التفسير القيّم

ابن القيّم الجوزيّة

التفسير القيّم

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الشيخ إبراهيم محمّد رمضان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

مقدمة الناشر

الحمد لله رب العالمين الواحد الأحد الفرد الصمد ، نحمده تعالى ونشكره على ما له علينا من صنوف الإحسان التي لا يقدر على عدها أو حصرها إنس ولا جان.

نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره من كل ذنب عملناه صغيرا أو كبيرا ، عن خطأ أو عمد أو نسيان. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الحمد وله الملك وهو على كل شيء قدير.

ونشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدا عبده ورسوله ومصطفاه سيد ولد آدم وأول من يقرع باب الجنان ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.

وبعد

عزيزي القارئ.

إن دار ومكتبة الهلال في سعيها الدائم والمستمر لتقديم كتب التراث الإسلامي العظيم مما تركه السلف الصالح لنا في كافة حقول الفقه والتشريع والتفسير للشريعة الحنيفة وكتاب الله العظيم الذي أنزله سبحانه

٥

على خير الأنبياء هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ، إنها في سعيها هذا الذي تأمل به نيل رضا الخالق العظيم رب العالمين لا إله إلا هو ، نقدم لك اليوم كتابا قيما في تفسير معاني كتاب الله بعد أن قدمنا لك تفسير القرآن العظيم للإمام الحافظ ابن كثير ، نقدم اليوم التفسير القيم للإمام ابن القيم بعد أن عهدنا به إلى مكتب الدراسات والبحوث العربية والإسلامية ليشرف على تحقيقه وضبطه وشرحه مع الشيخ إبراهيم رمضان أحد العلماء الأجلاء العاملين في دار الفتوى في الجمهورية اللبنانية ، وذلك ليكون في أصفى صيغة وأتم عبارة وأنقى شرح وأقربه إليك ذلك لأن هذا الكتاب يحتاج إلى رعاية كبيرة واهتمام بالغ قبل القيام بطباعته ، وهذه عادتنا في إيلاء كتب تراثنا كل اهتمام وكل رعاية ممكنة.

والله ولي التوفيق

٦

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم

الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما وإليه ترجع الأمور ، يولج النهار في الليل ويولج الليل في النهار وهو العليم بذات الصدور الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور.

نحمده تعالى ونشكره ونستعينه سبحانه ونستغفره ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نفور بها وننجو يوم البعث والنشور ونشهد أن سيدنا محمدا رسوله المصطفى من خلقه أجمعين ، أرسله بدين الهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، ولو كره الكافرون صلّى اللهم عليه صلاة تحبها له وترضاها وتكون لنا بها شفاعته يوم لا يشفع مال ولا بنون إنك نعم المولى ونعم النصير.

وبعد

عزيزي القارئ.

لقد أولتنا دار ومكتبة الهلال ثقة عظيمة وحمّلتنا مسؤولية كبيرة عند ما عهدت إلينا بتحقيق وشرح ومراجعة هذا الكتاب القيم من كتب تفسير

٧

كتاب الله القدير ، عنيت التفسير القيم للإمام ابن القيم.

إن تحقيق ودراسة وشرح أثر هام كهذا الأثر عمل يحتاج إلى مجهود شاق في مقابلة النصوص المطبوعة منه للوصول إلى النص الصحيح الذي لا تشوبه شائبة وذلك لعدم توافر الأصل المخطوط بين أيدينا.

إن الأحاديث النبوية الشريفة الواردة في هذا الكتاب قد جرت مقارنتها مع كتب الصحاح التي أسندت إليها ولذلك لاعتماد بعض السلف على الذاكرة والحفظ في نقل هذه الأحاديث ولاعتماد النساخ على تصوير الكلمات التي لم تتضح لهم صياغتها الصحيحة ومن ناسخ إلى مراجع ضاعت الكلمة الأصيلة وحل محلها كلمة جديدة لا علاقة لها بالأصل.

وكذا في آي القرآن الكريم فقد تم الرجوع في ضبطها إلى نسخة مصحف المدينة المنورة التي تقوم المملكة العربية السعودية مشكورة بطبعها والإشراف عليها لأنها أفضل نسخ المصاحف المطبوعة ضبطا وطباعة.

