التفسير القيّم

ابن القيّم الجوزيّة

التفسير القيّم

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الشيخ إبراهيم محمّد رمضان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

ثم إن تلك الأمواج مغشاة بسحاب.

فههنا ظلمات : ظلمة البحر اللجى ، وظلمة الموج الذي فوقه ، وظلمة السحاب الذي فوق ذلك كله. إذا أخرج من في هذا البحر يده لم يكد يراها.

واختلف في معنى ذلك :

فقال كثير من النحاة : هو نفي لمقاربة رؤيتها. وهو أبلغ من نفيه الرؤية ، وأنه قد ينفي وقوع الشيء ولا ينفي مقاربته. فكأنه قال : لم يقارب رؤيتها بوجه.

قال هؤلاء : «كاد» من أفعال المقاربة ، لها حكم سائر الأفعال في النفي والإثبات. فإذا قيل : كاد يفعل فهو إثبات مقاربة الفعل. فإذا قيل : لم يكد يفعل : فهو نفي لمقاربة الفعل.

وقالت طائفة أخرى : بل هذا دال على أنه إنما يراها بعد جهد شديد. وفي ذلك إثبات رؤيتها بعد أعظم العسر ، لأجل تلك الظلمات.

قالوا : لأن «كاد» لها شأن ليس لغيرها من الأفعال. فإنها إذا أثبتت نفت ، وإذا نفت أثبتت ، فإذا قلت : ما كدت أصل إليك. فمعناه : وصلت إليك بعد الجهد والشدة : فهذا إثبات للوصول. وإذا قلت : كاد زيد يقوم. فهي نفي لقيامه ، كما قال تعالى : ٧٢ : ١٩ (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) ومنه قوله تعالى : ٦٨ : ٥١ (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) وأنشد بعضهم في ذلك لغزا.

أنحوي هذا العصر : ما هي لفظة

جرت في لسان جرهم وثمود

وإذا استعملت في صورة النفي أثبتت

فإن أثبتت قامت مقام جحود؟

وقالت فرقة ثالثة ، منهم أبو عبد الله بن مالك وغيره : إن استعمالها مثبتة يقتضى نفي خبرها ، كقولك : كاد زيد يقوم : واستعمالها منفية يقتضى

٤٠١

نفيه بطريق الأولى. فهي عنده تنفي الخبر ، سواء كانت منفية أو مثبتة. فلم يكد زيد يقوم أبلغ عنده في النفي من لم يقم. واحتج بأنها إذا نفيت وهي من أفعال المقاربة فقد نفت مقاربة الفعل ، وهو أبلغ من نفيه. وإذا استعملت مثبتة فهي تقتضي مقاربة اسمها لخبرها. وذلك يدل على عدم وقوعه. واعتذر عن مثل قوله تعالى : ٢ : ٧١ (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) وعن مثل قوله : وصلت إليك وما كدت أصل ، وسلمت وما كدت أسلم : بأن هذا وارد على كلامين متباينين أي فعلت كذا بعد أن لم أكن مقاربا له. فالأول يقتضى وجود الفعل. والثاني يقتضى أنه لم يكن مقاربا له ، بل كان آيسا منه. فهما كلامان مقصود بهما أمران متباينان.

وذهبت فرقة رابعة : إلى الفرق بين ماضيها ومستقبلها. فإذا كانت في الإثبات فهي لمقاربة الفعل ، سواء كانت بصفة الماضي أو المستقبل. وإن كانت في طرف النفي فإن كانت بصيغة المستقبل كانت لنفي الفعل ومقاربته نحو قوله (لَمْ يَكَدْ يَراها) وإن كانت بصيغة الماضي فهي تقتضي الإثبات ، نحو قوله (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ).

فهذه أربعة طرق للنحاة في هذه اللفظة.

والصحيح : أنها فعل يقتضى المقاربة. ولها حكم سائر الأفعال ، ونفي الخبر لم يستفد من لفظها ووضعها. فإنها لم توضع لنفيه ، وإنما استفيد من لوازم معناها. فإنها إذا اقتضت مقاربة الفعل لم يكن واقعا ، فيكون منفيا باللزوم.

وأما إذا استعملت منفية فإن كانت في كلام واحد فهي لنفي المقاربة ، كما إذا قلت : لا يكاد البطال يفلح ، ولا يكاد البخيل يسود ، ولا يكاد الجبان يفرح. ونحو ذلك.

