التفسير القيّم

ابن القيّم الجوزيّة

التفسير القيّم

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الشيخ إبراهيم محمّد رمضان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

يمشي به في الطريق ويراها ، ويرى ما يحذره فيها.

وثانيها : أنه يمشي بنوره فهم يقتبسون فيه لحاجتهم إلى النور.

وثالثها : أنه يمشي بنوره يوم القيامة على الصراط إذا بقي أهل الشرك والنفاق في ظلمات شركهم ونفاقهم.

وقوله ، ٨ : ٤ (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) المشهور في الآية : أنه يحول بين المؤمن وبين الكفر ، وبين الكافر وبين الإيمان. ويحول بين أهل طاعته وبين معصيته وبين أهل معصيته وبين طاعته. وهذا قول ابن عباس وجمهور المفسرين : وفي الآية قول آخر : أن المعنى : أنه سبحانه قريب من قلبه لا تخفى عليه خافية. فهو بينه وبين قلبه. ذكره الواحدي عن قتادة.

وكان هذا أنسب بالسياق. لأن الاستجابة أصلها بالقلب فلا تنفع الاستجابة بالبدن. دون القلب. فإن الله سبحانه بين العبد وبين قلبه. فيعلم هل استجاب له قلبه ، وهل أضمر ذلك أو أضمر خلافه.

وعلى القول الأول : فوجه المناسبة : إنكم إن تثاقلتم عن الاستجابة وأبطأتم عنها فلا تأمنوا أن الله يحول بينكم وبين قلوبكم. فلا يمكنكم بعد ذلك من الاستجابة ، وعقوبة لكم على تركها بعد وضوح الحق واستبانته ، فيكون كقوله : ٦ : ١١٠ (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) وقوله : ٦١ : ٥ (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) وقوله : ٧ : ١٠١ (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ).

ففي الآية تحذير عن ترك الاستجابة بالقلب ، وإن استجاب بالجوارح.

وفي الآية سر آخر وهو أنه جمع لهم بين الشرع والأمر به وهو الاستجابة ، وبين القدر والإيمان به. فهي كقوله : ٨١ : ٢٨ ، ٢٩ (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ. وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) قوله :

٣٠١

٧٤ : ٥٥ : ٥٦ (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ. وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) والله أعلم.

قول الله تعالى ذكره :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤))

أي الله وحده كافيك وكافي أتباعك. فلا يحتاجون معه إلى أحد. وهاهنا تقديران.

أحدهما : أن تكون الواو عاطفة «من» على الكاف المجرورة ، ويجوز العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار على المذهب المختار وشواهده كثيرة وشبه المنع منه واهية.

والثاني أن تكون الواو واو المعية وتكون «من» في محل نصب عطفا على الموضع فإن «حسبك» في معنى كافيك ، أي الله يكفيك ويكفي من اتبعك ، كما تقول العرب : حسبك وزيدا درهم قال الشاعر :

إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا

فحسبك والضحاك سيف مهند

وهذا أصح التقديرين :

وفيها تقدير ثالث : أن تكون «من» في موضع رفع بالابتداء أي : ومن اتبعك من المؤمنين حسبهم الله.

وفيها تقدير رابع ـ وهو خطأ من جهة المعنى ـ وهو أن يكون «من» في موضع رفع عطفا على اسم الله ، ويكون المعنى : حسبك الله وأتباعك.

وهذا ـ وإن قال به بعض الناس ـ فهو خطأ محض لا يجوز حمل الآية عليه فإن الحسب والكفاية لله وحده ، كالتوكل والتقوي والعبادة. قال الله تعالى : ٨ : ٦٢ (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ ، هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ

٣٠٢

بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) ففرق بين الحيب والتأييد. فجعل الحيب له وحده ، وجل التأييد له بنصره وبعباده.

وأثنى الله سبحانه على أهل التوحيد والتوكل من عباده حيث أفردوه بالحسب فقال تعالى : ٣ : ١٧٣ (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ : إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً ، وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) ولم يقولوا : حسبنا الله ورسوله. فإذا كان هذا قولهم ومدح الرب تعالى لهم بذلك ، فكيف يقول لرسوله «الله وأتباعك حسبك» وأتباعه قد أفردوا الرب تعالى بالحسب ولم يشركوا بينه وبين رسوله فيه؟ فكيف يشرك الله بينهم وبينه في حسب رسوله؟ هذا من أمحل المحال ، وأبطل الباطل.

ونظير هذا قوله تعالى : ٩ : ٥٩ (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ. إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ).

