التفسير القيّم

ابن القيّم الجوزيّة

التفسير القيّم

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الشيخ إبراهيم محمّد رمضان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

والفرح صفة كمال. ولهذا يوصف الرب تعالى بأعلى أنواعه وأكملها ، كفرحه بتوبة التائب أعظم من فرح الواحد براحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة بعد فقده لها والناس من حصولها.

والمقصود : أن الفرح على أنواع : نعيم القلب ولذته ، وبهجته ، والفرح والسرور : نعيمه. والهم والحزن : عذابه. والفرح بالشيء فوق الرضى به ، فإن الرضى طمأنينته وسكونه وانشراحه. والفرح لذته وبهجته وسروره. فكل فرح راض. وليس كل راض فرح. ولهذا كان الفرح ضد الحزن ، والرضى ضد السخط ، والحزن يؤلم صاحبه. والسخط لا يؤلمه ، إلا إن كان مع العجز عن الانتقام. والله أعلم.

قول الله تعالى ذكره : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧))

هو من أحسن النظم وأبدعه ، فإنه ثنى أولا ، إذ كان موسى وهارون هما الرسولان المطاعان. ويجب على بني إسرائيل طاعة كل واحد منهما ، سواء. وإذا تبوآ البيوت لقومهما فهم لهما تبع.

ثم جمع الضمير فقال (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) لأن إقامتها فرض على الجميع ، ثم وحده في قوله (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) لأن موسى هو الأصل في الرسالة وأخاه ردءه ووزير ، وكما كان موسى الأصل في الرسالة فهو الأصل في البشارة.

وأيضا : فإن موسى وأخاه لما أرسلا برسالة واحدة كانا رسولا واحدا ، كقوله تعالى : ٢٦ : ١٦ (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) فهذا الرسول هو الذي قيل له : وبشر المؤمنين.

٣٢١
٣٢٢

سورة هود

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣))

والخبت في أصل اللغة : المكان المنخفض من الأرض ، وبه فسر ابن عباس وقتادة لفظ «المخبتين» وقالا : هم المتواضعون. وقال مجاهد : المخبت : المطمئن إلى الله عزوجل.

قال : والخبت المكان المطمئن من الأرض. وقال الأخفش : الخاشعون.

وقال : إبراهيم النخعي : المصلون المخلصون.

وقال الكلبي : هم الرقيقة قلوبهم. وقال عمرو بن أوس : هم الذين لا يظلمون ، وإذا ظلموا لم ينتصروا.

وهذه الأقوال تدور على معنيين : التواضع ، والسكون إلى الله عزوجل ولذلك عدّي ب «إلى» تضمينا ، لمعنى الطمأنينة والإنابة ، والسكون إلى الله.

٣٢٣

قول الله تعالى : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤))

فإنه ذكر سبحانه الكفار ووصفهم بأنهم ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ، ثم ذكر المؤمنين ووصفهم بالإيمان والعمل الصالح والإخبات إلى ربهم فوصفهم بعبودية الظاهر والباطن ، ثم جعل أحد الفريقين كالأعمى والأصم من حيث كان قلبه أعمى عن رؤية الحق ، أعمى أصم عن سماعه. فشبه بمن بصره أعمى عن رؤية الأشياء ، وسمعه أصم عن استماع الأصوات.

والفريق الآخر : بصير القلب سميعه بصير العين ، سميع الأذن.

وقد تضمنت الآية قياسين وتمثيلين للفريقين. ثم نفى التسوية عن الفريقين بقوله : (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً).

قول الله تعالى ذكره : (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢))

أودع الله في قلوب أتباع رسله سرا من أسرار معرفته ومحبته ، والإيمان به خفي على أعداء الرسل ، فنظروا إلى ظواهرهم ، وعموا عن بواطنهم ، فازدروهم واحتقروهم وقالوا للرسول : وهؤلاء عنك حتى نأتيك ونسمع منك ، وقالوا : (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) فقال نوح لقومه (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ ، وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ، وَلا أَقُولُ : إِنِّي مَلَكٌ ، وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً. اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ).

قال الزجاج : المعنى : إن كنتم تزعمون أنهم اتبعوني في بادئ الرأي وظاهره فليس عليّ أن أطلع على ما في أنفسهم ، فإذا رأيت من يوحد الله عملت على ظاهره ورددت علم ما في نفوسهم إلى الله. وهذا معنى حسن.

