التفسير القيّم

ابن القيّم الجوزيّة

التفسير القيّم

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الشيخ إبراهيم محمّد رمضان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

قول الله تعالى ذكره :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣))

قالوا : الحس شاهد : أن الأجزاء التي في المولود من أمه أضعاف أضعاف الأجزاء التي فيه من أبيه. فثبت أن تكوينه من مني الأم ودم الطمث ، ومني الأب عاقد له كالأنفحة.

ونازعهم الجمهور ، وقالوا : إنه يتكون من مني الرجل والأنثى ، ثم لهم قولان.

أحدهما : أن يكون من مني الذكر أعضاؤه ، وأجزاؤه ، ومن مني الأنثى صورته.

والثاني : أن الأعضاء والأجزاء والصورة تكونت من مجموع الماءين ، وأنهما امتزجا واختلطا وصارا ماء واحدا. وهذا هو الصواب ، لأننا نجد الصورة والتشكيل تارة إلى الأب ، وتارة إلى الأم. والله أعلم.

وقد دل على هذا قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) والأصل : هو الذكر. فمنه البذر ، ومنه السقي. والأنثى وعاء ومستودع لولده. تربيه في بطنها ، كما تربيه في حجرها. ولهذا كان الولد للأب حكما ونسبا. وأما تبعيته للأم في الحرية والرق فلأنه إنما تكوّن وصار ولدا في بطنها ، وغذته بلبانها مع الجزء الذي فيه منها. وكان الأب أحق بنسبه وتعصيبه لأنه أصله ومادته ونسخته. وكان أشرفهما دينا أولى به ، تغليبا لدين الله وشرعه.

٤٨١
٤٨٢

سورة ق

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧))

إذا أردت الانتفاع بالقرآن ، فأجمع قلبك عند تلاوته. وألق سمعك. واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه ، منه إليه. فإنه خطاب منه سبحانه لك على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ ، أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).

وذلك أن تمام التأثير لما كان موقوفا على مؤثر مقتض ، ومحل قابل ، وشرط لحصول الأثر ، وانتفاء المانع الذي يمنع منه : تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبينه. وأدله على المراد.

فقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى) إشارة إلى ما تقدم من أول السورة إلى هاهنا. وهذا هو المؤثر وقوله : (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) فهذا هو المحل القابل. والمراد به :

القلب الحي الذي يعقل عن الله ، كما قال تعالى : ٣٦ : ٦٩ ، ٧٠ (إِنْ هُوَ

٤٨٣

إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ. لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) أي حي القلب.

وقوله : (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) أي وجه سمعه ، وأصغى حاسة سمعه إلى ما يقال له. وهذا هو شرط التأثير بالكلام.

وقوله : (وَهُوَ شَهِيدٌ) أي شاهد القلب حاضر ، غير غائب. قال ابن قتيبة : استمع لكتاب الله وهو شاهد القلب والفهم ، ليس بغافل ولا ساه. وهو إشارة إلى المانع من حصول التأثر. وهو سهو القلب وغيبته عن تعقل ما يقال له ، والنظر فيه وتأمله.

فإذا حصل المؤثر ، وهو القرآن ، والمحل القابل ، وهو القلب الحي ، ووجد الشرط ، وهو الإصغاء ، وانتفي المانع ، وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه إلى شيء آخر : حصل الأثر ، وهو الانتفاع بالقرآن والتذكر.

فإن قيل : إذا كان التأثير إنما يتم بمجموع هذه. فما وجه دخول أداة «أو» في قوله (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) والموضع موضع واو الجمع ، لا موضع «أو» التي هي لأحد الشيئين؟

قيل : هذا سؤال جيد. والجواب عنه أن يقال :

خرج الكلام بأو باعتبار حال المخاطب المدعو. فإن من الناس من يكون حي القلب واعيه ، تام الفطرة. فإذا فكر بقلبه وجال بفكره دله قلبه على صحة القرآن ، وأنه الحق ، وشهد قلبه بما أخبر به القرآن. فكان ورود القرآن على قلبه نورا على نور الفطرة. وهذا وصف الذين قيل فيهم : ٣٤ : ٦ (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَ) وقال في حقهم : ٢٤ : ٣٥ (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ ، الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ ، الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ ، لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ، يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ ، نُورٌ عَلى نُورٍ ، يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ).

٤٨٤

فهذا نور الفطرة على نور الوحي. وهذا حال صاحب القلب الحي الواعي.

