التفسير القيّم

ابن القيّم الجوزيّة

التفسير القيّم

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الشيخ إبراهيم محمّد رمضان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

مغفرة للسائل إذا وجد منه بعض الجفوة والأذى لك بسبب رده فيكون عفوه عنه خيرا من أن يتصدق عليه ويؤذيه. هذا على المشهور من القولين في الآية ، والقول الثاني : أن المغفرة من الله أي مغفرة لكم من الله بسبب القول المعروف والرد الجميل خير من صدقة يتبعها أذى ، وفيها قول ثالث أي مغفرة وعفو من السائل إذ ردّ وتعذر المسؤول خير من أن ينال بنفسه صدقة يتبعها أذى. وأوضح الأقوال هو الأول ويليه الثاني والثالث ضعيف جدا لأن الخطاب إنما هو للمنفق المسؤول لا للسائل الآخذ. والمعنى : أن قول المعروف له والتجاوز والعفو خير لك من أن تصدق عليه وتؤذيه ، ثم ختم الآية بصفتين مناسبتين لما تضمنته فقال : (وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) وفيه معنيان.

أحدهما : إن الله غني عنكم لن يناله شيء من صدقاتكم وإنما الحظ الأوفر لكم في الصدقة فنفعها عائد عليكم لا إليه سبحانه وتعالى فكيف يمن بنفقته ويؤذي مع غني الله التام عنها وعن كل ما سواه ومع هذا فهو حليم إذ لم يعاجل المان بالعقوبة. وفي ضمن هذا : الوعيد والتحذير.

والمعنى الثاني : أنه سبحانه وتعالى مع غناه التام من كل وجه فهو الموصوف بالحلم والتجاوز ، والصفح مع عطائه وصدقاته العميمة ، فكيف يؤذي أحدكم بمنه ، وأذاه مع قلة ما يعطي ونزارته وفقره ، ثم

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤)) فتضمنت هذه الآية الإخبار بأن المن والأذى يحبط الصدقة ، وهذا دليل على أن الحسنة قد تحبط بالسيئة مع قوله تعالى : ٤٩ : ٢ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ).

وقد تقدم الكلام على هذه المسألة في أول هذه الرسالة فلا حاجة إلى

١٦١

إعادته وقد يقال : إن المن والأذى المقارن للصدقة هو الذي يبطلها دون أن يلحقها بعدها إلا أنه ليس في اللفظ ما يدل على هذا التقييد والسياق يدل على إبطالها به مطلقا ، وقد يقال : تمثيله بالمرائي الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر يدل على أن المن والأذى المبطل هو المقارن كالرياء وعدم الإيمان فإن الرياء لو تأخر عن العمل لم يبطله ، ويجاب عن هذا بجوابين :

أحدهما : أن التشبيه وقع في الحال التي يحبط بها العمل وهي حال المرائي والمان المؤذي في أن كل واحد منهما يحبط العمل.

الثاني : أن الرياء لا يكون إلا مقارنا للعمل لأنه فعال من الرؤيا التي صاحبها يعمل ليرى الناس عمله فلا يكون متراخيا وهذا بخلاف المن والأذى فإنه يكون مقارنا ومتراخيا وتراخيه أكثر من مقارنته.

وقوله : «كالذي ينفق» إما أن يكون المعنى كإبطال الذي ينفق فيكون قد شبه الأبطال بالأبطال أو المعنى لا تكونوا كالذي ينفق ماله رئاء الناس فيكون تشبيها للمنفق بالمنفق.

وقوله : «فمثله» أي مثل هذا المنفق الذي قد بطل ثواب نفقته كمثل صفوان وهو الحجر الأملس وفيه قولان : أحدهما : أنه واحد. والثاني : جمع صفوة (عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ) وهو المطر الشديد فتركه صلدا وهو الأملس الذي لا شيء عليه من نبات ولا غيره. وهذا من أبلغ الأمثال وأحسنها فإنه يتضمن تشبيه قلب هذا المنفق المرائي الذي لم يصدر إنفاقه عن إيمان بالله واليوم الآخر بالحجر ، لشدته وصلابته وعدم الانتفاع به وتضمن تشبيه ما علق به من أثر الصدقة بالغبار الذي علق بذلك الحجر والوابل الذي أزال ذلك التراب عن الحجر فأذهبه بالمانع الذي أبطل صدقته وأزالها كما يذهب الوابل التراب الذي على الحجر فيتركه صلدا فلا يقدر المنفق على شيء من ثوابه لبطلانه وزواله. وفيه معنى آخر : وهو أن المنفق لغير الله هو في الظاهر عامل عملا يرتب عليه الأجر ويزكو له كما تزكو الحبة التي إذا بذرت في التراب

١٦٢

الطيب أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ولكن وراء هذا الإنفاق مانع يمنع من نموه وزكائه كما أن تحت التراب حجرا يمنع من نبات ما يبذر من الحب فيه. فلا ينبت ولا يخرج شيئا.