والذي يظهر من الآية : أن الله يعلم ما في أنفسهم إذ أهّلهم ، لقبول

٣٢٤

دينه ، وتوحيده ، وتصديق رسله ، والله سبحانه وتعالى حكيم ، يضع العطاء في مواضعه.

وتكون هذه الآية مثل قوله ٦ : ٥٣ (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا؟ أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ؟).

فإنهم أنكروا أن يكون الله سبحانه أهّلهم للهدى والحق ، وحرمه رؤساء الكفار وأهل العزة منهم والثروة ، كأنهم استدلوا بعطاء الدنيا على عطاء الآخرة ، فأخبر سبحانه أنه أعلم بمن يؤهله لذلك ، لسر عنده من معرفة قدر النعمة ورؤيتها من مجرد فضل المنعم ومحبته وشكره عليها ، وليس كل أحد عنده هذا السر ، فلا يؤهل لهذا العطاء كل أحد.

قول الله تعالى ذكره : (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦))

أخبر عن عموم قدرته تعالى ، وأن الخلق كلهم تحت تسخيره وقدرته ، وأنه آخذ بنواصيهم. فلا محيص لهم عن نفوذ مشيئته وقدرته فيهم. ثم عقب ذلك بالإخبار عن تصرفه فيهم ، وأنه بالعدل لا بالظلم ، وبالإحسان لا بالإساءة ، وبالصلاح لا بالفساد. فهو يأمرهم وينهاهم إحسانا إليهم وحماية وصيانة لهم. لا حاجة إليهم ، ولا بخلا عليهم. بل جودا وكرما وبرا ولطفا ويثيبهم إحسانا وتفضلا ورحمة. لا لمعاوضة واستحقاق منهم ودين واجب يستحقونه عليه ويعاقبهم عدلا وحكمة. لا تشفيا ولا مخافة ولا ظلما. كما يعاقب الملوك وغيرهم. بل هو على الصراط المستقيم. وهو صراط العدل والإحسان. في أمره ونهيه ، وثوابه وعقابه.

فتأمل ألفاظ هذه الآية وما جمعته من عموم القدرة ، وكمال الملك ، ومن تمام الحكمة والعدل والإحسان ، وما تضمنته من الرد على الطائفتين ، فإنها من كنوز القرآن. ولقد كفت وشفت لمن فتح عليه باب فهمها.

فكونه تعالى على صراط مستقيم : ينفي ظلمه للعباد. وتكليفه إياهم ما

٣٢٥

لا يطيقون. وينفي العيب من أفعاله وشرعه ، ويثبت لها غاية الحكمة والسداد ، ردا على منكري ذلك ، وكون كل دابة تحت قبضته وقدرته ، وهو آخذ بناصيتها. ينبغي أن لا يقع في ملكه من أحد من مخلوقاته شيء بغير مشيئته وقدرته.

وأن من ناصيته بيد الله وفي قبضته لا يمكنه أن يتحرك إلا بتحريكه ، ولا يفعل إلا بإقداره ولا يشاء إلا بمشيئته تعالى وهذا أبلغ رد على منكري ذلك من القدرية.

فالطائفتان ما وفوا الآية معناها ، ولا قدروها حق قدرها.

فهو سبحانه على صراط مستقيم في إعطائه ومنعه ، وهدايته وإضلاله ، وفي نفعه وضره ، وعافيته وبلائه ، وإغنائه وإفقاره ، وإعزازه وإذلاله ، وإنعامه وانتقامه ، وثوابه وعقابه ، وإحيائه وإماتته ، وأمره ونهيه ، وتحليله وتحريمه ، وفي كل ما يخلق ، وكل ما يأمر به ، وهذه المعرفة بالله لا تكون إلا للأنبياء ولورثتهم.

٣٢٦

سورة يوسف

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره : (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠))

هذا الكلام متضمن لوجوه من المكر.

أحدها : قولهن : (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها) ولم يسموها باسمها ، بل ذكروها بالوصف الذي ينادي عليها بقبيح فعلها بكونها ذات بعل ، فصدور الفاحشة من ذات الزوج أقبح من صدورها ممن لا زوج لها.

الثاني : أن زوجها عزيز مصر ، ورئيسها ، وكبيرها. وذلك أقبح لوقوع الفاحشة منها.

الثالث : أن الذي تراوده مملوك لا حرّ. وذلك أبلغ في القبح.

