التفسير القيّم

ابن القيّم الجوزيّة

التفسير القيّم

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الشيخ إبراهيم محمّد رمضان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

وأما قول بعضهم : إنه من النسيان ، وسمي الإنسان إنسانا لنسيانه. وكذلك الناس سموا ناسا لنسيانهم : فليس هذا القول بشيء. وأين النسيان ، الذي مادته ن س ى إلى الناس الذي مادته ن وس؟ وكذلك أين هو من الأنس الذي مادته أن س؟.

وأما إنسان فهو فعلان من أن س. والألف والنون في آخره زائدتان ، لا يجوز فيه غير هذا ألبتة. إذ ليس في كلامهم : أنسن ، حتى يكون إنسانا إفعالا منه. ولا يجوز أن يكون الألف والنون في أوله زائدتين ، إذ ليس في كلامهم : انفعل. فيتعين أنه فعلان من الأنس. إذ ليس في كلامهم : انفعل. فيتعين أنه فعلان من الأنس.

ولو كان مشتقا من نسي لكان نسيانا لا إنسانا.

فإن قلت : فهلا جعلته افعلالا. وأصله إنسيان ، كليلة إضحيان ، ثم حذفت الياء تخفيفا فصار إنسانا؟

قلت : يأبى ذلك عدم افعلال في كلامهم ، وحذف الياء بغير سبب ، ودعوى ما لا نظير له. وذلك كله فاسد ، على أن «الناس» قد قيل : إن أصله الأناس. فحذفت الهمزة. فقيل : الناس. واستدل بقول الشاعر :

إن المنايا يطلعن على الأناس الغافلينا

ولا ريب أن أناسا فعال. ولا يجوز فيه غير ذلك البتة. فإن كان أصل ناس أناسا ، فهو أقوى الأدلة على أنه من أنس ، ويكون الناس كالإنسان سواء في الاشتقاق.

ويكون وزن ناس ـ على هذا القول ـ : عال. لأن المحذوف فاؤه.

وعلى القول الأول : يكون وزنه : فعل. لأنه من النوس.

وعلى القول الضعيف : يكون وزنه : فلع. لأنه من نسى. فنقلت لامه إلى موضع العين ، فصار ناسا وزنه فلعا.

٦٨١

والمقصود : أن «الناس» اسم لبني آدم. فلا يدخل الجن في مسماهم فلا يصح أن يكون (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) بيانا لقوله : (فِي صُدُورِ النَّاسِ) وهذا واضح لا خفاء فيه.

فإن قيل : لا محذور في ذلك. فقد أطلق على الجن اسم الرجال. كما في قوله تعالى : ٧٢ : ٦ (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) فإذا أطلق عليهم اسم الرجال لم يمتنع أن يطلق عليهم اسم : الناس؟.

قلت : هذا هو الذي غرّ من قال : إن الناس اسم للجن والإنس في هذه الآية.

وجواب ذلك : أن اسم الرجال إنما وقع عليهم وقوعا مقيدا في مقابلة ذكر الرجال من الإنس. ولا يلزم من هذا أن يقع اسم الناس والرجال عليهم مطلقا.

وأنت إذا قلت : إنسان من حجارة ، أو رجل من خشب ، ونحو ذلك : لم يلزم من ذلك : وقوع اسم الرجل والإنسان عند الإطلاق على الحجر والخشب.

وأيضا فلا يلزم من إطلاق اسم الرجل على الجني أن يطلق عليه اسم الناس. وذلك لأن الناس والجنة متقابلان. وكذلك الإنس والجن. فالله سبحانه يقابل بين اللفظين كقوله : ٥٥ : ٣٣ (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) وهو كثير في القرآن. وكذلك قوله : (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) يقتضى أنهما متقابلان. فلا يدخل أحدهما في الآخر ، بخلاف الرجال والجن. فإنهما لم يستعملا متقابلين. فلا يقال : الجن والرجال ، كما يقال : الجن والإنس.

وحينئذ فالآية أبين حجة عليهم في أن الجن لا يدخلون في لفظ «الناس» لأنه قابل بين الجنة والناس. فعلم أن أحدهما لا يدخل في الآخر.

