التفسير القيّم

ابن القيّم الجوزيّة

التفسير القيّم

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الشيخ إبراهيم محمّد رمضان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

سورة الرحمن

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦))

لم يقل «فيها» لأن عند الفناء ليس الحال حال القرار والتمكين.

قول الله تعالى ذكره :

(مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤))

وقال تعالى : ٥٦ : ٣٤ (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ).

فوصف الفرش بكونها مبطنة بالإستبرق. وهذا يدل على أمرين.

أحدهما : أن ظهائرها أعلى وأحسن من بطائنها. لأن بطائنها للأرض ، وظهائرها للجمال والزينة والمباشرة.

قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي هبيرة ابن مريم عن ابن مسعود في قوله : (بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) قال : هذه البطائن قد أخبرتم بها. فكيف بالظهائر؟

٥٠١

الثاني : يدل على أنها فرش عالية ، لها سمك وحشو بين البطانة والظهارة.

وقد روي في سمكها وارتفاعها آثار ـ إن كانت محفوظة ـ فالمراد : ارتفاع محلها ، كما رواه الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) قال : «ارتفاعها كما بين السماء والأرض ، ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام» قال الترمذي : حديث غريب ، لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد.

قيل : ومعناه : أن الارتفاع المذكور للدرجات والفرش عليها.

قلت : رشدين بن سعد عنده مناكير. قال الدارقطني : ليس بالقوى. وقال أحمد : لا يبالي عمن يروي. وليس به بأس في الرقاق. وقال : أرجو أنه صالح الحديث. وقال يحي بن معين : ليس بشيء. وقال أبو زرعة : ضعيف. وقال الجوزجاني : عنده مناكير. لا ريب أنه كان سيء الحفظ. فلا يعتمد على ما ينفرد به.

وقال ابن وهب : حدثنا عمرو بن الحارث عن درّاج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) قال : «ما بين الفراشين كما بين السماء والأرض».

وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ. فالله أعلم.

وقال الطبراني : حدثنا المقدام بن داوود حدثنا أسد بن موسى حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن مطرّف بن عبد الله بن الشّخّير عن كعب في قوله عزوجل : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) قال «مسيرة أربعين سنة».

وقال الطبراني : حدثنا إبراهيم بن نائلة حدثنا إسماعيل بن عمرو البجلي حدثنا إسرائيل عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة قال : «سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الفرش المرفوعة؟ فقال : لو طرح فراش من أعلاها

٥٠٢

لهوى إلى قرارها مائة خريف».

وفي رفع هذا الحديث نظر. فقد قال ابن أبي الدنيا : حدثنا اسحق بن إسماعيل حدثنا معاذ بن هشام قال : وجدت في كتاب أبي عن القاسم عن أبي أمامة في قوله عزوجل : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) قال : «لو أن أعلاها سقط ما بلغ أسفلها بعد أربعين خريفا».

قول الله تعالى ذكره :

(فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦))

وصفهن سبحانه بقصر في ثلاثة مواضع. أحدها : هذا.

والثاني : قوله تعالى في الصافات : ٣٧ : ٤٨ (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ).

والثالث : قوله تعالى في ص : ٣٨ : ٥٢ (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ).

وأجمع المفسرون كلهم على أن المعنى : أنهن قصرن طرفهن على أزواجهن ، فلا يطمحن إلى غيرهم.

وقيل : قصرن طرف أزواجهن عليهن. فلا يدعهم حسنهن وجمالهن أن ينظروا إلى غيرهن.

وهذا صحيح من جهة المعنى. وأما من جهة اللفظ : فقاصرات صفة مضافة إلى الفاعل لحسان الوجوه. وأصله قاصر طرفهن ، أي ليس بطامح متعد.

قال آدم : حدثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : (قاصِراتُ الطَّرْفِ) قال : يقول قاصرات الطرف على أزواجهن ، فلا يبغين

٥٠٣

غير أزواجهن. وقال آدم : حدثنا المبارك بن فضالة (١) عن الحسن قال : قصرن طرفهن على أزواجهن ، فلا يردن غيرهم. والله ما هن متبرجات ، ولا متطلعات.

وقال منصور عن مجاهد : قصرن أبصارهن وقلوبهن وأنفسهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم. وفي تفسير سعيد عن قتادة قال : قصرن أطرافهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم.