الرابع : أنه فتاها الذي هو في بيتها ، وتحت كنفها ، فحكمه حكم أهل البيت. بخلاف من تطلب ذلك من الأجنبي البعيد.

والخامس : أنها هي المراودة الطالبة.

٣٢٧

السادس : أنها قد بلغ بها عشقها له كل مبلغ ، حتى وصل حبها له إلى شغاف قلبها.

السابع : أن في ضمن هذا : أنه أعفّ منها وأبر ، وأوفى ، حيث كانت هي المراودة الطالبة ، وهو الممتنع ، عفافا وكرما وحياء. وهذا غاية الذم لها.

الثامن : أنهن أتين بفعل المراودة بصيغة المستقبل الدالة على الاستمرار والوقوع حالا واستقبالا ، وأن هذا شأنها ، ولم يقلن : راودت فتاها. وفرق بين قولك : فلان أضاف ضيفا ، وفلان يقري الضيف ويطعم الطعام ، ويحمل الكلّ. فإن هذا يدل على أن هذا شأنه وعادته.

التاسع : قولهن (إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي إنا لنستقبح منها ذلك غاية الاستقباح. فنسبن الاستقباح إليهن ومن شأنهن مساعدة بعضهن بعضا على الهوى ولا يكدن يرين ذلك قبيحا ، كما يساعد الرجال بعضهم بعضا على ذلك ، فحيث استقبحن منها ذلك كان هذا دليلا على أنه من أقبح الأمور ، وأنه مما لا ينبغي أن تساعد عليه ، ولا يحسن معاونتها عليه.

العاشر : أنهن جمعن لها في هذا الكلام واللوم بين العشق المفرط ، والطلب المفرط ، فلم تقتصد في حبها ، ولا في طلبها.

أما العشق فقولهن (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) أي وصل حبه إلى شغاف قلبها.

وأما الطلب المفرط فقولهن (تُراوِدُ فَتاها) والمراودة : الطلب مرة بعد مرة فنسبوها إلى شدة العشق ، وشدة الحرص على الفاحشة.

فلما سمعت بهذا المكر منهن هيأت لهن مكرا أبلغ منه ، فهيأت لهن متكأ ، ثم أرسلت إليهن ، فجمعتهن ، وخبأت يوسف عليه‌السلام عنهن. وقيل : إنها جملته ، وألبسته أحسن ما تقدر عليه ، وأخرجته عليهن فجأة. فلم يرعهنّ إلا وأحسن خلق الله وأجمله قد طلع عليهن بغتة ، فراعهن ذلك

٣٢٨

المنظر البهي. وفي أيديهن مدى يقطعن بها ما يأكلن ، فدهش حتى قطعن أيديهن ، وهن لا يشعرن.

وقد قيل : إنهن أبنّ أيديهن. ولكن الظاهر خلاف ذلك. وإنما تقطيعهن أيديهن جرحها ، وشقها بالمدى ، لدهشتهن بما رأين. فقابلت مكرهن القولي بهذا المكر الفعلي ، وكانت هذه في النساء غاية في المكر.

قول الله تعالى ذكره : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠))

إنما عبدوا المسميات ، ولكن من أجل أنهم نحلوها أسماء باطلة ، كاللات والعزّى ، وهي مجرد أسماء كاذبة باطلة لا مسمى لها في الحقيقة. فإنهم سموها آلهة وعبدوها لاعتقادهم حقيقة الإلهية لها. وليس لها من الإلهية إلا مجرد الأسماء لا حقيقة المسمى. فما عبدوا إلا أسماء ، لا حقائق لمسمياتها. وهذا كمن سمى قشور البصل لحما ، وأكلها. فيقال : ما أكلت من اللحم إلا اسمه لا مسماه ، وكمن سمى التراب خبزا وأكله ، يقال له : ما أكلت إلا اسم الخبز ، بل هذا النفي أبلغ في آلهتهم. فإنه لا حقيقة لإلهيتها بوجه. وما الحكمة ثمّ إلا مجرد الاسم.

فتأمل هذه الفائدة الشريفة في كلامه تعالى.

قول الله تعالى ذكره : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي (٥٣))

فإن قيل : فكيف قال وقت ظهور براءته؟ (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي).

قيل : هذا قد قاله جماعة من المفسرين. وخالفهم في ذلك آخرون أجل منهم وقالوا : إن هذا من قول امرأة العزيز ، لا من قول يوسف عليه‌السلام.