فصاحب القلب الحي بين قلبه وبين معاني القرآن أتم الاتصال ، فيجدها كأنها قد كتبت فيه. فهو يقرؤها عن ظهر قلب.

ومن الناس من لا يكون تام الاستعداد ، واعي القلب ، كامل الحياة فيحتاج إلى شاهد يميز له بين الحق والباطل. ولم تبلغ حياة قلبه لتأمله والتفكر فيه ، وتعقل معانيه ، فيعلم حينئذ أنه الحق.

فالأول : حال من رأى بعينيه ما دعي إليه وأخبر به.

والثاني : حال من علم صدق الخبر وتيقنه. وقال : يكفيني خبره ، فهو في مقام الإيمان ، والأول في مقام الإحسان. هذا قد وصل إلى علم اليقين ، وترقى قلبه منه إلى منزلة عين اليقين. وذلك معه التصديق الجازم الذي خرج به من الكفر ودخل به في الإسلام.

فعين اليقين نوعان : نوع في الدنيا ، ونوع في الآخرة. فالحاصل في الدنيا نسبته إلى القلب ، كنسبة الشاهد إلى العين. وما أخبرت به الرسل من الغيب يعاين في الآخرة بالأبصار. وفي الدنيا بالبصائر. فهو عين يقين في المرتبتين.

٤٨٥
٤٨٦

سورة الذاريات

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما ، قال سلام قوم منكرون فراغ إلى اهله فجاء بعجل سمين فقربه اليهم قال الا تاكلون)

ففي هذا ثناء على إبراهيم من وجوه متعددة.

أحدها : أنه وصف ضيفه بأنهم مكرمون. وهذا على أحد القولين : أنه بإكرام لا إبراهيم لهم. والثاني : أنهم المكرمون عند الله. ولا تنافي بين القولين : فالآية تدل على معنيين.

الثاني : قوله تعالى : (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ) فلم يذكر استئذانهم. ففي هذا دليل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قد عرف بإكرام الضيفان واعتياد قراهم. فصار منزله مضيفة مطروقا لمن ورده ، لا يحتاج إلى الاستئذان ، بل استئذان الداخل إليه دخوله. وهذا غاية ما يكون من الكرم.

الثالث : قوله «سلام» بالرفع. وهم سلموا عليه بالنصب. والسلام

٤٨٧

بالرفع أكمل. فإنه يدل على الجملة الاسمية الدالة على الثبوت والتجدد ، والمنصوب يدل على الفعلية الدالة على الحدوث والتجدد. فإبراهيم حياهم بتحية أحسن من تحيتهم. فإن قولهم «سلاما» يدل على : سلمنا سلاما وقوله : «سلام» أي سلام عليكم.

الرابع : أنه حذف المبتدأ من قوله : «قوم منكرون» فإنه لما أنكرهم ولم يعرفهم احتشم من مواجهتهم بلفظ ينفر الضيف لو قال : أنتم مكرمون ، فحذف المبتدأ هنا من ألطف الكلام.

الخامس : أنه بنى الفعل للمفعول ، وحذف فاعله ، فقال : «منكرون» ولم يقل : إني أكرمكم. وهو أحسن في هذا المقام ، وأبعد من التنفير والمواجهة بالخشونة.

السادس : أنه راغ إلى أهله ليحييهم بنزلهم. والروغان ؛ هو الذهاب في اختفاء بحيث يكاد لا يشعر به. وهذا من كرم رب المنزل المضيّف : أن يذهب في اختفاء بحيث لا يشعر به الضيف ، فيشق عليه ويستحي. فلا يشعر به إلا وقد جاءه بالطعام ، بخلاف من يسمع ضيفه وهو يقول له ، أو لمن حضر : مكانكم حتى آتيكم بالطعام ، ونحو ذلك مما يوجب حياء الضيف واحتشامه.

السابع : أنه ذهب إلى أهله ، فجاء بالضيافة. فدل على أن ذلك كان معدا عندهم مهيئا للضيفان. ولم يحتج أن يذهب إلى غيرهم من جيرانه ، أو غيرهم فيشتريه ، أو يستقرضه.

الثامن : قوله : (فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) يدل على خدمته للضيف بنفسه ، ولم يقل : فأمر لهم ، بل هو الذي ذهب وجاء به بنفسه ، ولم يبعثه مع خادمه. وهذا أبلغ في إكرام الضيف.