وتأمل كيف جعل الإيتاء لله ولرسوله. كما قال تعالى : ٥٩ : ٧ (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) وجعل الحسب له وحده ، فلم يقل : وقالوا حسبنا الله ورسوله ، بل جعله خالص حقه ، كما قال تعالى : (إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) ولم يقل : وإلى رسوله ، بل جعل الرغبة إليه وحده ، كما قال تعالى : ٩٤ : ٧ ، ٨ (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ).

فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب لله وحده ، كما أن العبادة والتقوى والسجود لله وحده والنذر والحلف لا يكون إلا له سبحانه وتعالى.

ونظير هذا : قوله تعالى : ٣٩ : ٣٦ (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) فالحسب هو الكافي. فأخبر سبحانه وتعالى أنه وحده كاف عبده. فكيف يجعل أتباعه مع الله في هذه الكفاية؟ والأدلة الدالة على بطلان هذا التأويل الفاسد أكثر من أن تذكر هاهنا.

وأما التثبيط فقال الله تعالى : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ

٣٠٣

عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦)) والتثبيط رد الإنسان عن الشيء الذي يفعله. قال ابن عباس : يريد خزلهم وكسلهم عن الخروج. وقال في رواية أخري : حبسهم. قال مقاتل : وأوحى إلى قلوبهم اقعدوا مع القاعدين. وقد بين سبحانه حكمته في هذا التثبيط والخذلان قبل وبعد ، فقال : ٩ : ٤٥ ـ ٤٦ (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) فلما تركوا الإيمان به وبلقائه ، وارتابوا بما لا ريب فيه ، ولم يريدوا الخروج في طاعة الله ، ولم يستدعوا له ، ولا أخذوا أهبة ذلك كره سبحانه انبعاث من هذا شأنه. فإن من لم يرفع به وبرسوله وكتابه رأسا ولم يقبل هديته التي أهداها إليه على يد أحب خلقه إليه وأكرمهم عليه ، ولم يعرف قدر هذه النعمة ولا شكرها ، بل بدلها كفرا. فإن طاعة هذا وخروجه مع رسوله يكرهه سبحانه فثبّطه لئلا يقع ما يكره من خروجه ، وأوحى إلى قلبه قدرا وكونا أن يقعد مع القاعدين.

ثم أخبر سبحانه عن الحكمة التي تتعلق بالمؤمنين في تثبيط هؤلاء عنهم فقال : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ (٤٧)) والخبال : الفساد والاضطراب فلو خرجوا مع المؤمنين لأفسدوا عليهم أمرهم. فأوقعوا بينهم الاضطراب والاختلال. قال ابن عباس : ما زادوكم إلا خبالا : عجزا وجبنا. يعني يجبنوهم عن لقاء العدو بتهويل أمرهم ، وتعظيمهم في صدورهم. ثم قال : ٩ : ٤٧ (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) أي أسرعوا في الدخول بينكم للتفريق والإفساد. قال ابن عباس : يريد أضعفوا شجاعتكم ، يعني بالتفريق بينهم ، لتفرق الكلمة فيجبنوا عن لقاء العدو. وقال الحسن : لأوضعوا خلالكم بالنميمة لإفساد ذات البين. وقال الكلبي : ساروا بينكم يبغونكم العيب. قال لبيد :

٣٠٤

أرانا موضعين لحتم عيب

وسحر بالطعام وبالشراب

أي مسرعين. ومنه قول عمر بن أبي ربيعة.

يتألهن بالعرفان لما عرفتني

وقلن امرؤ باغ أكلّ وأوضعا

أي أسرع حتى كلت مطيته (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) قال قتادة وفيكم من يسمع كلامهم ويطيعهم ، وقال ابن إسحاق : وفيكم قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه لشرفهم فيهم. ومعناه على هذا القول : وفيكم أهل سمع وطاعة لهم لو صحبهم هؤلاء المنافقون أفسدوهم عليكم.

قلت : تتضمن «سماعون» معنى مستجيبين. وقال مجاهد وابن زيد والكلبي : المعنى وفيكم ميول لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم ، أي جواسيس والقول هو الأول. كما قال تعالى : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) أي قابلون له. ولم يكن في المؤمنين جواسيس للمنافقين. فإن المنافقين كانوا مختلطين بالمؤمنين ، ينزلون معهم ويرحلون ويصلون معهم ، ويجالسونهم ، ولم يكونوا متحيزين عنهم قد أرسلوا فيهم العيون ينقلون إليهم أخبارهم. فإن هذا إنما يفعله من انحاز عن طائفة ولم يخالطها. وأرصد بينهم عيونا له. فالقول قول قتادة وابن إسحاق والله أعلم.