والصواب معهم من وجوه.

أحدها : أنه متصل بكلام المرأة ، وهو قولها ١٢ : ٥١ ـ ٥٣ (الْآنَ

٣٢٩

حَصْحَصَ الْحَقُّ. أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ. ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ، وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ. وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) ومن جعله من قوله فإنه يحتاج إلى إضمار قول لا دليل عليه في اللفظ بوجه ما. والقول في مثل هذا لا يحذف ، لئلا يوقع في اللبس. فإن غايته : أن يحتمل الأمرين. فالكلام الأول أولى به قطعا.

والثاني : أن يوسف عليه‌السلام لم يكن حاضرا وقت مقالتها هذه ، بل كان في السجن لما تكلمت بقولها الآن «حصحص الحق» والسياق صحيح صريح في ذلك. فإنه لما أرسل إليه الملك يدعوه قال للرسول (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ ، فَسْئَلْهُ : ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ). فأرسل إليهن الملك وأحضرهن ، وسألهن ، وفيهن امرأته. فشهدن ببراءته ونزاهته في غيبته ، ولم يمكنهن إلا قول الحق ، فقال النسوة (حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) وقالت امرأة العزيز (أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ).

فإن قيل : لكن قوله (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) الأحسن أن يكون من كلام يوسف عليه‌السلام ، أي إنما كان تأخيري عن الحضور مع رسوله ليعلم الملك أني لم أخنه في امرأته في حال غيبته ، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين. ثم إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ، إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) وهذا من تمام معرفته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بربه ونفسه. فإنه لما أظهر نزاهته وبراءته مما قذف به أخبر عن حال نفسه ، وأنه لا يذكيها ولا يبرئها ، فإنها أمارة السوء ، لكن رحمة ربه وفضله هو الذي عصمه. فرد الأمر إلى الله بعد أن أظهر براءته.

قيل : هذا وإن كان قد قاله طائفة. الصواب أنه من تمام كلامها ، ولكن فإن الضمائر كلها في نسق واحد يدل عليه. وهو قول النسوة (ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) وقول امرأة العزيز (أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) هذه خمسة ضمائر بين بارز ومستتر. ثم اتصل بها قوله :

٣٣٠

١٢ : ٥٢ (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) فهذا هو المذكور أولا بعينه. فلا شيء يفصل الكلام من نظمه ، ويضمر فيه قول لا دليل عليه.

فإن قيل : فما معنى قولها : «ليعلم أني لم أخنه بالغيب».

قيل : هذا من تمام الاعتذار ، قرنت الاعتذار بالاعتراف ، فقالت ذلك أي قولي هذا وإقراري ببراءته : ليعلم أني لم أخنه بالكذب عليه في غيبته ، وإن خنته في وجهه في أول الأمر ، فالآن يعلم أني لم أخنه في غيبته ، ثم اعتذرت عن نفسها بقولها (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) ثم ذكرت السبب الذي لأجله لم تبرئ نفسها ، وهي أن النفس أمارة بالسوء.

فتأمل ما أعجب أمر هذه المرأة ، أقرت بالحق واعتذرت عن محبوبها ، ثم اعتذرت عن نفسها ، ثم ذكرت السبب الحامل لها على ما فعلت ، ثم ختمت ذلك بالطمع في مغفرة الله ورحمته ، وأنه إن لم يرحم عبده وإلا فهو عرضة للشر.

فوازن بين هذا وبين تقدير كون هذا الكلام كلام يوسف عليه‌السلام لفظا ومعنى.

وتأمل ما بين التقديرين من التفاوت ، ولا يستبعد أن تقول المرأة هذا وهي على دين الشرك. فإن القوم كانوا يقرون بالرب سبحانه وتعالى وبحقه ، وإن أشركوا معه غيره. ولا تنس قول سيدها لها في أول الحال ١٢ : ٢٩ (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ).

قول الله تعالى ذكره : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١))

جمعت هذه الدعوة الإقرار بالتوحيد والاستسلام للرب وإظهار الافتقار إليه ، والبراءة من موالاة غيره سبحانه ، وكون الوفاة على الإسلام أجل غايات

٣٣١

العبد ، وأن ذلك بيد الله لا بيد العبد ، والاعتراف بالمعاد وطلب مرافقة السعداء.