وأما «الأتراب» فجمع ترب ، وهو لدة الإنسان.

قال أبو عبيدة ، وأبو إسحاق : أقران ، أسنانهن واحدة. قال ابن عباس. وسائر المفسرين : مستويات على سن واحدة ، وميلاد واحد ، بنات ثلاث وثلاثين سنة. وقال مجاهد «أتراب» أمثال. وقال أبو إسحاق : هن في غاية الشباب والحسن ، وسمي ندّ الإنسان وقرنه : تربة. لأنه مسّ تراب الأرض معه في وقت واحد.

والمعنى من الأخبار باستواء أسنانهن : أنهن ليس فيهن عجائز ، قد فات حسنهن ، ولا ولائد لا يطقن الوطء ، بخلاف الذكور ، فإن فيهم الولدان ، وهم الخدم.

وقد اختلف في مفسر الضمير في قوله : «فيهن».

فقالت طائفة : مفسره الجنتان ، وما حوتاه من القصور والغرف والخيام.

__________________

(١) هو مبارك بن فضالة البصري مولى قريش. قال ابن ناصر الدين المبارك بن فضالة بن أبي أمية كان كثير التدليس فتكلم فيه وذكر ابو زرعة وغيره أن المبارك إذا قال حدثنا فهو ثقة مقبول. وقال أبو داود : مدلس فإذا قال حدثنا فهو ثبت. وقال مبارك : جالست الحسن ثلاث عشرة سنة وقال أحمد ما رواه عن الحسن يحتج به ، وخرج له الترمذي وأبو داود والعقيلي. توفي سنة أربع وستين ومائة. (انظر شذرات الذهب).

٥٠٤

وقالت طائفة : مفسره الفرش المذكورة في قوله : (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) و «في» هنا بمعنى «على».

وقوله تعالى : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) قال أبو عبيدة : لم يمسهن ، يقال : ما طمث هذا البعير حبل قط أي ما مسّه.

وقال يونس : تقول العرب : هذا جمل ما طمثه حبل قط ، أي ما مسه.

وقال الفراء : الطمث : الافتضاض ، وهو النكاح بالتدمية. والطمث هو الدم. وفيه لغات. طمث : يطمث ، ويطمث.

قال الليث : طمثت الجارية ، إذا افترعتها ، والطامث في لغتهم هي الحائض. وقال أبو الهيثم : يقال للمرأة طمثت تطمث ، إذا أدميت بالافتضاض. وطمثت عليّ ـ فعلت ـ تطمث ، إذا حاضت أول ما تحيض ، فهي طامث. وقال في قول الفرزدق :

خرجن إليّ لم يطمثن قبلي

وهن أصح من بيض النعام

أي لم يمسسن. قال المفسرون : لم يطأهن ولم يغشهن ولم يجامعهن. هذه ألفاظهم. وهم مختلفون في هؤلاء. فبعضهم يقول : هن اللواتي أنشئن في الجنة من حورها. وبعضهم يقول : يعني نساء الدنيا أنشئن خلقا آخر أبكارا. كما وصفن. قال الشعبي : نساء من نساء الدنيا ، لم يمسسن منذ أنشئن خلقا. وقال مقاتل : لأنهن خلقن في الجنة. وقال عطاء ، عن ابن عباس : هن الآدميات اللاتي متن أبكارا. وقال الكلبي : لم يجامعهن في هذا الخلق الذي أنشئن فيه إنس ولا جان.

قلت : ظاهر القرآن. أن هؤلاء النسوة لسن من نساء الدنيا وإنما هن من الحور العين. وأما نساء الدنيا فنساء الإنس قد طمثهن الإنس ، ونساء الجن قد طمثهن الجن. والآية تدل على ذلك.

٥٠٥

قال أبو إسحاق : وفي هذه الآية دليل على أن الجني يغشى كما أن الإنسي يغشى.

ويدل على أنهن الحور اللاتي خلقن في الجنة : أنه سبحانه جعلهن مما أعده الله في الجنة لأهلها ، من الفواكه والثمار والأنهار والملابس وغيرها.

ويدل عليه أيضا الآية التي بعدها ، وهي قوله تعالى : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) ثم قال : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) قال الامام أحمد : والحور العين لا يمتن عند النفخ في الصور ، لأنهن خلقهن للبقاء.