(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥)) هذا مثل الذي مصدر نفقته عن الإخلاص والصدق. فإن ابتغاء مرضاته سبحانه هو الإخلاص. والتثبيت من النفس هو الصدق في البذل فإن المنفق يعترضه عند إنفاقه آفتان إن نجا منهما كان مثله ما ذكره في هذه الآية. إحداهما : طلبه بنفقته محمدة أو ثناء أو غرضا من أغراضه الدنيوية. وهذا حال أكثر المنفقين ، والآفة الثانية : ضعف نفسه وتقاعسها وترددها. هل يفعل أم لا؟ فالآفة الأولى : تزول بابتغاء مرضاة الله. والآفة الثانية : تزول بالتثبيت فإن تثبيت النفس تشجعها وتقويتها والأقدام بها على البذل. وهذا هو صدقها وطلب مرضاة الله إرادة وجهه وحده وهذا إخلاصها فإذا كان مصدر الإنفاق عن ذلك كان مثله كجنة ـ وهي البستان الكثير الأشجار ـ فهو مجتنّ بها أي مستتر ليس قاعا فارغا. والجنة بربوة وهو المكان المرتفع ، لأنها أكمل من الجنة التي بالوهاد والحضيض ، لأنها إذا ارتفعت كانت بمدرجة الأهوية والرياح. وكانت ضاحية للشمس وقت طلوعها واستوائها وغروبها. فكانت انضج ثمرا وأطيبه وأحسنه وأكثره ، فإن الثمار تزداد طيبا وزكاء بالرياح والشمس ، بخلاف الثمار التي تنشأ في الضلال ، وإذا كانت الجنة بمكان مرتفع لم يخش عليها إلا من قلة الماء والشراب فقال تعالى : (أَصابَها وابِلٌ) وهو المطر الشديد العظيم القدر ، فأدت ثمرتها وأعطت بركتها ، فأخرجت ثمرتها ضعفي ما يثمر غيرها أو ضعفي ما كانت تثمر بسبب ذلك الوابل. فهذا حال السابقين المقربين : (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ) فهو دون الوابل. فهو يكفيها لكرم منبتها وطيب مغرسها تكتفي في إخراج بركتها بالطل ، وهذا حال الأبرار والمقتصدين في

١٦٣

النفقة ، وهم درجات عند الله فأصحاب الوابل أعلاهم درجة ، وهم الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. وأصحاب الطلب مقتصدهم.

فمثّل حال القسمين وأعمالهم بالجنة على الربوة ، ونفقتهم الكثيرة بالوابل والطل ، وكما أن كل واحد من المطرين يوجب زكاء ثمر الجنة ونحوه بالأضعاف ، فكذلك نفقتهم كثيرة كانت أو قليلة ، بعد أن صدرت عن ابتغاء مرضاة الله والتثبيت من نفوسهم ، فهي زاكية عند الله نامية مضاعفة.

واختلف في الضعفين. فقيل : ضعفا الشيء مثلاه زائدا عليه ، وضعفه مثله.

وقيل : ضعفه مثلاه وضعفاه ثلاثة أمثاله ، وثلاثة أضعافه أربعة أمثاله كلما زاد ضعفا زاد مثلا ، والذي حمل هذا القائل على ذلك فراره من استواء دلالة المفرد والتثنية فإنه رأى ضعف الشيء هو مثله الزائد عليه فإذا زاد إلى المثل صار مثلين ، وهما الضعف. فلو قيل : لها ضعفان. لم يكن فرق بين المفرد والمثنى. فالضعفان عنده مثلان مضافان إلى الأصل ، ويلزم من هذا أن يكون ثلاثة أضعافه ثلاثة أمثاله مضافة إلى الأصل. وهكذا أبدا.

والصواب : أن الضعفين هما مثلان فقط ، الأصل ومثله. وعليه يدل قوله تعالى : (فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ) أي مثلين ، وقوله تعالى : ٣٣ : ٣٠ (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) أي مثلين. ولهذا قال في الحسنات : ٣٣ : ٣١ (نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ).

وأما ما توهموه من استواء دلالة المفرد والتثنية فوهم منشؤه ظن أن الضعف هو المثل مع الأصل ، وليس كذلك ، بل المثل له اعتباران : إن اعتبر وحده فهو ضعف ، وان اعتبر مع نظيره فهما ضعفان. والله أعلم.

واختلف في رافع قوله : (فَطَلٌ).

١٦٤

فقيل : هو مبتدأ خبره محذوف ، أي وطله يكفيها.

وقيل : خبر مبتدؤه محذوف تقديره. فالذي يرويها ويصيبها طل ، والضمير في (أَصابَها) إما أن يرجع إلى الجنة ، أو إلى الربوة ، وهما متلازمان.

ثم قال تعالى : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦)) قال الحسن : هذا مثل ، قلّ والله من يعقله من الناس : شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه أفقر ما كان إلى جنته. وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا.

وفي صحيح البخاري عن عبيد بن عمير قال : قال عمر يوما لأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيم هم يرون هذه الآية نزلت : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ) الآية؟ قالوا : الله أعلم. فغضب عمر وقال : قولوا نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس : في نفسي شيء يا أمير المؤمنين. فقال عمر : قل يا ابن أخي ، ولا تحقر بنفسك. قال ابن عباس : ضربت مثلا لعمل. قال عمر : أي عمل؟ قال ابن عباس : لعمل رجل عمل بطاعة الله ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله.