قول الله تعالى ذكره : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨))

قال الفراء : وجماعة «ومن اتبعني» معطوف على الضمير في «أدعو» يعني أنا ومن اتبعني يدعو إلى الله كما أدعو ، وهذا قول الكلبي ، قال : حق على كل من أتبعه أن يدعو إلى ما دعا إليه ، ويذكر بالقرآن والموعظة.

ويقوى هذا القول من وجوه كثيرة :

قال ابن الأنباري : ويجوز أن يتم الكلام عند قوله «إلى الله» ثم يبتدئ بقوله «على بصيرة أنا ومن اتبعني» فيكون الكلام على قوله جملتين ، أخبر في أولاهما أنه يدعو إلى الله ، وفي الثانية : بأنه مع أتباعه على بصيرة ، والقولان متلازمان فلا يكون الرجل من أتباعه حقا حتى يدعو إلى ما دعا إليه ويكون على بصيرة.

وقول الفراء أحسن وأقرب إلى الفصاحة والبلاغة.

وإذا كانت الدعوة إلى الله أشرف مقامات العبد وأجلها وأفضلها : فهي لا تحصل إلا بالعلم الذي يدعو به وإليه ، بل لا بد في كمال الدعوة من البلوغ في العلم إلى حد أقصى يصل إليه السعي ، ويكفي هذا في شرف العلم : أن صاحبه يحوز به هذا المقام ، والله يؤتي فضله من يشاء.

٣٣٢

سورة الرعد

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨)) قال ابن عباس رضي الله عنهما (ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) من التسعة أشهر (وَما تَزْدادُ) : ما تزيد فيها ، ووافقه على هذا أصحابه ، كمجاهد وسعيد بن جبير.

وقال مجاهد أيضا : إذا حاضت المرأة على ولدها كان نقصانا من الولد ، وما تزداد ، قال : إذا زادت على تسعة أشهر كان ذلك تماما لما نقص من ولدها.

وقال أيضا : ما رأت الحامل من الدم في حملها فهو نقصان من الولد ، والزيادة ما زاد على تسعة أشهر ، وهو تمام النقصان.

وقال الحسن : ما تغيض الأرحام : ما كان من سقط ، وما تزداد : تلد المرأة لعشرة أشهر.

وقال عكرمة : ما تغيض الأرحام : الحيض بعد الحمل ، فكل يوم رأت فيه الدم حاملا ازدادته في الأيام طاهرا ، فما حاضت يوما إلا ازدادت في الحمل.

٣٣٣

وقال قتادة : الغيض : السقط ، وما تزداد : فوق التسعة أشهر.

وقال سعيد بن جبير : إذا رأت المرأة الدم على الحمل فهو الغيض للولد ، فهو نقصان في غذاء الولد ، وزيادة في الحمل.

«تغيض ، وتزداد» فعلان متعديان مفعولهما محذوف ، وهو العائد إلى «ما» الموصولة ، والغيض : النقصان. ومنه ١١ : ٤٤ (وَغِيضَ الْماءُ) وضده الزيادة.

والتحقيق في معنى الآية : أنه يعلم مدة الحمل ، وما يعرض فيها من الزيادة والنقصان ، فهو العالم بذلك دونكم ، كما هو العالم بما تحمل كل أنثى : هل هو ذكر أو أنثى؟ وهذا أحد أنواع الغيب التي لا يعلمها إلا الله تعالى ، كما في الصحيحين عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله : لا يعلم ما في الأرحام إلا الله ، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله» فهو سبحانه المنفرد بعلم ما في الرحم ، وعلم مدة إقامته فيه ، وما يزيد في بدنه ، وما ينقص.

وما عدا هذا القول فهو من توابعه ولوازمه كالسقط والتمام ، ورؤية الدم وانقطاعه.

والمقصود ذكر مدة إقامة الحمل في البطن ، وما يتصل بها من زيادة ونقصان.

قول الله تعالى ذكره : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ (١٧))

شبه الله الوحي الذي أنزله لحياة القلوب والأسماع والأبصار بالماء الذي

٣٣٤

أنزله لحياة الأرض بالنبات. وشبه القلوب بالأودية. فقلب كبير. يسع علما عظيما. كواد كبير يسع ماء كثيرا. وقلب صغير إنما يسع بحسبه ، كواد صغير ، فسالت أودية بقدرها. واحتملت قلوب من الهدى والعلم بقدرها ، وكما أن السيل إذا خالط القلوب أثار ما فيها من الشهوات والشبهات ، ليقلعها ويذهبها ، كما يثير الدواء وقت شربه من البدن أخلاطه ، فيتكدر بها شاربه ، وهي من تمام نفع الدواء. فإنه إنما أثارها ليذهب بها ، فإنه لا يجامعها ولا يشاركها. وهكذا يضرب الله الحق والباطل.

