التفسير القيّم

ابن القيّم الجوزيّة

التفسير القيّم

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الشيخ إبراهيم محمّد رمضان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

المضاف بالمضاف إليه ، وكونه جزؤه حقيقة ، فكأنه قال : ذهبت إصبع وإصبعان من أصابعه. وحمل القرآن على المكثور الذي خلافه أفصح منه : ليس بسهل.

فصل

المسلك السادس : أن هذا من باب الاستغناء بأحد المذكورين عن الآخر ، لكونه تبعا له ومعنى من معانيه. فإذا ذكر أغنى عن ذكره لأنه يفهم منه.

ومنه في أحد الوجوه قوله تعالى : ٢٦ : ٤ (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) فاستغني عن خبر الأعناق بالخبر عن أصحابها.

ومنه في أحد الوجوه قوله تعالى : ٩ : ٦٢ (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) المعنى : والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك ، فاستغنى بإعادة الضمير إلى الله إذ إرضاؤه هو إرضاء رسوله فلم يحتج أن يقول : يرضوهما.

فعلى هذا يكون الأصل في الآية : إن الله قريب من المحسنين. وأن رحمة الله قريبة من المحسنين فاستغنى بخبر المحذوف عن خبر الموجود وسوغ ذلك ظهور المعنى.

وهذا المسلك مسلك حسن إذا كسى تعبيرا أحسن من هذا. وهو مسلك لطيف المنزع دقيق على الافهام. وهو من أسرار القرآن.

والذي ينبغي أن يعبر عنه به : أن الرحمة صفة من صفات الرب تبارك وتعالى والصفة قائمة بالموصوف لا تفارقه لأن الصفة لا تفارق موصوفها. فإذا كانت قريبة من المحسنين فالموصوف تبارك وتعالى أولى بالقرب منه ، بل قرب رحمته تبع لقربه هو تبارك وتعالى من المحسنين.

٢٨١

وقد تقدم في أول الآية أن الله تعالى قريب من أهل الإحسان بإثابته ومن أهل سؤاله بإجابته ، وذكرنا شواهد ذلك ، وأن الإحسان يقتضي قرب الرب من عبده كما أن العبد قرب من ربه الإحسان ، وأن من تقرب منه شبرا تقرب الله منه ذراعا ومن تقرب منه ذراعا تقرب منه باعا. فالرب تبارك وتعالى قريب من المحسنين ورحمته قريبة منهم ، قربه يستلزم قرب رحمته. ففي حذف التاء هاهنا تنبيه على هذه الفائدة العظيمة الجليلة ، وأن الله تعالى قريب من المحسنين وذلك يستلزم القربين قربه وقرب رحمته. ولو قال إن رحمة الله قريبة من المحسنين لم يدل على قربه تعالى منهم ، لأن قربه تعالى أخص من قرب رحمته والأعم لا يستلزم الأخص بخلاف قربه ، فإنه لما كان أخص استلزم الأعم وهو قرب رحمته فلا تستهن بهذا المسلك. فإن له شأنا. وهو متضمن لسر بديع من أسرار الكتاب. وما أظن صاحب هذا المسلك قصد هذا المعنى ولا ألم به. وإنما أراد أن الإخبار عن قرب الله تعالى من المحسنين كاف عن الاخبار عن قرب رحمته منهم.

فهو مسلك سابع : في الآية وهو المختار ، وهو من أليق ما قيل فيها.

وإن شئت قلت قربه تبارك وتعالى من المحسنين وقرب رحمته منهم متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر فإذا كانت رحمته قريبة منهم فهو أيضا قريب منهم ، وإذا كان المعنيان متلازمين صح إرادة كل واحد منهما ، فكان في بيان قربه سبحانه من المحسنين من التحريض على الإحسان واستدعائه من النفوس وترغيبها فيه غاية حظ لها وأشرفه وأجله على الإطلاق ، وهو أفضل إعطاء أعطيه العبد وهو قربه تبارك وتعالى من عبده الذي هو غاية الأماني ونهاية الآمال وقرة العيون وحياة القلوب وسعادة العبد كلها فكان في العدول عن قريبة إلى قريب من استدعاء الإحسان وترغيب النفوس فيه ما لا يتخلف بعده إلا غلبت عليه من شقاوته ولا قوة إلا بالله.