فقوله تعالى : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) أخرجه مخرج الاستفهام الانكاري ، وهو أبلغ من النفي والنهي وألطف موقعا ، كما ترى غيرك يفعل فعلا قبيحا ، فتقول له : لا يفعل هذا عاقل ، أيفعل هذا من يخاف الله والدار الآخرة؟

وقال تعالى : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) بلفظ الواحد لتضمنه معنى الإنكار العام ، كما تقول أيفعل هذا أحد فيه خير؟ وهو أبلغ في الإنكار من أن يقول : أيودون. وقوله : (أَيَوَدُّ) أبلغ في الإنكار مما لو قيل : أيريد ، لأن محبة هذا الحال المذكورة وتمنيها أقبح وأنكر من مجرد إرادتها.

١٦٥

وقوله تعالى : (أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) خص هذين النوعين من الثمار بالذكر لأنهما أشرف أنواع الثمار ، وأكثرها نفعا فإن منهما القوت والغذاء. والدواء والشراب والفاكهة. والحلو والحامض ، ويؤكلان رطبا ، ويابسا ، ومنافعهما كثيرة جدا.

وقد اختلف في الأنفع والأفضل منهما.

فرجحت طائفة النخيل ، ورجحت طائفة العنب ، وذكرت كل طائفة حججا لقولها ، فذكرناها في غير هذا الموضع.

وفصل الخطاب : أن هذا يختلف باختلاف البلاد. فإن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة بأن سلطان أحدهما لا يحل حيث يحل سلطان الآخر. فالأرض التي يكون فيها سلطان النخيل لا يكون فيها العنب بها طائلا ولا كثيرا. لأنه إنما يخرج في الأرض الرخوة اللينة المعتدلة غير السخية ، فينمو فيها ويكثر ، وأما النخيل فنموه وكثرته في الأرض الحارة السبخة ، وهي لا تناسب العنب. فالنخل في أرضه وموضعه أنفع وأفضل من العنب فيها. والعنب في أرضه ومعدنه أفضل من النخل فيها. والله أعلم.

والمقصود : أن هذين النوعين هما أفضل أنواع الثمار وأكرمها. فالجنة المشتملة عليهما أفضل الجنان ، ومع هذا فالأنهار تجري تحت هذه الجنة. وذلك أكمل لها وأعظم في قدرها ، ومع ذلك فلم يعدم شيئا من أنواع الثمار المشتهاة ، بل فيها من كل الثمرات ، ولكن معظمها ومقصودها النخيل والأعناب. فلا تنافي بين كونها من نخيل وأعناب ، و (فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ).

ونظير هذا قوله تعالى : ١٨ : ٣٢ ، ٣٣ (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ ، وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ ، وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً ، كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها ، وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ).

١٦٦

وقد قيل : إن الثمار في آية الكهف وفي آية البقرة المراد بها المنافع والأموال والسياق يدل على أنها الثمار المعروفة لا غيرها. لقوله في البقرة : (لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) ثم قال تعالى : (فَأَصابَها) أي الجنة (إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ) وفي الكهف : (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها ، وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) وما ذلك إلا ثمار الجنة. ثم قال تعالى : (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ) هذا إشارة إلى شدة حاجته إلى جنته ، وتعلق قلبه بها من وجوه.

أحدها : أنه قد كبر سنه عن الكسب والتجارة ونحوها.

الثاني : أن ابن آدم عند كبر سنه يشتد حرصه.

الثالث : أن له ذرية ، فهو حريص على بقاء جنته لحاجته وحاجة ذريته.

الرابع : أنهم ضعفاء ، فهم كلّ عليه ، لا ينفعونه بقوتهم وتصرفهم الخامس : أن نفقتهم عليه ، لضعفهم وعجزهم.

وهذا نهاية ما يكون من تعلق القلب بهذه الجنة ، لخطرها في نفسها ، وشدة حاجته وذريته إليها. فإذا تصورت هذا الحال وهذه الحاجة ، فكيف تكون مصيبة هذا الرجل إذا أصاب جنته إعصار ، وهو الريح التي تستدير في الأرض ثم ترتفع في طبقات الجو كالعمود وفيها نار ، مرت بتلك الجنة فأحرقتها ، وصيرتها رمادا ، فصدق والله الحسن ـ هذا مثل قل من يعقله من الناس ـ ولهذا نبه الله سبحانه وتعالى على عظم هذا المثل ، وحدا القلوب إلى التفكر فيه لشدة حاجتها إليه فقال تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ).

فلو فكر العاقل في هذا المثل وجعله قبلة قلبه لكفاه وشفاه فكذلك العبد إذا عمل بطاعة الله ثم أتبعها بما يبطلها ويحرقها من معاصي الله كانت

١٦٧

كالإعصار ذي النار المحرق للجنة التي غرسها بطاعته وعمله الصالح.

