رآه بعيني رأسه. وعليه اعتمد أحمد في إحدى الروايتين ، حيث قال : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى ربه عزوجل. ولم يقل بعيني رأسه. ولفظ أحمد لفظ ابن عباس رضي الله عنه.

ويدل على صحته : ما قال شيخنا في معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الآخر «حجابه النور» فهذا النور هو ـ والله أعلم ـ النور المذكور في حديث أبي ذر رضي الله عنه «رأيت نورا».

فصل

وقوله تعالى : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) هذا مثل لنوره في قلب عبده المؤمن ، كما قال أبي بن كعب وغيره.

٣٩٤

وقد اختلف في مفسر الضمير في «نوره» فقيل : هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي مثل نور محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : مفسره المؤمن ، أي مثل نور المؤمن.

والصحيح : أنه يعود على الله سبحانه وتعالى. والمعنى : مثل نور الله سبحانه وتعالى في قلب عبده وأعظم عباده نصيبا من هذا النور : رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فهذا مع ما تضمنه عود الضمير المذكور ، وهو وجه الكلام ، يتضمن التقادير الثلاثة ، وهو أتم لفظا ومعنى.

وهذا النور يضاف إلى الله تعالى ، إذ هو معطيه لعبده ، وواهبه إياه. ويضاف إلى العبد ، إذ هو محله وقابله. فيضاف إلى الفاعل والقابل. ولهذا النور فاعل وقابل ، ومحل وحامل ، ومادة.

قد تضمنت الآية ذكر هذه الأمور كلها على وجه التفصيل. فالفاعل : هو الله تعالى مفيض الأنوار ، الهادي لنوره من يشاء. والقابل : العبد المؤمن. والمحل : قلبه. والحامل : همته وعزيمته وإرادته. والمادة : قوله وعمله.

وهذا التشبيه العجيب الذي تضمنته الآية فيه من الأسرار والمعاني وإظهار تمام نعمته على عبده المؤمن بما؟ من نوره : ما تقربه عيون أهله ، وتبتهج به قلوبهم.

وفي هذا التشبيه لأهل المعاني طريقتان.

إحداهما : طريقة التشبيه المركب ، وهي أقرب مأخذا وأسلم من التكلف ، وهي أن تشبه الجملة برمتها بنور المؤمن من غير تعرض لتفصيل كل جزء من أجزاء المشبه ، ومقابلته بجزء من المشبه به. وعلى هذا عامة أمثال القرآن.

فتأمل صفة المشكاة ، وهي كوّة تنفذ لتكون أجمع للضوء ـ قد وضع

٣٩٥

فيها مصباح. وذلك المصباح داخل زجاجة تشبيه الكوكب الدري في صفائها وحسنها ، ومادته من أصفى الأدهان وأتمها وقودا ، من زيت شجرة في وسط القراح ، لا شرقية ولا غربية ، بحيث تصيبها الشمس في إحدى طرفي النهار ، بل هي في وسط القراح ، محمية بأطرافه ، تصيبها الشمس أعدل إصابة. والآفات إلى الأطراف دونها. فمن شدة إضاءة زيتها وصفائه وحسنه يكاد يضيء من غير أن تمسه نار فهذا المجموع المركب هو مثل نور الله تعالى الذي وصفه في قلب عبده المؤمن ، وخصه به.

والطريقة الثانية : طريقة التشبيه المفصل ، فقيل : المشكاة صدر المؤمن. والزجاجة : قلبه. شبه قلبه بالزجاجة لرقتها وصفائها وصلابتها. وكذلك قلب المؤمن فإنه قد جمع الأوصاف الثلاثة ، فهو يرحم ويحسن ، ويتحنن ، ويشفق على الخلق برقته ، وبصفائه تتجلى فيه صور الحقائق والعلوم على ما هي عليه. ويباعد الكدر والدرن والوسخ بحسب ما فيه من الصفاء وبصلابته يشتد في أمر الله ويتصلب في ذات الله تعالى ، ويغلظ على أعداء الله تعالى ، ويقوم بالحق لله تعالى.