التاسع : أنه جاء بعجل كامل ، ولم يأت ببضعة منه. وهذا من تمام كرمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤٨٨

العاشر : أنه سمين لا هزيل. فمعلوم أن ذلك من أفخر أموالهم ، ومثله يتخذ للاقتناء والتربية ، فآثر به ضيفانه.

الحادي عشر : أنه قربه إليهم بنفسه ، ولم يأمر خادمه بذلك.

الثاني عشر : أنه قربه إليهم ، ولم يقربهم إليه. وهذا أبلغ في الكرامة. أن تجلس الضيف ثم تقرب الطعام إليه ، وتحمله إلى حضرته ، ولا تضع الطعام في ناحية ثم تأمر ضيفك بأن يتقرب إليه.

الثالث عشر : أنه قال : «ألا تأكلون؟» وهذا عرض وتلطف في القول ، وهو أحسن من قوله : كلوا ، أو مدوا أيديكم ونحوها. وهذا مما يعلم الناس بعقولهم حسنه ولطفه. ولهذا يقولون : بسم الله : أو ألا تتصدق؟ أو ألا تجبر؟ ونحو ذلك.

الرابع عشر : أنه إنما عرض عليهم الأكل لأنه رآهم لا يأكلون ، ولم يكن ضيوفه يحتاجون معه إلى الإذن في الأكل ، بل كان إذا قدم إليهم الطعام أكلوا وهؤلاء الضيوف لما امتنعوا من الأكل قال لهم «ألا تأكلون؟» ولهذا أوجس منهم خيفة ، أي أحسها وأضمرها في نفسه ، ولم يبدها لهم. وهو :

الوجه الخامس عشر : فإنهم لما امتنعوا من الأكل لطعامه خاف منهم ، ولم يظهر لهم الخوف منهم. فلما علمت الملائكة منه ذلك قالوا : «لا تخف» وبشروه بالغلام الحليم.

فقد جمعت هذه الآية آداب الضيافة التي هي أشرف الآداب ، وما عداها من التكلفات التي هي تخلف وتكلف : إنما هي من أوضاع الناس وعوائدهم. وكفى بهذه الآداب شرفا وفخرا. فصلى الله على نبينا وعلى إبراهيم وعلى آلهما ، وعلى سائر النبيين.

٤٨٩
٤٩٠

سورة الطور

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١))

روي قيس عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله ليرفع ذرية المؤمن إليه في درجته ، وإن كانوا دونه في العمل لتقرّ بهم عينه ، ثم قرأ ٥٢ : ٢١ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) قال : «ما نقصنا الآباء مما أعطينا البنين» وذكر ابن مردويه في تفسيره من حديث شريك عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ـ قال شريك : أظنه حكاه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده؟ فيقال : إنهم لم يبلغوا درجتك ، أو عملك. فيقول. يا رب قد عملت لي ولهم ، فيؤمر بالإلحاق بهم ، ثم تلا ابن عباس (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ) إلى آخر الآية.

٤٩١

وقد اختلف المفسرون في الذرية في هذه الآية ، هل المراد بها الصغار أو الكبار أو النوعان؟ على ثلاثة أقوال. واختلافهم مبني على أن قوله : «بإيمان» حال من الذرية التابعين أو المؤمنين المتبوعين. فقالت طائفة : المعنى والذين آمنوا وأتبعناهم ذرياتهم في إيمانهم فأتوا من الإيمان بمثل ما أتوا به ألحقناهم بهم في الدرجات. قالوا : ويدل على هذا قراءة من قرأ (وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ) فجعل الفعل في الاتباع لهم. قالوا : وقد أطلق الله سبحانه الذرية على الكبار ، كما قال : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ) وقال : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) وقال : (وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ ، أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ؟) وهذا قول لكبار العقلاء. قالوا : ويدل على ذلك ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس يرفعه «إن الله يرفع ذرية المؤمن إلى درجته وإن كانوا دونه في العمل ، لتقرّ بهم عينه» فهذا يدل على أنهم دخوا بأعمالهم ، ولكن لم يكن لهم أعمال يبلغوا بها درجة آبائهم. فبلّغهم إياها ، وإن تقاصر عملهم عنها. قالوا : وأيضا فالإيمان هو القول والعمل والنية. وهذا إنما يمكن من الكبار ، وعلى هذا فيكون المعنى : أن الله سبحانه يجمع ذرية المؤمن إليه إذا أتوا من الإيمان بمثل إيمانه ، إذ هذا حقيقة التبعية ، وإن كانوا دونه في الإيمان ، رفعهم الله إلى درجته إقرارا لعينه ، وتكميلا لنعيمه. وهذا كما أن زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معه في الدرجة تبعا ، وإن لم يبلغوا تلك الدرجة بأعمالهن.