فلو تصور العامل بمعصية الله بعد طاعته هذا المعنى حق تصوره وتأمله كما ينبغي لما سولت له نفسه والله إحراق أعماله الصالحة وإضاعتها ، ولكن لا بد أن يغيب عنه علمه عند المعصية. ولهذا استحق اسم الجهل. فكل من عصى الله فهو جاهل.

فإن قيل : الواو في قوله تعالى : (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ) واو الحال أم واو العطف؟ وإذا كانت للعطف فعلام عطفت ما بعدها؟.

قلت : فيه وجهان.

أحدهما : أنها واو الحال ، اختاره الزمخشري ، والمعنى : أيود أحدكم أن تكون له جنة شأنها كذا وكذا في حال كبره وضعف ذريته.

والثاني : أن تكون للعطف على المعنى. فإن فعل التمني وهو قوله : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) لطلب الماضي كثيرا. فكان المعنى : أيود لو كانت له جنة من نخيل وأعناب وأصابه الكبر فجرى عليها ما ذكر.

وتأمل كيف ضرب سبحانه المثل للمنفق المرائي الذي لم يصدر إنفاقه عن الإيمان : بالصفوان الذي عليه التراب ، فإنه لم ينبت شيئا أصلا ، بل ذهب بذره ضائعا لعدم إيمانه وإخلاصه. ثم ضرب المثل لمن عمل بطاعة الله مخلصا بنيته لله ، ثم عرض له ما أبطل ثوابه : بالجنة التي هي من أحسن الجنان وأطيبها وأزهرها. ثم سلط عليها الأعصار الناري فأحرقها. فإن هذا نبت له شيء وأثمر له عمله ، ثم أحرقه ، والأول لم يحصل له شيء يدركه الحريق.

فتبارك من جعل كلامه حياة للقلوب وشفاء للصدور وهدى ورحمة للمؤمنين.

ثم قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا

١٦٨

لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧)) أضاف سبحانه الكسب إليهم ، وإن كان هو الخالق لأفعالهم ، لأنه فعلهم القائم بهم ، وأسند الإخراج إليه لأنه ليس فعلا لهم ، ولا هو مقدورا لهم ، فأضاف مقدورهم إليهم وأضاف مفعوله الذي لا قدرة عليه إليه. ففي ضمنه الرد على من سوى بين النوعين وسلب قدرة العبد وفعله وتأثيره عنه بالكلية. وخص سبحانه هذين النوعين وهما الخارج من الأرض والحاصل بكسب التجارة دون غيرهما من المواشي : إما بحسب الواقع فإنهما كانا أغلب أموال القوم إذ ذاك. فإن المهاجرين كانوا أصحاب تجارة وكسب ، والأنصار كانوا أصحاب حرث وزرع. فخص هذين النوعين بالذكر لحاجتهم إلى بيان حكمهما وعموم وجودهما ، وإما لأنهما أصول الأموال وما عداهما فعنهما يكون ومنهما ينشأ فإن الكسب يدخل فيه التجارات كلها على اختلاف أصنافها وأنواعها من الملابس والمطاعم والرقيق والحيوانات والآلات والأمتعة وسائر ما تتعلق به التجارة ، والخارج من الأرض يتناول حبها وثمارها وركازها ومعدنها ، وهذان هما أصول الأموال وأغلبها على أهل الأرض ، فكان ذكرهما أهم.

ثم قال : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) فنهى سبحانه عن قصد إخراج الرديء ، كما هو عادة أكثر النفوس : تمسك الجيد لها وتخرج الرديء للفقير.

ونهيه سبحانه عن قصد ذلك وتيممه فيه ما يشبه العذر لمن فعل ذلك لا عن قصد وتيمم ، بل عن اتفاق إذ كان هو الحاضر إذ ذاك ، أو كان ماله من جنسه. فإن هذا لم يتيمم الخبيث بل تيمم إخراج بعض ما من الله به عليه.

وموقع قوله : (مِنْهُ تُنْفِقُونَ) موقع الحال أي لا تقصدوه منفقين منه.

ثم قال : (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) أي لو كنتم أنتم المستحقون له وبذل لكم لم تأخذوه في حقوقكم إلا بأن تتسامحوا في أخذه وتترخصوا فيه ، من قولهم : أغمض فلان عن بعض حقه. ويقال للبائع :

١٦٩

اغمض ، أي لا تستقص. كأنك لا تبصر. وحقيقته : من إغماض الجفن ، فكأن الرائي لكراهته له لا يملأ عينه منه بل يغمض من بصره ويغمض عنه بعض نظره بغضا ، ومنه قول الشاعر :

لم يفتنا بالوتر قوم وللضي

م رجال يرضون بالإغماض

وفيه معنيان :

أحدهما : كيف تبذلون لله وتهدون له ما لا ترضون ببذله لكم ولا يرضى أحدكم من صاحبه أن يهديه له؟ والله أحق من يختار له خيار الأشياء وأنفسها.

والثاني : كيف تجعلون له ما تكرهون لأنفسكم ، وهو سبحانه طيب لا يقبل إلا طيبا؟.