وفي الآية دليل لما ذهب إليه الجمهور : أن مؤمني الجن في الجنة ، كما أن كافرهم في النار. وبوب عليه البخاري في صحيحه فقال «باب ثواب الجن وعقابهم» ونص عليه غير واحد من السلف. قال ضمرة بن حبيب ـ وقد سئل : هل للجن ثواب؟ فقال : نعم. وقرأ هذه الآية. ثم قال : الإنسيات للانس ، والجنيات للجن. وقال مجاهد في هذه الآية : إذا جامع الرجل ولم يسمّ انطوى الجان على إحليله فجامع معه.

والضمير في قوله : «قبلهم» للمعنيين بقوله «متكئين» وهم أزواج هؤلاء النسوة.

وقوله : (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) ، قال الحسن وعامة المفسرين : أراد صفاء الياقوت في بياض المرجان ، شبههن في صفاء اللون وبياضه بالياقوت والمرجان ، ويدل عليه ما قاله عبد الله «إن المرأة من نساء أهل الجنة لتلبس عليها سبعين حلة من حرير ، فيرى بياض ساقيها من ورائهن ، ذلك بأن الله يقول : (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) ألا وإن الياقوت حجر ، لو جعلت فيه سلكا ثم استصفيته لنظرت إلى السلك من وراء الحجر».

٥٠٦

قول الله تعالى ذكره :

(فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠))

فالخيرات : جمع خيرة ، وهي مخففة ، من خيّرة كسيّدة ولينة ، و «حسان» جمع حسنة. فهن خيرات الصفات والأخلاق والشيم ، حسان الوجوه. قال وكيع : حدثنا سفيان عن جابر عن القاسم عن أبي برزة عن أبي عبيدة عن مسروق عن عبد الله قال : «لكل مسلم خيّرة ، ولكل خيّرة خيمة ، ولكل خيمة أربعة أبواب ، يدخل عليها في كل يوم من كل باب تحفة وهدية وكرامة ، لم تكن قبل ذلك. لا ترحات ولا ذفرات ، ولا بخرات ولا طماحات».

قول الله تعالى ذكره :

(حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢))

المقصورات : المحبوسات. قال أبو عبيدة : خدرن في الخيام. وكذلك قال مقاتل في الخيام. وفيه معنى آخر. هو أن يكون المراد أنهن محبوسات على أزواجهن لا يرين غيرهم ، وهم في الخيام. وهذا معنى قول من قال : قصرن على أزواجهن ، فلا يرين غيرهم ، ولا يطمحن إلى من سواهم ، وذكره الفراء.

قلت : وهذا معنى «قاصرات الطرف» لكن أولئك قاصرات بأنفسهن ، وهؤلاء مقصورات ، وقوله : «في الخيام» على هذا القول : صفة لحور. أي هن في الخيام. وليس معمول لمقصورات ، وكأن أرباب هذا القول فسروه بأن يكن محبوسات في الخيام لا يفارقنها إلى الغرف والبساتين.

وأصحاب القول الأول : يجيبون عن هذا : بأن الله سبحانه وصفهن بصفات النساء المخدرات المصونات. وذلك أجمل في الوصف. ولا يلزم من ذلك أنهن لا يفارقن الخيام إلى الغرف والبساتين ، كما أن نساء الملوك

٥٠٧

ومن دونهن من النساء المخدرات المصونات يمنعن أن يخرجن في سفر وغيره إلى متنزه وبستان ونحوه فوصفهن اللازم لهن : هو القصر في البيت ، وإن كان يعرض لهن مع الخدم الخروج إلى البساتين ونحوها.

وأما مجاهد فقال : مقصورات قلوبهن على أزواجهن في خيام اللؤلؤ.

وقد تقدم وصف النسوة الأول. بكونهن قاصرات الطرف ، وهؤلاء بكونهن مقصورات. والوصفان لكلا النوعين ، فإنهما صفتا كمال. فتلك الصفة قصر الطرف عن طموحه إلى غير الأزواج ، وهذه الصفة قصرهن عن التبرج والبروز والظهور للرجال.

قول الله تعالى ذكره :

(مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦)) وقال تعالى : ٨٨ : ١٣ ـ ١٥ (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ ، وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ ، وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ ، وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ).