٢٨٢

فصل

المسلك الثامن : أن الرحمة مصدر والمصادر كما لا تثنى ولا تجمع فحقها أن لا تؤنث وهذا المسلك ضعيف جدا فإن الله سبحانه حيث ذكر الرحمة أجرى عليها التأنيث كقوله : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) وقوله فيما حكى عنه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن رحمتي غلبت أو سبقت غضبي» ولو كان حذف التاء من الرحمة لكونها مصدرا والمصادر لاحظ للتأنيث فيها لم يعد عليها الضمير إلا مذكرا وكذلك ما كان من المصادر بالتاء كالقدرة والإرادة والحكمة والهمة ونظائرها وفي بطلان ذلك دليل على بطلان هذا المسلك.

فصل

المسلك التاسع : أن القريب يراد به شيئان أحدهما : النسب والقرابة فهذا بالتاء تقول فلانة قريبة لي والثاني قرب المكان وهذا بلا تاء تقول جلست فلانة قريبا مني ولا تقول قريبة مني وهذا مسلك الفراء رحمه‌الله وجماعة وهو أيضا ضعيف فإن هذا إنما هو إذا كان لفظ القريب ظرفا فإنه يذكر كما قال تقول جلست المرأة مني قريبا. فأما إذا كان اسما محضا فلا.

فصل

المسلك العاشر : أن تأنيث الرحمة لما كان غير حقيقي ساغ فيه حذف التاء كما تقول طلع الشمس وطلعت وهذا المسلك أيضا فاسد فإن هذا إنما يكون إذا أسند الفعل إلى ظاهر المؤنث فأما إذا أسند إلى ضميره فلا بد من التاء كقولك الشمس طلعت وتقول الشمس طالعة ولا تقول طالع لأن في الصفة ضميرها فهي بمعنى الفعل في ذلك سواء.

٢٨٣

فصل

المسلك الحادي عشر : ان قريبا مصدر لا وصف وهو بمنزلة النقيض فجرد من التاء ، لأنك إذا أخبرت عن المؤنث بالمصدر لم تلحقه التاء. ولهذا تقول : امرأة عدل ، ولا تقول : عدلة ، وامرأة صوم وصلاة وصدق وبر ونظائره.

وهذا المسلك من أفسد ما قيل في : «قريب» فإنه لا يعرف استعماله مصدرا أبدا ، وإنما هو وصف والمصدر هو «قرب» لا «قريب».

فصل

المسلك الثاني عشر : أن فعيلا وفعولا مطلقا يستوي فيهما المذكر والمؤنث حقيقيا كان أو غير حقيقي ، كما قال امرؤ القيس :

برهرهة رودة رخصة

كخرعوبة البانة المنفطر

قطيع القيام ، فتور الكلام

تفتر عن ذي عزوبخصر

وقال أيضا :

له الويل إن أمسى ولا أم هاشم

قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا

وقال جرير :

أتنفعك الحياة وأمّ عمرو

قريب لا تزور ولا تزار؟

وقال جرير أيضا :

كأن لم نحارب يابثين لو أنها

تكشف غماها وأنت صديق

وقال أيضا :

دعون الهوى ثم ارتهن قلوبنا

بأسهم أعداء ، وهن صديق

قالوا : وشواهد ذلك كثيرة.

٢٨٤

وفي هذا المسلك غنية عن تلك التعسفات والتأويلات.

وهذا المسلك ضعيف أيضا. وممن رده أب عبد الله بن مالك ، فقال : هذا القول ضعيف ، لأن قائله إما أن يريد أن فعيلا في هذا الموضع وغيره يستحق ما يستحقه فعول من الجري على المذكر والمؤنث بلفظ واحد ، وإما أن يريد أن فعيلا في هذا الموضع خاصة محمول على فعول. فالأول مردود لإجماع أهل العربية على التزام التاء في ظريفة وشريفة وأشباههما وزنا ودلالة ولذلك احتاج علماؤهم أن يقولوا في قوله تعالى : (وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) وقوله : (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) أن الأصل هو بغوي على فعول ، فلذلك لم تلحقه التاء ، ثم أعلّ بإبدال الواو ياء والضمة كسرة ، فصار لفظه كلفظ فعيل ، ولو كان فعيلا أصلا للحقته التاء ، فقيل : لم أك بغية. والثاني أيضا مردود لأن لفعيل على فعول من المزايا ما لا يليق به أن يكون تبعا له ، بل العكس أولى أن يكون فعولا تبعا لفعيل ، ولأنه يتضمن حمل فعيل على فعول ، وهما مختلفان لفظا ومعنى أما اللفظ فظاهر ، وأما المعنى فلأنّ قريبا لا مبالغة فيه لأنه يوصف به كل ذي قرب وإن قل ، وفعول لا بد فيه من المبالغة.