ثم ختم الآيتين بصفتين يقتضيهما سياقهما ، فقال : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) فغناه وحمده يأبيان قبوله الرديء ، فإن قابل الرديء الخبيث إما أن يقبله لحاجته إليه ، وإما أن نفسه لا تأباه لعدم كمالها وشرفها ، وأما الغني عنه الشريف القدر الكامل الأوصاف فإنه لا يقبله.

ثم قال تعالى : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨))

هذه الآية تتضمن الحض على الإنفاق والحث عليه بأبلغ الألفاظ وأحسن المعاني. فإنها اشتملت على بيان الداعي إلى البخل ، والداعي إلى البذل والإنفاق وبيان ما يدعو إليه داعي البخل ، وما يدعو إليه داعي الإنفاق ، وبيان ما يدعو به داعي الأمرين.

فأخبر سبحانه أن الذي يدعوهم إلى البخل والشح هو الشيطان وأخبر أن دعوته هي بما يعدهم به ويخوفهم من الفقر إن أنفقوا أموالهم. وهذا هو الداعي الغالب على الخلق. فإن أحدهم يهم بالصدقة والبذل فيجد في قلبه

١٧٠

داعيا يقول له : متى أخرجت هذا دعتك الحاجة إليه ، وافتقرت إليه بعد إخراجه ، وإمساكه خير لك ، حتى لا تبقى مثل الفقير ، فغناك خير لك من غناه. فإذا صور له هذه الصورة أمره بالفحشاء وهي البخل الذي هو من أقبح الفواحش. وهذا إجماع من المفسرين : أن الفحشاء ، هنا البخل. فهذا وعده وهذا أمره. وهو الكاذب في وعده ، الغار الفاجر في أمره. فالمستجيب لدعوته مغرور مخدوع مغبون. فإنه يدلي من يدعوه بغروره. ثم يورده شر الموارد ، كما قيل :

دلاهم بغرور ، ثم أوردهم

إن الخبيث لمن والاه غرار

هذا وإن وعده له الفقر ليس شفقة عليه ، ولا نصيحة له ، كما ينصح الرجل أخاه ولا محبة في بقائه غنيا ، بل لا شيء إليه من فقره وحاجته. وإنما وعده له بالفقر وأمره إياه بالبخل ليسيء ظنه بربه ، ويترك ما يحبه من الإنفاق لوجهه ، فستوجب منه الحرمان.

وأما الله سبحانه إنه يعد عبده مغفرة منه لذنوبه ، وفضلا بأن يخلف عليه أكثر مما أنفق وأضعافه أما في الدنيا أو في الدنيا والآخرة.

فهذا وعد ، الله وذاك وعد الشيطان. فلينظر البخيل والمنفق أيّ الوعدين هو أوثق؟ وإلى أيهما يطمئن قلبه وتسكن نفسه؟ والله يوفق من يشاء ويخذل من يشاء. وهو الواسع العليم.

وتأمل كيف ختم هذه الآية بهذين الأسمين (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) فإنه واسع العطاء عليم بمن يستحق فضله ومن يستحق عدله ، فيعطي هذا بفضله ، ويمنع هذا بعدله. وهو بكل شيء عليم.

فتأمل هذه الآيات ولا تستطل بسط الكلام فيها فإن لها شأنا لا يعقله إلا من عقل عن الله خطابه وفهم مراده ٢٩ : ٤٣ (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ).

١٧١

وتأمل ختم هذه السورة ، التي هي سنام القرآن بأحكام الأموال وأقسام الأغنياء وأحوالهم. وكيف قسمهم إلى ثلاثة أقسام : محسن ، وهم المتصدقون. فذكر جزاءهم ومضاعفته ، ومالهم في قرض أموالهم للمليء الوفي سبحانه ، ثم حذرهم مما يبطل ثواب صدقاتهم ويحرقها بعد استوائها وكمالها من المن والأذى ، وحذرهم مما يمنع ترتب أثرها عليها ابتداء من الرياء. ثم أمرهم أن يتقربوا إليه بأطيبها ، ولا يتيمموا أردأها وخبيثها. ثم حذرهم من الاستجابة لداعي البخل والفحش ، وأخبر أن استجابتهم لدعوته سبحانه وثقتهم بوعده أولي بهم. وأخبر أن هذا من حكمته التي يؤتيها من يشاء من عباده ، وأن من أوتيها فقد أوتى خيرا كثيرا : أوتي ما هو خير وأفضل من الدنيا كلها ، لأنه سبحانه وصف الدنيا بالقلة ، فقال تعالى : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) وقال تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) فدل على أن ما يؤتيه الله عبده من حكمته خير له من الدنيا وما عليها ، ولا يعقل هذا كل أحد ، بل لا يعقله إلا من له لب وعقل زكي. فقال تعالى : (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ).

ثم أخبر أن كل ما أنفقوه من نفقة أو تقربوا به إليه من نذر فإنه يعلمه ، فلا يضيع لديه ، بل يعلم ما كان منه لوجهه فيتولى هو سبحانه مجازاته من واسع فضله ويكل جزاء من عمل لغيره إلى من عمل له فإنه ظالم لنفسه وما له من نصير.