وقد جعل الله تعالى القلوب كالآنية ، كما قال بعض السلف «القلوب آنية الله في أرضه ، فأحبها إلى الله أرقها وأصلبها وأصفاها» والمصباح هو نور الإيمان في قلبه ، والشجرة المباركة : هي شجرة الوحي المتضمنة للهدى ودين الحق. وهي مادة المصباح التي يتّقد منها. والنور على النور نور الفطرة الصحيحة ، والإدراك الصحيح ونور الوحي والكتاب ، فينضاف أحد النورين إلى الآخر فيزداد العبد نورا على نور. ولهذا يكاد ينطق بالحق والحكمة قبل أن يسمع ما فيه من الأثر ، ثم يبلغه الأثر بمثل ما وقع في قلبه ونطق به ، فيتفق عنده شاهد العقل والشرع ، والفطرة والوحي فيريه عقله وفطرته وذوقه الذي جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الحق لا يتعارض عنده العقل والنقل ، بل يتصادقان ويتوافقان فهذا علامة النور على النور ، عكس من تلاطمت في قلبه

٣٩٦

أمواج الشبه الباطلة ، والخيالات الفاسدة ، من الظنون ، والجهليات التي يسميها أهلها القواطع العقليات. فهي في صدره كما قال الله ٢٤ : ٤٠ (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ ، مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ، ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ ، إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها. وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ).

فانظر كيف تضمنت هذه الآيات طرائق انتظمت طوائف بني آدم أتم انتظام واشتملت عليها أكمل اشتمال. فإن الناس قسمان : أهل الهدى والبصائر. الذين عرفوا أن الحق فيما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الله سبحانه ، وأن كل ما عارضه فشبهات يشتبه أمرها على من قل نصيبه من العقل والسمع ، فيظنها شيئا له حاصل ينتفع به ، وهي :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠))

وهؤلاء هم أهل الهدى ودين الحق ، أصحاب العلم النافع ، والعمل الصالح ، الذين صدقوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أخباره ، ولم يعارضوه بالشبهات ، وأطاعوه في أوامره ، ولم يضيعوها بالشهوات. فلا هم في علمهم من أهل الخوض الخراصين ، (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ) ، ولا هم في عملهم من المستمتعين بخلاقهم ، الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ، وأولئك هم الخاسرون. أضاء لهم نور الوحي المبين ، فرأوا في نوره أهل الظلمات في ظلمات آرائهم يعمهون ، وفي ضلالتهم يتهوكون ، وفي ريبهم يترددون ، مغترين بظاهر السراب ، ممحلين مجدبين مما بعث الله به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحكمة وفصل الخطاب ، إن عندهم إلا نحاتة الأفكار ، وزبالة الأذهان التي

٣٩٧

قد رضوا بها واطمأنوا إليها ، وقدموها على السنة والقرآن (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) أوجبه لهم اتباع الهوى ، ونخوة الشيطان ، وهم لأجله يجادلون في آيات الله بغير سلطان.

فصل

القسم الثاني : أهل الجهل والظلم ، الذين جمعوا بين الجهل بما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والظلم لأنفسهم باتباع أهوائهم ، الذين قال الله تعالى فيهم ٥٣ : ٢٣ (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ. وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى).

وهؤلاء قسمان :

أحدهما : الذين يحسبون أنهم على علم وهدى ، وهم أهل الجهل والضلال ، فهؤلاء أهل الجهل المركب ، الذين يجهلون الحق ويعادون أهله ، وينصرون الباطل ويوالونه ، ويوالون أهله ٥٨ : ١٨ (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ).

فهم لاعتقادهم الشيء على خلاف ما هو عليه بمنزلة رائي السراب ، الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. وهكذا هؤلاء أعمالهم وعلومهم بمنزلة السراب الذي لا يخون صاحبه أحوج ما هو إليه. ولم يقتصر على مجرد الخيبة والحرمان. كما هو حال من أمّ السراب فلم يجده ماء ، بل انضاف إلى ذلك : أنه وجد عنده أحكم الحاكمين ، وأعدل العادلين سبحانه وتعالى ، فحسب له ما عنده من العلم والعمل ، فوفاه إياه بمثاقيل الذر. وقدم إلى ما عمل من عمل يرجو نفعه ، فجعله هباء منثورا ، إذ لم يكن خالصا لوجهه ، ولا على سنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصارت تلك الشبهات الباطلة التي كان يظنها علوما نافعة كذلك هباء منثورا ، فصارت أعماله وعلومه حسرات عليه.

