التفسير القيّم

ابن القيّم الجوزيّة

التفسير القيّم

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الشيخ إبراهيم محمّد رمضان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

السماء : خشية الله. والتشبيه على هذا القول أصح وأظهر وأحسن. فإنه سبحانه شبه شجرة التوحيد في القلب بالشجرة الطيبة الثابتة الأصل ، الباسقة الفرع في السماء علوا ، التي لا تزال تؤتي ثمرتها كل حين.

وإذا تأملت هذا التشبيه رأيته مطابقا لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب التي فروعها من الأعمال الصالحة صاعدة إلى السماء. ولا تزال هذه الشجرة تثمر الأعمال الصالحة كل وقت ، بحسب ثباتها في القلب ، ومحبة القلب لها ، وإخلاصه فيها ، ومعرفته بحقيقتها ، وقيامه بحقوقها ، ومراعاتها حق رعايتها. فمن رسخت هذه الكلمة في

قلبه بحقيقتها التي هي حقيقتها ، واتصف قلبه بها ، وانصبغ بها بصبغة الله التي لا أحسن صبغة منها. فعرف حقيقة إلهيته التي يثبتها قلبه لله ، ويشهد بها لسانه ، وتصدقها جوارحه ، ونفي تلك الحقيقة ولوازمها عن كل ما سوى الله وواطأ قلبه لسانه في هذا النفي والإثبات ، وانقادت جوارحه لمن شهد له بالوحدانية طائعة سالكة سبل ربه ذللا غير ناكبة عنها ولا باغية سواها بدلا. كما لا يبتغي القلب سوى معبوده الحق بدلا. فلا ريب أن هذه الكلمة من هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تؤتي ثمرتها من العمل الصالح الصاعد إلى الله كل وقت. فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل الصالح إلى الرب تعالى.

وهذه الكلمة الطيبة تثمر كلما كثيرا طيبا ، يقارنه عمل صالح ، فيرفع العمل الصالح الكلم الطيب ، كما قال تعالى : ٣٥ : ١٠ (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) فأخبر سبحانه ، أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب. وأخبر أن الكلمة الطيبة تثمر لقائلها عملا صالحا كل وقت.

والمقصود : أن كلمة التوحيد إذا شهد بها المؤمن عارفا بمعناها وحقيقتها نفيا وإثباتا ، ومتصفا بموجبها ، قائما قلبه ولسانه وجوارحه بشهادته. فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل من هذا الشاهد أصلها ثابت راسخ في قلبه. وفروعها متصلة بالسماء. وهي مخرجة ثمرتها كل وقت.

٣٤١

ومن السلف من قال : إن الشجرة الطيبة هي النخلة. ويدل عليه حديث ابن عمر في الصحيح.

ومنهم من قال : هي المؤمن نفسه. كما قال محمد بن سعد : حدثني أبي حدثني عمي حدثني أبي عن ابن عباس في قوله : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) يعني بالشجرة الطيبة : المؤمن ، ويعني بالأصل الثابت في الأرض ، والفرع في السماء : بكون المؤمن يعمل في الأرض ويتكلم ، فيبلغ عمله وقوله السماء. وهو في الأرض.

وقال عطية العوفي في قوله : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) قال : ذلك مثل المؤمن ، لا يزال يخرج منه كلام طيب وعمل صالح يصعد إلى الله.

وقال الربيع بن أنس : أصلها ثابت وفرعها في السماء ، قال : ذلك المؤمن ضرب مثله في الإخلاص لله وعبادته وحده لا شريك له ، أصلها ثابت قال : أصل عمله ثابت في الأرض ، وفرعها في السماء قال : ذكره في السماء.

ولا اختلاف بين القولين.

والمقصود بالمثل : المؤمن ، والنخلة مشبهة به ، وهو مشبه بها. وإذا كانت النخلة شجرة طيبة فالمؤمن المشبه بها أولى أن يكون كذلك.

ومن قال من السلف : إنها شجرة في الجنة. فالنخلة من أشرف أشجار الجنة.

وفي هذا المثل من الأسرار والعلوم والمعارف ما يليق به ، ويقتضيه علم الرب الذي تكلم به ، وحكمته سبحانه.