وقالت طائفة أخرى : الذرية هاهنا الصغار. والمعنى : والذين آمنوا وأتبعناهم ذرياتهم في إيمان الآباء. والذرية تتبع الآباء. وإن كانوا صغارا في الإيمان وأحكامه من الميراث ، والدية والصلاة عليهم ، والدفن في قبور المسلمين ، وغير ذلك ، إلّا فيما كان من أحكام البالغين.

ويكون قوله : «بإيمان» على هذا في موضع نصب على الحال من المفعولين ، أي وأتبعناهم ذرياتهم بإيمان الآباء.

٤٩٢

قالوا : يدل على صحة هذا القول : أن البالغين لهم حكم أنفسهم في الثواب والعقاب ، فإنهم مستقلون بأنفسهم ، ليسوا تابعين للآباء في شيء من أحكام الدنيا ، ولا أحكام الثواب والعقاب ، لاستقلالهم بأنفسهم. ولو كان المراد بالذرية البالغين لكان أولاد الصحابة البالغون كلهم في درجة آبائهم ، ولكان أولاد التابعين البالغون كلهم في درجة آبائهم ، وهلم جرا إلى يوم القيامة. فيكون الآخرون في درجة السابقين.

قالوا : ويدل عليه أيضا : أنه سبحانه جعلهم معهم تبعا في الدرجة. كما جعلهم تبعا معهم في الإيمان. ولو كانوا بالغين لم يكن إيمانهم تبعا ، بل إيمان استقلال.

قالوا : ويدل عليه أن الله سبحانه جعل المنازل في الجنة بحسب الأعمال. في حق المستقلين. وأما الأتباع فإن الله سبحانه يرفعهم إلى درجة أهليهم. وإن لم يكن لهم أعمال. كما تقدم.

وأيضا فالحور العين والخدم في درجة أهليهم ، وإن لم يكن لهم عمل ، بخلاف المكلفين البالغين. فإنهم يرفعون إلى حيث بلغت بهم أعمالهم.

وقالت فرقة ، منهم الواحدي : الوجه أن تحمل الذرية على الصغار والكبار. لأن الكبير يتبع الأب بإيمان نفسه ، والصغير يتبع الأب بإيمان الأب.

قالوا : والذرية تقع على الصغير والكبير ، والواحد والكثير ، والإبن والأب ، كما قال تعالى : ٣٦ : ٤١ (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) أي آباءهم. والإيمان يقع على الإيمان التبعي وعلى الاختياري الكسبي. فمن وقوعه على التبعي قوله : ٤ : ٩٢ (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) فلو أعتق صغيرا جاز.

٤٩٣

قالوا : وأقوال السلف تدل على هذا. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : إن الله يرفع ذرية المؤمنين في درجتهم. وإن كانوا دونهم في العمل ، لتقرّ بهم عيونهم. ثم قرأ هذه الآية. وقال ابن مسعود في هذه الآية : الرجل يكون له القدم ، ويكون له الذرية ، فيدخل الجنة ، فيرفعون إليه ، لتقرّ بهم عينه ، وإن لم يبلغوا ذلك. وقال أبو مجلز : يجمعهم الله له ، كما كان يحب أن يجتمعوا في الدنيا. وقال الشعبي أدخل الله الذرية بعمل الآباء الجنة.

وقال الكلبي عن ابن عباس : إن كان الآباء أرفع درجة من الأبناء رفع الله الأبناء إلى الآباء. وإن كان الأبناء أرفع درجة من الآباء رفع الله الآباء إلى الأبناء. وقال إبراهيم : أعطوا مثل أجور آبائهم ولم ينقص الآباء من أجورهم شيئا.

قال : ويدل على صحة هذا القول : أن القراءتين كالآيتين ، فمن قرأ (وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ) فهذا في حق البالغين الذين تصح نسبة الفعل إليهم ، كما قال تعالى : ٩ : ١٠٠ (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) ومن قرأ ٥٢ : ٢١ وأتبعناهم ذرياتهم فهذا في حق الصغار الذين أتبعهم الله إياهم في الإيمان حكما. فدلت القراءتان على النوعين.