فإن قيل : انبعاثهم إلى طاعته طاعة له. فكيف يكرهها؟ وإذا كان سبحانه يكرهها فهو يحب ضدها لا محالة ، إذ كراهة أحد الضدين تستلزم محبة الضد الآخر فيكون قعودهم محبوبا له ، فكيف يعاقبهم عليه؟.

قيل : هذا سؤال له شأن ، وهو من أكبر الأسئلة في هذا الباب. وأجوبة الطوائف على حسب أصولهم.

فالجبرية : تجيب عنه بأن أفعاله لا تعلل بالحكم والمصالح. وكل ممكن فهو جائز عليه. ويجوز أن يعذبهم على فعل ما يحبه ويرضاه وترك ما

٣٠٥

يبغضه ويسخطه والجميع بالنسبة إليه سواء.

وهذه الفرقة قد سدت على نفسها باب الحكمة والتعليل.

والقدرية : تجيب عنه على أصولها أنه سبحانه لم يثبطهم حقيقة ولم يمنعهم ، بل هم منعوا أنفسهم ، وثبطوها عن الخروج ، وفعلوا ما لا يريد. ولما كان في خروجهم المفسدة التي ذكرها الله سبحانه ألقى في نفوسهم كراهة الخروج مع رسوله.

قالوا : وجعل سبحانه إلقاء كراهة الإنبعاث في قلوبهم كراهة مشيئة ، من غير أن يكره هو سبحانه انبعاثهم. فإنه أمرهم به. قالوا : وكيف يأمرهم بما يكرهه. ولا يخفى على من نوّر الله بصيرته فساد هذين الجوابين وبعدهما من دلالة القران.

فالجواب الصحيح : أنه سبحانه أمرهم بالخروج طاعة ولأمره واتباعا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونصرة له وللمؤمنين ، وأحب ذلك منهم ورضيه لهم دينا ، وعلم سبحانه أن خروجهم لو خرجوا لم يقع على هذا الوجه ، بل يكون خروجهم خروج خذلان لرسوله وللمؤمنين ، فكان خروجا يتضمن خلاف ما يحبه ويرضاه ، ويستلزم وقوع ما يكرهه ويبغضه ، فكان مكروها له من هذا الوجه ، ومحبوبا له من الوجه الذي خرج عليه أو يساؤه. وهو يعلم أنه لا يقع منهم إلا على الوجه المكروه له. فكرهه وعاقبة على ترك الخروج الذي يحبه ويرضاه ، لا على ترك الخروج الذي يبغضه ويسخطه.

وعلى هذا فليس الخروج الذي كرهه منهم طاعة ، حتى لو فعلوه لم يثبتهم عليه ولم يرضه معهم. وهذا الخروج المكروه له ضدان.

أحدهما : الخروج المضي المحبوب وهذا الضد هو الذي يحبه.

والثاني : التخلف عن رسوله والقعود عن الغزو معه. وهذا الضد يبغضه ويكرهه أيضا. وكراهته للخروج على الوجه الذي كانوا يخرجون عليه

٣٠٦

لا ينافي كراهته لهذا الضد.

فنقول للسائل : قعودهم مبغوض له ، ولكن هاهنا أمران مكروهان له سبحانه. أحدهما : أكره له من الآخر. لأنه أعظم مفسدة. فإن قعودهم مكروه له ، وخروجهم على الوجه الذي ذكره أكره إليه. ولم يكن لهم بد من أحد المكروهين إليه سبحانه. فدفع المكروه الأعلى بالمكروه الأدنى. فإن مفسدة قعودهم عنه أصغر من مفسدة خروجهم معه. فإن مفسدة قعودهم تختص بهم ، ومفسدة خروجهم تعود على المؤمنين. فتأمل هذا الموضع.

فإن قلت : فهلا وفقهم للخروج الذي يحبه ويرضاه ، وهو الذي خرج عليه المؤمنون؟.

قلت : قد تقدم الجواب مثل هذا السؤال مرارا. وأن حكمته سبحانه تأبى أن يضع التوفيق في غير محله. وعند غير أهله. فالله أعلم حيث يجعل هداه وتوفيقه وفضله. وليس كل محل يصلح لذلك. ووضع الشيء في غير محله لا يليق بحكمته.

فإن قلت : وعلى ذلك فهو جعل المحال كلها صالحة.