٣٩٨

و «السراب» ما يرى في الفلاة المنبسطة من ضوء الشمس وقت الظهيرة ، يسرب على وجه الأرض ، كأنه ماء يجرى.

و «القيعة» والقاع : هو المنبسط من الأرض الذي لا جبل فيه ولا واد.

فشبه علوم من لم يأخذ علومه من الوحي وأعماله : بسراب يراه المسافر في شدة الحر فيؤمه ، فيخيب ظنه ، ويجده نارا تتلظى.

فهكذا علوم أهل الباطل وأعمالهم إذا حشر الناس ، واشتد بهم العطش بدت لهم كالسراب فيحسبونه ماء ، وإذا أتوه وجدوا الله عنده ، فأخذتهم زبانية العذاب فنقلوهم إلى نار الجحيم : ٤٧ : ١٥ (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) وذلك الماء الذي سقوه هو تلك العلوم التي لا تنفع والأعمال التي كانت لغير الله تعالى صيرها الله تعالى حميما ، وسقاهم إياه ، كما أن طعامهم ٨٨ : ٦ ، ٧ (مِنْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) وهو تلك العلوم والأعمال الباطلة ، التي كانت في الدنيا كذلك لا تسمن ولا تغنى من جوع.

وهؤلاء هم الذين قال الله عنهم ١٨ : ١٠٣ ، ١٠٤ (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً؟ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) وهم الذين عنى الله بقوله : ٢٥ : ٢٢ (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً).

وهم الذين عنى بقوله تعالى : ٢ : ١٦٧ (كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ).

القسم الثاني من هذا الصنف : أصحاب الظلمات.

وهم المنغمسون في الجهل ، بحيث قد أحاطت بهم جاهليتهم من كل وجه ، وهم لذلك بمنزلة الأنعام ، بل هم أضل سبيلا.

فهؤلاء أعمالهم التي يعملونها على غير بصيرة ، بل بمجرد التقليد ،

٣٩٩

واتباع الآباء من غير نور من الله تعالى.

فظلمات : جمع ظلمة ، وهي ظلمة الجهل ، وظلمة الكفر ، وظلمة ظلم النفس بالتقليد واتباع الهوى ، وظلمة الشك والريب ، وظلمة الإعراض عن الحق الذي بعث الله تعالى به رسله صلوات الله وسلامه عليهم. والنور الذي أنزله معهم ليخرجوا به الناس من الظلمات إلى النور.

فالمعرض عما بعث الله به عبده ورسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الهدى ودين الحق يتقلب في خمس ظلمات : قوله ظلمة ، وعمله ظلمة ، ومدخله ظلمة ، ومخرجه ظلمة ، ومصيره إلى الظلمة ، وقلبه مظلم ، ووجهه مظلم ، وكلامه مظلم ، وحاله مظلم ، وإذا قابلت بصيرته الخفاشية ما بعث الله به محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من النور جدّ في الهرب منه ، وكاد نوره يخطف بصره. فهرب إلى ظلمات الآراء. التي هي به أنسب. كما قيل :

خفافيش أعشاها النهار بضوئه

ووافقها قطع من الليل مظلم

فإذا جاء إلى زبالة الأفكار ، ونحاتة الأذهان ، جال وصال ، وأبدى وأعاد ، وقعقع وفرقع ، فإذا طلع نور الوحي ، وشمس الرسالة انجحر في جحرة الحشرات.

قوله (فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ) «اللجى» العميق ، منسوب إلى لجة البحر. وهو معظمه.

وقوله تعالى : (يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ) تصوير لحال هذا المعرض عن وحيه.

فشبه تلاطم أمواج الشبه والباطل في صدره بتلاطم أمواج ذلك البحر. وأنها أمواج بعضها فوق بعض.

والضمير الأول في قوله «يغشاه» راجع إلى البحر. والضمير الثاني في قوله «من فوقه» عائد إلى الموج.

٤٠٠