التفسير القيّم

ابن القيّم الجوزيّة

التفسير القيّم

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الشيخ إبراهيم محمّد رمضان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

سورة الصف

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥))

وقال عن عباده المؤمنين إنهم سألوه التثبيت على الهدى بقولهم : ٣ : ٨ (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا).

وأصل الزيغ : الميل ، ومنه : زاغت الشمس ، إذا مالت. فإزاغة القلب : إمالته عن الهدى. وزيغه : ميله عن الهدى الى الضلال.

والزيغ : يوصف به القلب والبصر ، كما قال تعالى : ٣٣ : ١٠ (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ ، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ).

قال قتادة ومقاتل : شخصت فرقا. وهذا تقريب للمعنى : فإن الشخوص غير الزيغ. وهو أن يفتح عينيه ينظر إلى الشيء ، فلا يطرف. ومنه : شخص بصر الميت.

ولما مالت الأبصار عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى هؤلاء الذين أقبلوا إليهم من كل جانب اشتغلت عن النظر إلى شيء آخر ، فمالت عنه.

٥٤١

وشخصت بالنظر إلى الأحزاب.

وقال الكلبي : مالت أبصارهم إلّا من النظر إليهم. وقال الفراء : زاغت عن كل شيء ، فلم تلتفت إلا إلى عدوها ، متحيرة تنظر إليه.

قلت : القلب إذا امتلأ رعبا شغله ذلك عن ملاحظة ما سوى المخوف ، فزاغ البصر عن الوقوع عليه. وهو مقابله.

٥٤٢

سورة الجمعة

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥))

قاس من حمله سبحانه كتابه ليؤمن به ، ويعمل به ، ويدعو إليه. ثم خالف ذلك ولم يحمله إلا على ظهر قلب ، فقرأه بغير تدبر ، ولا تفهم ، ولا اتباع له ، ولا تحكيم له ، ولا عمل بموجبه : كحمار على ظهره زاملة أسفار لا يدري ما فيها ، فحظه منها : حملها على ظهره ليس إلا. فحظ هذا من كتاب الله كحظ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره.

فهذا المثل ، وإن كان قد ضرب لليهود ، فهو متناول من حيث المعنى لمن حمل القرآن فترك العمل به ، ولم يؤد حقه ، ولم يرعه حق رعايته.

٥٤٣

سورة المنافقون

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩))

المقصود : أن دوام الذكر لما كان سببا لدوام المحبة ، وكان الله سبحانه أحق بكمال الحب والعبودية والتعظيم والإجلال ، كان كثرة ذكره من أنفع ما للعبد. وكان عدوه حقا هو الصاد له عن ذكر ربه ، وعبوديته.

ولهذا أمر سبحانه بكثرة ذكره في القرآن. وجعله سببا للفلاح. فقال تعالى : ٦٢ : ١٠ (اذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وقال : ٣٣ : ٤١ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) وقال : ٣٣ : ٣٥ (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) وقال : ٦٣ : ٩ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) وقال : ٢ : ١٥٢ (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سبق المفردون. قالوا : يا رسول الله وما المفردون؟ قال : الذاكرون الله كثيرا» وفي الترمذي عن أبي الدرداء عن

٥٤٤

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ألا أدلكم على خير أعمالكم وأزكاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق ، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : ذكر الله» وهو في الموطأ موقوف على أبي الدرداء.

وقال معاذ بن جبل «ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله».

وذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تبع لذكره.

والمقصود : أن دوام الذكر سبب لدوام المحبة.

فالذكر للقلب كالماء للزرع ، بل كالماء للسمك ، لا حياة له إلا به. وهو أنواع : ذكره بأسمائه وصفاته ، والثناء عليه بها.

الثاني : تسبيحه وتحميده ، وتكبيره وتهليله ، وتمجيده ، وهو الغالب من استعمال لفظ الذكر عند المتأخرين.

الثالث : ذكره بأحكامه وأوامره ونواهيه. وهو ذكر أهل العلم ، بل الأنواع الثلاثة هي ذكرهم لربهم.

