التفسير القيّم

ابن القيّم الجوزيّة

التفسير القيّم

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الشيخ إبراهيم محمّد رمضان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

المرسلين. وهذا يقتضى سلامتهم من كل ما يقول المكذبون لهم ، المخالفون لهم. وإذا سلموا من كل ما رماهم أعداؤهم لزم سلامة كل ما جاءوا به من الكذب والفساد.

وأعظم ما جاءوا به : التوحيد ومعرفة الله ، ووصفه بما يليق بجلاله مما وصف به نفسه على ألسنتهم. وإذا سلم ذلك من الكذب والمحال والفساد : فهو الحق المحض. وما خالفه : فهو الباطل ، والكذب المحال.

وهذا المعنى بعينه في قوله : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى). فإنه يتضمن حمده بما هو من نعوت الكمال وأوصاف الجلال ، والأفعال الحميدة ، والأسماء الحسنى وسلامة رسله من كل عيب ونقص وكذب. وذلك يتضمن سلامة ما جاءوا به من كل باطل.

فقابل هذا السر في اقتران السلام على رسله بحمده وتسبيحه. فهذا يشهد بكون السلام هنا من الله تعالى ، كما هو في آخر الصافات.

وأما عطف الخبر على الطلب فما أكثره. فمنه قوله تعالى : ٢١ : ١١٢ (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ ، وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ) وقوله : ٢٣ : ١١٨ (وَقُلْ : رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) وقوله : ٧ : ٨٩ (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) ونظائره كثيرة جدا.

وفصل الخطاب في ذلك : أن يقال الآية تتضمن الأمرين جميعا ، وتنتظمها انتظاما واحدا. فإن الرسول هو المبلغ عن الله كلامه ، وليس له فيه إلا البلاغ ، والكلام كلام الرب تبارك وتعالى ، فهو الذي حمد نفسه ، وسلم على صفوة عباده ، وأمر رسوله بتبليغ ذلك. فإذا قال الرسول : الحمد لله ، وسلام على عباده الذين اصطفى كان قد حمد الله وسلم على عباده بما حمد الرب به نفسه وسلم به هو على عباده. فهو سلام من الله ابتداء ، ومن المبلغ بلاغا ، ومن العباد : اقتداء وطاعة. فنحن نقول كما أمرنا ربنا تعالى : «الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى».

٤٢١

وكلمة «السلام» هاهنا يحتمل أن تكون داخلة في حيّز القول. فتكون معطوفة على الجملة الخبرية ، وهي «الحمد لله» ويكون الأمر بالقول متناولا للجملتين معا.

وعلى هذا فيكون الوقف على الجملة الأخيرة ويكون محلها النصب ، محكية بالقول.

ويحتمل أن تكون جملة مستأنفة مستقلة ، معطوفة على جملة. الطلب وعلى هذا : فلا محل لها من الإعراب. وهذا التقدير أرجح.

وعليه يكون السلام من الله عليهم ، وهو المطابق لما تقدم من سلامه سبحانه على رسله صلّى الله عليهم وسلّم.

وعلى التقدير الأول : يكون أمرنا بالسلام عليهم ، ولكن يقال على هذا : كيف يعطف الخبر على الطلب ، مع تنافر ما بينهما؟ فلا يحسن أن يقال : قم وذهب زيد ، ولا أخرج وقعد عمرو.

ويجاب عن هذا : بأن جملة الطلب قد حكيت بجملة خبرية ، ومع هذا يمتنع العطف فيه بالخبر على الجملة الطلبية. لعدم تنافر الكلام فيه وتباينه. وهذا نظير قوله تعالى : ١٠ : ١٠١ (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ؟).

فقوله تعالى : «وما تغنى الآيات» ليس معطوفا على القول وهو «انظروا» بل معطوف على الجملة الكبرى ، على أن عطف الخبر على الطلب كثير ، كقوله تعالى : ٢١ : ١١٢ (قالَ : رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ. وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) وقوله : ٢٣ : ١١٨ (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ ، وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ).

والمقصود : أنه على هذا القول : يكون الله سبحانه قد سلم على المصطفين من عباده ، والرسل أفضلهم. وقد أخبر تعالى : أنه أخلصهم كما

٤٢٢

قال : ٣٨ : ٤٦ ، ٤٧ (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ، وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ).

ويكفي في شرفهم وفضلهم : أن الله اختصهم بوحيه. وجعلهم أمناءه على رسالته ، وواسطته بينه وبين عباده ، وخصهم بأنواع كراماته ، فمنهم من اتخذه خليلا. ومنهم من كلمه تكليما ، ومنهم من رفعه مكانا عليا على سائرهم درجات. ولم يجعل لعباده طريقا للوصول إليه إلا من طريقهم ، ولا دخولا إلى جنته إلا خلفهم.