قلت : يأباه كمال ربوبية وملكه ، وظهور آثار السماء وصفاته في الخلق والأمر وهو سبحانه لو فعل ذلك لكان محبوبا له. فإنه يجب أن يذكر ويشكر ويطاع ويوحّد ويعبد ، ولكن كان ذلك يستلزم فوات ما هو أحب إليه بين استواء أقدام الخلائق في الطاعة والإيمان. وهو محبته لجهاز أعدائه والانتقام منهم وإظهار قدر أوليائه وشرفهم وتخصيصهم بفضله. وبذل نفوسهم له في معاداة من عاداه ، وظهور عزته وقدرته وسطوته وشدة أخذه وأليم عقابه ، وأضعاف أضعاف هذه الحكم التي لا سبيل للخلق ، ولو تناهوا في العلم والمعرفة. إلى الإحاطة بها. ونسبة ما عقلوه منها إلى ما خفي عليهم كنقرة عصفور في بحر.

قول الله تعالى ذكره : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ

٣٠٧

لَهُمْ (١٠٣)) أصل هذه اللفظة في اللغة يرجع إلى معنيين. أحدهما : الدعاء والتبريك. والثاني العبادة.

فمن القول الأول : ٩ : ١٠٣ (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) وقوله تعالى في حق المنافقين : ٩ : ٨٤ (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً ، وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا دعي أحدكم إلى الطعام فليجب ، فإن كان صائما فليصل» فسر بهما (١).

قيل : فليدع لهم بالبركة ، وقيل : يصلي عندهم بدل أكله.

وقيل : إن الصلاة في اللغة معناها الدعاء. والدعاء نوعان : دعاء عبادة ، ودعاء مسألة. والعابد داع ، كما أن السائل داع. وبهما فسر قوله تعالى : ٤٠ : ٦٠ (وَقالَ رَبُّكُمُ : ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) قيل : أطيعوني أثبكم.

وقيل : سلوني أعطكم. وفسر بهما قوله تعالى : ٢ : ١٨٦ (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ، أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ).

والصواب أن الدعاء يعم النوعين ، وهذا لفظ متواطئ لا اشتراك فيه.

فمن استعماله في دعاء العبادة قوله تعالى : ٣٤ : ٢٢ (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) وقوله تعالى : ١٦ : ٢٠ (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) وقوله تعالى : ٢٥ : ٧٧ (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) والصحيح من القولين : لو لا أنكم تدعونه وتعبدونه ، أيّ شيء يعبؤه بكم لو لا عبادتكم إياه. فيكون المصدر مضافا إلى الفاعل. وقال تعالى : ٧ : ٥٥ ، ٥٦ (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ، وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) وقال تعالى إخبارا عن أنبيائه

__________________

(١) رواه أحمد والترمذي وأبو داود وأبن ماجة عن أبي هريرة.

٣٠٨

ورسله : ٢١ : ٩٠ (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً).

وهذه الطريقة أحسن من الطريقة الأولى ، ودعوى الخلاف في مسمى الدعاء وبهذا تزول الإشكالات الواردة على اسم الصلاة الشرعية ، هل هو منقول من موضعه في اللغة. فيكون حقيقة شرعية ، أو مجازا شرعيا؟ فعلى هذا تكون الصلاة باقية على مسماها في اللغة ، وهو الدعاء. والدعاء دعاء عبادة ودعاء مسألة. والمصلي من حين تكبيره إلى سلامه بين دعاء العبادة ودعاء المسألة فهو في صلاة حقيقة لا مجازا ، ولا منقولة ، لكن خص اسم الصلاة بهذه العبادة المخصوصة كسائر الألفاظ التي يخصها أهل اللغة والعرف ببعض مسماها كالدابة والرأس ونحوها. فهذا غاية تخصيص اللفظ وقصره على بعض موضوعه ولهذا يوجب نقلا ولا خروجا عن موضوعه الأصلي والله أعلم.

فصل

هذه الصلاة من الآدمي.

وأما صلاة الله سبحانه على عباده فنوعان : عامة وخاصة.

أما العامة : فهي صلاته على عباده المؤمنين ، قال تعالى : ٣٣ : ٤٣ (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) ومنه دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصلاة وعلى آحاد المؤمنين كقوله : «اللهم صل على آل أبي أوفى» وفي حديث آخر : «أن امرأة قالت له : صلّ عليّ وعلى زوجي. قال : صلّى الله عليك وعلى زوجك».

النوع الثاني صلاته الخاصة : على أنبيائه ورسله خصوصا على خاتمهم وخيرهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فاختلف الناس في معنى الصلاة منه سبحانه على أقوال.

٣٠٩

أحدها : أنها رحمة. قال إسماعيل : حدثنا نصر بن علي قال حدثنا محمد بن سوار عن جويبر عن الضحاك قال «صلاة الله رحمته وصلاة الملائكة الدعاء».

وقال المبرد : أصل الصلاة الرحمة ، فهي من الله رحمة ، ومن الملائكة رحمة واستدعاء الرحمة من الله.