ثم أخبر سبحانه عن أحوال المتصدقين لوجهه في صدقاتهم ، وأنه يثيبهم عليها ، إن أبدوها أو كتموها بعد أن تكون خالصة ، لوجهه فقال : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) أي فنعم شيء هي ، وهذا مدح لها موصوفة بكونها ظاهرة بادية ، فلا يتوهم مبديها بطلان أثره وثوابه ، فيمنعه ذلك من إخراجها ، وينتظر بها الإخفاء ، فتفوت أو تعترضه الموانع ويحال بينه وبين قلبه ، أو بينه وبين إخراجها. فلا يؤخر صدقته العلانية بعد حضور وقتها إلى

١٧٢

وقت السر ، وهذه كانت حال الصحابة.

ثم قال : (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) فأخبر أن إعطاءها للفقير في خفية خير للمنفق من إظهارها وإعلانها ..

وتأمل تقييده تعالى الإخفاء بإيتاء الفقراء خاصة ، ولم يقل : وإن تخفوها فهو خير لكم ، فإن من الصدقة ما لم يكن إخفاؤه كتجهيز جيش ، وبناء قنطرة ، وإجراء نهر أو غير ذلك ، وأما إيتاؤها الفقراء ففي إخفائها من الفوائد : الستر عليه ، وعدم تخجيله بين الناس ، وإقامته مقام الفضيحة ، وأن يرى الناس أن يده هي اليد السفلى ، وأنه لا شيء له فيزهدون في معاملته ومعاوضته. وهذا قدر زائد عن الإحسان إليه بمجرد الصدقة ، مع تضمنه الإخلاص ، وعدم المراءاة وطلب المحمدة من الناس ، وكان إخفاؤها للفقير خيرا من إظهارها بين الناس ، ومن هذا مدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صدقة السر وأثنى على فاعلها ، وأخبر أنه أحد السبعة الذين هم في ظل عرش الرحمن يوم القيامة. ولهذا جعله سبحانه خيرا للمنفق ، وأخبر أنه يكفر عنه بذلك الإنفاق من سيئاته. ولا يخفي عليه سبحانه أعمالكم ولا نياتكم. فإنه بما تعملون خبير.

ثم أخبر أن هذا الإنفاق إنما نفعه لأنفسهم ، يعود عليهم أحوج ما كانوا إليه فكيف يبخل أحدكم عن نفسه بما نفعه مختص بها عائد إليها؟ وإن نفقة المؤمنين إنما تكون ابتغاء وجهه خالصا. لأنها صادرة عن إيمانهم ، وإن نفقتهم ترجع إليهم وافية كاملة. ولا يظلم منها مثقال ذرة.

وصدر هذا الكلام بأن الله هو الهادي الموفق لمعاملته وإيثار مرضاته وأنه ليس على رسوله هداهم. بل عليه إبلاغهم. وهو سبحانه الذي يوفق من يشاء لمرضاته.

ثم ذكر المصرف الذي توضع فيه الصدقة ، فقال تعالى : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ

١٧٣

الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً)

فوصفهم بست صفات :

إحداها : الفقر.

الثانية : حبسهم أنفسهم في سبيله تعالى وجهاد أعدائه ، ونصر دينه ، وأصل الحصر : المنع ، فمنعوا أنفسهم من تصرفها في أشغال الدنيا ، وقصروها على بذلها لله وفي سبيله.

الثالثة : عجزهم عن الأسفار للتكسب ، والضرب في الأرض : هو السفر. قال تعالى : ٧٣ : ٢٠ (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) وقال تعالى : ٤ : ١٠١ (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ).

الرابعة : شدة تعففهم. وهو حسن صبرهم ، وإظهارهم الغنى. يحسبهم الجاهل أغنياء من تعففهم ، وعدم تعرضهم وكتمانهم حاجتهم.

الخامسة : أنهم يعرفون بسيماهم. وهي العلامة الدالة على حالتهم التي وصفهم الله بها. وهذا لا ينافي حسبان الجاهل أنهم أغنياء ، لأن الجاهل له ظاهر الأمر ، والعارف : هو المتوسم المتفرس الذي يعرف الناس بسيماهم. فالمتوسمون خواص المؤمنين ، كما قال تعالى ١٥ : ٧٥ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ).

السادسة : تركهم مسألة الناس ، فلا يسألونهم إلحافا والإلحاف : هو الإلحاح والنفي متسلط عليهما معا ، أي لا يسألون ولا يلحفون. فليس يقع منهم سؤال يكون بسببه إلحاف. وهذا كقوله* على لا حب لا يهتدي لمناره* أي ليس فيه منار فيهتدي به. وفيه كالتنبيه على أن المذموم من السؤال : هو سؤال الإلحاف. فأما السؤال بقدر الضرورة من غير إلحاف فالأفضل تركه ولا يحرم.

١٧٤

فهذه ست صفات للمستحقين للصدقة فألغاها أكثر الناس ولحظوا منها ظاهر الفقر ، وزيه من غير حقيقته. وأما سائر الصفات المذكورة فعزيز أهلها ، ومن يعرفهم أعز. والله يختص بتوفيقه من يشاء فهؤلاء هم المحسنون في أموالهم.