وأيضا فإن الدال على المبالغة لا بد أن يكون له بنية لا مبالغة فيها ، ثم يقصد به المبالغة ، فتغير بنيته كضارب وضروب ، وعالم وعليم. وقريب ليس كذلك فلا مبالغة فيه.

وأما بيت امرؤ القيس فلا حجة فيه لوجوه.

أحدها : أنه نادر فلا حكم له فلا كثرت صوره ولا جاء على الأصل كاستحوذ واستوثق البعير ، وأغيمت السماء وأغور وأحول ، وما كان كذلك فلا حكم له.

الثاني : أن يكون أراد قطيعة القيام ، ثم حذف التاء للإضافة ، فإنها يجوز حذفها عند الفراء وغيره ، وعليه حمل قوله تعالى : (وَأَقامَ الصَّلاةَ)

٢٨٥

أي إقامتها ، لأن المعروف في ذلك إنما هو لفظ الإقامة ، ولا يقال «إقام» دون إضافة كما لا يقال «إراد» في إرادة ولا «إقال» في إقالة ، لأنهم جعلوا هذه التاء عوضا عن ألف إفعال أو عينه ، لأن أصل إقامة إقوام فنقلت حركة العين إلى الفاء فانقلبت ألفا فالتقت ألفان فحذفت إحداهما فجاؤوا بالتاء عوضا ، فلزمت إلا مع الإضافة ، فإن حذفها جائز عند قوم قياسا ، وعند آخرين سماعا.

ومثلها في اللزوم : تاء عدة وزنة. وأصلهما وعد ووزن ، فحذفت الواو ، وجعلت التاء عوضا منها فلزمت. وقد تحذف للإضافة كقول الشاعر :

إن الخليط أجدوا البين وانجردوا

وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا

أي أخلفوك عدة الأمر ، فحذف التاء.

وعلى هذه اللغة قرأ بعض القراء (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) بالهاء أي عدته. فحذف التاء.

الثالث : أن يكون فعيل في قوله «قطيع القيام» بمعنى مفعول ، لأن صاحب المحكم حكى أنه يقال قطعه وأقطعه إذا بكتّه ، وقطع هو فهو قطيع القول. فقطيع على هذا بمعنى مقطوع أي مبكت ، فحذف التاء على هذا التوجيه ليس مخالفا للقياس.

وإن جعل قطيعا مبنيا على قطع كسريع من سرع : فحقه على ذلك أن يلحقه التاء عند جريه على المؤنث أنه شبه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول ، فأجرى مجراه.

فهذا تمام اثني عشر مسلكا في هذه الآية ، أصحها المسلك المركب من السادس والسابع. وباقيها ضعيف واه ومحتمل والمبتدي والمقلد لا يدرك هذه الدقائق والفاضل المنصف لا يخفى عليه قويها من ضعيفها. وليكن هذا آخر الكلام على الآية والله أعلم.

٢٨٦

قول الله تعالى ذكره :

(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨))

أخبر سبحانه إنهما إحياء ان ، وأن أحدهما معتبر بالآخر مقيس عليه. ثم ذكر قياسا آخر : أن من الأرض ما يكون أرضا طيبة. فإذا أنزلنا عليها الماء أخرجت نباتها بإذن ربها. فهذه إذا أنزل عليها الماء لم تخرج ما أخرجت الأرض الطيبة.

فشبه سبحانه الوحي الذي أنزل من السماء على القلوب بالماء الذي أنزله على الأرض ، لحصول الحياة بهذا وهذا.

وشبه القلوب بالأرض ، إذ هي محل الأعمال ، كما أن الأرض محل النبات ، وأن القلب الذي لا ينتفع بالوحي ، ولا يزكو عليه ، ولا يؤمن به كالأرض التي لا تنتفع بالمطر ، ولا تخرج نباتها به إلا قليلا ، لا ينفع.

وأن القلب الذي آمن بالوحي وزكا عليه ، وعمل بما فيه كالأرض التي أخرجت نباتها بالمطر.

فالمؤمن إذا سمع القرآن وعقله ، وتدبره بان أثره عليه ، فشبه بالبلد الطيب الذي يمرح ويخصب ، ويحسن أثر المطر عليه ، فينبت من كل زوج كريم ، والمعرض عن الوحي عكسه. والله الموفق.