وهذا القول هو المعروف عند كثير من المتأخرين.

والقول الثاني : أن صلاة مغفرته. قال إسماعيل حدثنا محمد بن أبي بكر قال : حدثنا محمد بن سوار عن جويبر عن الضحاك «هو الذي يصلي عليكم ، قال : صلاة الله مغفرته. وصلاة الملائكة الدعاء».

وهذا القول هو من جنس الذي قبله. وهما ضعيفان لوجوه.

أحدها : أن الله سبحانه فرق بين صلاته على عباده ورحمته. فقال : ٢ : ١٥٥ : ١٥٦ : ١٥٧ (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ، أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) فعطف الرحمة على الصلاة : فاقتضى ذلك فغايرهما. هذا أصل العطف.

وأما قولهم :

وألفى قولها كذبا ومينا

فهو شاذ نادر ، لا يحمل عليه أفصح الكلام ، مع أن المين أخص من الكذب.

الوجه الثاني : أن صلاة الله سبحانه خاصة بأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين. وأما رحمته فوسعت كل شيء. فليست الصلاة مرادفة للرحمة ، لكن الرحمة من لوازم الصلاة وموجباتها وثمراتها. فمن فسرها بالرحمة فقد فسرها ببعض ثمراتها ومقصودها. وهذا كثيرا ما يأتي في تفسير ألفاظ القرآن.

٣١٠

والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفسر اللفظة بلوازمها وجزء معناها لتفسير الريب بالشك. والشك جزء من الريب. وتفسير المغفرة بالستر ، فهو جزء من مسمي المغفرة. وتفسير الرحمة بإرادة الإحسان. وهو لازم الرحمة. ونظائر ذلك كثيرة قد ذكرناها في أصول التفسير.

الوجه الثالث : أنه لا خلاف في جواز الرحمة على المؤمنين. واختلف السلف والخلف في جواز الصلاة على غير الأنبياء على ثلاثة أقوال ، سنذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى.

فعلم أنهما ليسا بمترادفين.

الوجه الرابع : أنه لو كانت الصلاة بمعنى الرحمة لقامت مقامها في امتثال الأمر وأسقطت الوجوب عند من أوجبها ، إذا قال : اللهم ارحم محمدا وآل محمد. وليس الأمر كذلك.

الوجه الخامس : أنه لا يقال عن رحم غيره ورق عليه فأطعمه أو سقاه أو كساه أنه صلّى عليه. ويقال : إنه قد رحمه.

الوجه السادس : أن الإنسان قد يرحم من يبغضه ويعاديه ، فيجد في قلبه له رحمة ، ولا يصلي عليه.

الوجه السابع : أن الصلاة لا بد فيها من كلام. فهي ثناء من المصلي على من يصلي عليه ، وتنويه به وإشادة بمحاسنه وما فيه وذكره. ذكر البخاري في صحيحه عن أبي العالية قال «صلاة الله على رسوله ثناؤه عليه عند الملائكة» وقال إسماعيل في كتابه حدثنا نصر بن علي قال : حدثنا خالد بن يزيد عن أبي جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية «ان الله وملائكته يصلون على النبي قال : صلاة الله عزوجل ثناؤه عليه ، وصلاة الملائكة عليه : الدعاء».

الوجه الثامن : أن الله سبحانه فرق بين صلاته وصلاة ملائكته وجمعها في

٣١١

فعل واحد. وقال : ٣٣ : ٥٦ (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) وهذه الصلاة لا يجوز أن تكون هي الرحمة. وإنما هي ثناؤه سبحانه وثناء ملائكته عليه.

ولا يقال : الصلاة لفظ مشترك ، ويجوز أن يستعمل في معنييه معا. لأن في ذلك ، محاذير متعددة.

أحدها : أن الاشتراك خلاف الأصل ، بل لا يعلم أنه وقع في اللغة من واضع واحد ، كما نص على ذلك أئمة اللغة : منهم المبرد وغيره. وإنما يقع وقوعا عارضا اتفاقيا ، بسبب تعدد الواضعين. ثم تختلط اللغة فيعرض الاشتراك.

الثاني : أن الأكثرين لا يجوزون استعمال اللفظ المشترك في معنييه ، لا بطريق الحقيقة ، ولا بطريق المجاز وما حكي عن الشافعي من تجويزه ذلك فليس بصحيح عنه. وإنما أخذ من قوله : إذا أوصى لمواليه ، وله موال من فوق ومن أسفل تناول جميعهم. فظن من ظن أن لفظ المولى مشترك بينهما ، وأنه عند التجرد يحمل عليهما. وهذا ليس بصحيح. فإن لفظ المولى من الألفاظ المتواطئة فالشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه يقولان بدخول نوعي الموالي في هذا اللفظ. وهو عنده عام متواطئ لا مشترك.