٤٢٣
٤٢٤

سورة القصص

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره : (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧)) فأخبر تعالى أن ما قدمت أيديهم قبل البعثة سبب لإصابتهم بالمصيبة. وأنه سبحانه لو أصابهم بما يستحقون من ذلك لاحتجوا عليه بأنه لم يرسل إليهم رسولا ولم ينزل عليهم كتابا. فقطع هذه الحجة بإرسال الرسول ، وإنزال الكتاب لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. وهذا صريح في أن أعمالهم قبل البعثة كانت قبيحة ، بحيث استحقوا أن يصابوا بها بالمصيبة. ولكنه سبحانه لا يعذب إلا بعد إرسال الرسل. وهذا هو فصل الخطاب.

وتحقيق القول في هذا الأصل العظيم : أن القبح ثابت للفعل في نفسه ، وأنه لا يعذب الله عليه إلا بعد إقامة الحجة بالرسالة. وهذه النكتة هي التي فاتت المعتزلة والكلابية كليهما ، فاستطالت كل طائفة منهما على الأخرى ، لعدم جمعها بين هذين الأمرين. فاستطالت الكلابية على المعتزلة بإثباتهم العذاب قبل إرسال الرسل ، وترتيبهم العقاب على مجرد القبح العقلي. وأحسنوا في رد ذلك عليهم.

٤٢٥

واستطالت المعتزلة عليهم في إنكارهم الحسن القبح العقليين جملة ، وجعلهم انتفاء العذاب قبل البعثة دليلا على انتفاء القبح ، واستواء الأفعال في أنفسها وأحسنوا في رد هذا عليهم.

فكل طائفة استطالت على الأخرى لسبب إنكارها الصواب.

وأما من سلك هذا المسلك الذي سلكناه فلا سبيل لواحدة من الطائفتين إلى رد قوله ، ولا الظفر عليه أصلا. فإنه لوافق لكل طائفة على ما معها من الحق مقرر له ، مخالف لها في باطلها منكر له.

قول الله تعالى ذكره : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢))

خص سبحانه النهار بذكر البصر ، لأنه محله. وفيه سلطان البصر وتصرفه. وخص الليل بذكر السمع. لأن سلطان السمع يكون بالليل ، وتسمع فيه الحيوانات ما لا تسمع في النهار. لأنه وقت هدوء الأصوات ، وخمود الحركات ، وقوة سلطان السمع وضعف سلطان البصر. والنهار بالعكس ، فيه قوة سلطان البصر ، وضعف سلطان السمع.

فقوله : (أَفَلا تَسْمَعُونَ) راجع إلى قوله «قل أرأيتم» أي إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم به؟.

وقوله : «أفلا تبصرون» راجع إلى قوله «قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة».

٤٢٦

سورة العنكبوت

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١))

فذكر سبحانه أنهم ضعفاء ، وأن الذين اتخذوهم أولياء أضعف منهم. فهم في ضعفهم وما قصدوه من اتخاذ الأولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا. وهو أوهن البيوت وأضعفها.

وتحت هذا المثل أن هؤلاء المشركين أضعف ما كانوا حيث اتخذوا من دون الله أولياء. فلم يستفيدوا بمن اتخذوهم أولياء إلا ضعفا على ضعفهم كما قال تعالى : ١٩ : ٨١ ، ٨٢ (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) وقال تعالى : ٣٦ : ٧٤ ، ٧٥ (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) وقال بعد أن ذكر إهلاك الأمم المشركين ١١ : ١٠١ (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ).

٤٢٧

فهذه أربعة مواضع في القرآن تدل على أن من اتخذ من دون الله وليا يتعزز به ، ويتكبر به ، ويستقر به لم يحصل له به إلّا ضد مقصوده.

وفي القرآن أكثر من ذلك ، وهو من أحسن الأمثال وأدلها على بطلان الشرك ، وعلى خسران صاحبه وحصوله على مقصوده.

فإن قيل : فهم يعلمون أن أوهن البيوت بيت العنكبوت ، فكيف نفى عنهم علم ذلك بقوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

فالجواب : أنه سبحانه لم ينف عنهم علمهم بوهن بيت العنكبوت ، وإنما نفى عنهم علمهم بأن اتخاذهم الموتى أولياء من دونه كالعنكبوت اتخذت بيتا ، فلو علموا ذلك ما فعلوه ، ولكن ظنوا أن اتخاذهم الأولياء من دونه يفيدهم عزا وقدرة. والأمر في الواقع بخلاف ما ظنوه.

قول الله تعالى ذكره :

(اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥))

وقيل : المعنى : أنكم في الصلاة تذكرون الله ، وهو ذاكركم ولذكر الله تعالى إياكم أكبر من ذكركم إياه. وهذا يروى عن ابن عباس وسلمان وأبي الدرداء وابن مسعود رضي الله عنهم.