وإن كانت في كلامين اقتضت وقوع الفعل بعد أن لم يكن مقاربا. كما قال ابن مالك.

٤٠٢

فهذا التحقيق في أمرها.

والمقصود : أن قوله : (لَمْ يَكَدْ يَراها) إما أن يدل على أنه لا يقارب رؤيتها لشدة الظلمة ، وهو الأظهر. فإذا كان لا يقارب رؤيتها فكيف يراها؟

قال ذو الرمة :

إذا غيّر النأى المحبين ، لم يكد

رسيس الهوى من حب ميّة يبرح

أي لم يقارب البراح. وهو الزوال. فكيف يزول؟.

فشبه سبحانه أعمالهم أولا في فوات نفعها وحصول ضررها عليهم بسراب خداع يخدع رائيه من بعيد ، فإذا جاءه وجد عنده عكس ما أمّله ورجاه.

وشبهها ثانيا في ظلمتها وسوادها لكونها باطلة خالية عن نور الإيمان بظلمات متراكمة في لجج البحر المتلاطم الأمواج ، الذي قد غشيه السحاب من فوقه.

فيا له تشبيها ما أبدعه ، وأشد مطابقة لحال أهل البدع والضلال ، وحال من عبد الله سبحانه وتعالى على خلاف ما بعث به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وترك به كتابه.

وهذا التشبيه هو تشبيه لأعمالهم الباطلة بالمطابقة والتصريح ، ولعلومهم وعقائدهم الفاسدة باللزوم.

وكل واحد من السراب والظلمات مثل لمجموع علومهم وأعمالهم ، فهي سراب لا حاصل لها ، وظلمات لا نور فيها.

وهذا عكس مثل أعمال المؤمن وعلومه التي تلقاها من مشكاة النبوة. فإنها مثل الغيث الذي به حياة البلاد والعباد. ومثل النور الذي به انتفاع أهل الدنيا والآخرة. ولهذا يذكر سبحانه هذين المثلين في القرآن في غير موضع لأوليائه وأعدائه.

٤٠٣

وقال في أعلام الموقعين :

ذكر سبحانه للكافرين مثلين : مثلا بالسراب ، ومثلا بالظلمات المتراكمة وذلك لأن المعرضين عن الهدى والحق نوعان.

أحدهما : من يظن أنه على شيء ، فيتبين له عند انكشاف الحقائق خلاف ما كان يظنه ، وهذه حال أهل الجهل ، وأهل البدع والأهواء ، الذين يظنون أنهم على هدى وعلم. فإذا انكشفت الحقائق تبين لهم أنهم لم يكونوا على شيء ، وأن عقائدهم وأعمالهم التي ترتبت عليها كانت كسراب بقيعة ، يرى في عين الناظر ماء ولا حقيقة له ، وهكذا الأعمال التي لغير الله ، وعلى غير أمره ، يحسبها العامل نافعة له ، وليست كذلك. وهذه الأعمال التي قال الله عزوجل فيها ٢٥ : ٢٣ (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً).

وتأمل جعل الله سبحانه السراب بالبقيعة ـ وهي الأرض القفراء الخالية من البناء ، والشجر والنبات والعالم ـ فجعل السراب أرض قفر لا شيء بها ، والسراب لا حقيقة له ، وذلك مطابق لأعمالهم وقلوبهم التي أقفرت من الإيمان والهدى.

وتأمل ما تحت قوله : (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً) والظمآن : الذي قد اشتد عطشه فرأى السراب فظنه ماء فتبعه ، فلم يجده شيئا ، بل خانه أحوج ما كان إليه. فكذلك هؤلاء لما كانت أعمالهم على غير طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولغير الله جعلت كالسراب ، فرفعت لهم أظمأ ما كانوا وأحوج ما كانوا إليها فلم يجدوا شيئا ، ووجدوا الله سبحانه ثمّ فجازاهم بأعمالهم ، ووفاهم حسابهم.

وفي الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث التجلي يوم القيامة «ثم يؤتى بجهنم ، تعرض كأنها السراب ، فيقال لليهود : ما كنتم تعبدون؟ فيقولون : كنا نعبد عزير ابن الله ، فيقال : كذبتم ، لم يكن لله صاحبة ولا ولد ، فما تريدون؟ فيقولون : نريد أن تسقينا ، فيقال لهم :

٤٠٤

اشربوا ، فيتساقطون في جهنم ، ثم يقال للنصارى : ما كنتم تعبدون؟ فيقولون : كنا نعبد المسيح ابن الله ، فيقال لهم : كذبتم ، لم يكن لله صاحبة ولا ولد ، فما تريدون؟ فيقولون : نريد أن تسقينا ، فيقال لهم : اشربوا ، فيتساقطون» وذكر الحديث.