وأما ما حكى عن الشافعي أنه قال في مفاوضة جرت له في قوله : ٥ : ٦ (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) قد قيل له : وقد يراد بالملامسة الجامعة. فقال : هي محمولة على الجس باليد حقيقة وعلى الوقاع مجازا فهذا لا يصح عن الشافعي ، ولا هو من جنس المألوف من كلامه. وإنما هذا من كلام بعض الفقهاء المتأخرين. وقد ذكرنا على إبطال استعمال اللفظ المشترك في معنييه معا في بضعة عشر دليلا في مسألة القرء من كتاب التعليق على الأحكام.

٣١٢

فإذا كان معنى الصلاة هو الثناء على الرسول والعناية به ، وإظهار شرفه وفضله وحرمته ، كما هو المعروف من هذه اللفظة ، لم يكن الصلاة في الآية مشتركا محمولا على معنييه ، بل يكون مستعملا في معنى واحد. وهذا هو الأصل في الألفاظ وسنعود إن شاء الله تعالى إلى هذه المسألة في الكلام على قوله تعالى : ٣٣ : ٥٦ (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ).

وأما الصرف فقال تعالى : ٩ : ١٢٧ (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ : هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) فأخبر سبحانه عن فعلهم ، وهو الانصراف ، وعن فعله فيهم ، وهو صرف قلوبهم ان القرآن وتدبره ، لأنهم ليسوا أهلا لها. فالمحل غير صالح ولا قابل. فإن صلاحية المحل بشيئين : حسن فهم ، وحسن قصد. وهؤلاء قلوبهم لا تفقه ، وقصودهم سيئة. وقد صرح سبحانه بهذا في قوله : ٨ : ٢٣ (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) فأخبر سبحانه عن عدم قابلية الإيمان فيهم ، وأنهم لا خير فيهم يدخل الإيمان بسببه إلى قلوبهم. فلم يسمعهم سماع إفهام ينتفعون به ، وإن سمعوه سماعا تقوم به عليهم حجته فسماع الفهم الذي سمعه به المؤمنون لم يحصل لهم. ثم أخبر سبحانه عن مانع آخر قام بقلوبهم ، يمنعهم من الإيمان لو أسمعهم. هذا السماع الخاص ، وهو الكبر التولي والاعراض. فالأول : مانع من الفهم. والثاني : مانع من الانقياد والإذعان. فأفهامهم سيئة وقصودهم رديئة وهذه سمة الضلال وعلم الشقاء. كما أن سمة الهدى وعلم السعادة فهم صحيح ، وقصد صالح. والله المستعان.

وتأمل قوله سبحانه : (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) كيف جعل هذه الجملة الثانية سواء كانت خبرا أو إعادة ـ عقوبة لانصرافهم فعاقبهم عليه بصرف آخر غير الصرف الأول. فإن انصرافهم كان لعدم إرادته سبحانه ومشيئته لا قبالهم لأنه لا صلاحية فيهم ولا قبول ، فلم ينلهم الإقبال

٣١٣

والإذعان ، فانصرفت قلوبهم بما فيها من الجهل والظلم عن القرآن. فجازاهم على ذلك صرفا آخر غير الصرف الأول ، كما جازاهم على زيغ قلوبهم عن الهدى إزاغة غير الزيغ الأول ، كما قال : ٦١ : ٥ (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) وهكذا إذا أعرض العبد عن ربه سبحانه جازاه بأن يعرض عنه ، فلا يمكنه من الإقبال إليه. ولتكن قصة إبليس منكر على ذكر تنتفع بها أتم انتفاع. فإنه لما عصى ربه تعالى ولم ينقد لأمره وأصر على ذلك عاقبه بأن جعله داعيا إلى كل معصية. فعاقبه على معصيته الأولى بأن جعله داعيا إلى كل معصية وفروعها ، صغيرها وكبيرها. وصار هذا الإعراض والكفر عقوبة لذلك الإعراض والكفر السابق. فمن عقاب السيئة السيئة بعدها. كما أن ثواب الحسنة الحسنة بعدها.