وذكر هشام عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال : الرفرف رياض الجنة. والعبقري : عتاق الزرابي. وذكر إسماعيل بن عليّة عن أبي رجاء عن الحسن. في قوله تعالى : (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) قال : هي البسط. قال : وأهل المدينة يقولون : هي البسط.

وأما النمارق. فقال الواحدي : هي الوسائد في قول الجميع ، واحدتها : نمرقة. بضم النون. وحكى الفراء نمرقة بكسرها ، وأنشد أبو عبيدة :

إذا ما بساط اللهو مدّ وقربت

للذاته أنماطه ونمارقه

وقال الكلبي : وسائد مصفوفة بعضها إلى بعض. وقال مقاتل : هي الوسائد مصفوفة على الطنافس. والزرابي بمعنى البسط ، والطنافس.

٥٠٨

واحدتها : زربية. في قول جميع أهل اللغة والتعبير ، و «مبثوثة» مبسوطة ومنشورة.

فصل

وأما «الرفرف» فقال الليث : هو ضرب من الثياب خضر تبسط. الواحد رفرفة. وقال أبو عبيدة : الرفارف : البسط وأنشد لابن مقبل :

وإنا لنزّالون تغشى نعالنا

سواقط من أصناف ريط ورفرف

وقال أبو إسحاق ، قالوا ، الرفرف هاهنا رياض الجنة. وقالوا : الرفرف الوسائد. وقالوا : الرفرف المحابس. وقالوا : فضول المحابس للفرش. وقال المبرد : هو فضول الثياب التي تتخذ الملوك في الفرش وغيره.

قال الواحدي : وكأن الأقرب هذا. لأن العرب تسمى كسر الخباء والخرقة التي تخلط في أسفل الخباء رفرفا. ومنه الحديث في وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فرفع الرفرف ، فرأينا وجهه كأنه ورقة».

قال ابن الاعرابي : الرفرف هاهنا طرف الفسطاط. فشبه ما فضل من المحابس عما تحته بطرف الفسطاط ، فسمي رفرفا.

قلت : أصل هذه الكلمة من الطرف أو الجانب ، فمنه الرفرف في الحائط ، ومنه الرفرف ، وهو كسر الخباء ، وجوانب الدرع ، وما تدلى منها ، الواحدة رفرفة. ومنه : رفرف الطير إذا حرك جناحه حول الشيء ، يريد أن يقع عليه. والرفرف : ثياب خضر يتخذ منها المحابس. الواحدة رفرفة ، وكل ما فضل من شيء فثني وعطف : فهو رفرف ، وفي حديث ابن مسعود في قول الله عزوجل : (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) قال : «رأى رفرفا أخضر سدّ الأفق» وهو في الصحيحين.

٥٠٩

فصل

وأما «العبقري» فقال أبو عبيدة : كل شيء من البسط عبقري. قال : ويرون أنها أرض توشّى البسط فيها ، وقال الليث : عبقر : موضع بالبادية كثير الجن ، يقال : كأنه جن عبقر.

قال أبو عبيدة ، في حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حين ذكر عمر «فلم أر عبقريا يفري فريه» وإنما أصل هذا ، فيما يقال : أنه نسب إلى عبقر ، وهي أرض يسكنها الجن ، فصار مثلا لكل منسوب إلى شيء رفيع ، وأنشد لزهير :

تخيل عليها جنة عبقرية

جديرون يوما أن ينالوا فيستعملوا

وقال أبو الحسن الواحدي : وهذا القول هو الصحيح في العبقري. وذلك أن العرب إذا بالغت في وصف شيء نسبته إلى الجن ، أو شبهته بهم. ومنه قول لبيد :

جن الردى رواسيا أقدامها

وقال آخر يصف امرأة :

جنية ، ولها جن يعلمها

رمى القلوب بقوس ما لها وتر

وذلك أنهم يعتقدون في الجن كل صفة عجيبة ، وأنهم يأتون كل أمر عجيب ولما كان «عبقر» معروفا بسكناهم نسبوا كل شيء يبالغ فيه إليه ، يريدون بذلك أنه من عملهم وصنعهم ، هذا هو الأصل ، ثم صار العبقري نعتا لكل ما بولغ في صفته.

ويشهد لما ذكرنا : بيت زهير ، فإنه نسب الجن إلى عبقر.