فمن ذلك : أن الشجرة لا بد لها من عروق وساق وفروع وورق وثمر. فكذلك شجرة الإيمان والإسلام ليطابق المشبه المشبه له. فعروقها : العلم

٣٤٢

والمعرفة ، واليقين وساقها : الإخلاص ، وفروعها : الأعمال وثمرتها : ما توجبه الأعمال الصالحة من الآثار الحميدة ، والصفات الممدوحة ، والأخلاق الزكية ، والسّمت الصالح والهدى والدّلّ المرضي. فيستدل على غرس هذه الشجرة في القلب وثبوتها فيه بهذه الأمور.

فإذا كان العلم صحيحا مطابقا لمعلومه الذي أنزل الله كتابه به ، والاعتقاد مطابقا لما أخبر به عن نفسه ، وأخبرت به عنه رسله ، والإخلاص قائم في القلب ، والأعمال موافقة للأمر ، والهدى والدّل والسّمت مشابه لهذه الأصول مناسب لها : علم أن شجرة الإيمان في القلب أصلها ثابت وفرعها في السماء.

وإذا كان الأمر بالعكس علم أن القائم بالقلب إنما هو الشجرة الخبيثة ، التي اجتثّت من فوق الأرض ما لها من قرار.

ومنها : أن الشجرة لا تبقى حية إلا بمادة تسقيها وتنميها. فإذا قطع عنها السقي أوشك أن تيبس. فهكذا شجرة الإسلام في القلب ، إن لم يتعاهدها صاحبها بسقيها كل وقت بالعلم النافع والعمل الصالح ، والعود بالتذكر على التفكر ، وبالتفكر على التذكر ، وإلا أوشك أن تيبس.

وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الإيمان يخلق في القلب كما يخلق الثوب ، فجددوا إيمانكم».

وبالجملة : فالغرس إن لم يتعاهده صاحبه أوشك أن يهلك.

ومن هاهنا تعلم شدة حاجة العباد إلى ما أمر الله به من العبادات على تعاقب الأوقات ، ومن عظيم رحمته ، وتمام نعمته وإحسانه إلى عباده : أن وظفها عليها وجعلها مادة لسقي غراس التوحيد الذي غرسه في قلوبهم.

ومنها : أن الغرس والزرع النافع قد أجرى الله سبحانه العادة أنه لا بد أن يخالطه دغل ونبت غريب ، ليس من جنسه. فإن تعاهده ربه ونقاه وقلعه

٣٤٣

كمل الغرس والزرع ، واستوى وتم نباته ، وكان أوفر لثمرته وأطيب ، وأذكى. وإن تركه أوشك أن يغلب على الغراس والزرع ، ويكون الحكم له أو يضعف الأصل ويجعل الثمرة ذميمة ناقصة بحسب كثرته وقلته.

ومن لم يكن له فقه نفس في هذا ومعرفة به ، فإنه يفوته ربح كبير. وهو لا يشعر.

فالمؤمن دائما سعيه في شيئين : سقي هذه الشجرة ، وتنقية ما حولها. فبسقيها تبقى وتدوم ، وبتنقية ما حولها تكمل وتتم. والله المستعان وعليه التكلان.

فهذا بعض ما تضمنه هذا المثل العظيم الجليل من الأسرار والحكم. ولعلها قطرة من بحر ، بحسب أذهاننا الواقفة ، وقلوبنا المخطئة ، وعلومنا القاصرة. وأعمالنا التي توجب التوبة والاستغفار ، وإلا فلو طهرت منا القلوب ، وصفت الأذهان ، وذكت النفوس ، وخلصت الأعمال ، وتجردت الهمم للتلقي عن الله ورسوله لشاهدنا من معاني كلام الله وأسراره وحكمه ما تضمحل عنده العلوم ، وتتلاشى عنده معارف الخلق.

وبهذا تعرف قدر علوم الصحابة ومعارفهم ، وأن التفاوت الذي بين علومهم وعلوم من بعدهم كالتفاوت الذي بينهم وبينهم في الفضل. والله أعلم حيث يجعل مواقع فضله ، ويختص من يشاء برحمته.

فصل

ثم ذكر سبحانه مثل الكلمة الخبيثة. فشبهها بالشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ، ما لها من قرار ، فلا عرق ثابت ، ولا فرع عال ، ولا ثمرة زاكية. فلا أصل ، ولا جنّى ، ولا ساق قائم ، ولا عرق في الأرض ثابت. فلا أسفلها مغدق ، ولا أعلاها مونق ولا جنى لها ، ولا تعلو ، بل تعلى.