ثم ذكر المثل الناري فقال : (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ) وهو الخبث الذي يخرج عند سبك الذهب والفضة والنحاس والحديد ، فتخرجه النار وتميزه ، وتفصله من الجوهر الذي ينتفع به ، فيرمى ويطرح ويذهب جفاء ، وكذلك الشهوات والشبهات يرميها العلم والهدى من قلب المؤمن ويطرحها. ويجفوها ، كما يطرح السيل والنار ذلك الزبد والغثاء والخبث ، ويستقر في قرار الوادي الماء الصافي الذي يستسقي منه الناس ويزرعون ويسقون أنعامهم. كذلك يستقر في قرار القلب وجذره الإيمان الخالص الصافي الذي ينفع صاحبه وينتفع به غيره. ومن لم يفقه هذين المثلين ولم يتدبرهما ، ويعرف ما يراد منهما فليس من أهلهما. والله الموفق.

وقال في مفتاح دار السعادة : ١٣ : ١٧ (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً).

هذا هو المثل المائي. شبه الوحي الذي أنزله لحياة القلوب بالماء الذي أنزله من السماء. وشبه القلوب الحاملة له بالأودية الحاملة للسيل ، فقلب كبير يسع علما عظيما كواد كبير يسع ماء كثيرا ، وقلب صغير كواد صغير يسع علما قليلا ، فحملت القلوب من هذا العلم بقدرها ، كما سالت الأودية بقدرها.

٣٣٥

ولما كانت الأودية مجاري السيول فيها الغثاء ونحوه مما يمر عليه السيل ، فيحتمله السيل ، فيطفو على وجه الماء زبدا عاليا يمر عليه متراكما ، ولكن تحته الماء الفرات الذي به حياة الأرض ، فيقذف الوادي ذلك الغثاء إلى جنبتيه حتى لا يبقى ذلك منه شيء ، ويبقى الماء الذي تحت الغثاء يسقي الله تعالى به الأرض فيحيي به البلاد والعباد والشجر والدواب والغثاء يذهب جفاء يجفى ويطرح على شفير الوادي ، فكذلك العلم والإيمان ، الذي أنزله في القلوب ، فاحتملته ، فأثار منها بسبب مخالطته لها ما فيها من غثاء الشهوات وزبد الشبهات الباطلة. فيطفو في أعلاها. واستقر العلم والإيمان والهدى في جذر القلوب. فلا يزال ذلك الغثاء والزبد يذهب جفاء ويزول شيئا فشيئا حتى يزول كله. ويبقى العلم النافع ، والإيمان الخالص في هذا القلب ، يرده الناس فيشربون ويسقون ويمرعون.

قوله تعالى ذكره : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨))

الطمأنينة : سكون القلب إلى الشيء ، وعدم اضطرابه وقلقه. ومنه الأثر المعروف «الصدق طمأنينة ، والكذب ريبة» أي الصدق يطمئن إليه قلب السامع ، ويجد عنده سكونا إليه. والكذب يوجب اضطرابا وارتيابا. ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «البر ما اطمأن إليه القلب» أي سكن إليه وزال عنه اضطرابه وقلقه.

وفي «ذكر الله» هاهنا قولان.

أحدهما : أنه ذكر العبد ربّه ، فإنه يطمئن إليه قلبه ، ويسكن. فإذا اضطرب القلب وقلق فليس له ما يطمئن به سوى ذكر الله.

ثم اختلف أصحاب هذا القول فيه. فمنهم من قال : هذا في الحلف واليمين ، إذا حلف المؤمن على شيء سكنت قلوب المؤمنين إليه ، واطمأنت. ويروى هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما.

٣٣٦

ومنهم من قال : بل هو ذكر العبد ربه بينه وبينه ، يسكن إليه قلبه ، ويطمئن.