قلت : واختصاص الذرية هاهنا بالصغار أظهر ، لئلا يلزم استواء المتأخرين والسابقين في الدرجات. ولا يلزم مثل هذا في الصغار ، فإن أطفال كل رجل وذريته معه في درجته. والله أعلم.

٤٩٤

سورة النجم

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فكان قاب قوسين أو أدنى)

كأن الشيخ (١) فهم من الآية : أن الذي دنا فتدلى ، فكان من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاب قوسين أو أدني ـ هو الله عزوجل. وهذا ، وإن كان قد قاله جماعة من المفسرين ـ فالصحيح : أن ذلك هو جبريل عليه‌السلام. فهو الموصوف بما ذكر من أول السورة إلى قوله : ٥٣ : ١٣ ، ١٤ (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) هكذا فسره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح.

قالت عائشة رضي الله عنها : «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذه الآية؟ فقال : ذاك جبريل ، لم أره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين».

ولفظ القرآن لا يدل على غير ذلك من وجوه.

أحدها : أنه قال : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) وهذا جبريل الذي وصفه بالقوة في سورة التكوير فقال : ٨١ : ١٩ ، ٢٠ (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ).

__________________

(١) هو أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الهروي.

٤٩٥

الثاني : أنه قال : «ذو مرة» أي حسن الخلق ، وهو الكريم في سورة التكوير.

الثالث : أنه قال : «فاستوى وهو بالأفق الأعلى» وهو ناحية السماء العليا. وهذا استواء جبريل بالأفق. وأما استواء الرب جل جلاله فعلى عرشه.

الرابع : أنه قال : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) فهذا دنو جبريل وتدليه إلى الأرض ، حيث كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأما الدنو والتدلي في حديث المعراج فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوق السموات. فهناك دنا الجبار جل جلاله منه وتدلى. فالدنو والتدلي في الحديث غير الدنو والتدلي في الآية. وإن اتفقا في اللفظ.

الخامس : أنه قال : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) والمرئي عند السدرة هو جبرئيل قطعا. وبهذا فسره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لعائشة «ذاك جبريل».

السادس : أن مفسر الضمير في قوله : «ولقد رآه» وقوله : «ثم دنا فتدلى» وقوله : «فاستوى» وقوله : «وهو بالأفق الأعلى» واحدة. فلا يجوز أن يخالف بين المفسر والمفسّر من غير دليل.

السابع : أنه سبحانه ذكر في هذه السورة الرسولين الكريمين : الملكي ، والبشري. ونزّه البشري عن الضلال والغواية ، والملكي عن أن يكون شيطانا قبيحا ضعيفا ، بل هو قوي كريم حسن الخلق. وهذا نظير المذكور في سورة التكوير سواء.

الثامن : أنه أخبر هناك : انه رآه بالأفق المبين ، وهاهنا : أنه رآه بالأفق الأعلى. وهو واحد وصف بصفتين ، فهو مبين وأعلى. فإن الشيء كلما علا بان وظهر.

٤٩٦

التاسع : أنه قال : «ذو مرّة» والمرة : الخلق الحسن المحكم. فأخبر عن حسن خلق الذي علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم ساق الخبر كله عنه نسقا واحدا.

العاشر : أنه لو كان خبرا عن الرب تعالى لكان القرآن قد دل على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى ربه سبحانه مرتين : مرة بالأفق ، ومرة عند السدرة. ومعلوم أن الأمر لو كان كذلك لم يقل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي ذر وقد سأله : هل رأيت ربك ـ قال : «نور ، أنّى أراه؟» فكيف يخبر القرآن أنه رآه مرتين ، ثم يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنى أراه» وهذا أبلغ من قوله : «لم أره» لأنه مع النفي يقتضي الإخبار عن عدم الرؤية فقط. وهذا يتضمن النفي وطرقا من الإنكار على السائل ، كما إذا قال لرجل : هل كان كيت وكيت؟ فيقول : كيف يكون ذلك؟

الحادي عشر : أنه لم يتقدم للرب جل جلاله ذكر يعود الضمير عليه في قوله : «ثم دنا فتدلى» والذي يعود الضمير عليه لا يصلح له ، وإنما هو لعبده.