ومن أفضل ذكره : ذكره بكلامه. قال تعالى : ٢٠ : ١٢٤ (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً. وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) فذكره هاهنا هو كلامه الذي أنزله على رسوله ، وقال تعالى : ١٣ : ٢٨ (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ. أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

ومن ذكره سبحانه : دعاؤه واستغفاره والتضرع إليه.

فهذه خمسة أنواع من الذكر.

٥٤٥
٥٤٦

سورة التحريم

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤))

إن لغة العرب متنوعة في إفراد المضاف ، وتثنيته وجمعه ، بحسب أحوال المضاف إليه. فإن أضافوا الواحد المتصل الى مفرد أفردوه. وإن أضافوه الى اسم جمع ظاهر أو مضمر جمعوه. وإن أضافوه الى اسم مثنى فالأصح في لغتهم جمعه. كقوله تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) وإنما هما قلبان ، وكقوله : ٥ : ٣٨ (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) وتقول العرب : اضرب أعناقهما. وهذا أفصح في استعمالهم.

قول الله تعالى ذكره :

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وضرب الله مثلا للذين آمنوا امراة فرعون اذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين (١١) ومريم ابنة عمران التي أحصنت

٥٤٧

فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين)

فاشتملت هذه الآيات على ثلاثة أمثال : مثل للكفار. ومثلين للمؤمنين.

فيتضمن مثل الكفار أن الكافر يعاقب على كفره وعداوته لله ورسوله وأوليائه ، ولا ينفعه مع كفره ما كان بينه وبين المؤمنين عن لحمة نسب ، أو وصلة صهر ، أو سبب من أسباب الاتصال. فإن الأسباب كلها تنقطع يوم القيامة إلا ما كان منها متصلا بالله وحده على أيدي رسله ، فلو نفعت وصلة القرابة والمصاهرة أو النكاح مع عدم الايمان ، لنفعت الوصلة التي كانت بين نوح ولوط وامرأتيهما فلما لم يغنيا عنهما من الله شيئا ، وقيل : ادخلا النار مع الداخلين. قطعت الآية حينئذ طمع من ركب معصية الله ، وخالف امره ، ورجا أن ينفعه صلاح غيره من قريب أو أجنبي ، ولو كان بينهما في الدنيا أشد الاتصال. فلا اتصال فوق اتصال البنوة والأبوة والزوجية ، ولم يغن نوح عن ابنه ، ولا إبراهيم عن أبيه ، ولا نوح ولا لوط عن امرأتيهما من الله شيئا. قال الله تعالى : ٦٠ : ٣ (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ ، يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) وقال تعالى : ٨٢ : ١٩ (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) وقال تعالى : ٢ : ٤٨ (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) وقال : ٣١ : ٣٣ (وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً. إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) وهذا كله تكذيب لإطماع المشركين الباطلة : أن ما تعلقوا به من دون الله من قرابة ، أو صهر ، أو نكاح أو صحبة ينفعهم يوم القيامة ، أو يجيرهم من عذاب الله ، أو يشفع لهم عند الله. وهذا أصل ضلال بني آدم ، وشركهم ، وهو الشرك الذي لا يغفره الله. وهو الذي بعث الله جميع رسله وأنزل جميع كتبه بإبطاله ، ومحاربة أهله ، ومعاداتهم.

٥٤٨

فصل

وأما المثلان اللذان للمؤمنين : فأحدهما : امرأة فرعون.

ووجه المثل : أن اتصال المؤمن بالكافر لا يضره شيئا ، إذا فارقه في كفره وعمله. فمعصية الغير لا تضر المؤمن المطيع شيئا في الآخرة وإن تضرر بها في الدنيا بسبب العقوبة التي تحل بأهل الأرض ، إذا أضاعوا أمر الله ، فتأتي عامة. فلم يضر امرأة فرعون اتصالها به. وهو من أكفر الكافرين ، ولم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما وهما رسولا رب العالمين.

المثل الثاني للمؤمنين : مريم التي لا زوج لها ، لا مؤمن ولا كافر.