وذكر ابن أبي الدنيا عن فضيل بن مرزوق عن عطية (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) قال : هو قوله تعالى : ٢ : ١٥٢ (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) فذكر الله تعالى لكم أكبر من ذكركم إياه.

وقال ابن زيد وقتادة : معناه ، ولذكر الله أكبر من كل شيء.

وقيل لسلمان : أي الأعمال أفضل؟ فقال : أما تقرأ القرآن (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ).

ويشهد لهذا حديث أبي الدرداء «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق ـ الحديث».

٤٢٨

كان شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه يقول : الصحيح أن معنى الآية : أن الصلاة فيها مقصودان عظيمان ، وأحدهما أعظم من الآخر. فإنها تنهي عن الفحشاء والمنكر ، وهي مشتملة على ذكر الله تعالى ، ولما فيها من ذكر الله تعالى ، أعظم من نهيها عن الفحشاء والمنكر.

وذكر ابن أبي الدنيا ابن عباس : أنه سئل أي العمل أفضل؟ قال : ذكر الله أكبر.

٤٢٩
٤٣٠

سورة الروم

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨))

هذا دليل قياس. احتج الله سبحانه به على المشركين ، حيث جعلوا له من عبده وملكه شركاء فأقام عليهم حجة يعرفون صحتها من نفوسهم ، لا يحتاجون فيها إلى غيرهم.

ومن أبلغ الحجاج. أن يأخذ الإنسان من نفسه ، ويحتج عليه بما هو في نفسه مقرر عندها ، معلوم لها. فقال : (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) من عبيدكم وإمائكم شركاء في المال والأهل؟ أي هل يشارككم عبيدكم في أموالكم وأهليكم فأنتم وهم في ذلك سواء؟ تخافون أن يقاسموكم أموالكم ، ويشاطروكم إياها ، ويستكثرون ببعضها عليكم ، كما يخاف الشريك شريكه.

وقال ابن عباس : تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا.

٤٣١

والمعنى : هل يرضي أحد منكم أن يكون عبده شريكه في ماله وأهله ، حتى يساويه في التصرف في ذلك؟ فهو يخاف أن ينفرد في ماله بأمر يتصرف فيه ، كما يخاف غيره من الشركاء والأحرار؟ فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم ، فلم عدلتم بي من خلقي من هو مملوك لي؟ فإن كان هذا الحكم باطلا في فطركم وعقولكم ، مع أنه جائز عليكم ، ممكن في حقكم ، إذ ليس عبيدكم ملكا لكم حقيقة ، وإنما هم إخوانكم ، جعلهم الله تحت أيديكم ، وأنتم وهم عباد لي ، فكيف تستجيزون مثل هذا الحكم في حقي؟ مع أن جعلتموهم بي شركاء عبيدي وملكي وخلقي؟ فهكذا يكون تفصيل الآيات لأولي العقول.

قول الله تعالى ذكره :

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١))

قال مجاهد : إذا ولي الظالم أساء بالظلم والفساد ، فيحبس بذلك القطر ، ويهلك الحرث والنسل. والله لا يحب الفساد. ثم قرأ (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ثم قال : أما والله ما هو بحركم هذا ، ولكن كل قرية على ماء جار ، فهو بحر ، وقال عكرمة : ظهر الفساد في البر والبحر ، أما إني لا أقول لكم : بحركم هذا ، ولكن كل قرية على ماء.

وقال قتادة : أما البر : فأهل العمور ، وأما البحر : فأهل القرى والريف.

قلت : وقد سمى الله تعالى الماء العذب بحرا ، فقال : ٢٥ : ٥٣ (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) وليس في العالم بحر حلو واقفا ، إنما هي الأنهار الجارية والبحر المالح والساكن. وتسمى القرى التي على المياه الجارية باسم تلك المياه.

٤٣٢

وقال ابن زيد : ظهر الفساد في البر والبحر ، قال : الذنوب.

قلت : أراد أن الذنب سبب الفساد الذي ظهر ، وإن الفساد الذي ظهر هو الذنوب نفسها ، فيكون اللام في قوله : (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) لام العاقبة والتعليل. وعلى الأول : فالمراد بالفساد : النقص والشر والآلام التي يحدثها الله في الأرض بمعاصي العباد فكلما أحدثوا ذنبا أحدث الله لهم عقوبة. كما قال بعض السلف : كلما أحدثتم ذنبا أحدث الله لكم من سلطانه عقوبة.

والظاهر ـ والله أعلم ـ أن الفساد المراد به الذنوب وموجباتها.

ويدل عليه قوله تعالى : (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) فهذا حالنا دائما ، أذاقنا الله الشيء اليسير من أعمالنا ، فلو أذاقنا كل أعمالنا لما ترك على ظهرها من دابة.