٦٨٢

فالصواب : القول الثاني. وهو أن قوله : (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) بيان للذي يوسوس ، وأنهم نوعان إنس وجن. فالجني يوسوس في صدور الإنس ، والإنسي أيضا يوسوس في صدور الإنس.

فالموسوس نوعان : إنس وجن فإن الوسوسة هي الإلقاء الخفي في القلب. وهذا مشترك بين الجن والإنس ، وإن كان إلقاء الإنسي وسوسته إنما هي بواسطة الأذن ، والجني لا يحتاج إلى تلك الواسطة. لأنه يدخل في ابن آدم ، ويجرى منه مجرى الدم. على أن الجني قد يتمثل له ، ويوسوس إليه في أذنه كالإنسي ، كما في البخاري عن عروة عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الملائكة تحدث في العنان ـ والعنان الغمام ـ بالأمر يكون في الأرض ، فتستمع الشياطين الكلمة ، فتقرها في أذن الكاهن ، كما تقر القارورة ، فيزيدون معها مائة كذبة من عند أنفسهم».

فهذه وسوسة وإلقاء من الشيطان بواسطة الأذن.

ونظير اشتراكهما في هذه الوسوسة : اشتراكهما في الوحي الشيطاني.

قال تعالى : ٦ : ١١٢ (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ، يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً).

فالشيطان يوحي إلى الإنسي باطله ، ويوحيه الإنسي إلى إنسى مثله. فشياطين الإنس والجن يشتركان في الوحي الشيطاني. ويشتركان في الوسوسة.

وعلى هذا : تزول تلك الإشكالات والتعسفات التي ارتكبها أصحاب القول الأول. وتدل الآية على الاستعاذة من شر نوعي الشياطين : شياطين الإنس ، وشياطين الجن.

وعلى القول الأول : إنما تكون استعاذة من شر شياطين الجن فقط. فتأمله فإنه بديع جدا.

٦٨٣

فهذا ما من الله به من الكلام على بعض أسرار هاتين السورتين. وله الحمد والمنة. وعسى الله أن يساعد بتفسير على هذا النمط. فما ذلك على الله بعزيز. والحمد لله رب العالمين. ونختم الكلام على السورتين بذكر :

٦٨٤

قاعدة نافعة

فيما يعتصم به العبد من الشيطان ، ويستدفع به شره ، ويحترز

به منه

وذلك عشرة أسباب.

أحدها : الاستعاذة بالله من الشيطان. قال تعالى : ٤١ : ٣٦ (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) وفي موضع آخر ٧ : ٢٠٠ (إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وقد تقدم : أن السمع المراد به هاهنا سمع الإجابة لا مجرد السمع العام.

وتأمل سر القرآن كيف أكد الوصف بالسميع العليم بذكر صيغة «هو» الدال على تأكيد النسبة واختصاصها ، وعرف الوصف بالألف واللام في سورة حم لاقتضاء المقام لهذا التأكيد ، وتركه في سورة الأعراف ، لاستغناء المقام عنه. فإن الأمر بالاستعاذة في سورة حم وقع بعد الأمر بأشق الأشياء على النفس. وهو مقابلة إساءة المسيء بالإحسان إليه. وهذا أمر لا يقدر عليه إلا الصابرون ، ولا يلقاه إلا ذو حظ عظيم. كما قال الله تعالى.

والشيطان لا يدع العبد يفعل هذا. بل يريه أن هذا ذلّ وعجز ، ويسلّط

٦٨٥

عليه عدوه ، فيدعوه إلى الانتقام ، ويزينه له. فإن عجز عنه دعاه إلى الإعراض عنه ، وأن لا يسيء إليه ولا يحسن ، فلا يؤثر الإحسان إلى المسيء إلا من خالفه وآثر الله وما عنده على حظه العاجل. فكان المقام مقام تأكيد وتحريض. فقال فيه : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

وأما في سورة الأعراف : فإنه أمره أن يعرض عن الجاهلين. وليس فيها الأمر بمقابلة إساءتهم بالإحسان ، بل بالإعراض. وهذا سهل على النفوس ، غير مستعصى عليها. فليس حرص الشيطان وسعيه في دفع هذا كحرصه على دفع المقابلة بالإحسان ، فقال : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ. إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

وقد تقدم ذكر الفرق بين هذين الموضعين. وبين قوله في حم المؤمن : ٤٠ : ٥٦ (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).