ثم رأينا أشياء كثيرة نسبت إلى عبقر غير البسط والثياب ، كقوله في صفة عمر «عبقريا» وروى سلمة عن الفراء قال : العبقري الرشيد من الرجال ، وهو الفاخر من الحيوان والجوهر ، فلو كانت «عبقر» مخصوصة

٥١٠

بالوشي ، لما نسب إليها غير الموشّى وإنما نسب إليها البسط الموشاة العجيبة الصنعة ، كما ذكرنا. كما نسب إليها كل شيء ما بولغ في وصفه ، قال ابن عباس : وعبقري ، يريد البسط والطنافس ، وقال الكلبي : هي الطنافس المجمّلة ، وقال قتادة : هي عتاق الزرابي ، وقال مجاهد : الديباج الغليظ.

وعبقري ، جمع ، واحده عبقرية ، ولها وصف بالجمع

فتأمل كيف وصف الله سبحانه وتعالى الفرش بأنها مرفوعة ، والزرابي بأنها مبثوثة ، والنمارق بأنها مصفوفة ، فرفع الفرش دال على سمكها ولينها. وبث الزرابي دال على كثرتها ، وأنها في كل موضع ، لا يختص بها صدر المجلس دون مؤخره ، ووصف المساند يدل على أنها مهيأة للاستناد إليها دائما ، ليست مخبأة تصف في وقت دون وقت.

وللجنة عدة أسماء ، باعتبار صفاتها ، ومسماها واحد باعتبار الذات. فهي مترادفة من هذا الوجه ، وتختلف باعتبار الصفات. فهي متباينة من هذا الوجه. وهكذا أسماء الرب سبحانه وتعالى ، وأسماء الرب سبحانه وتعالى ، وأسماء كتابه. وأسماء رسله. وأسماء اليوم الآخر. وأسماء النار.

فالاسم الأول : «الجنة» وهو الاسم العام المتناول لتلك الدار ، وما اشتملت عليه من أنواع النعيم واللذة ، والبهجة والسرور ، وقرة الأعين.

وأصل اشتقاق هذه اللفظة : من التسر والتغطية. ومنه الجنين ، لاستتاره في البطن ، والجان لاستتاره عن العيون ، والمجنّ لستره ووقايته الوجه. والمجنون لاستتار عقله وتواريه عنه. والجان ، وهي الحية الصغيرة الرقيقة.

ومنه قول الشاعر :

فدقّت وجلت واسبكرّت وأكملت

فلو جنّ إنسان من الحسن جنت

أي لو غطي وستر عن العيون لفعل بها ذلك. ومنه سمي البستان جنة.

٥١١

لأنه يستر داخله بالأشجار ويغطيه. ولا يستحق هذا الاسم إلا الموضع الكثير الأشجار المختلفة الأنواع.

والجنة ـ بالضم ـ ما يستجن به ، من ترس أو غيره. ومنه قوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) يستترون بها من إنكار المؤمنين عليهم. ومنه الجنة ـ بالكسر ـ وهم الجن ، كما قال تعالى : (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ).

وذهبت طائفة من المفسرين إلى أن الملائكة يسمون جنة. واحتجوا بقوله تعالى : ٣٧ : ١٥٨ (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) قالوا : وهذا النسب قولهم : الملائكة بنات الله. ورجحوا هذا القول بوجهين.

أحدهما : أن النسب الذي جعلوه إنما زعموا أنه بين الملائكة وبينه لا بين الجن وبينه.

الثاني : قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي قد علمت الملائكة أن الذين قالوا هذا القول محضرون للعذاب.

والصحيح : خلاف ما ذهب إليه هؤلاء ، وأن الجنة هم الجن أنفسهم ، كما قال تعالى : (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) وعلى هذا ففي الآية قولان.

أحدهما : قول مجاهد : قال : قالت كفار قريش : الملائكة بنات الله. فقال لهم أبو بكر : فمن أمهاتهم؟ قالوا : سروات الجن. وقال الكلبي : قالوا تزوج من الجن ، فخرج من بينهما الملائكة. وقال قتادة ، قالوا : صاهر الجن. والقول الثاني : هو قول الحسن. قال : أشركوا الشياطين في عبادة الله. فهو النسب الذي جعلوه.

والصحيح قول مجاهد وغيره.