فذكر ثلاثة أصناف النساء : المرأة الكافرة التي لها وصلة بالرجل الصالح. والمرأة الصالحة التي لها وصلة بالرجل الكافر. والمرأة العزب التي لا وصلة بينها وبين أحد.

فالأولى : لا تنفعها وصلتها وسببها.

والثانية : لا تضرها وصلتها وسببها.

والثالثة : لا يضرها عدم الوصلة شيئا.

ثم في هذه الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياق السورة. فإنها سيقت في ذكر أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتحذيرهن من التظاهر عليه ، وأنهن إن لم يطعن الله ورسوله ، ويردن الدار الآخرة : لم ينفعهن اتصالهن برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما لم ينفع امرأة نوح وامرأة لوط اتصالهما بهما.

قال يحيى بن سلام : ضرب الله المثل الأول يحذر عائشة وحفصة ، ثم ضرب لهما المثل الثاني يحرضهما على التمسك بالطاعة

وفي ضرب المثل للمؤمنين مريم أيضا : اعتبار آخر ، وهو أنها لم يضرها عند الله شيئا قذف أعداء الله اليهود لها ، ونسبتهم إياها وابنها الى ما

٥٤٩

برأهما الله منه ، مع كونها الصديقة الكبرى المصطفاة على نساء العالمين.

فلا يضر الرجل الصالح قدح الفجار والفساق فيه.

وفي هذا أيضا تسلية لعائشة أم المؤمنين ، إن كانت السورة نزلت بعد قصة الإفك. وتوطين نفسها على ما قال فيها الكاذبون ، إن كانت قبلها.

كما في ذكر التمثيل بامرأة نوح ولوط تحذير لها ولحفصة مما تعمدتاه في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فتضمن هذه الأمثال التحذير لهن والتخويف ، والتحريض لهن على الطاعة والتوحيد ، والتسلية وتوطيد النفس لمن أوذي منهن ، وكذب عليهن.

وأسرار التنزيل فوق هذا وأجل منه ، ولا سيما اسرار الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون.

٥٥٠

سورة ن

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى :

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨))

قال ابن عباس : نهاه أن يتشبه بصاحب الحوت ، حيث لم يصبر صبر أولي العزم.

وهاهنا سؤال نافع ، وهو أن يقال : العامل في الظرف ، وهو قوله «إذ نادى» لا يمكن أن يكون المنهي عنه ، إذ يصير المعنى : لا تكن مثله في ندائه. وقد اثنى الله سبحانه عليه في هذا النداء فأخبر أنه نجاه به. فقال : ٢١ : ٨٧ ، ٨٨ (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً ، فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ، فَنادى فِي الظُّلُماتِ ، أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم انه قال «دعوة أخي ذي النون ، إذ دعي في بطن الحوت : ما دعي بها مكروب إلا فرج الله عنه : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين» فلا يمكن أن ينهى عن التشبه به في هذه الدعوة ، وهي النداء الذي نادى به

٥٥١

ربه. وإنما نهى عن التشبه به في السبب الذي أفضى به إلى هذه المناداة ، وهي مغاضبته التي أفضت به الى حبسه في بطن الحوت ، وشدة ذلك عليه حتى نادى ربه وهو مكظوم. والكظيم والكاظم الذي قد امتلأ غيظا وغضبا ، أو هما وحزنا ، وكظم عليه فلم يخرجه.

فإن قيل : وعلى ذلك فما العامل في الظرف؟

قيل : ما في «صاحب الحوت» من معنى الفعل.

فإن قيل : فالسؤال بعد قائم ، فإنه إذا قيد المنهي بقيد أو زمن كان داخلا في حين النهي فإن كان المعنى : لا تكن مثل صاحب الحوت في هذه الحال ، أو هذا الوقت. كان نهيا عن تلك الحالة.