وفي صحيح البخاري عن عدى بن ثابت عن سليمان بن صرد قال : «كنت جالسا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجلان يستبّان. فأحدهما احمرّ وجهه ، وانتفخت أوداجه. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد. لو قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد».

الحرز الثاني : قراءة هاتين السورتين. فإن لهما تأثيرا عجيبا في الاستعاذة بالله من شره ودفعه والتحصن منه. ولهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما تعوذ المتعوذون بمثلهما» وقد تقدم أنه كان يتعوذ بهما كل ليلة عند النوم ، وأمر عقبة أن يقرأ بهما دبر كل صلاة.

وتقدم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن من قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثا حين يمسي ، وثلاثا حين يصبح ، كفته من كل شيء».

الحرز الثالث : قراءة آية الكرسي. ففي الصحيح من حديث محمد بن

٦٨٦

سيرين عن أبي هريرة قال : «وكّلني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحفظ زكاة رمضان ، فأتى آت ، فجعل يحثو من الطعام. فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فذكر الحديث ، إلى أن قال ـ فقال : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي ، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : صدقك وهو كذوب ، ذاك الشيطان».

وسنذكر إن شاء الله تعالى السر الذي لأجله كان لهذه الآية العظيمة هذا التأثير العظيم في التحرز من الشيطان ، واعتصام قارئها بها في كلام مفرد عليها وعلى أسرارها وكنوزها بعون الله وتأييده.

الحرز الرابع : قراءة سورة البقرة : ففي الصحيح من حديث سهل بن عبد الله عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تجعلوا بيوتكم قبورا. وإن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان».

الحرز الخامس : خاتمة سورة البقرة. فقد ثبت في الصحيح من حديث أبي مسعود الأنصاري قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» (١).

وفي الترمذي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق بألفي عام ، أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ، فلا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان» (٢).

الحرز السادس : أول سورة حم المؤمن إلى قوله : (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) مع آية الكرسي. ففي الترمذي من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر عن ابن أبي مليكة عن زرارة بن مصعب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قرأ حم المؤمن إلى (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) وآية الكرسي حين يصبح

__________________

(١) أخرجه الترمذي برقم ٢٨٨١.

(٢) أخرجه الترمذي بلفظ : قبل أن يخلق الخلق. برقم ٢٨٨٢.

٦٨٧

حفظ بهما حتى يسمي. ومن قرأهما حين يسمي حفظ بهما حتي يصبح» وعبد الرحمن المليكي ، وإن كان قد تكلّم فيه من قبل حفظه. فالحديث له شواهد في قراءة آية الكرسي وهو محتمل على غرابته.

الحرز السابع : «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» مائة مرة.

ففي الصحيحين من حديث سمى مولى أبي بكر عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قال لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد. وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة. كانت له عدل عشر رقاب. وكتبت له مائة حسنة. ومحيت عنه مائة سيئة. وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي. ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من ذلك» فهذا حرز عظيم النفع جليل الفائدة يسير سهل على من يسره الله عليه.

الحرز الثامن : وهو من أنفع الحروز من الشيطان : كثرة ذكر الله عزوجل ففي الترمذي من حديث الحارث الأشعري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات : أن يعمل بها ، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها ، وأنه عاد أن يبطئ بها. فقال عيسى : إن الله أمرك بخمس كلمات لتعمل بها ، وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها. فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم. فقال يحيى : أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي أو أعذب. فجمع الناس في بيت المقدس فامتلأ ، وقعدوا على الشرف. فقال : إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن : أولهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وأن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بذهب أو ورق فقال : هذه داري ، وهذا عملي ، فاعمل وأدّ إليّ. فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده. فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟ وإن الله أمركم بالصلاة. فإذا صليتم فلا تلتفتوا. فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت. وأمركم بالصيام. فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة

٦٨٨

معه صرة فيها مسك ، فكلهم يعجب أو يعجبه ريحها. وإن ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. وأمركم بالصدقة. فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فأوثقوا يده إلى عنقه ، وقدموه ليضربوا عنقه. فقال : أنا أفديه منكم بالقليل والكثير ففدى نفسه منهم. وأمركم أن تذكروا الله. فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا ، حتى أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم. كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن : السمع والطاعة. والجهاد. والهجرة. والجماعة. فإن من فارق الجماعة قيد شبر ، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ، إلا أن يراجع. ومن ادعى دعوى الجاهلية فإنه من جثاء جهنم. فقال رجل : يا رسول الله ، وإن صلى وصام؟ قال : وإن صلى وصام. فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله» قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب صحيح. وقال البخاري : الحارث الأشعري له صحبة. وله غير هذا الحديث.

فقد أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا الحديث أن العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله. وهذا بعينه هو الذي دلت عليه سورة (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) فإنه وصف الشيطان فيها بأنه الخناس الذي إذا ذكر العبد الله انخنس ، وتجمع وانقبض. وإذا غفل عن ذكر الله التقم القلب وألقى إليه الوساوس التي هي مبادئ الشر كله. فما أحرز العبد نفسه من الشيطان بمثل ذكر الله عزوجل.

الحرز التاسع : الوضوء والصلاة. وهذا من أعظم ما يتحرز به منه ، ولا سيما عند توارد قوة الغضب والشهوة. فإنها نار تغلي في قلب ابن آدم.

كما في الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم ، أما رأيتم إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه؟ فمن أحسّ بشيء من ذلك فليلصق بالأرض».

وفي أثر آخر «إن الشيطان خلق من نار ، وإنما تطفأ النار بالماء» فما

٦٨٩

أطفأ العبد جمرة الغضب والشهوة بمثل الوضوء والصلاة. فإنها نار والوضوء يطفئها ، والصلاة إذا وقعت بخشوعها والإقبال فيها على الله أذهبت أثر ذلك كله. وهذا أمر تجربته تغنى عن إقامة الدليل عليه.

الحرز العاشر : إمساك فضول النظر والكلام والطعام ، ومخالطة الناس. فإن الشيطان إنما يتسلط على ابن آدم ، وينال منه غرضه : من هذه الأبواب الأربعة فإن فضول النظر يدعو إلى الاستحسان ، ووقوع صورة المنظور إليه في القلب ، والاشتغال به ، والفكرة في الظفر به.

فمبدأ الفتنة من فضول النظر ، كما في المسند عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «النظرة سهم مسموم من سهام إبليس ، فمن غضّ بصره لله أورثه الله حلاوة يجدها في قلبه إلى يوم يلقاه» أو كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فالحوادث العظام إنما هي كلها من فضول النظر. فكم نظرة أعقبت حسرات لا حسرة؟ كما قال الشاعر :

كل الحوادث مبدأها من النظر

ومعظم النار من مستصغر الشرر

كم نظرة فتكت في قلب صاحبها

فتك السهام بلا قوس ولا وتر؟

وقال الآخر :

وكنت متى أرسلت طرفك رائدا

لقلبك يوما أتعبتك المناظر

رأيت الذي لا كلّه أنت قادر

عليه ، ولا عن بعضه أنت صابر

وقال المتنبي :

وأنا الذي جلب المنية طرفه

فمن المطالب ، والقتيل القاتل؟

ولي من أبيات :