إن مكتب الدراسات والبحوث العربية والإسلامية الذي أخذ على عاتقه خدمة هذا الشرع الحنيف والسنة النبوية المطهرة وتقديم كتب التراث العربي والإسلامي لم يأل جهدا في كل ما قدم لدور النشر العربية واللبنانية من كتب هذا التراث العظيم وقد أسند العمل بها إلى عدد من العلماء والأجلاء العاملين في حقل التحقيق والتأليف.

وقد أشرف المكتب على مراجعة وتدقيق هذا الكتاب قبل تسليمه

٨

لدار ومكتبة الهلال التي تحاول دائما أن تكون كتبها في أنقى صيغة ممكنة خالية من الشوائب والأخطاء التي تعيب الكتب عادة.

ونأمل أن نكون قد وفقنا فيما قمنا به من عمل راجين به رحمة الله وغفرانه ، غفر الله لنا ولكم ولوالدينا ووالديكم إنه هو الغفّار الرحيم.

مكتب الدراسات والبحوث

العربية والإسلامية

بيروت

٩
١٠

سورة الفاتحة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اعلم أن هذه السورة اشتملت على أمهات المطالب العالية أتم اشتمال وتضمنتها أكمل تضمن.

فاشتملت على التعريف بالمعبود تبارك وتعالى بثلاثة أسماء ، مرجع الأسماء الحسنى والصفات العليا إليها ، ومدارها عليها. وهي : «الله ، والرب ، والرحمن (١)» وبنيت السورة على الإلهية والربوبيّة والرحمة. ف (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) مبنى على الإلهية. و (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) على الربوبيّة وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم بصفة الرحمة. والحمد يتضمن الأمور الثلاثة : فهو المحمود في إلهيته ، وربوبيته ، ورحمته. والثناء والمجد كمالان لجده.

وتضمنت إثبات المعاد ، وجزاء العباد بأعمالهم حسنها وسيئها. وتفرّد الرب تعالى بالحكم إذ ذاك بين الخلائق ، وكون حكمه بالعدل. وكل هذا تحت قوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ).

وتضمنت إثبات النبوات من جهات عديدة :

__________________

(١) قال الخطابي : الرحمن ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم ومصالحهم وعمت المؤمن والكافر والرحيم خاص بالمؤمنين ولا يجوز إطلاق اسم الرحمن على غير الله تعالى بخلاف الرحيم فإنه يطلق على المخلوق أيضا.

١١

أحدها : كونه رب العالمين. فلا يليق به أن يترك عباده سدى هملا ، لا يعرفهم ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم وما يضرهم فيهما. فهذا هضم للربوبية ، ونسبة الرب تعالى إلى ما لا يليق به. وما قدره حق قدره من نسبه إليه.

الثاني : أخذها من اسم «الله» وهو المألوه المعبود. ولا سبيل للعباد إلى معرفة عبادته إلا من طريق رسله.

الموضع الثالث : من اسمه «الرحمن» فإن رحمته تمنع إهمال عباده ، وعدم تعريفهم ما ينالون به غاية كمالهم. فمن أعطى اسم «الرحمن» حقه عرف أنه متضمن لإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، أعظم من تضمنه علم إنزال الغيث (١) وإنبات الكلأ (٢) ، وإخراج الحب. فاقتضاء الرحمة لما تحصل به حياة القلوب والأرواح أعظم من اقتضائها لما تحصل به حياة الأبدان والأشباح ، لكن المحجوبون إنما أدركوا من هذا الاسم حظ البهائم والدواب (٣). وأدرك منه أولو الألباب أمرا وراء ذلك.

الموضع الرابع : من ذكر «يوم الدين» فإنه اليوم الذي يدين الله العباد فيه بأعمالهم ، فيثيبهم على الخيرات ، ويعاقبهم على المعاصي والسيئات وما كان الله ليعذب أحدا قبل إقامة الحجة عليه. والحجة إنما قامت برسله وكتبه. وبهم استحق الثواب والعقاب. وبهم قام سوق يوم الدين. وسيق الأبرار إلى النعيم. والفجار إلى الجحيم.

الموضع الخامس : من قوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فإن ما يعبد به تعالى لا يكون إلا على ما يحبه ويرضاه. وعبادته : هي شكره وحبه وخشيته ، فطري ومعقول للعقول السليمة. لكن طريق التعبد وما يعبد به لا سبيل إلى معرفته إلا برسله. وفي هذا بيان أن إرسال الرسل أمر مستقر في العقول ، يستحيل

__________________

(١) المطر.