الثاني عشر : أنه كيف يعود الضمير إلى ما لم يذكر ، ويترك عوده إلى المذكور ، مع كونه أولى به؟

الثالث عشر : أنه قد تقدم ذكر «صاحبكم» وأعاد عليه الضمائر التي تليق به. ثم ذكر بعده شديد القوى. ذا المرة. وأعاد عليه الضمائر التي تليق به. والخبر كله عن هذين المفسّرين ، وهما الرسول الملكي ، والرسول البشري.

الرابع عشر : أنه سبحانه أخبر أن هذا الذي دنا فتدلّى : كان بالأفق الأعلى وهو أفق السماء ، بل هو تحتها ، وقد دنا من الأرض ، فتدلى من رسول رب العالمين صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودنو الرب تعالى وتدليه على ما في حديث شريك : كان من فوق العرش ، لا إلى الأرض.

٤٩٧

الخامس عشر : أنهم لم يماروه صلوات الله وسلامه عليه على رؤية ربه ، ولا أخبرهم بها لتقع مماراتهم له عليها. وإنما ماروه على رؤية ما أخبرهم من الآيات التي أراه الله إياه. ولو أخبرهم برؤية الرب تعالى لكانت مماراتهم له عليهم أعظم من مماراتهم على رؤية المخلوقات.

السادس عشر : أنه سبحانه قرر صحة ما رآه. وأن مماراتهم له على ذلك باطلة بقوله : (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) ولو كان المرئي هو الرب سبحانه وتعالى والمماراة على ذلك منهم : لكان تقرير تلك الرؤية أولى ، والمقام إليها أحوج. والله أعلم.

قول الله تعالى ذكره :

(أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢))

والمأوى مفعل عن أوى يأوي ، إذا انضم إلى المكان وصار إليه ، واستقر به وقال عطاء عن ابن عباس : هي الجنة التي يأوي إليها جبريل والملائكة.

وقال مقاتل والكلبي : هي الجنة تأوي إليها أرواح الشهداء.

وقال كعب : جنة المأوى جنة فيها طير خضر ، ترتع فيها أرواح الشهداء وقالت عائشة رضي الله عنها وزرّ بن حبيش : هي جنة من الجنان.

والصحيح : أنه اسم من أسماء الجنة ، كما قال تعالى : ٧٩ : ٤٠ ، ٤١ (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) وقال في النار : ٧٩ : ٣٩ (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) وقال : (وَمَأْواكُمُ النَّارُ).

يقول الله تعالى ذكره :

(الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ (٣٢))

٤٩٨

اللمم : طرف من الجنون. ورجل ملموم. أي به لمم. ويقال أيضا : أصابت فلانا من الجن لمّة. وهو المس ، والشيء القليل. قاله الجوهري.

قلت : وأصل اللفظة من المقاربة. ومنه قوله تعالى : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ).

وهي الصغائر. قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة رضي عنه «إن العين تزني ، وزناها النظر ، واليد تزني ، وزناها البطش والرجل تزني ، وزناها المشي ، والفم يزني وزناه القبل».

ومنه. ألمّ بكذا. أي قاربه ودنا منه. وغلام ملمّ ، أي قارب البلوغ وفي الحديث «إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم» أي يقرب من ذلك.

قول الله تعالى :

٥٣ : ٥٩ ـ ٦١ (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سامِدُونَ).

قال عكرمة عن ابن عباس : السمود : الغناء في لغة حمير ، يقال : اسمدي لنا ، أي غنّي لنا. وقال أبو زبيد :

وكأن العزيف فيها غناء

للنّدامى من شارب مسمود

قال أبو عبيدة : المسمود : الذي غنّي له. وقال عكرمة : كانوا إذا سمعوا القرآن تغنّوا. فنزلت هذه الآية.

وهذا لا يناقض ما قيل في هذه الآية من أن السمود : هو الغفلة والسهو عن الشيء.

قال المبرد : هو الاشتغال عن الشيء بهمّ أو فرح يتشاغل به. وأنشد :

٤٩٩

رمي الحدنان نسوة آل حرب

بمقدار سمدن له سمودا

وقال ابن الأنباري : السامد اللاهي ، والسامد : الساهي. والسامد : المتكبر والسامد : القائم.

وقال ابن عباس في الآية : وأنتم مستكبرون.

وقال الضحاك أشرن بطرون.

وقال مجاهد : غضاب مبرطمون. وقال غيره : لاهون غافلون معرضون. فالغناء يجمع هذا كله ويوجبه.

٥٠٠