يا راميا بسهام اللحظ مجتهدا

أنت القتيل بما ترمي ، فلا تصب

وباعث الطرف يرتاد الشفاء له

توقّه ، إنه يرتد بالعطف

٦٩٠

ترجو الشفاء بأحداق بها مرض

فهل سمعت ببرء جاء من عطب؟

ومفنيا نفسه في إثر أقبحهم

وصفا للطخ جمال فيه مستلب

وواهبا عمره في مثل ذا سفها

لو كنت تعرف قدر العمر لم تهب

وبائعا طيب عيش ماله خطر

بطيف عيش من الآلام منتهب

غبنت والله غبنا فاحشا فلو اس

ترجعت ذا العقد لم تغبن ولم تخب

وواردا صفو عيش كله كدر

أمامك الورد صفوا ليس بالكذب

وحاطب الليل في الظلماء منتصبا

لكل داهية تدنى من العطب

شاب الصبا والتصابي بعد لم يشب

وضاع وقتك بين اللهو واللعب

وشمس عمرك قد حان الغروب لها

والضي في الأفق الشرقي لم يغب

وفاز بالوصل من قد فاز وانقشعت

عن أفقه ظلمات الليل والسحب

كم ذا التخلف والدنيا قد ارتحلت

ورسل ربك قد وافتك في الطلب

ما في الديار وقد سارت ركائب من

تهواه للصب من سكنى ولا أرب

فأفرش الخد ذياك التراب ، وقل

ما قاله صاحب الأشواق في الحقب

ما ربع مية محفوفا يطوف به

غيلان أشهى له من ربعك الخرب

ولا الخدود وإن أدمين من ضرج

أشهى إلى ناظري من خدك الترب

منازلا كان يهواها ويألفها

أيام كان منال الوصل عن كثب

فكلما جليت تلك الربوع له

يهوى إليها هوى الماء في صبب

أحيا له الشوق تذكار العهود بها

فلو دعا القلب للسلوان لم يجب

هذا وكم منزل في الأرض يألفه

وما له في سواها الدهر من رغب

ما في الخيام أخو وجد يريحك إن

بثثته بعض شأن الحب ، فاغترب

وأسر في غمرات الليل مهتديا

بنفحة الطيب لا بالنار والحطب

وعاد كل أخي جبن ومعجزة

وحارب النفس لا تلقيك في الحرب

وخذ لنفسك نورا تستضيء به

يوم اقتسام الورى الأنوار بالرتب

فالجسر ذو ظلمات ليس يقطعه

إلا بنور ينجي العبد في الكرب

والمقصود : أن فضول النظر أصل البلاء.

٦٩١

وأما فضول الكلام فإنها تفتح للعبد أبوابا من الشر كلها مداخل للشيطان ، فإمساك فضول الكلام يسد عنه تلك الأبواب كلها. وكم من حرب جرتها كلمة واحدة. وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعاذ «وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم» وفي الترمذي «أن رجلا من الأنصار توفّي فقال بعض الصحابة : طوبى له. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فما يدريك؟ فلعله تكلم بما لا يعنيه ، أو بخل بما لا ينقصه».

وأكثر المعاصي : إنما يولدها فضول الكلام والنظر. وهما أوسع مداخل الشيطان. فإن جارحتيهما لا يملان ، ولا يسأمان ، بخلاف شهوة الباطن. فإنه إذا امتلأ لم يبق فيه إرادة للطعام.

وأما العين واللسان فلو تركا لم يفترا من النظر والكلام ، فجنايتهما متسعة الأطراف ، كثيرة الشعب ، عظيمة الآفات.

وكان السلف يحذرون من فضول النظر ، كما يحذرون من فضول الكلام ، كانوا يقولون : ما شيء أحوج إلى طول السجن من اللسان.

وأما فضول الطعام : فهو داع إلى أنواع كثيرة من الشر ، فإنه يحرك الجوارح إلى المعاصي ، ويثقلها عن الطاعات. وحسبك بهذين شرا. فكم من معصية جلبها الشبع وفضول الطعام؟ وكم من طاعة حال دونها؟.

فمن وقى شر بطنه فقد وقى شرا عظيما.

والشيطان أعظم ما يتحكم من الإنسان إذا ملأ بطنه من الطعام. ولهذا جاء في بعض الآثار «ضيقوا مجاري الشيطان بالصوم» وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن».

ولو لم يكن في الامتلأ من الطعام إلا أنه يدعو إلى الغفلة عن ذكر الله عزوجل ، وإذا غفل القلب عن الذكر ساعة واحدة جثم عليه الشيطان ووعده ، ومنّاه وشهّاه ، وهام به في كل واد. فإن النفس إذا شبعت تحركت

٦٩٢

وجالت ، وطافت على أبواب الشهوات ، وإذا جاعت سكنت وخشعت وذلت.

وأما فضول المخالطة : فهي الداء العضال الجالب لكل شر. وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة. وكم زرعت من عداوة. وكم غرست في القلب من حزازات تزول الجبال الراسيات ، وهي في القلوب لا تزول ، ففي فضول المخالطة خسارة الدنيا والآخرة. وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة.