٣٤٤

وإذا تأمل اللبيب أكثر كلام هذا الخلق في خطابهم وكتبهم. وجده كذلك. فالخسران كل الخسران : الوقوف معه ، والاشتغال به عن أفضل الكلام وأنفعه ، الذي هو كتاب الرب سبحانه.

قال الضحاك : ضرب الله مثل الكافر بشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. يقول : ليس لها أصل ولا فرع. وليس لها ثمرة ، ولا فيها منفعة. كذلك الكافر لا يعمل خيرا ، ولا يقوله ، ولا يجعل له فيه بركة ولا منفعة.

وقال ابن عباس : ومثل كلمة خبيثة : وهي الشرك ، كشجرة خبيثة : يعني الكافر. اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ، يقول : الشرك ليس له أصل يأخذ به الكافر ، ولا برهان. ولا يقبل الله مع الشرك عملا ، فلا يقبل عمل المشرك ولا يصعد إلى الله ، فليس له أصل ثابت في الأرض ، ولا فرع في السماء يقول : ليس له عمل صالح في السماء ولا في الأرض.

وقال الربيع بن أنس : مثل الشجرة الخبيثة مثل الكافر ، ليس لقوله ولا لعمله أصل ولا فرع ، ولا يستقر قوله ولا عمله على الأرض ، ولا يصعد إلى السماء.

وقال سعيد عن قتادة في هذه الآية : إن رجلا لقي رجلا من أهل العلم ، فقال له : ما تقول في الكلمة الخبيثة؟ قال : ما أعلم لها في الأرض مستقرا ، ولا في السماء مصعدا ، إلا أن تلزم عنق صاحبها ، حتى يوافي بها القيامة.

وقوله «اجتثت» أي استؤصلت من فوق الأرض.

ثم أخبر سبحانه عن فضله وعدله في الفريقين : أصحاب الكلم الطيب ، وأصحاب الكلم الخبيث. فأخبر أنه يثبت الذين آمنوا بإيمانهم بالقول الثابت أحوج ما يكونون إليه في الدنيا والآخرة ، وأنه يضل الظالمين ،

٣٤٥

وهم المشركون عن القول الثابت. فأضل هؤلاء بعدله لظلمهم ، وثبت المؤمنين بفضله لإيمانهم.

قول الله تعالى ذكره : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧))

تحت هذه الآية كنز عظيم ، من وفّق لمعرفته وحسن استخراجه واقتنائه وأنفق منه فقد غنم ، ومن حرمه فقد حرم.

وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله له طرفة عين. فإن لم يثبته الله ، وإلا زالت سماء إيمانه وأرضه عن مكانهما. وقد قال تعالى لأكرم خلقه عليه عبده ورسوله ١٧ : ٧٤ (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) وقال تعالى لأكرم خلقه ٨ : ١٢ (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) وفي الصحيحين من حديث البجلي قال : «وهو يسألهم ويثبتهم» وقال تعالى لرسوله : ١١ : ١٢٠ (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ).

والخلق كلهم قسمان : موفق بالتثبيت ، ومخذول بترك التثبيت.

ومادة التثبيت أصله ومنشؤه من القول الثابت ، وفعل ما أمر به العبد. فبهما يثبت الله عبده. فكل من كان أثبت قولا وأحسن فعلا كان أعظم تثبيتا قال تعالى : ٤ : ٦٦ (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً).

فأثبت الناس قلبا : أثبتهم قولا.

والقول الثابت : هو القول الحق الصدق. وهو ضد القول الباطل الكذب.

فالقول نوعان : ثابت له حقيقة ، وباطل لا حقيقة له.

وأثبت القول : كلمة التوحيد ولوازمها. فهي أعظم ما يثبت الله بها

٣٤٦

عبده في الدنيا والآخرة. ولهذا ترى الصادق من أثبت الناس وأشجعهم قلبا ، والكاذب من أبغض الناس وأخبثهم وأكثرهم تلونا ، وأقلهم ثباتا. وأهل الفراسة يعرفون صدق الصادق من ثبات قلبه وقت الاخبار وشجاعته ومهابته. ويعرفون كذب الكاذب بضد ذلك. ولا يخفى ذلك إلا على ضعيف البصيرة.