وهذه حال كل صاحب باطل ، فإنه يخونه باطله أحوج ما كان إليه.

فإن الباطل لا حقيقة له ، وهو كاسمه باطل.

فإذا كان الاعتقاد غير مطابق ولا حق كان متعلقه باطلا ، وكذلك إذا كانت غاية العمل باطلة ، كالعمل لغير الله ، أو على غير أمره ، بطل العمل ببطلان غايته. وتضرر عامله من بطلانه ، وبحصول ضد ما كان يؤمله ، فلم يذهب عليه عمله واعتقاده ، لا له ولا عليه ، بل صار معذبا بفوات نفعه ، وبحصول ضد النفع فلهذا قال الله تعالى : (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ ، وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ).

فهذا مثل الضال الذي يحسب أنه على هدى.

فصل

النوع الثاني : أصحاب مثل الظلمات المتراكمة ، وهم الذين عرفوا الحق والهدى وآثروا عليه ظلمات الباطل والضلال ، فتراكمت عليهم ظلمة الطبع ، وظلمة النفوس وظلمة الجهل ، حيث لم يعملوا بعلمهم ، فصاروا جاهلين ، وظلمة اتباع الغي والهوى فحالهم كحال من كان في بحر لجي ، لا ساحل له ، وقد غشيه موج ، ومن فوق ذلك الموج موج ، ومن فوقه سحاب مظلم ، فهو في ظلمة البحر ، وظلمة الموج ، وظلمة السحاب.

وهذا نظير ما هو فيه من الظلمات التي لم يخرجه الله منها إلى نور الإيمان.

وهذان المثلان بالسراب الذي ظنه مادة الحياة ، وهو الماء ، والظلمات

٤٠٥

المضادة للنور : نظير المثلين اللذين ضربهما الله للمنافقين والمؤمنين ، وهما المثل المائي ، والمثل الناري ، وجعل حظ المؤمنين منهما الحياة والإشراق ، وحظ المنافقين منهما الظلمة المضادة للنور ، والموت المضاد للحياة ، فكذلك الكفار في هذين المثلين. حظهم من الماء السراب الذي يغر الناظر ولا حقيقة له ، وحظهم الظلمات المتراكمة.

وهذا يجوز أن يكون المراد به حال كل طائفة من طوائف الكفار ، وأنهم عدموا مادة الحياة والإضاءة بإعراضهم عن الوحي فيكون المثلان صفتين لموصوف واحد.

ويجوز أن يكون المراد به تنويع أحوال الكفار ، وأن أصحاب المثل الأول هم الذين عملوا على غير علم ولا بصيرة ، بل على جهل وحسن ظن بالأسلاف فكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

وأصحاب المثل الثاني : هم الذين استحبوا الضلالة على الهدى ، وآثروا الباطل على الحق ، وعموا عنه بعد أن أبصروه ، وجحدوه بعد أن عرفوه ، فهذا حال المغضوب عليهم ، والأول حال الضالين.

وحال الطائفتين مخالف لحال المنعم عليهم المذكورين في قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) ـ إلى قوله ـ (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا ، وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ، وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ).

فتضمنت الآيات أوصاف الفرق الثلاثة المنعم عليهم ، وهم أهل النور ، والضالين ، وهم أصحاب السراب ، والمغضوب عليهم : وهم أهل الظلمات المتراكمة ، والله أعلم.

فالمثل الأول من المثلين : لأصحاب العمل الباطل الذي لا ينفع.

والمثل الثاني : لأصحاب العلم الذي لا ينفع ، والاعتقادات الباطلة ،

٤٠٦

وكلاهما مضاد للهدى ودين الحق ، ولهذا مثل حال الفريق الثاني في تلاطم أمواج الشكوك والشبهات والعلوم الفاسدة في قلوبهم : بتلاطم أمواج البحر فيه ، وأنها أمواج متراكمة ، من فوقها سحاب مظلم ، وهكذا أمواج الشكوك والشبهات في قلوبهم المظلمة التي قد تراكمت عليها سحب الغي والهوى والباطل.