قول الله تعالى ذكره :

(يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ (١٥٧))

إذا كان لا معنى عند نفاة الحكمة عن الرب ، والحسن والقبح

٢٨٧

الفطريين ـ للمعروف : إلا ما أمر به ، فصار معروفا بالأمر فقط ، ولا للمنكر : إلا ما نهى عنه. فصار منكرا بنهيه فقط فأي معنى لقوله تعالى : (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ).

وهل حاصل ذلك زائد على أن يقال : يأمرهم بما يأمرهم به ، وينهاهم عما ينهاهم عنه؟.

وهذا كلام ينزه عنه كلام آحاد العقلاء ، فضلا عن كلام رب العالمين.

وهل دلت الآية إلا على أنه أمرهم بالمعروف الذي تعرفه العقول ، وتقر بحسنه الفطر ، فأمرهم بما هو معروف في نفسه عند كل عقل سليم. ونهاهم عما هو منكر في الطباع والعقول بحيث إذا عرض أمره ونهيه على العقل السليم قبله أعظم قبول ، وشهد بحسنه كما قال بعض الأعراب ، وقد سئل : بم عرفت أنه رسول الله؟ فقال : ما أمر بشيء فقال العقل : ليته ينهي عنه. ولا نهى عن شيء ، فقال : ليته أمر به.

فهذا الاعرابي أعرف بالله ودينه ورسوله من هؤلاء ، وقد أقر عقله وفطرته بحسن ما أمر به وقبح ما نهى عنه ، حتى كان في حقه من أعلام نبوته وشواهد رسالته.

ولو كان جهة كونه معروفا ومنكرا هو الأمر المجرد لم يكن فيه دليل. بل كان يطلب له الدليل من غيره.

ومن سلك ذلك المسلك الباطل لم يمكنه أن يستدل على صحة نبوته بنفس دعوته ودينه.

ومعلوم أن نفس الدين الذي جاء به ، والملة التي دعا إليها من أعظم براهين صدقه ، وشواهد نبوته. ومن يثبت لذلك صفات وجودية أوجبت حسنه وقبول العقول ولضده صفات أوجبت قبحه ونفور العقل عنه ، فقد سد على نفسه باب الاستدلال بنفس الدعوة ، وجعلها مستدلا عليه فقط.

٢٨٨

ومما يدل على صحة ذلك قوله تعالى :

٧ : ١٥٧ (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) فهذا صريح في أن الحلال كان طيبا قبل حله. وأن الخبيث كان خبيثا قبل تحريمه. ولم يستفد طيب هذا وخبث هذا من نفس التحليل والتحريم لوجهين اثنين.

أحدهما : أن هذا علم من أعلام نبوته التي احتج الله بها على أهل الكتاب فقال : ٧ : ١٥٧ (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ، الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ ، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ) فلو كان الطيب والخبيث إنما استفيد من التحريم والتحليل لم يكن في ذلك دليل. فإنه بمنزلة أن يقال : يحل لهم ما يحل ، ويحرم عليهم ما يحرم. وهذا أيضا باطل. فإنه لا فائدة فيه وهو الوجه الثاني.

فثبت أنه أحل ما هو طيب في نفسه قبل الحل ، فكساه بإحلاله طيبا آخر ، فصار منشأ طيبه من الوجهين معا.

فتأمل هذا الموضع حق التأمل يطلعك على أسرار الشريعة ، ويشرفك على محاسنها وكمالها وبهجتها وجلالها. وأنه من الممتنع في حكمة أحكم الحاكمين : أن تكون بخلاف ما وردت به. وأن الله تعالى منزه عن ذلك ، كما يتنزه عن سائر ما يليق به.

قول الله تعالى ذكره :

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦))

٢٨٩

فشبه سبحانه من آتاه كتابه ، وعلمه العلم الذي منعه غيره. فترك العمل به واتبع هواه ، وآثر سخط الله على رضاه ، ودنياه على آخرته ، والمخلوق على الخالق : بالكلب الذي هو من أخس الحيوانات ، وأوضعها قدرا ، وأخسها نفسا. وهمته لا تتعدى بطنه. وأشدها شرها وحرصا. ومن حرصه : أنه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض يتشمم ، ويستروح حرصا وشرها. ولا يزال يشم دبره دون سائر أجزاء جسمه وإذا رميت إليه بحجر رجع إليه ليعضه من فرط نهمته. وهو من أمهن الحيوانات وأحملها للهوان ، وأرضاها بالدنايا والجيف القذرة المروحة أحب إليه من اللحم ، والعذرة أحب إليه من الحلوى. وإذا ظفر بميتة تكفي مائة كلب لم يدع كلبا يتناول معه منها شيئا إلّا هرّ عليه وقهره ، لحرصه وبخله وشرهه.