(٢) العشب رطبا كان أو يابسا.

(٣) يقال : دب يدب بالكسر دبا ودبيبا ، وكل ماش على الأرض دابة.

١٢

تعطيل العالم عنه ، كما يستحيل تعطيله عن الصانع. فمن أنكر الرسول فقد أنكر المرسل. ولم يؤمن به ، ولهذا جعل سبحانه الكفر برسله كفرا به.

الموضع السادس : من قوله (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) فالهداية : هي البيان والدلالة ، ثم التوفيق والإلهام ، وهو بعد البيان والدلالة. ولا سبيل إلى البيان والدلالة إلا من جهة الرسل. فإذا حصل البيان والدلالة والتعريف ترتب عليه هداية التوفيق. وجعل الإيمان في القلب وتحبيبه إلى ، وتزيينه في قلبه ، وجعله مؤثرا له ، راضيا به ، راغبا فيه. هما هدايتان مستقلتان ، لا يحصل الفلاح إلا بهما. وهما متضمنتان تعريف ما لم نعلمه من الحق تفصيلا وإجمالا ، وإلهامنا له ، وجعلنا مريدين لاتباعه ظاهرا وباطنا. ثم خلق القدرة لنا على القيام لنا على القيام بموجب الهدى بالقول والعمل والعزم. ثم إدامة ذلك لنا وتثبيتنا عليه إلى الوفاة.

ومن هاهنا يعلم اضطرار العبد إلى سؤال هذه الدعوة فوق كل ضرورة ، وبطلان قول من يقول : إذا كنا مهتدين ، فكيف نسأل الهداية؟ فإن المجهول لنا ، من الحق أضعاف المعلوم. وما لا نريد فعله تهاونا وكسلا مثل ما نريده أو أكثر منه أو دونه ، وما لا نقدر عليه مما نريده كذلك. وما نعرف جملته ولا نهتدي لتفاصيله ، فأمر يفوته الحصر. ونحن محتاجون إلى الهداية التامة. فمن كملت له هذه الأمور كان سؤال الهداية له سؤال التثبيت والدوام.

وللهداية مرتبة أخرى ـ وهي آخر مراتبها ـ وهي الهداية يوم القيامة إلى طريق الجنة. وهو الصراط الموصل إليها. فمن هدى في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم الذي أرسل به رسله ، وأنزل به كتبه ، هدي هناك إلى الصراط المستقيم ، الموصل إلى جنته ودار ثوابه. وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار ، يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم. وعلى قدر سيره على هذا الصراط يكون سيره على ذاك الصراط. فمنهم من يمر كالبرق ، ومنهم من يمر كالطّرف ،

١٣

ومنهم من يمر كالريح ، ومنهم من يمر كشدّ الركاب ، ومنهم من يسعى سعيا ، ومنهم من يمشي مشيا ، ومنهم من يحبو حبوا ، ومنهم المخدوش المسلّم ، ومنهم المكردس في الناس. فلينظر العبد سيره على ذلك الصراط من سيره على هذا ، حذو القذّة بالقذة جزاء وفاقا (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

فسؤال الهداية متضمن لحصول كل خير ، والسلامة من كل شر.

الموضع السابع : من معرفة نفس المسؤول ، وهو الصراط المستقيم. ولا تكون الطريق صراطا حتى تتضمن خمسة أمور : الاستقامة ، والإيصال إلى المقصود ، والقرب ، وسعته للمارين عليه ، وتعيّنه طريقا للمقصود. ولا يخفى تضمن الصراط المستقيم لهذه الأمور الخمسة.

ولينظر الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم. فإنها الكلاليب التي بجنبتي ذاك الصراط ، تخطفه وتعوقه عن المرور عليه. فإن كثرت هنا وقويت فكذلك هي هناك (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).

فوصفه بالاستقامة يتضمن قربه ، لأن الخط المستقيم هو أقرب خط فاصل بين نقطتين. وكلما تعوج طال وبعد. واستقامته تتضمن إيصاله إلى المقصود ونصبه لجميع من يمر عليه يستلزم سعته. وإضافته إلى المنعم عليهم ، ووصفه بمخالفة صراط أهل الغضب والضلال يستلزم تعينه طريقا.