فليتدبر اللبيب أحوال الفريقين وليطابق بينهما وبين المثلين : يعرف عظمة القرآن وجلالته ، وأنه تنزيل من حكيم حميد.

وأخبر سبحانه ، أن الموجب لذلك : أنه لم يجعل لهم نورا ، بل تركهم على الظلمة التي خلقوا فيها ، فلم يخرجهم منها إلى النور ، فإنه سبحانه ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور.

وفي المسند من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن الله خلق خلقه في ظلمة ، وألقى عليهم من نوره ، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأه ضل ، فلذلك أقول : جف القلم على علم الله».

فالله سبحانه خلق الخلق في ظلمة ، فمن أراد هدايته جعل له نورا وجوديا يحيي به قلبه وروحه ، كما يحيي بدنه بالروح التي ينفخها فيه.

فهما حياتان : حياة البدن بالروح ، وحياة الروح والقلب بالنور ، ولهذا سمى سبحانه الوحي روحا ، لتوقف الحياة الحقيقية عليه ، كما قال تعالى : ١٦ : ٢ (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وقال ٤٠ : ١٥ (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وقال تعالى : ٤٢ : ٥٢ (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا).

فجعل وحيه روحا ونورا ، فمن لم يحيه بهذا الروح فهو ميت ، ومن لم يجعل له نورا منه فهو في الظلمات وما له من نور.

٤٠٧
٤٠٨

سورة الفرقان

بسم الله الرحمن الرحيم

(أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤))

فشبه أكثر الناس بالأنعام ، والجامع بين النوعين التساوي في عدم قبول الهدى والانقياد له ، وجعل الأكثرين أضل سبيلا من الأنعام ، لأن البهيمة يهديها سائقها فتهتدي ، وتتبع الطريق ، فلا تحيد عنها يمينا ولا شمالا ، والأكثرون يدعوهم الرسل ويهدونهم السبيل فلا يستجيبون ، ولا يهتدون ولا يفرقون بين ما يضرهم وبين ما ينفعهم.

والأنعام تفرق بين ما يضرها من النبات والطريق فتتجنبه ، وما ينفعها فتؤثر.

والله تعالى لم يخلق للأنعام قلوبا تعقل بها ، ولا ألسنة تنطق بها ، وأعطى ذلك لهؤلاء ، ثم لم ينتفعوا بما جعل لهم من العقول والقلوب والألسنة والأسماع والأبصار. فهم أضل من البهائم. فإن من لا يهتدي إلى الرشد وإلى الطريق مع الدليل إليه هو أضل وأسوأ حالا ممن لا يهتدي حيث لا دليل معه.

٤٠٩

قول الله تعالى ذكره : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥))

أخبر تعالى أنه بسط الظل ومدّه ، وأنه جعله متحركا تبعا لحركة الشمس ، ولو شاء لجعله ساكنا لا يتحرك ، إما بسكون المظهر له والدليل عليه ، وإما بسبب آخر.

ثم أخبر أنه قبضه بعد بسطه قبضا يسيرا وهو شيء بعد شيء ، لم يقبضه جملة.

فهذا من أعظم آياته الدالة على عظيم قدرته وكمال حكمته.

فندب سبحانه إلى رؤية صنعته وقدرته وحكمته في هذا الفرد من مخلوقاته. ولو شاء ربنا لجعله لاصقا بأصل ما هو ظل له ، من جبل وبناء وشجر وغيره ، فلم ينتفع به أهله ، فإن كمال الانتفاع به تابع لمده وبسطه وتحوله من مكان إلى مكان.

وفي مده وبسطه ، ثم قبضه شيئا فشيئا : من المصالح والمنافع ما لا يخفى ولا يحصى. فلو كان ساكنا دائما ، أو قبض دفعة واحدة ، لتعطلت مرافق العالم ومصالحه به وبالشمس ، فمدّ الظل وقبضه شيئا فشيئا لازم لحركة الشمس على ما قدرت عليه من مصالح العالم.

وفي دلالة الشمس على الظلال : ما تعرف به أوقات الصلوات ، وما مضى من اليوم ، وما بقي منه.

وفي تحركه وانتقاله : ما يبرد ما أصابه حر الشمس ، وينفع الحيوانات والشجر والنبات ، فهو من الآيات الدالة عليه.