والقول الثاني : أن ذكر الله هاهنا القرآن ، وهو ذكره الذي أنزله على رسوله به طمأنينة قلوب المؤمنين. فإن القلب لا يطمئن إلا بالإيمان واليقين. ولا سبيل إلى حصول الإيمان واليقين إلا من القرآن. فإن سكون القلب وطمأنينته من يقينه ، واضطرابه وقلقه من شكه. والقرآن هو المحصل لليقين الدافع للشكوك والظنون والأوهام. فلا تطمئن قلوب المؤمنين إلا به. وهذا القول هو المختار.

وكذلك القولان أيضا في قوله تعالى : ٤٣ : ٣٦ (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) والصحيح : أنه ذكره الذي أنزله على رسوله ، وهو كتابه من أعرض عنه قيض الله له شيطانا يضله ويصده عن السبيل. وهو يحسب أنه على هدي.

وكذلك القولان أيضا في قوله تعالى : ٢٠ : ١٢٤ (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ، وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) والصحيح أنه ذكره الذي أنزله على رسوله وهو كتابه. ولهذا يقول المعرض عنه ٢٠ : ١٢٥ ، ١٢٦ (رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى ، وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً؟ قالَ : كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها ، وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى).

وأما تأويل من تأوله على الحلف ففي غاية البعد عن المقصود. فإن ذكر الله بالحلف يجري على لسان الصادق والكاذب والبر والفاجر. والمؤمنون تطمئن قلوبهم إلى الصادق ولو لم يحلف. ولا تطمئن قلوبهم إلى من يرتابون منه ولو حلف.

وجعل الله الطمأنينة في قلوب المؤمنين ونفوسهم. وجعل الغبطة والمدحة والبشارة بدخول الجنة لأهل الطمأنينة. فطوبى لهم وحسن مآب.

٣٣٧
٣٣٨

سورة إبراهيم

بسم الله الرحمن الرحيم

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨))

شبه الله تعالى أعمال الكفار في بطلانها وعدم الانتفاع بها برماد مرت عليه ريح شديدة في يوم عاصف.

فشبه سبحانه أعمالهم في حبوطها وذهابها باطلا كالهباء المنثور ، لكونها على غير أساس من الإيمان والإحسان ، وكونها لغير الله عزوجل ، وعلى غير أمره : برماد طيرته الريح العاصف. فلا يقدر صاحبه على شيء منه وقت شدة حاجته إليه. فلذلك قال : (لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ) لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء. فلا يرون له أثرا من ثواب ، ولا فائدة نافعة. فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه ، موافقا لشرعه.

والأعمال أربعة : فواحد مقبول. وثلاثة مردودة.

فالمقبول : الخالص الصواب. فالخالص : أن يكون لله لا لغيره.

٣٣٩

والصواب أن يكون مما شرعه الله على لسان رسوله.

والثلاثة المردودة ما خالف ذلك.

وفي تشبيهها بالرماد سرّ بديع. وذلك للتشابه بين أعمالهم وبين الرماد ، في إحراق النار وإذهابها لأصل هذا وهذا. فكانت الأعمال التي لغير الله ، وعلى غير مراده : طعمة للنار ، وبها تسعّر النار على أصحابها. وينشئ الله سبحانه لهم من أعمالهم الباطلة نارا وعذابا ، كما ينشئ لأهل الأعمال الموافقة لأمره ونهيه التي هي خالصة لوجهه من أعمالهم نعيما وروحا ، فأثرت النار في أعمال أولئك حتى جعلتها رمادا. فهم وأعمالهم وما يعبدون من دون الله وقود النار.

قول الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥))

شبه سبحانه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة. لأن الكلمة الطيبة تثمر العمل الصالح ، والشجرة الطيبة تثمر الثمر النافع. وهذا ظاهر على قول جمهور المفسرين الذين يقولون : الكلمة الطيبة : هي شهادة أن لا إله إلا الله. فإنها تثمر جميع الأعمال الصالحة ، الظاهرة والباطنة. فكل عمل صالح مرض لله فهو ثمرة هذه الكلمة.

وفي تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : كلمة طيبة : شهادة أن لا إله إلا الله. كشجرة طيبة : وهو المؤمن. أصلها ثابت قول : لا إله إلا الله في قلب المؤمن (وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) يقول : يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء.

وقال الربيع بن أنس : كلمة طيبة : هذا مثل الإيمان. فإن الإيمان الشجرة الطيبة ، وأصلها الثابت الذي لا يزول : الإخلاص فيه. وفرعها في

٣٤٠