ويجعل الناس فيها أربعة أقسام : متي خلط أحد الأقسام بالآخر ، ولم يميز بينهما دخل عليه الشر.

أحدها : من مخالطته كالغذاء لا يستغنى عنه في اليوم والليلة. فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة ثم إذا احتاج إليه خالطه هكذا على الدوام. وهذا الضرب أعز من الكبريت الأحمر ، وهم العلماء بالله وأمره ، ومكايد عدوه ، وأمراض القلوب وأدويتها الناصحون لله ولكتابه ولرسوله ولخلقه. فهذا الضرب في مخالطتهم الربح كل الربح.

القسم الثاني : من مخالطته كالدواء ، يحتاج إليه عند المرض. فما دمت صحيحا فلا حاجة لك في خلطته ، وهم من لا يستغنى عن مخالطتهم في مصلحة المعاش ، وقيام ما أنت محتاج من أنواع المعاملات والمشاركات والاستشارة والعلاج للأدواء ونحوها فإذا قضيت حاجتك من مخالطة هذا الضرب بقيت مخالطتهم من.

القسم الثالث : وهم من مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه.

فمنهم من مخالطته كالداء العضال ، والمرض المزمن ، وهو من لا تربح عليه في دين ولا دنيا. ومع ذلك فلا بد من أن تخسر عليه الدين والدنيا

٦٩٣

أو أحدهما. فهذا إذا تمكنت مخالطته واتصلت ، فهي مرض الموت المخوف.

ومنهم من مخالطته كوجع الضرس يشتد ضربه عليك ، فإذا فارقك سكن الألم.

ومنهم من مخالطته حمى الروح. وهو الثقيل البغيض العقل ، الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك ، ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك ، ولا يعرف نفسه فيضعها في منزلتها ، بل إن تكلم فكلامه كالعصي تنزل على قلوب السامعين ، مع إعجابه بكلامه وفرحه به. فهو يحدث من فيه كلما تحدث ، ويظن أنه مسك يطيب به المجلس. وإن سكت فأثقل من نصف الرحا العظيمة التي لا يطاق حملها ولا جرها على الأرض. ويذكر عن الشافعي رحمه‌الله أنه قال : ما جلس إلى جانبي ثقيل إلا وجدت الجانب الذي هو فيه أنزل من الجانب الآخر.

ورأيت يوما عند شيخنا قدس الله روحه رجلا من هذا الضرب والشيخ يحمله ، وقد ضعفت القوى عن حمله ، فالتفت إليّ وقال : مجالسة الثقيل حمى الربع. ثم قال : لكن قد أدمنت أرواحنا على الحمى ، فصارت لها عادة. أو كما قال.

وبالجملة : فمخالطة كل مخالف حمى للروح ، فعرضية ولازمة. ومن نكد الدنيا على العبد أن يبتلى بواحد من هذا الضرب. وليس له بد من معاشرته ومخالطته فليعاشره بالمعروف ، حتى يجعل الله له من أمره فرجا ومخرجا.

القسم الرابع : من مخالطته الهلك كله ومخالطته بمنزلة أكل السم. فإن اتفق لآكله ترياق ، وإلا فأحسن الله فيه العزاء. وما أكثر هذا الضرب في الناس لأكثرهم الله. وهم أهل البدع والضلالة ، الصادون عن سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الداعون إلى خلافها ، الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ، فيجعلون البدعة سنة ، والسنة بدعة ، والمعروف منكرا ، والمنكر معروفا.

٦٩٤

إن جردت التوحيد بينهم قالوا : تنقصت جناب الأولياء والصالحين.

وإن جردت المتابعة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : أهدرت الأئمة المتبوعين.

وإن وصفت الله بما وصف به نفسه ، وبما وصفه به رسوله من غير غلوّ ولا تقصير قالوا : أنت من المشبهين.

وإن أمرت بما أمر الله به ورسوله من المعروف ونهيت عما نهى الله عنه ورسوله من المنكر ، قالوا : أنت من المفتنين.

وإن اتبعت السنة وتركت ما خالفها قالوا : أنت من أهل البدع المضلين.

وإن انقطعت إلى الله تعالى ، وخليت بينهم وبين جيفة الدنيا ، قالوا : أنت من الملبسين.