وفي الآية وجه آخر : وهو أنه سبحانه مدّ الظل حين بنى السماء كالقبة المضروبة ، ودحا الأرض من تحتها ، فألقت القبة ظلها عليها. فلو شاء

٤١٠

سبحانه لجعله ساكنا مستقرا في تلك الحال. ثم خلق الشمس ونصبها دليلا على ذلك الظل ، فهو يتبعها في حركتها ، يزيد بها ، وينقص ، ويمتد ويقلص. فهو تابع لها تبعية المدلول لدليله.

وفيها وجه آخر : وهو أن يكون المراد قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه ، وهي الأجرام التي تلقي الظلال ، فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه ، كما ذكر إنشاءه بإنشاء أسبابه.

وقوله : (قَبَضْناهُ إِلَيْنا) كأنه يشعر بذلك.

وقوله : (قَبْضاً يَسِيراً) يشبه قوله : ٥٠ : ٤٤ (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ).

وقوله : (قَبَضْناهُ) بصيغة الماضي لا ينافي ذلك ، كقوله تعالى : ١٦ : ١ (أَتى أَمْرُ اللهِ) والوجه في الآية : هو الأول.

قول الله تعالى ذكره : (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥))

هذا من ألطف خطاب القرآن ، وأشرف معانيه ، وأن المؤمن دائما مع الله على نفسه وهواه وشيطانه وعدو ربه. وهذا معنى كونه من حزب الله وجنده وأوليائه. فهو مع الله على عدوه الداخل فيه والخارج عنه ، يحاربهم ويعاديهم ويبغضهم له سبحانه ، كما يكون خواص الملك معه على حرب أعدائه ، والبعيدون منه فارغون من ذلك غير مهتمين به.

والكافر مع شيطانه ونفسه وهواه على ربه.

وعبارات السلف على هذا تدور. ذكر ابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال : عونا للشيطان على ربه بالعداوة والشرك.

وقال ليث ومجاهد : يظاهر الشيطان على معصية الله ، يعينه عليها وقال زيد بن سلم : ظهيرا أي مواليا.

والمعنى : أنه يوالي عدوه على معصيته والشرك به ، فيكون مع عدوه

٤١١

مغيب له على مساخط ربه ، فالمعية الخاصة التي للمؤمن مع ربه وإلهه قد صارت لهذا الكافر والفاجر مع الشيطان ، ومع نفسه وهواه وملذاته.

ولهذا صدر الآية بقوله : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ) وهذه العبادة : هي الموالاة والمحبة والرضى بمعبوديهم المتضمنة لمعيتهم الخاصة لهم فظاهر أعداء الله على معاداته ومخالفته ، ومساخطه. بخلاف وليه سبحانه. فإنه معه على نفسه وشيطانه وهواه.

وهذا المعنى من كنوز القرآن لمن فهمه وعقله. وبالله التوفيق.

قول الله تعالى ذكره : (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣))

قال مقاتل : إذا وعظوا بالقرآن لم يقعوا عليه صما ، لم يسمعوه ، وعميانا : لم يبصروه ، ولكنهم سمعوا وأبصروا وأيقنوا به.

وقال ابن عباس : لم يكونوا عليها صما وعميانا : بل كانوا خائفين خاشعين.

وقال الكلبي : يخرون عليها سمعا وبصرا.

وقال الفراء : وإذا تلى عليهم القرآن لم يقعدوا على حالهم الأولى ، كأنهم لم يسمعوه. فذلك الخرور ، وسمعت العرب تقول : قعد يشتمني ، كقولك : قام يشتمني وأقبل يشتمني.

والمعنى على ما ذكر : لم يصيروا عندها صما وعميانا.

وقال الزجاج : المعنى إذا تليت عليهم آيات ربهم خروا سجدا وبكيا سامعين ، مبصرين. كما أمروا به.

وقال ابن قتيبة : أي لم يتغافلوا عنها ، كأنهم صم لم يسمعوها ، وعمى لم يروها.

٤١٢

قلت : هاهنا أمران : ذكر الخرور ، وتسليط النفي عليه. وهل هو خرور القلب أو خرور البدن للسجود؟ وهل المعنى : لم يكن خرورهم عن صم وعمه. فلهم عليها حرور بالقلب خضوعا ، أو بالبدن سجودا أو ليس هناك خرور ، وعبر به عن القعود؟.