القسم الثاني : الظالمون ، وهم ضد هؤلاء ، وهم الذين يذبحون المحتاج المضطر. فإذا دعته الحاجة إليهم لم ينفّسوا كربته إلا بزيادة على ما يبذلونه له. وهم أهل الربا. فذكرهم تعالى بعد هذا فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨))

فصدر الآية بالأمر بتقواه المضادة للربا ، وأمر بترك ما بقي من الربا بعد نزول الآية ، وعفا لهم عما قبضوه به قبل التحريم ، ولو لا ذلك لردوا ما قبضوه به قبل التحريم ، وعلق هذا الامتثال على وجود الإيمان منهم. والمعلق على شرط منتف عند انتفائه. ثم أكد عليهم التحريم بأغلظ شيء وأشده. وهي محاربة المرابي لله ورسوله ، (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) ففي ضمن هذا الوعيد : أن المرابي محارب لله ورسوله ، قد آذنه الله بحربه. ولم يجيء هذا الوعيد في كبيرة سوى الربا ، وقطع الطريق ، والسعي في الأرض بالفساد ، لأن كل واحد منهما مفسد في الأرض قاطع الطريق على الناس : هذا بقهره لهم وتسلطه عليهم. وهذا بامتناعه من تفريح كرباتهم إلا بتحميلهم كربات أشد منها. فأخبر عن قطاع الطريق بأنهم يحاربون الله ورسوله. وأذن هؤلاء إن لم يتركوا الربا بحربه وحرب رسوله.

ثم قال : (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) يعني إن تركتم الربا وتبتم إلى الله منه ، وقد عاقدتم عليه ، فإنما لكم رؤوس أموالكم لا تزدادون عليها فتظلمون الآخذ. ولا تنقصون منها فيظلمكم من أخذها. فإن كان هذا القابض معسرا فالواجب إنظاره إلى ميسرة. وإن تصدقتم عليه وأبرأتموه فهو

١٧٥

أفضل لكم وخير لكم. فإن أبت نفوسكم وشحّت بالعدل الواجب أو الفضل المندوب فذكروها يوما ترجعون فيه إلى الله وتلقون ربكم ، فيوفيكم جزاء أعمالكم أحوج ما أنتم إليه.

فذكر سبحانه المحسن وهو المتصدق ثم عقبه بالظالم وهو المرابي.

ثم ذكر العادل في آية التداين فقال تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) الآية ، ولو لا أن هذه الآية تستدعي سفرا وحدها لذكرت بعض تفسيرها.

والغرض إنما هو التنبيه والإشارة ، وقد ذكر أيضا العادل ، وهو آخذ رأس ماله من غريمه بلا زيادة ولا نقصان.

ثم ختم السورة بهذه الخاتمة العظيمة ، التي هي من كنز تحت عرشه. والشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه ، وفيها من العلوم والمعارف وقواعد الإسلام وأصول الإيمان ، ومقامات الإحسان ما يستدعي بيانه كتابا مفردا.

١٧٦

سورة آل عمران

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨))

تضمنت هذه الآية الكريمة : إثبات حقيقة التوحيد ، والرد على جميع هذه الطوائف ـ التي فصل عقائدها الباطلة قبل هذا ـ والشهادة ببطلان أقوالهم ، ومذاهبهم. وهذا إنما يتبين بعد فهم الآية ، ببيان ما تضمنته من المعارف الإلهية ، والحقائق الإيمانية.

فتضمنت هذه الآية : أجل شهادة وأعظمها ، وأعدلها وأصدقها ؛ من أجلّ شاهد ، بأجل مشهود.

وعبارات السلف في «شهد» تدور على : الحكم والقضاء ، والإعلام والبيان والإخبار.

قال مجاهد : حكم وقضى. وقال الزجاج : بيّن. وقالت طائفة : أعلم وأخبر.

وهذه الأقوال كلها حق ، لا تنافي بينها. فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد ، وخبره وقوله : وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه. فلها أربع مراتب :

١٧٧

فأول مراتبها : علم ومعرفة ، واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته.

وثانيها : تكلمه بذلك ونطقه به. وإن لم يعلم به غيره ، بل يتكلم هو به مع نفسه ، ويذكرها وينطق بها ، أو يكتبها.

وثالثها : أن يعلم غيره بما شهد به ، وبخبره به ، ويبينه له.

ورابعها : أن يلزمه بمضمونها ، ويأمره به.

فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية ، والقيام بالقسط : تضمنت هذه المراتب الأربع : علم الله سبحانه بذلك ، وتكلمه به ، وإعلامه ، وإخباره خلقه به ، وأمرهم وإلزامهم به.

أما مرتبة العلم : فإن الشهادة بالحق تتضمنها ضرورة ، وإلا كان الشاهد شاهدا بما لا علم له به. قال الله تعالى : ٤٣ : ٨٦ (شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «على مثلها فاشهد» وأشار إلى الشمس.