وما احتج به أصحاب القول الأول ليس بمستلزم لصحة قولهم. فإنهم لما قالوا : الملائكة بنات الله ، وهم من الجن ، عقدوا بينه وبين الجنة نسبا

٥١٢

بهذا الإيلاد وجعلوا هذا النسب متولدا بينه وبين الجن.

وأما قوله : (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) فالضمير يرجع إلى الجنة ، أي قد علمت الجنة أنهم محضرون الحساب. قاله مجاهد ، أي لو كان بينه وبينهم نسب لم يحضروا الحساب ، كما قال تعالى : ٥ : ١٨ (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ. قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ؟ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) فجعل سبحانه عقوبتهم بذنوبهم وإحضارهم للعذاب مبطلا لدعواهم الكاذبة.

وهذا التقدير في الآية أبلغ في إبطال قولهم من التقدير الأول فتأمله.

الإسم الثاني : دار السلام ، وقد سماها الله تعالى بهذا الإسم في قوله : ٦ : ١٢٧ (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) وقوله : ١٠ : ٢٥ (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) وهي أحق بهذا الإسم. فإنها دار السلامة من كل بلية وآفة ومكروه. وهي دار الله. واسمه سبحانه وتعالى «السلام» الذي سلمها وسلم أهلها ، وتحيتهم فيها سلام (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) والرب تعالى يسلم عليهم من فوقهم ، كما قال تعالى : ٣٦ : ٥٧ ، ٥٨ (لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ. سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) وحديث جابر في سلام الرب تعالى على أهل الجنة. وكلامهم كله فيها سلام ، أي لا لغو فيها ، ولا فحش ولا باطل ، كما قال تعالى : ١٩ : ٦٢ (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً).

وأما قوله تعالى : ٥٦ : ٩٠ ، ٩١ (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) فأكثر المفسرين حاموا حول المعنى ، وما وردوه. وقالوا أقوالا لا يخفي بعدها عن المقصود.

وإنما معنى الآية ـ والله أعلم ـ فسلام لك أيها الراحل عن الدنيا حال كونك من أصحاب اليمين ، أي فسلام لك كائنا من أصحاب اليمين الذين سلموا من الدنيا وأنكادها ، ومن النار وعذابها ، فبشر بالسلامة عند ارتحاله

٥١٣

من الدنيا وقدومه على الله ، كما يبشر الملك روحه عند أخذها ، بقوله : «أبشري بروح وريحان ورب غير غضبان».

وهذا أول البشرى التي للمؤمن في الآخرة.

الإسم الثالث : دار الخلد. وسميت بذلك. لأن أهلها ، لا يظعنون عنها أبدا كما قال تعالى : ١١ : ١٠٨ (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) وقال : ٣٨ : ٥٤ (إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) وقال : ١٣ : ٣٥ (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) وقال : ١٥ : ٤٨ (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ).

الإسم الرابع : دار المقامة. قال تعالى حكاية عن أهلها ٣٥ : ٣٤ (وَقالُوا : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ، الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ. لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ) قال مقاتل : أنزلنا دار الخلود ، أقاموا فيها أبدا ، لا يموتون ولا يتحولون منها أبدا.

قال الفراء والزجاج : المقامة : مثل الإقامة. يقال : أقمت بالمكان إقامة ، ومقامة ، ومقاما.

الإسم الخامس : جنة المأوى. قال تعالى : ٥٣ : ١٥ (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى).

الإسم السادس : جنات عدن. فقيل : هي اسم لجنة من الجنان : والصحيح أنه اسم لجملة الجنان ، وكلها جنات عدن. قال تعالى : ١٩ : ٦١ (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) وقال تعالى ٣٥ : ٣٣ (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً. وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) وقال تعالى : ٩ : ٧٢ (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) والاشتقاق يدل على أن جميعها جنات عدن. فإنه من الإقامة والدوام. يقال : عدن بالمكان : إذا أقام به. وعدنت البلد : توطنته. وعدنت الإبل بمكان كذا : لزمته فلم تبرح منه. وقال الجوهري : ومنه جنات عدن ، أي

٥١٤

إقامة. ومنه سمي المعدن ـ بكسر الدال ـ لأن الناس يقيمون فيه الصيف والشتاء. ومركز كل شيء : معدنه. والعادن : الناقة المقيمة في المرعى.