فإن قيل : فكيف يلتئم إنكاره سبحانه عليهم الانصراف والإعراض عنه وقد قال تعالى : (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) و (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) وقال : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) فإذا كان هو الذي صرفهم وجعلهم معرضين ومأفوكين ، فكيف ينعي ذلك عليهم؟

قيل : هم دائرون بين عدله وحجته عليهم ، فمكنهم وفتح لهم الباب ، ونهج لهم الطريق ، وهيأ لهم الأسباب. فأرسل إليهم رسله ، وأنزل عليهم كتبه ، ودعاهم على ألسنة رسله. وجعل لهم عقولا تميز بين الخير والشر ، والنافع والضار ، وأسباب الردى وأسباب الفلاح. وجعل لهم أسماعا وأبصارا ، فآثروا الهوى على التقوى ، واستحبوا العمى على الهدى ، وقالوا : معصيتك آثر عندنا من طاعتك ، والشرك أحب إلينا من توحيدك ، وعبادة سواك أنفع لنا في دنيانا من عبادتك. فأعرضت قلوبهم عن ربهم وخالقهم ومليكهم ، وانصرفت عن طاعته ومحبته. فهذا عدله فيهم ، وتلك حجته عليهم. فهم سدوا على أنفسهم باب الهدى إرادة منهم واختيارا ، فسده عليهم اضطرارا. فخلاهم وما اختاروا لأنفسهم ، وولاهم ما تركوه ومكنهم

٣١٤

فيما ارتضوه ، وأدخلهم من الباب الذي استبقوا إليه. وأغلق عنهم الباب الذي تولوا عنه ، وهم معرضون. فلا أقبح من فعلهم ، ولا أحسن من فعله. ولو شاء لخلقهم على غير هذه الصفة. ولأنشأهم على غير هذه النشأة ، ولكنه سبحانه خالق العلو والسفل ، والنور والظلمة ، والنافع والضار ، والطيب والخبيث والملائكة والشياطين ، والنساء والذباب ، ومعطيها آلاتها وصفاتها وقواها وأفعالها ومستعملها فيما خلقت له. فبعضها بطباعها ، وبعضها بإرادتها ومشيئتها. وكل ذلك جار على وفق حكمته ، وهو موجب حمده ، ومقتضي كماله المقدس ، وملكه التام ولا نسبة لما علمه الخلق من ذلك إلى ما خفي عليهم بوجه ما. إن هو إلا كنقرة عصفور من البحر.

٣١٥
٣١٦

سورة يونس

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣))

شبه سبحانه الحياة الدنيا في أنها تتزين في عين الناظر ، فتروقه بزينتها ، وتعجبه ، فيميل إليها ، ويهواها ، اغترارا منه بها. حتى إذا ظن أنه مالك لها قادر عليها سلبها بغتة أحوج ما كان إليها وحيل بينه وبينها. فشبهها بالأرض التي ينزل الغيث عليها ، فتعشب ويحسن نباتها ، ويروق منظرها للناظر ، فيغتر بها ، ويظن أنه قادر عليها ، مالك لها. فيأتيها أمر الله فتدرك نباتها الآفة بغتة ، فتصبح كأن لم تكن قبل شيئا. فيخيب ظنه ، وتصبح يداه منها صفرا.

فهكذا حال الدنيا والواثق بها سواء.

وهذا من أبلغ التشبيه والقياس.

ولما كانت الدنيا عرضة لهذه الآفات وجنة الآخرة سليمة منها ، قال :

٣١٧

١٠ : ٢٥ (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) فسماها هاهنا دار السلام ، لسلامتها من هذه الآفات التي ذكرها في الدنيا. فعم بالدعوة إليها ، وخص بالهداية لها من يشاء. فذاك عدله. وهذا فضله.

فإن قيل : فهل يظهر فرق بين قوله تعالى في سورة يونس ١٠ : ٣٠ (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماء وَالْأَرْضِ أم من يملك السمع والابصار؟ ـ الى قوله ـ فسيقولون الله) وبين قوله في سورة سبأ ٣٤ : ٢٤ (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ)

قيل : هذا من أدق هذه المواضع وأغمضها ، وألطفها فرقا ، فتدبر السياق تجده نقيضا لما وقع ، فإن الآيات التي في يونس سيقت مساق الاحتجاج عليهم بما أقروا به ، ولم يمكنهم إنكاره من كون الرب تعالى هو رازقهم ، ومالك أسماعهم وأبصارهم ، ومدبر أمورهم وغيرها. ومخرج الحي من الميت والميت من الحي.