وأما مرتبة التكلم والخبر : فمن تكلم بشيء وأخبر به فقد شهد به. وإن لم يتلفظ بالشهادة. قال تعالى : ٦ : ١٥٠ (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا. فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) وقال تعالى : ٤٣ : ١٩ (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ، أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) فجعل ذلك منهم شهادة ، وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة ، ولم يؤدوها عند غيرهم. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله» (١) وشهادة الزور : هي قول الزور ، كما قال تعالى : ٢٢ : ٣١ (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ : حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ) وعند هذه الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله» فسمى قول الزور شهادة. وسمى الله تعالى إقرار العبد على نفسه شهادة ، قال تعالى :

__________________

(١) أخرجه الترمذي عن خريم بن فاتك بلفظ : عدلت شهادة الزور بالشرك .. برقم ٢٣٠٠.

١٧٨

٤ : ١٣٥ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ، شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ). فشهادة المرء على نفسه : هي إقرار المرء على نفسه. وفي الحديث الصحيح في قصة ما عز «فلما شهد على نفسه أربع مرات رجمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وقال تعالى : ٧ : ٣٧ (قالُوا : شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا ، وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا. وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ).

وهذا وأضعافه يدل على أن الشاهد عند الحاكم وغيره لا يشترط في قبول شهادته أن يتلفظ بلفظ الشهادة ، كما هو مذهب مالك وأهل المدينة ، وظاهر كلام أحمد. ولا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين اشتراط ذلك. وقد قال ابن عباس : «شهد عندي رجال مرضيّون ـ وأرضاهم عندي عمر ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن الصلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس ، وبعد العصر حتى تغرب الشمس» ومعلوم أنهم لم يتلفظوا بلفظ الشهادة ، والعشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسلم بالجنة : لم يتلفظ في شهادته لهم بلفظ الشهادة ، بل قال : «أبو بكر في الجنة ، وعمر في الجنة ، وعثمان في الجنة ، وعلي في الجنة ـ الحديث».

وأجمع المسلمون على أن الكافر إذا قال : «لا إله إلا الله محمد رسول الله» فقد دخل في الإسلام ، وشهد شهادة الحق ، ولم يتوقف إسلامه على لفظ الشهادة. وقد دخل في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حتى يشهدوا : أن لا إله إلا الله» وفي اللفظ الآخر : «حتى يقولوا : لا إله إلا الله» (١) فدل على أن قولهم : «لا إله إلا الله» شهادة منهم ، وهذا أكثر من أن تذكر شواهده في الكتاب والسنة. فليس مع من اشترط لفظ الشهادة دليل يعتمد عليه. والله أعلم.

وأما مرتبة الإعلام والإخبار : فنوعان : إعلام بالقول ، وإعلام بالفعل.

__________________

(١) أورده الترمذي عن أبي هريرة : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله ..» الحديث. برقم ٢٦٠٦ و ٢٦٠٧.

وأخرجه الحاكم في المستدرك ١ / ٣٨٧ و ٢ / ٥٢٢.

١٧٩

وهذا شأن كل معلّم لغيره بأمر : تارة يعلمه بقوله ، وتارة بفعله. ولهذا كان من جعل دارا مسجدا وفتح بابها لكل من دخل إليها ، وأذن بالصلاة فيها ـ معلما أنها وقف ، وإن لم يتلفظ به. وكذلك من وجد متقربا إلى غيره بأنواع المسار ـ معلما له ولغيره : أنه يحبه ، وإن لم يتلفظ بقوله. وكذلك بالعكس.

وكذلك شهادة الرب جل جلاله وبيانه وإعلامه : يكون بقوله تارة ، وبفعله تارة أخرى.

فالقول : هو ما أرسل به رسله ، وأنزل به كتبه ، مما قد علم بالاضطرار : أن جميع الرسل أخبروا عن الله أنه شهد لنفسه بأنه لا إله إلا هو. وأخبر بذلك. وأمر عباده أن يشهدوا به.

وشهادته سبحانه : «أنه لا إله إلا هو» معلومة من جهة كل من بلّغ عنه كلامه.

وأما بيانه وإعلامه بفعله : فهو ما تضمنه خبره تعالى عن الأدلة الدالة على وحدانيته التي تعلم دلالتها بالعقل والفطرة.

وهذا أيضا يستعمل فيه لفظ الشهادة ، كما يستعمل فيه لفظ الدلالة ، والإرشاد والبيان ، فإن الدليل يبين المدلول عليه ويظهره ، كما يبينه الشاهد والمخبر بل قد يكون البيان بالفعل أظهر وأبلغ. وقد يسمى شاهد الحال نطقا وقولا له وكلاما ، لقيامه مقامه ، وأدائه مؤداه. كما قيل :

وقالت العينان : سمعا وطاعة

وحدّرتا بالدّر لمّا يثقّب

وقال الآخر :

شكا إليّ جملي طول السّرى

صبرا جميلي ، فكلانا مبتلى

وقال الآخر :

امتلأ الحوض ، وقال : قطني

مهلا رويدا ، قد ملأت بطني

١٨٠