ومن عجيب أمره وحرصه : أنه إذا رأى ذا هيئة رثة وثياب دنية ، وحال زريّة نبحه ، وحمل عليه ، كأنه يتصور مشاركته له ، ومنازعته في قوته. وإذا رأى ذا هيئة وثياب جميلة ورئاسة : وضع له خطمه بالأرض ، وخضع له ، ولم يرفع إليه رأسه.

وفي تشبيه من آثر الدنيا وعاجلها على الله والدار الآخرة مع وفور علمه : بالكلب في حال لهثه : سر بديع. وهو أن هذا الذي حاله ما ذكره الله من انسلاخه من آياته واتباعه هواه : إنما كان لشدة لهفه على الدنيا. لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة. فهو شديد اللهف عليها ، ولهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه. واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى.

قال ابن جريج : الكلب منقطع الفؤاد ، لا فؤاد له : إن تحمل عليه يلهث ، أو تتركه يلهث. فهو مثل الذي يترك الهدى ، لا فؤاد له إنما فؤاده منقطع.

قلت : مراده بانقطاع فؤاده : أنه ليس له فؤاد يحمله على الصبر وترك

٢٩٠

اللهث وهكذا هذا الذي انسلخ من آيات الله ، لم يبق معه فؤاد يحمله على الصبر عن الدنيا ، وترك اللهف عليها. فهذا يلهث على الدنيا من قلة صبره عنها. وهذا يلهث من قلة صبره عن الماء. فالكلب من أقل الحيوانات صبرا عن الماء ، وإذا عطش أكل الثرى من العطش ، وإن كان فيه صبر على الجوع. وعلى كل حال فهو أشد الحيوانات لهثا : يلهث قائما ، وقاعدا ، وماشيا ، وواقفا. وذلك لشدة حرصه ، فحرارة الحرص في كبده توجب له دوام اللهث.

فهكذا مشبهه : شدة الحرص وحرارة الشهوة في قلبه توجب له دوام اللهث فإن حملت عليه بالموعظة والنصيحة فهو يلهث ، وإن تركته ولم تعظه فهو يلهث.

قال مجاهد : ذلك مثل الذي أوتي الكتاب ولم يعمل به. وقال ابن عباس : إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها. وإن تتركه لم يهتد إلى خير ، كالكلب إن كان رابضا لهث ، وإن طرد لهث.

وقال الحسن : هو المنافق لا يثبت على الحق ، دعي أو لم يدع ، وعظ أو لم يوعظ. كالكلب يلهث طردا وتركا.

وقال عطاء : ينبح إن حملت عليه أو لم تحمل عليه.

وقال أبو محمد بن قتيبة : كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش ، إلا الكلب ، فإنه يلهث في حال الكلال ، وحال الراحة ، وحال الصحة ، وحال المرض والعطش.

فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته ، وقال : إن وعظته فهو ضال ، وإن تركته فهو ضال. كالكلب إن طردته لهث ، وإن تركته على حاله لهث.

ونظيره قوله سبحانه : ٧ : ١٩٣ (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ).

٢٩١

وتأمل ما في هذا المثل من الحكم والمعاني.

فمنها قوله : (آتَيْناهُ آياتِنا) فأخبر سبحانه أنه هو الذي آتاه آياته. فإنها نعمة والله هو الذي أنعم بها علينا. فأضافها إلى نفسه. ثم قال : (فَانْسَلَخَ مِنْها) أي خرج منها ، كما تنسلخ الحية من جلدها. وفارقها فراق الجلد يسلخ عن اللحم.

ولم يقل : فسلخناه منها لأنه هو الذي تسبب إلى انسلاخه منها باتباعه هواه.

ومنها قوله سبحانه : (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) أي لحقه وأدركه ، كما قال في قوم فرعون : ٢٦ : ٦٠ (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) وكان محفوظا محروسا بآيات الله محميّ الجانب بها من الشيطان لا ينال منه شيئا إلا على غرّة وخطفة. فلما انسلخ من آيات الله ظفر به الشيطان ظفر الأسد بفريسته (فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) العاملين بخلاف علمهم ، الذين يعرفون الحق ويعملون بخلافة ، كعلماء السوء.