وسئل بعضهم عن كلام سمعه من متكلم به؟.

فقال : والله ما فهمت منه شيئا إلا أني رأيت لكلامه صولة ليست صولة مبطل.

فما منح العبد منحة أفضل من منحة القول الثابت ، ويجد أهل القول الثابت ثمرته أحوج ما يكونون إليه في قبورهم ، ويوم معادهم. كما في صحيح مسلم من حديث البراء بن عازب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن هذه الآية نزلت في عذاب القبر».

٣٤٧
٣٤٨

سورة الحجر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قول الله تعالى ذكره : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١))

متضمن لكنز من الكنوز ، وهو أن كل شيء لا يطلب إلا ممن عنده خزائنه ، ومن مفاتيح تلك الخزائن بيديه ، وإن طلبه من غيره طلب ممن ليس عنده ، ولا يقدر عليه.

وقوله : ٥٣ : ٤٢ (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) متضمن لكنز عظيم. وهو أن كل مراد إن لم يرد لأجله ويتصل به ، وإلا فهو مضمحل منقطع. فإنه ليس المنتهى. وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها. فانتهت إلى خلقه ومشيئته. وحكمته وعلمه ، فهو غاية كل مطلوب ، وكل محبوب لا يحب لأجله فمحبته عناء وعذاب. وكل عمل لا يراد لأجله فهو ضائع وباطل. وكل قلب لا يصل إليه فهو شقي محجوب عن سعادته وفلاحه.

فاجتمع ما يراد منه كله في قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) واجتمع ما يراد له كله في قوله : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) فليس وراءه سبحانه غاية تطلب ، وليس دونه غاية إليها المنتهى.

قول الله تعالى ذكره : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥))

٣٤٩

قد مدح الله سبحانه وتعالى الفراسة وأهلها في مواضع من كتابه. هذا منها.

والمتوسمون : هم المتفرسون الذين يأخذون بالسيماء ، وهي العلامة. يقال : توسمت فيك كذا ، أي تفرسته ، كأنها أخذت من السيماء ، وهي فعلاء من السمة ، وهي العلامة.

وقال تعالى : ٤٧ : ٣٠ (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) وقال تعالى : ٢ : ٢٧٣ (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) وفي الترمذي مرفوعا «اتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله» (١) ثم قرأ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ).

وقال في مدارج السالكين :

قال مجاهد رحمه‌الله : المتوسمين المتفرسين. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : للناظرين. وقال قتادة : للمقرين ، وقال مقاتل : للمتفكرين.

ولا تنافي بين هذه الأقوال. فإن الناظر متى نظر في آثار ديار المكذبين ومنازلهم ، وما آل إليه أمرهم ، أورثه فراسة وعبرة وفكرة. وقال تعالى في حق المنافقين (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) فالأول فراسة النظر والعين. والثاني فراسة الأذن والسمع.

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه‌الله يقول : علق معرفته إياهم بالنظر على المشيئة ولم يعلق تعريفهم بلحن خطابهم على شرط ، بل أخبر به خبرا مؤكدا بالقسم فقال : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) وهو تعريض الخطاب ، وفحوى الكلام ومغزاه.

واللحن ضربان. صواب وخطأ.

فلحن الصواب نوعان. أحدهما : الفطنة. ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمتخاصمين «ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض».

__________________

(١) أخرجه الترمذي برقم ٣١٢٧.

٣٥٠

والثاني : التعريض والإشارة. وهو قريب من الكتابة. ومنه قول الشاعر :

وحديث ألذه ، وهو مما

يشتهي السامعون يوزن وزنا

منطق صائب ، وتلحن أحيا

نا ، وخير الحديث ما كان لحنا

والثالث : فساد المنطق في الاعراب ، وحقيقته : تغيير الكلام عن وجهه ، إما إلى خطأ ، وإما إلى معنى خفي ، لم يوضع له اللفظ.

والمقصود : أنه سبحانه أقسم على معرفته المنافقين من لحن خطابهم.

فإن معرفة المتكلم وما في ضميره من كلامه أقرب من معرفته بسيماه وما في وجهه. فإن دلالة الكلام على قصد قائله وضميره أظهر من دلالة السيماء المرئية. والفراسة تتعلق بالنوعين : بالنظر ، والسماع.

وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله» ثم قرأ قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ).

٣٥١
٣٥٢

سورة النحل

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

قول الله تعالى ذكره : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦))

هذان مثلان متضمنان قياسين من قياس العكس. وهو نفي الحكم لنفي علته وموجبه.

فإن القياس نوعان : قياس طرد ، يقتضى إثبات الحكم في الفرع لثبوت علة الأصل فيه. وقياس عكس ، يقتضى نفي الحكم عن الفرع لنفي علة الحكم فيه.

فالمثل الأول : ما ضربه الله سبحانه لنفسه وللأوثان. فالله سبحانه هو المالك لكل شيء ، ينفق كيف يشاء على عبيده ، سرا وجهرا ، وليلا ونهارا ، يمينه ملأى لا يغيضها نفقة ، سحّاء الليل والنهار. والأوثان مملوكة لعابديها

٣٥٣

عاجزة لا تقدر على شيء ، فكيف يجعلونها شركاء لله ، ويعبدونها من دونه ، مع هذا التفاوت العظيم ، والفرق المبين؟ هذا قول مجاهد وغيره.

وقال ابن عباس : هو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ، مثل المؤمن في الخير الذي عنده ، ثم رزقه منه رزقا حسنا. فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سرا وجهرا. والكافر بمنزلة عبد مملوك عاجز ، لا يقدر على شيء ، لأنه لا خير عنده ، فهل يستوي الرجلان عند أحد من العقلاء؟.

والقول الأول : أشبه بالمراد ، فإنه أظهر في بطلان الشرك ، وأوضح عند المخاطب وأعظم في إقامة الحجة ، وأقرب نسبا بقوله : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ. فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ ، إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ثم قال (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ).

ومن لوازم هذا المثل وأحكامه : أن يكون المؤمن الموحد كمن رزقه الله رزقا حسنا والكافر المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء. فهذا مما نبه عليه المثل وأرشد إليه. فذكره ابن عباس رضي الله عنهما منبها على إرادته ، لا أن الآية اختصت به.

فتأمله فإنك تجده كثيرا في كلام ابن عباس وغيره من السلف في فهم القرمان فيظن الظان أن ذلك هو معنى الآية التي لا معنى لها غيره ، فيحكيه قوله.

فصل

وأما المثل الثاني : فهو مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لنفسه ولما يعبد من دونه أيضا. فالصنم الذي يعبد من دونه بمنزلة رجل أبكم ، لا يعقل ولا ينطق ، بل هو أبكم القلب واللسان. قد عدم النطق القلبي واللساني ، ومع هذا فهو عاجز لا يقدر على شيء البتة. ومع هذا فأينما أرسلته لا يأتيك

٣٥٤

بخير ، ولا يقضي لك حاجة. والله سبحانه حي قادر متكلم ، يأمر بالعدل ، وهو على صراط مستقيم. وهذا وصف له بغاية الكمال والحمد. فإن أمره بالعدل ـ وهو الحق ـ يتضمن أنه سبحانه عالم به ، معلّم له ، راض به ، آمر لعباده به ، محب لأهله. لا يأمر بسواه ، بل ينزه عن ضده ، الذي هو الجور والظلم والسفه والباطل. بل أمره وشرعه عدل كله. وأهل العدل هم أولياؤه وأحباؤه ، وهم المجاورون له عن يمينه على منابر من نور.

وأمره بالعدل يتناول الأمر الشرعي الديني ، والأمر القدري الكوني. وكلاهما عدل ، لا جور فيه بوجه ما ، كما في الحديث الصحيح «اللهم إني عبدك ابن عبدك ، ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض فيّ حكمك ، عدل فيّ قضاؤك» فقضاؤه : هو أمره الكوني. فإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون. فلا يأمر إلا بالحق والعدل ، وقضاؤه وقدره القائم به حق وعدل. وإن كان في المقضي المقدّر ما هو جور وظلم. فالقضاء غير المقضي ، والقدر غير المقدر.