والصراط : تارة يضاف إلى الله ، إذ هو الذي شرعه ونصبه ، كقوله تعالى : ٦ : ١٥٣ (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) وقوله : ٤٢ : ٥٢ (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ : صِراطِ اللهِ) وتارة يضاف إلى العباد ، كما في الفاتحة لكونهم أهل سلوكه. وهو المنسوب لهم. وهم المارون عليه.

الموضع الثامن : من ذكر المنعم عليهم ، وتمييزهم عن طائفتي الغضب والضلال فانقسم الناس بحسب معرفة الحق والعمل به إلى الأقسام الثلاثة. لأن العبد إما أن يكون عالما بالحق ، أو جاهلا به. والعالم بالحق

١٤

إما أن يكون عاملا بموجبه أو مخالفا له. فهذه أقسام المكلفين. لا يخرجون عنها البتة. فالعالم بالحق العامل به : هو المنعم عليه. وهو الذي زكّى نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح. وهو المفلح ٩١ : ٩ (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) والعالم به المتبع هواه هو. المغضوب عليه. والجاهل بالحق : هو الضال. والمغضوب عليه ضال عن هداية العمل. والضال مغضوب عليه لضلاله عن العلم الموجب للعمل. فكل منهما ضال مغضوب عليه ، ولكن تارك العمل بالحق بعد معرفته به أولى بوصف الغضب وأحق به. ومن هاهنا كان اليهود أحقّ به. وهو متغلظ في حقهم. كقوله تعالى في حقهم ٢ : ٩٠ (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ : أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ، فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) قال تعالى : ٥ : ٦٠ (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ ، وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ). والجاهل بالحق : أحق باسم الضلال. ومن هنا وصفت النصارى به في قوله تعالى : ٥ : ٧٧ (قُلْ : يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ، وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً ، وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) فالأولى : في سياق الخطاب مع اليهود. والثانية : في سياقه مع النصارى. وفي الترمذي وصحيح ابن حبّان : من حديث عدي بن حاتم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اليهود مغضوب عليهم. والنصارى ضالون» (١).

ففي ذكر المنعم عليهم ـ وهم من عرف الحق واتبعه ـ والمغضوب عليهم ـ وهم من عرفه واتبع هواه ـ والضالين ـ وهم من جهله ـ : ما يستلزم ثبوت الرسالة والنبوة. لأن انقسام الناس إلى ذلك هو الواقع المشهود. وهذه القسمة إنما أوجبها ثبوت الرسالة. وأضاف النعمة إليه ، وحذف فاعل الغضب لوجوه.

__________________

(١) أخرجه الترمذي برقم ٢٩٥٤ بلفظ : «واليهود مغضوب عليهم والنصارى ضلال».

١٥

منها : أن النعمة هي الخير والفصل. والغضب من باب الانتقام والعدل. والرحمة تغلب الغضب ، فأضاف إلى نفسه أكمل الأمرين ، وأسبقهما وأقواهما. وهذه طريقة القرآن في إسناد الخيرات والنعم إليه. وحذف الفاعل في مقابلتهما ، كقول مؤمني الجن ٧٢ : ١٠ (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) ومنه قوله الخضر في شأن الجدار واليتيمين ١٨ : ٨٢ (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما) وقال في خرق السفينة ١٨ : ٧٩ (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) ثم قال بعد ذلك (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) وتأمل قوله تعالى : ٢ : ١٨٧ (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) وقوله : ٥ : ٤ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) وقوله : ٤ : ٢٤ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) ـ ثم قال ـ (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ).

وفي تخصيصه لأهل الصراط المستقيم بالنعمة ما دل على أن النعمة المطلقة هي الموجبة للفلاح الدائم. وأما مطلق النعمة فعلى المؤمن والكافر. فكل الخلق في نعمه. وهذا فصل النزاع في مسألة : هل لله على الكافر من نعمة أم لا؟.

فالنعمة المطلقة لأهل الإيمان. ومطلق النعمة يكون للمؤمن والكافر ، كما قال تعالى : ١٤ : ٣٤ (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ).

والنعمة من جنس الإحسان ، بل هي الإحسان. والرب تعالى إحسانه على البر والفاجر. والمؤمن والكافر. وأما الإحسان المطلق فللذين اتقوا والذين هم محسنون.