٤١٣

سورة الشعراء

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره : (إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩))

والسليم : هو السالم ، وجاء على هذا المثال لأنه للصفات ، كالطويل والقصير والظريف. فالسليم : القلب الذي قد صارت السلامة صفة ثابتة له كالعليم والقدير وأيضا فإنه ضد المريض والسليم والعليل.

وقد اختلفت عبارات الناس في معنى القلب السليم.

والأمر الجامع لذلك : أنه الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه ومن كل شبهة تعارض خبره. فسلم من عبودية ما سواه ، وسلم من تحكيم غير رسوله فسلم في محبته مع تحكيمه لرسوله في خوفه ورجائه والتوكل عليه ، والإنابة إليه ، والذل له ، وإيثار مرضاته في كل حال ، والتباعد من سخطه بكل طريق. وهذا هو حقيقة العبودية التي لا تصلح إلا لله وحده.

فالقلب السليم : هو الذي سلم من أن يكون لغير الله فيها شركة بوجه ما ، بل قد خلصت عبوديته لله تعالى : إرادة ، ومحبة وتوكلا ، وإنابة ،

٤١٤

وإخباتا ، وخشية ، ورجاء. وخلص عمله وأمره كله لله ، فإن أحب أحب في الله ، وإن بغض أبغض في الله ، وإن أعطى أعطى لله ، وإن منع منع لله ، ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكم لكل من عدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيعقد قلبه معه عقدا محكما على الائتمام والاقتداء به وحده ، دون كل أحد في الأموال والأعمال : من أقوال القلب ، وهي العقائد. وأقوال اللسان ، وهي الخبر عما في القلب وأعمال القلب وهي الإرادة والمحبة والكراهية وتوابعها ، وأعمال الجوارح ، فيكون الحكم عليه في ذلك كله دقّة وجلّه : لما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلا يتقدم بين يديه بعقيدة ولا قول ولا عمل ، كما قال تعالى : ٤٩ : ١ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) أي لا تقولوا حتى يقول ، ولا تفعلوا حتى يأمر.

قال بعض السلف : ما من فعلة ، وإن صغرت ، إلا ينشر لها ديوانان : لم؟ وكيف؟ أي لم فعلت؟ وكيف فعلت؟.

فالأول سؤال : عن علة الفعل وباعثه وداعيه : هل هو حظ عاجل من حظوظ العامل ، وغرض من أغراض النفس في محبة المدح من الناس وخوف ذمهم؟ أو استجلاب محبوب عاجل أو دفع مكروه عاجل ، أم الباعث على الفعل القيام بحق العبودية لله ، وطلب التودد والتقرب إلى الرب سبحانه ، وابتغاء الوسيلة إليه؟.

ومحل هذا السؤال : أنه هل كان عليك أن تفعل هذا الفعل لمولاك أم فعلته لحظك وهواك؟.

والثاني : سؤالك عن متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك التعبد؟ أي هل كان ذلك العمل بما شرعته لك على لسان رسولي ، أم كان عملا لم أشرعه ولم أرضه؟.

فالأول : سؤال عن الإخلاص. والثاني : عن المتابعة. فإن الله سبحانه لا يقبل عملا إلا بهما.

٤١٥

فطريق التخلص من السؤال الأول : بتجريد الإخلاص. وطريق التخلص من السؤال الثاني : بتحقيق المتابعة. وسلامة القلب من إرادة تعارض الإخلاص ومن هوى يعارض الاتباع. فهذا حقيقة سلامة القلب. فمن سلم قلبه ضمنت له النجاة والسعادة.

قول الله تعالى ذكره : (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨))

وهذه التسوية إنما كانت في الحب والتأليه واتباع ما شرعوا ، لا في الخلق والقدرة والربوبية وهي العدل الذي أخبر به عن الكفار ، كقوله : ٦ : ١ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ).

وأصح القولين : أن المعنى : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ، فيجعلون له عدلا يحبونه ويقدسونه ويعبدونه ، كما يعبدون الله ويعبدونه ، ويعظمون أمره.

وقال في طريق الهجرتين :

وهذه التسوية لم تكن منهم في الأفعال والصفات ، بحيث اعتقدوا أنها مساوية لله سبحانه في أفعاله وصفاته. وإنما كانت تسوية منهم بين الله وبينها في المحبة والعبودية والتعظيم ، مع إقرارهم بالفرق بين الله وبينها. فتصحيح هذه : هو تصحيح شهادة أن لا إله إلّا الله.