ثم أخبر سبحانه أنه على صراط مستقيم. وهذا نظير قول رسوله هود ١١ : ٥٦ (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها ، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

فقوله : (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) نظير قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ناصيتي بيدك» وقوله : (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) نظير قوله «عدل في قضاؤك» فالأول ملكه. والثاني حمده. وهو سبحانه له الملك. وله الحمد. وكونه سبحانه على صراط مستقيم يقتضي أنه لا يقول إلا الحق ، ولا يأمر إلا بالعدل ، ولا يفعل إلا ما هو مصلحة ورحمة ، وحكمة وعدل ، فهو على الحق في أقواله وأفعاله فلا يقضي على العبد بما يكون ظالما له به ، ولا يأخذه بغير ذنبه ، ولا ينقصه من حسناته شيئا. ولا يحمل عليه من سيئات غيره التي لم يعملها ولم يتسبب إليها شيئا ، ولا يؤاخذ أحدا بذنب غيره ، ولا

٣٥٥

يفعل قط ما لا يحمد عليه ويثنى به عليه ، ويكون له فيه العواقب الحميدة والغايات المطلوبة. فإن كونه على صراط مستقيم : يأبى ذلك كله.

قال محمد بن جرير الطبري : وقوله : (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) يقول : إن ربي على طريق الحق ، يجازي المحسن من خلقه بإحسانه ، والمسيء بإساءته. لا يظلم أحدا منهم شيئا ، ولا يقبل منهم إلا الإسلام والإيمان به.

ثم حكى عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح عنه (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) قال : الحق. وكذلك رواه ابن جريج عنه.

وقالت فرقة : هي مثل قوله : ٨٩ : ١٤ (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ).

وهذا اختلاف عبارة. فإن كونه بالمرصاد : هو مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.

وقالت فرقة : في الكلام حذف ، تقديره : إن ربي يحثكم على صراط مستقيم ويحضكم عليه.

وهؤلاء ، إن أرادوا أن هذا معنى الآية التي أريد بها. فليس هو كما زعموا. ولا دليل على هذا المقدر. وقد فرق سبحانه بين كونه آمرا بالعدل ، وبين كونه على صراط مستقيم.

وإن أرادوا : أن حثّه على الصراط المستقيم من جملة كونه على صراط مستقيم ، فقد أصابوا.

وقالت فرقة أخرى : معنى كونه على صراط مستقيم : أن مرد العباد والأمور كلها إلى الله ، لا يفوته شيء منها.

وهؤلاء : إن أرادوا أن هذا معنى الآية فليس كذلك. وإن أرادوا : أن هذا من لوازم كونه على صراط مستقيم ، ومن مقتضاه وموجبه : فهو حق.

٣٥٦

وقالت فرقة أخرى : معناه كل شيء تحت قدرته وقهره ، وفي ملكه وقبضته.

وهذا ـ وإن كان حقا ـ فليس هو معنى الآية. وقد فرق هود عليه‌السلام بين قوله : (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) وبين قوله : (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فهما معنيان مستقلان.

فالقول قول مجاهد. وهو قول أئمة التفسير. ولا تحتمل العربية غيره إلا على استكراه.

قال جرير يمدح عمر بن عبد العزيز :

أمير المؤمنين على صراط

إذا اعوجّ الموارد مستقيم

وقد قال تعالى : ٦ : ٣٩ ، ١٠٠ (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ. وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

وإذا كان الله سبحانه هو الذي جعل رسله وأتباعهم على صراط مستقيم في أقوالهم وأفعالهم ، فهو وسبحانه أحق بأن يكون على صراط مستقيم في قوله وفعله. وإن كان صراط الرسل وأتباعهم هو موافقة أمره ، فصراطه الذي هو سبحانه عليه : هو ما يقتضيه حمده وكماله ومجده ، من قول الحق وفعله. وبالله التوفيق.

وقال في مفتاح دار السعادة :

فالمثل الأول للصنم وعابديه. والمثل الثاني : ضربه الله تعالى لنفسه ، وأنه يأمر بالعدل ، وهو على صراط مستقيم.

فكيف تسوّى بينه وبين الصنم الذي له مثل السوء؟ فما فعله الرب تبارك وتعالى مع عباده : هو غاية الحكمة والإحسان والعدل ، في إقدارهم وإعطائهم ومنعهم ، وأمرهم ونهيهم.