وإن تركت ما أنت عليه واتبعت أهواءهم ، فأنت عند الله من الخاسرين ، وعندهم من المنافقين.

فالحزم كل الحزم : التماس مرضاة الله تعالى ورسوله بإغضابهم ، وأن لا تشتغل بإعتابهم ، ولا باستعتابهم ، ولا تبالي بذمهم ولا بغضهم. فإنه عين كمالك كما قال :

وإذا أتتك مذمتي من ناقص

فهي الشهادة لي بأني فاضل

وقال آخر :

وقد زادني حبا لنفسي أنني

بغيض إلى كل امرئ غير طائل

فمن أيقظ بواب قلبه وحارسه من هذه المداخل الأربعة التي هي أصل بلاء العالم ، وهي فضول النظر ، والكلام ، والطعام ، والمخالطة. واستعمل ما ذكرناه من الأسباب التسعة التي تحرزه من الشيطان. فقد أخذ بنصيبه من التوفيق. وسد على نفسه أبواب جهنم ، وفتح عليها أبواب الرحمة ، وانغمر ظاهره وباطنه ، ويوشك أن يحمد عند الممات عاقبة هذا الدواء. فعند الممات يحمد القوم التقى. وفي الصباح يحمد القوم السّرى. والله الموفق لا رب غيره ، ولا إله سواه.

٦٩٥

فهرس كتاب التفسير القيم

مقدمة الناشر

٥

سورة الفرقان

٤٠٩

سورة الواقعة

٥١٩

مقدمة المحقق

٧

سورة الشعراء

٤١٤

سورة الحديد

٥٣١

سورة الفاتحة

١١

سورة النمل

٤١٩

سورة المجادلة

٥٣٥

سورة البقرة

١١٥

سورة القصص

٤٢٥

سورة الصف

٥٤١

سورة آل عمران

١٧٧

سورة العنكبوت

٤٢٧

سورة الجمعة

٥٤٣

سورة النساء

٢٢٣

سورة الروم

٤٣١

سورة المنافقون

٥٤٤

سورة المائدة

٢٣٣

سورة سبأ

٤٣٥

سورة التحريم

٥٤٧

سورة الأنعام

٢٣٩

سورة فاطر

٤٣٧

سورة ن

٥٥١

سورة الأعراف

٢٤٧

سورة يس

٤٣٩

سورة المزمل

٥٥٥

سورة الأنفال

٢٩٧

سورة الصافات

٤٤٣

سورة المدثر

٥٥٦

سورة يونس

٣١٧

سورة ص

٤٥١

سورة القيامة

٥٥٩

سورة هود

٣٢٣

سورة الزمر

٤٥٧

سورة النبأ

٥٦٠

سورة يوسف

٣٢٧

سورة غافر

٤٦٣

سورة التكوير

٥٦١

سورة الرعد

٣٣٣

سورة حم السجدة

٤٦٥

سورة المطففين

٥٦٣

سورة إبراهيم

٣٣٩

سورة الشورى

٤٦٨

سورة الإنشقاق

٥٦٧

سورة الحجر

٣٤٩

سورة الدخان

٤٧١

سورة الطارق

٥٦٩

سورة النحل

٣٥٣

سورة الجاثية

٤٧٥

سورة الشمس

٥٧١

سورة الإسراء

٣٦٠

سورة الأحقاف

٤٧٦

سورة الضحى

٥٧٣

سورة الكهف

٣٦٥

سورة محمد

٤٧٧

سورة التكاثر

٥٧٥

سورة مريم

٣٦٩

سورة الحجرات

٤٧٨

سورة الكافرون

٥٨٧

سورة طه

٣٧٣

سورة ق

٤٨٣

سورة الفلق

٥٩٩

سورة الأنبياء

٣٨١

سورة الذاريات

٤٨٧

سورة الناس

٦٥٩

سورة الحج

٣٨٣

سورة الطور

٤٩١

قاعدة نافعة : فيما يعتصم به العبد من الشيطان ويستدفع به شره

٦٨٥

سورة المؤمنون

٣٨٧

سورة النجم

٤٩٥

سورة النور

٣٨٩

سورة الرحمن

٥٠١

٦٩٦