ومنها : أنه سبحانه قال : (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) فأخبر سبحانه أن الرفعة عنده ليست بمجرد العالم. فإن هذا كان من العلماء ، وإنما هي باتباع الحق وإيثاره ، وقصد مرضاة الله. فإن هذا كان من أعلم أهل زمانه. ولم يرفعه الله بعلمه ، ولم ينفعه به. نعوذ بالله من علم لا ينفع.

وأخبر سبحانه أنه هو الذي يرفع عبده إذا شاء بما آتاه من العلم ، وإن لم يرفعه الله فهو موضوع ، لا يرفع أحد به رأسا. فإن الرب الخافض الرافع سبحانه خفضه ولم يرفعه.

والمعنى : لو شئنا فضلناه وشرفناه ورفعنا قدره ومنزلته بالآيات التي آتيناه.

قال ابن عباس : لو شئنا لرفعناه بعلمه.

وقالت طائفة : الضمير في قوله «لرفعناه» عائد على الكفر.

٢٩٢

والمعنى : لو شئنا لرفعنا عنه الكفر بما معه من آياتنا. قال مجاهد وعطاء : لرفعنا عنه الكفر بالإيمان وعصمناه.

وهذا المعنى حق. والأول هو مراده الآية. وهذا من لوازم المراد.

وقد تقدم أن السلف كثيرا ما ينبهون على لازم معنى الآية ، فيظن الظان أن ذلك هو المراد منها.

قوله : (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) قال سعيد بن جبير : ركن إلى الأرض. وقال مجاهد : سكن. وقال مقاتل : رضي بالدنيا. وقال أبو عبيدة : لزمها وأبطأ.

والمخلد من الرجال : هو الذي يبطئ في مشيته. ومن الدواب : التي تبقى ثناياه إلى أن تخرج رباعيته.

وقال الزجاج : خلد وأخلد. وأصله من الخلود. وهو الدوام والبقاء.

يقال : أخلد فلان بالمكان إذا أقام به. قال مالك بن نويرة :

بأبناء حي من قبائل مالك

وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا

قلت : ومنه قوله تعالى : ٥٦ : ١٧ (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) أي قد خلقوا للبقاء ، لذلك لا يتغيرون ولا يكبرون ، وهم على سن واحد أبدا.

وقيل : هم المقرّطون في آذانهم والمسورون في أيديهم. وأصحاب هذا القول فسروا اللفظة ببعض لوازمها. وذلك أمارة التخليد على ذلك السن فلا تنافي بين القولين.

وقوله : (وَاتَّبَعَ هَواهُ) قال الكلبي : اتبع مسافل الأمور ، وترك معاليها.

وقال أبو روق : اختار الدنيا على الآخرة. وقال عطاء : أراد الدنيا

٢٩٣

وأطاع شيطانه. وقال ابن زيد : كان هواه مع القوم ، يعني الذين حاربوا موسى وقومه وقال ابن يمان : اتبع امرأته لأنه هي التي حملته على ما فعل.

فإن قيل : الإستدراك «بلكن» يقتضي أن يثبت بعدها ما نفي قبلها ، أو ينفي ما أثبت ، كما تقول : لو شئت لأعطيته ، لكني لم أعطه ، ول شئت لما فعلت كذا لكني فعلته. والإستدراك يقتضي : ولو شئنا لرفعناه بها ولكنا لم نشأ ، أو لم نرفعه ، فكيف استدرك بقوله : (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) بعد قوله : (لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها).

قيل : هذا من الكلام الملحوظ فيه جانب المعنى ، المعدول فيه عن مراعاة الألفاظ إلى المعاني. وذلك أن مضمون قوله : (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) أنه لم يتعاط الأسباب التي تقتضي رفعه بالآيات : من إيثار الله ومرضاته على هواه ، ولكنه آثر الدنيا ، وأخلد إلى الأرض واتبع هواه.

وقال الزمخشري : المعنى : ولو لزم آياتنا لرفعناه بها. فذكر المشيئة والمراد ما هي تابعة له ومسببة عنه ، كأنه قيل : لو لزمها لرفعناه بها. قال : ألا ترى إلى قوله : (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ) فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله. فوجب أن يكون : ولو شئنا في معنى : ما هو فعله ، ولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال : ولو شئنا لرفعناه ، ولكنا لم نشأ.