الوجه الثاني : أن الله سبحانه هو المنفرد بالنعم : ١٦ : ٥٣ (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) فأضيف إليه ما هو منفرد به. وإن أضيف إلى غيره فلكونه طريقا ومجرى للنعمة. وأما الغضب على أعدائه فلا يختص به

١٦

تعالى ، بل ملائكته وأنبياؤه ورسله وأولياؤه يغضبون لغضبه. فكان في طلبة المغضوب عليهم» بموافقة أوليائه له : من الدلالة على تفرده بالإنعام ، وأن النعمة المطلقة منه وحده ، هو المنفرد بها ـ ما ليس في لفظه «المنعم عليهم».

الوجه الثالث : أن في حذف فاعل الغضب من الإشعار بإهانة المغضوب عليه وتحقيره ، وتصغير شأنه ، ما ليس في ذكر فاعل النعمة ، من إكرام المنعم عليه والإشادة بذكره ، ورفع قدره : ما ليس في حذفه. فإذا رأيت من قد أكرمه ملك وشرفه ، ورفع قدره ، فقلت : هذا الذي أكرمه السلطان ، وخلع عليه وأعطاه ما تمناه. كان أبلغ في الثناء والتعظيم من قولك : هذا الذي أكرم وخلع عليه وشرف وأعطي.

وتأمل سرا بديعا في ذكر السبب والجزاء للطوائف الثلاثة بأوجز لفظ وأخصره. فإن الإنعام عليهم يتضمن إنعامه بالهداية التي هي العلم النافع والعمل الصالح. وهي الهدى ودين الحق. ويتضمن كمال الإنعام بحسن الثواب والجزاء. فهذا تمام النعمة. ولفظ «أنعمت عليهم» يتضمن الأمرين. وذكر غضبه على المغضوب عليهم يتضمن أيضا أمرين : الجزاء بالغضب الذي موجبه غاية العذاب والهوان ، والسبب الذي استحقوا به غضبه سبحانه. فإنه أرحم وأرأف من أن يغضب بلا جناية منهم ولا ضلال. فكأن الغضب عليهم مستلزم لضلالهم. وذكر الضالين مستلزم لغضبه عليهم وعقابه لهم. فإن من ضل استحق العقوبة التي هي موجب ضلالة وغضب الله عليه. فاستلزم وصف كل واحد من الطوائف الثلاث للسبب والجزاء أبين استلزام ، واقتضاه أكمل اقتضاء ، في غاية الإيجاز والبيان والفصاحة ، مع ذكر الفاعل في أهل السعادة ، وحذفه في أهل الغضب. وإسناد الفعل إلى السبب في أهل الضلال.

وتأمل المقابلة بين الهداية والنعمة ، والغضب والضلال. فذكر

١٧

المغضوب عليهم والضالين في مقابلة المهتدين المنعم عليهم. وهذا كثير في القرآن : يقرن بين الضلال والشقاء ، وبين الهدى والفلاح. فالثاني كقوله : ٢ : ٥ (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وقوله : ٦ : ٨٢ (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) والأول كقوله تعالى : ٥٤ : ٤٧ (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) وقوله : ٢ : ٧ (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ ، وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وقد جمع سبحانه بين الأمور الأربعة في قوله : ٢٠ : ١٢٤ (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً ، فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) فهذا الهدى والسعادة. ثم قال : ٢٠ : ١٢٥ (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً. وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى. قالَ : رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى ، وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً؟ قالَ : كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها ، وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) فذكر الضلال والشقاء. فالهدى والسعادة متلازمان. والضلال والشقاء متلازمان.

فصل

وذكر الصراط المستقيم منفردا ، معرفا تعريفين : تعريفا باللام ، وتعريفا بالإضافة. وذلك يفيد تعيّنه واختصاصه ، وأنه صراط واحد. وأما طرق أهل الغضب والضلال فإنه سبحانه يجمعها ويفردها ، كقوله : ٦ : ١٥٣ (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ، وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) فوحّد لفظ الصراط وسبيله. وجمع السبل المخالفة له. وقال ابن مسعود : «خطّ لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطّا ، وقال : هذا سبيل الله ، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن يساره ، وقال : هذه سبل ، وعلى كل سبيل شيطان يدعو إليه ، ثم قرأ قوله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ. ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١)» وهذا لأن

__________________

(١) أخرجه الترمذي برقم ٢٤٥٤ وقال : خطا مربعا ، وأخرجه الحاكم في المستدرك ٢ / ٣١٨.