٣٥٧

فدعوى المدعي : أن هذا نظير تخلية السيد بين عبيده وإمائه يفجر بعضهم ببعض ، ويسبي بعضهم بعضا ؛ أكذب دعوى وأبطلها. والفرق بينهما أظهر وأعظم من أن يحتاج إلى ذكره ، والتنبيه عليه. والحمد لله الغني الحميد. فغناه التام فارق ، وحمده وملكه ، وعزته وحكمته وعلمه ، وإحسانه وعدله ، ودينه وشرعه وحكمه وكرمه ، ومحبته للمغفرة والعفو عن الجناة ، والصفح عن المسيئين ، وقبوله توبة التائبين ، وصبر الصابرين ، وشكر الشاكرين الذين يؤثرونه على غيره ، ويتطلبون مرضاته ، ويعبدونه وحده ، ويسيرون في عبيده سيرة العدل والإحسان والنصائح ، ويجاهدون أعداءه ، فيبذلون دماءهم وأموالهم في محبته ومرضاته. ليتميز الخبيث من الطيب ، ووليه من عدوه ، ويخرج طيبات هؤلاء وخبائث أولئك إلى الخارج ، فيترتب عليها آثارها المحبوبة للرب تعالى من الثواب والعقاب ، والحمد لأوليائه والذم لأعدائه.

قول الله تعالى ذكره : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩))

فإن قيل : فقد أثبت له على أوليائه هاهنا سلطانا ، فكيف نفاه بقوله تعالى حاكيا عنه مقررا له ١٤ : ٢٣ (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ : إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ، وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) وقال تعالى : ٣٤ : ٢٠ ، ٢١ (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ).

قيل : السلطان الذي أثبته له عليهم غير السلطان الذي نفاه من وجهين.

أحدهما : أن السلطان الثابت : هو سلطان التمكن منهم ، وتلاعبه

٣٥٨

بهم ، وسوقه إياهم كيف أراد ، بتمكينهم إياه من ذلك ، بطاعته وموالاته. والسلطان الذي نفاه : سلطان الحجة. فلم يكن لإبليس عليهم من حجة يتسلط بها ، غير أنه دعاهم فأجابوه بلا حجة ولا برهان.

الثاني : أن الله لم يجعل له عليهم سلطانا ابتداء ألبتة ، ولكن هم سلطوه على أنفسهم بطاعته ، ودخولهم في جملة جنده وحزبه ، فلم يتسلط عليهم بقوته ، فإن كيده ضعيف. وإنما تسلط عليهم بإرادتهم واختيارهم.

والمقصود : أن من قصده أعظم أوليائه وأحبابه ونصحائه ، فأخذه وأخذ أولاده وحاشيته وسلمهم إلى عدوه. كان من عقوبته : أن يسلط عليه ذلك العدو نفسه.

قول الله تعالى ذكره : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥))

جعل الله سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق. فالمستجيب القابل الذكي الذي لا يعاند الحق ولا يأباه : يدعى بطريق الحكمة.

والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر : يدعى بالموعظة الحسنة. وهي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب.

والمعاند الجاحد : يجادل بالتي هي أحسن.

هذا هو الصحيح في معنى هذه الآية.

لا ما يزعم أسير منطق اليونان : أن الحكمة قياس البرهان. وهي دعوة الخواص ، والموعظة الحسنة : قياس الخطابة ، وهي دعوة العوام. وبالمجادلة بالتي هي أحسن : القياس الجدلي. وهو رد شغب المشاغب بقياس جدلي مسلّم المقدمات.

وهذا باطل. وهو مبني على أصول الفلسفة. وهو مناف لأصول المسلمين. وقواعد الدين من وجوه كثيرة. ليس هذا موضع ذكرها.

٣٥٩

سورة الأسراء

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً)

وأخبر عن خليله إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه سأله أن يهب له لسان صدق في الناس. فقال : ٢٦ : ٨٤ (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) وبشر عباده : أن لهم عنده قدم صدق. ومقعد صدق. فقال تعالى : ١٠ : ٢ (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) وقال : ٥٤ : ٥٤ ، ٥٥ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ).

وهذه خمسة أشياء : مدخل الصدق ، ومخرج الصدق ، ولسان الصدق ، وقدم الصدق ، ومقعد الصدق.

وحقيقة الصدق في هذه الأشياء : هو الحق الثابت المتصل بالله ، الموصل إلى الله. وهو ما كان به وله ، من الأقوال والأعمال ، وجزاء ذلك في الدنيا والآخرة.

فمدخل الصدق ومخرج الصدق : أن يكون دخوله وخروجه حقا ثابتا

٣٦٠