فهذا من الزمخشري شنشنة (١) نعرفها من قدري ناف للمشيئة العامة ، مبعد للنجعة في جعل كلام الله معتزليا قدريا.

فأين قوله : (وَلَوْ شِئْنا) من قوله : ولو لزمها. ثم إذا كان اللزوم لها موقوفا على مشيئة الله ـ وهو الحق ـ بطل أصله.

وقوله : إن مشيئة الله تابعة للزوم الآيات : من أفسد الكلام وأبطله ، بل لزومه لآياته تابع لمشيئة الله ، فمشيئة الله سبحانه متبوعة لا تابعة. وسبب

__________________

(١) الشنشنة : الخلق والطبيعة.

٢٩٤

لا مسبب. وموجب مقتض لا مقتضى فما شاء الله وجب وجوده وما لم يشأ امتنع وجوده.

قول الله تعالى :

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها (١٨٩))

فجعل علة السكون أنها منه. ولو كان علة الحب حسن الصورة الجسدية لوجب أن لا يستحسن الأنقص من الصور. ونحن نجد كثيرا ممن يؤثر الأدنى ويعلم فضل غيره ، ولا يجد محيدا لقلبه عنه.

ولو كان للموافقة في الأخلاق لما أحب المرء من لا يساعده ولا يوافقه. فعلمنا أنه شيء في ذات النفس. وربما كانت المحبة بسبب من الأسباب ، فتفنى بفنائه.

٢٩٥
٢٩٦

سورة الأنفال

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧))

قلت اعتقد جماعة أن المراد بالآية : سلب فعل الرسول عنه ، وإضافته إلى الرب تعالى ، وجعلوا ذلك أصلا في الجبر ، وإبطال نسبة الأفعال إلى العباد ، وتحقيق نسبتها إلى الرب وحده. وهذا أغلظ منهم في فهم القرآن ، فلو صح ذلك لوجب طرده في جميع الأعمال. فيقال : ما صليت ، وما صمت إذا صمت ، وما ضحيت إذ ضحيت ، ولا فعلت كل فعل إذ فعلته ، ولكن الله فعل ذلك. فإن طردوا ذلك لزمهم في جميع أفعال العباد طاعاتهم ومعاصيهم ، إذ لا فرق. فإن خصوه بالرسول وحده وأفعاله جميعها ، أو رميه وحده ، تناقضوا ، فهؤلاء لم يوفقوا لفهم ما أريد بالآية.

وبعد : فهذه الآية نزلت في شأن رميه صلى‌الله‌عليه‌وسلم المشركين يوم بدر بقبضة من الحصباء ، فلم تدع وجه أحد منهم إلا أصابته. ومعلوم أن تلك الرمية من البشر لا تبلغ هذا المبلغ ، فكان منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبدأ الرمي وهو الحذف ومن الله سبحانه وتعالى نيابة ، وهو الإيصال. فأضاف إليه رمي الحذف الذي هو مبدؤه ونفي عنه رمي الإيصال الذي هو نهايته.

٢٩٧

ونظير هذا قوله في الآية نفسها : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ، وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) ثم قال : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) فأخبر أنه وحده هو الذي تفرد بقتلهم ، ولم يكن ذلك بكم أنتم ، كما تفرد بإيصال الحصباء إلى أعينهم ، ولم يكن ذلك من رسوله. ولكن وجه الإشارة بالآية : أنه سبحانه أقام أسبابا ظاهرة لدفع المشركين ، وتولى دفعهم وإهلاكهم بأسباب باطنة غير الأسباب التي تظهر للناس. فكان ما حصل من الهزيمة والقتل والنصرة مضافا إليه ، وبه ، وهو خير الناصرين.

قول الله تعالى ذكره :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤))

فتضمنت هذه الآية أمورا.

أحدها : أن الحياة النافعة إنما تحصل باستجابة لله ولرسوله ، فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له ، وإن كانت له حياة بهيمية ، مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات. فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله ولرسوله ظاهرا وباطنا. فهؤلاء هم الأحياء ، وإن ماتوا وغيرهم أموات وأن كانوا أحياء الأبدان. ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة. فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة. وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول. قال مجاهد (لِما يُحْيِيكُمْ) يعني : للحق. وقال قتادة : هو هذا القرآن ، فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة. وقال السدي : هو الإسلام ، أحياهم به بعد موتهم بالكفر. قال بن إسحاق وعروة بن الزبير ـ واللفظ له ـ لما يحييكم : يعني للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل ، وقواكم بها بعد الضعف ، ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم.