١٨

الطريق الموصل إلى الله واحد. وهو ما بعث به رسله وأنزل به كتبه. لا يصل إليه أحد إلا من هذه الطريق. ولو أتى الناس من كل طريق ، واستفتحوا من كل باب ، فالطرق عليهم مسدودة ، والأبواب عليهم مغلقة ، إلا من هذا الطريق الواحد. فإنه متصل بالله ، موصل إلى الله ، قال الله تعالى : ١٥ : ٤١ (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) قال الحسن معناه : صراط إليّ مستقيم. وهذا يحتمل أمرين : أن يكون أراد به أنه من باب إقامة الأدوات بعضها مقام بعض ، فقامت أداة «على» مقام «إلى» والثاني : أنه أراد التفسير على المعنى. وهو الأشبه بطريق السلف. أي صراط موصل إلي وقال مجاهد (١) : الحق يرجع إلى الله ، وعليه طريقه ، لا يعرّج على شيء. وهذا مثل قول الحسن وأبين منه. وهو من أصح ما قيل في الآية. وقيل : «على» فيه للوجوب ، أي عليّ بيانه والدلالة عليه. والقولان نظير القولين في آية النحل. وهي : ١٦ : ٩ (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) والصحيح فيها كالصحيح في آية الحجر : أن السبيل القاصد ـ وهو المستقيم المعتدل ـ يرجع إلى الله ، ويوصل إليه قال طفيل الغنوي :

مضوا سلفا ، قصد السبيل عليهم

وصرف المنايا بالرجال تقلب

أي ممرنا عليهم ، وإليهم وصولنا. وقال الآخر :

فهن المنايا : أيّ واد سلكته

عليها طريقي ، أو عليّ طريقها

فإن قيل : لو أريد هذا المعنى لكان الأليق به أداة «إلى» التي هي للانتهاء ، لا أداة «على» التي هي للوجوب. ألا ترى أنه لما أراد الوصول

__________________

(١) هو الإمام أبو الحجاج مجاهد بن جبر الحبر المكي ، قال حصيف : كان أعلمهم بالتفسير ، قال الأعمش : كنت إذا رأيت مجاهدا تراه مغموما ، فقيل له في ذلك فقال : أخذ عبد الله يعني ابن عباس بيدي ثم أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيدي وقال لي : «يا عبد الله كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» مات مجاهد بمكة وهو ساجد سنة ثلاث ومائة وهو ابن ثلاث وثمانين سنة. (انظر شذرات الذهب).

١٩

قال : ٨٨ : ٢٥ ، ٢٦ (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) وقال : ٣٠ : ٢٣ (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) ٦ : ١٠٨ (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ) وقال. لما أراد الوجوب ٨٨ : ٢٦ (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) ٧٥ : ١٧ (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) ٦ : ٣٨ (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) ونظائر ذلك؟.

قيل : في أداة «على» سر لطيف. وهو الإشعار بكون السالك على هذا الصراط على هدى. وهو حق. كما قال في حق المؤمنين : ٢ : ٥ (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) وقال لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ٢٧ : ٧٩ (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) والله عزوجل هو الحق ، وصراطه حق ، ودينه حق. فمن استقام على صراطه فهو على الحق والهدى. فكان في أداة «على» على هذا المعنى ما ليس في أداة «إلى» فتأمله ، فإنه سريع بديع.

فإن قلت : فما الفائدة في ذكر «على» في ذلك أيضا. وكيف يكون المؤمن مستعليا على الحق ، وعلى الهدى؟.

قلت : لما فيه من استعلائه وعلوه بالحق والهدى ، مع ثباته عليه واستقامته إليه. فكان في الإتيان بأداة «على» ما يدل على علوه وثبوته واستقامته. وهذا بخلاف الضلال والرّيب. فإنه يؤتي فيه بأداة «في» الدالة على انغماس صاحبه ، وانقماعه (١) وتدسسه فيه ، كقوله تعالى : ٩ : ٤٥ (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) وقوله : ٦ : ٣٩ (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ) وقوله : ٢٣ : ٢٥ (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) وقوله : ٤٢ : ١٤ (إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) وتأمل قوله تعالى : ٣٤ : ٢٤ (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) فإن طريق الحق تأخذ

__________________

(١) قمع : المقمعة بالكسر واحد المقامع من حديد كالحجن يضرب بها على رأس الفيل ، وقمعه ضربه بها ، وقمعه وأقمعه أي قهره وأذله فانقمع.

٢٠