الإسم السابع : دار الحيوان. قال تعالى : ٢٩ : ٦٤ (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) والمراد : الجنة عند أهل التفسير. قالوا : وإن الآخرة. يعني الجنة ، لهي الحيوان. لهي دار الحياة التي لا موت فيها.

وقال الكلبي : هي حياة لا موت فيها. وقال الزجاج : هي دار الحياة الدائمة وأهل اللغة : على أن «الحيوان» بمعنى الحياة.

قال أبو عبيدة وابن قتيبة : الحياة الحيوان. وقال أبو عبيدة : الحياة ، والحيوان ، والحي ـ بكسر الحاء ـ قال أبو علي : يعني أنها مصادر. فالحياة : فعلة. كالجلبة ، والحيوان : كالنّزوان والغليان ، والحيّ : كالعي ، قال العجاج :

كنا بها إذا الحياة حيّ

أي إذا الحياة حياة. وأما أبو زيد : فخالفهم ، وقال : الحيوان : لما فيه روح. والموتان الموت : مما لا روح فيه.

والصواب : أن الحيوان يقع على ضربين.

أحدهما : كما حكاه أبو عبيدة.

والثاني : وصف ، كما حكاه أبو زيد.

وعلى قول أبي زيد : الحيوان مثل الحي ، خلاف الميت.

ورجح القول الأول : بأن الفعلان : بابه المصادر ، كالنزوان ، والغليان ، بخلاف الصفات. فإن بابها : فعلان ، كسكران وغضبان.

وأجاب من رجح القول الثاني : بأن فعلان قد جاء في الصفات أيضا. قالوا : رجل ضميان للسريع الخفيف ، وزفيان. قال في الصحاح : ناقة

٥١٥

زفيان سريعة. وقوس زفيان : سريعة الإرسال للسهم.

فيحتمل قوله تعالى : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) معنيين.

أحدهما : أن حياة الآخرة هي الحياة ، لأنها لا تنغيص فيها ، ولا نفاد لها ، أي لا يشوبها ما يشوب الحياة في هذه الدار.

فيكون «الحيوان» مصدرا على هذا.

الثاني : أن يكون المعنى : أنها الدار التي لا تفنى ، ولا تنقطع ، ولا تبيد ، كما يفنى الأحياء في هذه الدنيا. فهي أحق بهذا الاسم من الحيوان الذي يفنى ويموت.

الاسم الثامن : الفردوس. قال تعالى : ٢٣ : ١١ (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) وقال تعالى : ١٨ : ١٠٧ ، ١٠٨ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً. خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً).

الاسم التاسع : جنات النعيم. قال تعالى : ٣١ : ٨ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ).

وهذا أيضا اسم جامع لجميع الجنات ، لما تضمنته ، من الأنواع التي يتنعم بها أهلها : من المأكول ، والمشروب ، والملبوس ، والصور الجميلة ، والرائحة الطيبة ، والمنظر البهيج ، والمساكن الواسعة وغير ذلك من النعيم الظاهر والباطن.

الاسم العاشر : المقام الأمين. قال تعالى : ٤٤ : ٥١ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ).

الاسم الحادي عشر والثاني عشر : مقعد الصدق ، وقدم الصدق. قال تعالى : ٥٤ : ٥٤ ، ٥٥ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) فسمي جنته : مقعد صدق ، لحصول كل ما يراد من المقعد الحسن فيها ،

٥١٦

كما يقال : مودة صادقة ، إذا كانت ثابتة تامة. وحلاوة صادقة وحملة صادقة. ومنه الكلام الصدق ، لحصول مقصوده منه.

وموضع هذه اللفظة في كلامهم : الصحة والكمال. ومنه : الصدق في الحديث ، والصدق في العمل. والصدّيق : الذي يصدق قوله بالعمل. والصّدق ـ بفتح الصاد والدال ـ الصلب من الرماح ، ويقال للرجل الشجاع : إنه لذو صدق أي صادق الحملة. وهذا مصداق هذا : أي ما يصدّقه. ومنه الصداقة : لصفاء المودة والمخالّة. ومنه : صدقني القتال : وصدقني المودة. ومنه : قدم صدق. ولسان صدق. ومدخل صدق. ومخرج صدق. وذلك كله للحق الثابت المقصود الذي يرغب فيه. بخلاف الكذب الباطل ، الذي لا شيء تحته. وهو لا يتضمن أمرا ثابتا قط.