٢٩٨

وهذه كلها عبارات عن حقيقة واحدة. وهي القيام بما جاء به الرسول ظاهرا وباطنا.

قال الواحدي : والأكثرون على أن معنى قوله : (لِما يُحْيِيكُمْ) هو الجهاد. وهو قول ابن إسحاق ، واختيار أكثر أهل المعاني.

قال الفراء : إذا دعاكم إلى إحياء أمركم بجهاد عدوكم ، يريد أن أمرهم إنما يقوى بالحرب والجهاد ، فلو تركوا الجهاد ضعف أمرهم ، واجترأ عليهم عدوهم.

قلت : الجهاد من أعظم ما يحييهم به في الدنيا ، وفي البرزخ ، وفي الآخرة. أما في الدنيا : فإن قوتهم وقهرهم لعدوهم بالجهاد.

وأما في البرزخ : فقد قال تعالى : ٣ : ١٦٩ (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).

وأما في الآخرة : فإن حظ المجاهدين والشهداء من حياتها ونعيمها أعظم من حظ غيرهم ولهذا قال ابن قتيبة : لما يحييكم يعني الشهادة. وقال بعض المفسرين : لما يحييكم يعني الجنة. فإنها دار الحيوان ، وفيها الحياة الدائمة الطيبة. حكاه أبو علي الجرجاني. والآية تتناول هذا كله. فإن الإيمان والإسلام والقرآن والجهاد يحيي القلوب الحياة الطيبة ، وكمال الحياة في الجنة. والرسول داع إلى الإيمان وإلى الجنة. وهو داع إلى الحياة في الدنيا والآخرة. والإنسان مضطر إلى نوعين من الحياة حياة بدنه التي بها يدرك النافع والضار ويؤثر ما ينفعه على ما يضره. ومتى نقصت فيه هذه الحياة له من الألم والضعف بحسب ذلك. ولذلك كانت حياة المريض والمحزون وصاحب الهم والغم والخوف والفقر والذل دون حياة من هو معافي من ذلك.

وحياة قلبه وروحه التي بها يميز بين الحق والباطل ، والغي والرشاد ، والهوى والضلال فيختار الحق على ضده ، فتفيده هذه الحياة قوة التمييز بين

٢٩٩

النافع والضار في العلوم والإرادات ، والأعمال. وتفيده قوة الإيمان والإرادة والحب للحق ، وقوة البغض والكراهة للباطل : فشعوره وتميزه ونصرته بحسب نصيبه من هذه الحياة. كما أن البدن الحي يكون شعوره وإحساسه بالنافع والمؤلم أتم ، ويكون ميله إلى النافع ونصرته عن المؤلم أعظم فهذا بحسب حياة البدن. وذلك بحسب حياة القلب. فإذا بطلت حياته بطل تمييزه وإن كان له نوع تمييز لم يكن فيه قوة يؤثر بها النافع على الضار ، كما أن الإنسان لا حياة له حتى ينفخ فيه الملك الذي هو رسول الله من روحه. فيصير حيا بذلك النفخ. وكان فضل ذلك من جملة الأموات فكذلك لا حياة لروحه وقلبه حتى ينفخ فيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الروح الذي ألقى الله إليه قال تعالى : ١٦ : ٢ (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وقال : ٤٠ : ١٥ (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وقال : ٤٢ : ٥٢ (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا. ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) فأخبر أن وحيه روح ونور. فالحياة والاستنارة موقوفة على نفخ الرسول الملكي فمن أصابه نفخ الرسول الملكي ونفخ الرسول البشري حصلت له الحياتان.

ومن حصل له نفخ الملك دون نفخ الرسول حصلت له إحدى الحياتين ، وفاتته الأخرى.

قال تعالى : ٦ : ١٢٢ (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) فجمع له بين النور والحياة ، كما جمع لمن أعرض عن كتابه بين الموت والظلمة. قال ابن عباس وجميع المفسرين : كان كافرا ضالا فهديناه.

وقوله : (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) يتضمن أمورا.

أحدها : أنه يمشي في الناس بالنور ، وهم في الظلمة. فمثله ومثلهم كمثل قوم أظلم عليهم الليل ، فضلوا ولم يهتدوا للطريق. وآخر معه نور

٣٠٠