قيل : لما كان نداؤه مسببا عن كونه صاحب الحوت ، فنهى أن يشبه به في الحال التي أفضت به إلى صحبته الحوت وألجأته إلى النداء ، وهو ضعف العزيمة وعدم الصبر لحكمه تعالى ، ولم يقل تعالى : ولا تكن كصاحب الحوت إذ ذهب مغاضبا فالتقمه الحوت ، فنادى ، بل طوى القصة واختصرها ، وأحال بها على ذكرها في الموضع الآخر ، واكتفى بغايتها وما انتهت إليه.

فإن قيل : فما منعك بتعويض الظرف بنفس الفعل المنهي عنه؟ أي لا تكن مثله في ندائه وهو ممتلئ غيظا وهما وغما ، بل يكون نداؤك نداء راض بما قضى ربه عليه ، قد تلقاه بالرضى والتسليم وسعة الصدر ، لا نداء كظيم.

قيل : هذا المعنى ، وإن كان صحيحا ، فلم يقع النهي عن التشبه به في مجرده. وإنما نهي عن التشبه به في الحال التي حملته على ذهابه مغاضبا ، حتى سجن في بطن الحوت.

ويدل عليه قوله تعالى : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) ثم قال : (وَلا

٥٥٢

تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) أي في ضعف صبره لحكم ربه. فإن الحالة التي نهى عنها هي ضد الحالة التي امر بها.

فإن قيل : فما منعك أن تصير إلى أنه أمر بالصبر لحكمه الكوني القدري الذي قدره عليه ، ولا تكن كصاحب الحوت ، حيث لم يصبر عليه ، بل نادى وهو كظيم لكشفه. فلم يصبر على احتماله والسكون تحته.

قيل : منع من ذلك : أن الله سبحانه أثنى على يونس وغيره من أنبيائه بسؤالهم إياه كشف ما بهم من ضر ، وقد أثنى عليه سبحانه بذلك في قوله : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ. فَنادى فِي الظُّلُماتِ : أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) فكيف ينهي عن التشبه به فيما يثني به عليه ويمدحه به؟ وكذلك أثنى على أيوب بقوله : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) وعلى يعقوب بقوله : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) وعلى موسى بقوله : (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) وقد شكا إليه خاتم أنبيائه ورسله بقوله : «اللهم أشكو إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ـ الحديث» فالشكوى إليه سبحانه لا تنافى الصبر الجميل ، بل إعراض عبده عن الشكوى إلى غيره جملة ، وجعل الشكوى إليه وحده : هو الصبر.

والله تعالى يبتلي عبده ليسمع شكواه ، وتضرعه ودعاؤه.

وقد ذم الله سبحانه من لم يتضرع إليه. ولم يستكن له وقت البلاء كما قال تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ).

والعبد أضعف من أن يتجلد على ربه والرب تعالى لم يرد من عبده أن يتجلد عليه ، بل أراد منه أن يستكين له ويتضرع إليه ، وهو تعالى يمقت من يشكوه إلى خلقه ، ويحب من يشكو ما به إليه.

٥٥٣

وقيل لبعضهم : كيف تشتكي إليه ما ليس يخفى عليه؟ فقال : ربي يرضى ذل العبد إليه.

والمقصود : أنه سبحانه أمر رسوله أن يصبر صبر أولي العزم الذين صبروا لحكمه اختيارا. وهذا أكمل الصبر ، ولهذا دارت قصة الشفاعة يوم القيامة على هؤلاء ، حتى ردوها إلى أفضلهم وخيرهم ، وأصبرهم لحكم الله ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

٥٥٤

سورة المزمل

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨))

التبتل : الانقطاع. وهو تفعّل من البتل. وهو القطع. وسميت مريم : البتول. لانقطاعها عن الأزواج ، وعن نظراء نساء زمانها. ففاقت نساء الزمان شرفا وفضلا ، وقطعت منهن.

ومصدر تبتل إليه تبتيلا كالتّعلّم والتفهم. ولكن جاء على التفعيل مصدر تفعل لسر لطيف.

فإن في هذا الفعل إيذانا بالتدريج والتكلف ، والتعمل والتكثر والمبالغة.