فلما كانوا مقرين بهذا كله حين الاحتجاج به عليهم : أن فاعل هذا هو الله الذي لا إله غيره. فكيف يعبدون معه غيره ويجعلون له شركاء لا يملكون شيئا من هذا ، ولا يستطيعون فعل شيء منه ولهذا قال بعد أن ذكر ذلك من شأنه تعالى : (فَسَيَقُولُونَ : اللهُ) أي لا بد أنهم يقرون بذلك ، ولا يجحدونه. فلا بد أن يكون المذكور مما يقرون به. والمخاطبون المحتج عليهم بهذه الآية إنما كانوا مقرين بنزول الرزق من قبل هذه السماء التي يشاهدونها بالحق ، ولم يكونوا مقرين ولا عالمين بنزول الرزق من سماء إلى سماء ، حتى تنتهي إليهم ، ولم يصل علمهم إلى هذا. فأفرد لفظ السماء هنا ، فإنهم لا يمكنهم إنكار مجيء الرزق منها ، لا سيما والرزق هاهنا إن كانوا هو المطر فمجيئه من السماء التي هي السحاب ، فإنه يسمى سماء لعلوه. وقد أخبر سبحانه أنه بسط السحاب في السماء بقوله : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ) والسحاب إنما هو

٣١٨

مبسوط في جهة العلو ، لا في نفس الفلك. وهذا معلوم بالحس ، فلا يلتفت إلى غيره. فلما انتظم هذا بذكر الاحتجاج عليهم لم يصلح فيه إلا إفراد السماء ، لأنهم لا يقرون بما ينزل من فوق ذلك من الأرزاق العظيمة للقلوب والأرواح. فلا بد من الوحي الذي به الحياة الحقيقية الأبدية. وهو أولى باسم الرزق من المطر الذي به الحياة الفانية المنقضية. فما ينزل من فوق ذلك من الوحي والرحمة والألطاف والمواد الربانية ، والتنزلات الإلهية ، وما به قوام العالم العلوي والسفلي من أعظم أنواع الرزق. ولكن القوم لم يكونوا مقرين به ، فخوطبوا بما هو أقرب الأشياء إليهم ، بحيث لا يمكنهم إنكاره.

أما الآية التي في سبأ : فلم تنتظم ذكر إقرارهم بما ينزل من السموات. ولهذا أمر رسوله بأن يتولى الجواب فيها ، ولم يذكر عنهم أنهم المجيبون المقرون. فقال (قُلْ : مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ قُلِ اللهُ) ولم يقل : سيقولون الله. فأمر تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجيب بأن ذلك هو الله وحده الذي ينزل رزقه على اختلاف أنواعه ومنافعه من السموات السبع. وأما الأرض فلم يدع السياق إلى جمعها في واحدة من الاثنين إذ يقر به كل أحد مؤمن وكافر ، وبر وفاجر.

قول الله تعالى : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨))

قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والحسن وغيرهم : ورحمته القرآن ، فجعلوا رحمته أخص من فضله. فإن فضله الخاص على أهل الإسلام ، ورحمته بتعليم كتابه لبعضهم دون بعض. فجعلهم مسلمين بفضله ، وأنزل إليهم كتابه برحمته. قال تعالى : ٢٨ : ٨٦ (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) وقال أبو سعيد الخدري «فضل الله القرآن ، ورحمته أن جعلنا من أهله».

قلت : يريد بذلك أن هاهنا أمرين :

٣١٩

أحدهما : الفضل في نفسه. والثاني : استعداد المحل لقبوله ، كالغيث يقع على الأرض القليلة النبات فيتم المقصود بالفضل وقبول المحل له. والله أعلم.

وقد جاء الفرح في القرآن على نوعين : مطلق ، ومقيد. فالمطلق : جاء في الذم كقوله : ٢٨ : ٧٦ (لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) وقوله ١١ : ١٠ (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) والمقيد نوعان أيضا : مقيد بالدنيا ، ينسى صاحبه فضل الله ومنته ، فهو مذموم. كقوله ٦ : ٤٤ (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ)

والثاني : مقيد بفضل الله وبرحمته ، وهو نوعان أيضا : فضل ورحمة بالسبب وفضل ورحمة بالمسبب.

فالأول : كقوله : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).

والثاني : كقوله ٣ : ١٧ (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) فالفرح بالله ورسوله وبالإيمان والسنة وبالعلم والقرآن من علامات العارفين. قال الله تعالى : ٩ : ١٣٤ (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً؟ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً ، وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) وقال ١٣ : ٣٦ (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) فالفرح بالعلم والإيمان والسنة دليل على تعظيمه عند صاحبه ومحبته له. وإيثاره له على غيره. فإن فرح العبد بالشيء عند حصوله على قدر محبته له ورغبته فيه. فمن ليس له رغبة في الشيء لا يفرحه حصوله ، ولا يحزنه فواته. فالفرح تابع للمحبة والرغبة. فالفرق بينه وبين الاستبشار : أن الفرح بالمحبوب بعد حصوله ، والاستبشار يكون به قبل حصوله إذا كان على ثقة من حصوله ولهذا قال تعالى : ٣ : ١٧٠ (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ، وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ).

٣٢٠