وفسر قوم «قدم صدق» بالجنة ، وفسرها آخرون بالأعمال التي تنال بها الجنة. وفسر بالسابقة التي سبقت لهم من الله. وفسر بالرسول الذي على يده ، وبهدايته نالوا ذلك.

والتحقيق : أن الجميع حق. فإنهم سبقت لهم من الله الحسنى بتلك السابقة أي بالأسباب التي قدمها لهم على يد رسله ، وادخر لهم جزاءها يوم القيامة. ولسان الصدق : وهو لسان الثناء الصادق بمحاسن الأفعال وجميل الطرائق.

وفي كونه لسان صدق : إشارة إلى مطابقته للواقع ، وأنه ثناء بحق لا بباطل ومدخل الصدق ، ومخرج الصدق : هو المدخل والمخرج الذي يكون صاحبه فيه ضامنا على الله. وهو دخوله وخروجه بالله ولله ، وهذه الدعو من أنفع الدعاء للعبد. فإنه لا يزال داخلا في أمر ، فمتى كان دخوله لله وبالله وخروجه كذلك ، كان قد أدخل مدخل صدق ، وأخرج مخرج صدق ، والله المستعان.

٥١٧
٥١٨

سورة الواقعة

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً ، فجعلناهن أبكاراً ، عرباً أترابا ، لاصحاب اليمين)

أعاد الضمير إلى النساء ، ولم يجر لهن ذكر. لأن الفرش دلت عليهن ، إذ هي محلهن ، وقيل : الفرش في قوله : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) كناية عن النساء ، كما يكنى عنهن بالقوارير والأزر وغيرها ، ولكن قوله : «مرفوعة» يأبى هذا إلا أن يقال : المراد رفعة القدر ، وقد تقدم تفسير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للفرش وارتفاعها.

فالصواب : أنها الفرش نفسها ، ودلت على النساء لأنها محلهن غالبا.

قال قتادة وسعيد بن جبير : خلقناهن خلقا جديدا. وقال ابن عباس : يريد نساء الآدميات.

وقال الكلبي ، ومقاتل : يعني نساء أهل الدنيا العجّز الشّمط. يقول الله : خلقناهن بعد الكبر والهرم بعد الخلق الأول في الدنيا.

٥١٩

ويؤيد هذا التفسير : حديث أنس المرفوع «هن عجائزكم العمش الرمص» رواه الثوري عن موسى بن عبيدة عن يزيد الرقاشي عنه.

ويؤيده أيضا ما رواه يحيى الحماني حدثنا ابن إدريس عن ليث عن مجاهد عن عائشة «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل عليها ، وعندها عجوز. فقال : من هذه؟ فقالت : إحدى خالاتي ، فقال : أما إنه لا يدخل الجنة عجوز ، فدخل على العجوز من ذلك ما شاء الله ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنا أنشأهن إنشاء خلقا آخر ، يحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلا ، وأول من يكسي إبراهيم خليل الله ، ثم قرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً).

قال آدم بن أبي إياس. حدثنا شيبان عن الزهري عن جابر الجعفي عن يزيد بن مرة عن سلمة بن يزيد قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في قوله : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) «يعني الثيبات والأبكار اللاتي كن في الدنيا».

قال آدم : وحدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يدخل الجنة العجز» ، فبكت عجوز ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أخبروها أنها يومئذ ليست بعجوز ، إنها يومئذ شابة. إن الله عزوجل يقول : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً)».

وقال ابن أبي شيبة : حدثنا أحمد بن طارق حدثنا مسعدة بن اليسع حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتته عجوز من الأنصار ، فقالت : يا رسول الله ، أدع الله أن يدخلني الجنة. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الجنة لا يدخلها عجوز. فذهب نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فصلى. ثم رجع إلى عائشة ، فقالت عائشة : لقد لقيت من كلمتك مشقة وشدة. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن ذلك كذلك إن الله تعالى إذا أدخلهن الجنة حوّلهن أبكارا».

وذكر مقاتل قولا آخر ، وهو اختيار الزجاج : أنهن الحور العين اللاتي ذكرهن قبل ، أنشأهن الله عزوجل لأوليائه لم يقع عليهن ولادة.

٥٢٠