فأتي بالفعل الدال على أحدهما ، وبالمصدر الدال على الآخر. فكأنه قيل : بتّل نفسك إلى الله تبتيلا. وتبتل إليه تبتلا. ففهم المعنيان من الفعل ومصدره. وهذا كثير في القرآن. وهو من حسن الاختصار والإيجاز

٥٥٥

سورة المدثر

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤))

قال قتادة ومجاهد : نفسك فطهر من الذنب ، فكنى عن النفس بالثوب. وهذا قول إبراهيم والضحاك والشعبي والزهري والمحققين من أهل التفسير.

قال ابن عباس : لا تلبسها على معصية ولا قذر ، ثم قال : أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي :

وإني بحمد الله لا ثوب غادر

لبست ، ولا من غدرة أتقنّع

والعرب تقول في وصف الرجل بالصدق والوفاء : طاهر الثياب ، وتقول للفاجر والغادر : دنس الثياب.

وقال أبي بن كعب : لا تلبسها على الغدر والظلم والإثم ، ولكن البسها وأنت برّ طاهر.

٥٥٦

وقال الضحاك : عملك فأصلح. وقال السدي : يقال للرجل إذا كان صالحا : إنه لطاهر الثياب ، وإذا كان فاجرا : إنه لخبيث الثياب.

وقال سعيد بن جبير : وقلبك وبيتك فطهر.

وقال الحسن والقرطبي : وخلقك فحسن. وقال ابن سيرين وابن زيد : أمر بتطهير الثياب من النجاسات التي لا تجوز الصلاة معها. لأن المشركين كانوا لا يتطهرون ، ولا يطّهرون ثيابهم.

وقال طاوس : وثيابك فقصر. لأن تقصير الثياب طهرة لها.

والقول الأول : أصح الأقوال. ولا ريب أن تطهيرها من النجاسات وتقصيرها : من جملة التطهير المأمور به ، إذ به تمام إصلاح الأعمال والأخلاق. لأن نجاسة الظاهر تورث نجاسة الباطن. ولذلك أمر القائم بين يدي الله عزوجل بإزالتها والبعد عنها.

يقول الله تعالى ذكره :

(فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١))

شبههم في إعراضهم ونفورهم عن القرآن بحمر رأت الأسد أو الرّماة ففرت منه.

وهذا من بديع القياس والتمثيل ، فإن القوم في جهلهم بما بعث الله به رسوله كالحمر وهي لا تعقل شيئا. فإذا سمعت صوت الأسد أو الرامي نفرت منه أشد النفور. وهذا غاية الذم لهؤلاء. فإنهم نفروا عن الهدى الذي فيه سعادتهم وحياتهم. كنفور الحمر عما يهلكها ويعقرها.

وتحت «المستنفرة» معنى أبلغ من النافرة. فإنها لشدة نفورها قد استنفر بعضها بعضا وحضه على النفور. فإن في الاستفعال من الطلب قدرا

٥٥٧

زائدا على الفعل المجرد. كأنها تواصت بالنفور وتواطأت عليه.

ومن قرأها بفتح الفاء : فالمعنى : أن القسورة استنفرها ، وحملها على النفور ببأسه وشدته.

٥٥٨

سورة القيامة

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦))

قال الشافعي رضي الله عنه : أي هملا لا يؤمر ولا ينهى؟

وقال غيره : لا يثاب ولا يعاقب.

والقولان واحد. لأن الثواب والعقاب غاية الأمر والنهي. فهو سبحانه خلقهم للأمر والنهي في الدنيا. والثواب والعقاب في الآخرة.

فأنكر سبحانه على من زعم أنه يترك سدى إنكار من جعل في العقل استقباح ذلك واستهجانه. وأنه لا يليق أن ينسب ذلك إلى أحكم الحاكمين.

٥٥٩

سورة النبأ

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣))

فالكواعب : جمع كاعب ، وهي الناهد. قاله قتادة ومجاهد والمفسرون. وقال الكلبي : هن الفلكات اللواتي تكعب ثديهن. وتفلكت. وأصل اللفظ : من الاستدارة. والمراد : أن ثديهن نواهد ، كالرمان ، ليست متدلية إلى أسفل ويسمين نواهد وكواعب.

٥٦٠