فحقيق لمن نصح نفسه ، وأحب سعادتها ونجاتها : أن يتيقظ لهذه المسألة علما وعملا ، وتكون أهم الأشياء عنده ، وأجلّ علومه وأعماله ، فإن الشأن كله فيها ، والمدار كله عليها ، والسؤال يوم القيامة عنها. قال تعالى : ١٥ : ٩٢ ـ ٩٣ (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) قال غير واحد من السلف : هو عن قول «لا إله إلا الله» وهذا حق. فإن السؤال كله عنها ،

٤١٦

وعن أحكامها وحقوقها ، وواجباتها ولوازمها. فلا يسأل أحد قط إلا عنها وعن واجباتها ، ولوازمها وحقوقها. قال أبو العالية : كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون : ما ذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟.

فالسؤال عما ذا كانوا يعبدون : هو السؤال عنها نفسها. والسؤال عما ذا أجابوا المرسلين : سؤال عن الوسيلة والطريق المؤدية إليها : هل سلكوها وأجابوا الرسل لما دعوهم إليها؟ فعاد الأمر كله إليها. وأمر هذا شأنه حقيق بأن تثنى عليه الخناصر ، ويعضّ عليه بالنواجذ ، ويقبض فيه على الجمر. ولا يؤخذ بأطراف الأنامل ، ولا يطلب على فضلة ، بل يجعل هو المطلب الأعظم ، وما سواه إنما يطلب على الفضلة. والله الموفق لا إله غيره ولا رب سواه.

٤١٧
٤١٨

سورة النمل

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩))

هؤلاء هم أعلى الطبقات وأكرمها على الإطلاق. وهم المرسلون. فأكرم الخلق على الله ، وأخصهم بالزلفى لديه : هم رسله. وهم المصطفون من عباده ، الذين سلم عليهم في العالمين ، كما قال تعالى : ٢٧ : ١٨١ (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ). وقال تعالى : ٣٧ : ٧٩ (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) وقال ٣٧ : ١٠٨ ، ١٠٩ (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ. كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) وقال ٣٧ : ١٣٠ (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ).

وقال في بدائع الفوائد :

هل السلام من الله؟ فيكون المأمور به : الحمد والوقف التام عليه ، أو هو داخل في القول والأمر بهما جميعا؟.

فالجواب عنه : أن الكلام يحتمل الأمرين. ويشهد لكل منهما ضرب من الترجيح.

٤١٩

فيرجح كونه داخلا في جملة القول لأمور :

منها : اتصاله به ، وعطفه عليه من غير فاصل. وهذا يقتضى أن يكون فعل القول واقعا على كل واحد منهما. هذا هو الأصل ، ما لم يمنع منه مانع. ولهذا إذا قلت : قل : الحمد لله ، وسبحان الله. فإن التسبيح هنا داخل في القول.

ومنها : أنه إذا كان معطوفا على القول. كان عطف خبر على خبر ، وهو الأصل. ولو كان منقطعا عنه. كان عطف جملة خبرية على جملة الطلب ، وليس بالحسن عطف الخبر على الطلب.

ومنها : أن قوله : «قل الحمد لله ، وسلام على عباده الذين اصطفى» ظاهر في أن المسلم هو القائل : الحمد لله. ولهذا أتى بالضمير بلفظ الغيبة ، ولم يقل : سلام على عبادي.

ويشهد لكون السلام من الله تعالى أمور :

أحدها : مطابقته لنظائره في القرآن ، من سلامه تعالى بنفسه على عباده الذين اصطفى ، كقوله : ٣٧ : ٧٩ (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) وقوله : ٣٧ : ١٠٨ (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) وقوله : ٣٧ : ١٢٠ (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) وقوله : ٣٧ : ١٣٠ (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ).

والثاني : أن عباده الذين اصطفى : هم المرسلون. والله سبحانه يقرن بين تسبيحه لنفسه وسلامه عليهم. وبين حمده لنفسه وسلامه عليهم.

أما الأول : فقال تعالى : ٣٧ : ١٨٠ ، ١٨١ (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) وقد ذكر تنزيهه لنفسه عما لا يليق بجلاله ، ثم سلام على رسله. وفي اقتران السلام عليهم بتسبيحه لنفسه سر عظيم من أسرار القرآن يتضمن الرد على كل مبطل ومبتدع ، فإنه نزه نفسه تنزيها مطلقا ، كما نزه نفسه عما يقول ضلال خلقه فيه ، ثم سلم على

٤٢٠