٤٣٣
٤٣٤

سورة سبأ

بسم الله الرحمن الرحيم

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢))

فتأمل كيف أخذت هذه الآية على المشركين مجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك وسدت بها عليهم الباب أبلغ سد وأحكمه ، فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود لما يرجو من نفعه ، وإلا فلو كان لا يرجو منفعة منه فلا يتعلق قلبه به أبدا. وحينئذ فلا بد أن يكون المعبود إما مالكا للأسباب التي ينتفع بها عابده ، أو شريكا لمالكها ، أو ظهيرا أو وزيرا أو معاونا له ، أو وجيها ذا حرمة وقدر ، يشفع عنده فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه انتفت أسباب الشرك وانقطعت مواده.

فنفى سبحانه عن آلهتهم أن تملك مثقال ذرة في السموات والأرض. فقد يقول المشرك : هي شريكة للمالك الحق. فنفى شركها له.

فيقول المشرك : قد تكون ظهيرا أو وزيرا ، أو معاونا. فقال : (وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ).

٤٣٥

ولم يبق إلا الشفاعة فنفاها عن آلهتهم ، وأخبر أنه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه فإن لم يأذن للشافع لم يتقدم بالشفاعة بين يديه ، كما يكون في حق المخلوقين. فإن المشفوع عنده يحتاج إلى الشافع وإلى معاونته له فيقبل شفاعته ، وإن لم يأذن له منها. وأما من كل ما سواه فقير إليه بذاته فهو الغني بذاته عن كل ما سواه. فكيف يشفع عنده أحد بغير إذنه؟.

٤٣٦

سورة فاطر

بسم الله الرحمن الرحيم

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥))

بين سبحانه في هذه الآية أن فقر العباد إليه أمر ذاتي لهم ، لا ينفك عنهم ، كما أن كونه غنيا حميدا ذاتي فغناه وحمده ثابت له لذاته : لا لأمر أوجبه. وفقر من سواه إليه ثابت له لذاته ، لا لأمر أوجبه فلا يعلل هذا الفقر بحدوث ولا إمكان بل هو ذاتي للفقير. فحاجة العبد إلى ربه لذاته لا لعلة أوجبت تلك الحاجة. كما أن غنى الرب سبحانه لذاته لا لأمر أوجب غناه. كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية :

والفقر لي وصف ذات لازم أبدا

كما أن الغنى أبدا وصف له ذاتي

فالخلق فقير محتاج إلى ربه بالذات لا بعلة. وكل ما يذكر ويقرر من أسباب الفقر والحاجة فهي أدلة على الفقر والحاجة ، لا علل لذلك. إذ ما بالذات لا يعلّل لفقير بذاته محتاج إلى الغنى بذاته. فما يذكر من إمكان وحدوث واحتياج فهي أدلة على الفقر لا أسباب له.

ولهذا كان الصواب في مسألة علة احتياج العالم إلى الرب سبحانه غير

٤٣٧

القولين اللذين تذكرهما الفلاسفة والمتكلمون.

فإن الفلاسفة قالوا : علة الحاجة الإمكان. والمتكلمون قالوا : علة الحاجة الحدوث.

والصواب : أن الإمكان والحدوث متلازمان ، وكلاهما دليل الحاجة والافتقار.

وفقر العالم إلى الله سبحانه أمر ذاتي لا يعلل فهو فقير بذاته إلى ربه الغني بذاته.

ثم يستدل بإمكانه وحدوثه وغير ذلك من ادلة على هذا الفقر.

والمقصود : أنه سبحانه أخبر عن حقيقة العباد وذواتهم بأنها فقيرة إليه سبحانه كما أخبر عن ذاته المقدسة ، وحقيقته أنه غني حميد.

فالفقر المطلق من كل وجه ثابت لذواتهم وحقائقهم من حيث هي. والغنى المطلق من كل وجه ثابت لذاته تعالى وحقيقته من حيث هي فيستحيل أن يكون العبد إلا فقيرا. ويستحيل أن يكون الرب سبحانه إلّا غنيّا. كما أنه يستحيل أن يكون العبد إلا عبدا ويستحيل أن يكون الرب إلا ربّا.

٤٣٨

سورة يس

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

وأما الغل فقال تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨)) قال الفراء : حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله. وقال أبو عبيدة : منعناهم عن الايمان بموانع. ولما كان الغل مانعا للمغلول من التصرف والتقلب كان الغل الذي على القلب مانعا من الايمان.

فإن قيل : فالغل المانع من الايمان هو الذي في القلب ، فكيف ذكر الغل الذي في العنق.

قيل : لما كان عادة الغل أن يوضع في العنق ناسب ذكر محله والمراد به القلب. كقوله تعالى : ١٧ : ١٣ (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) ومن هذا قولهم : اثمي في عنقك. وهذا في عنقك. ومن هذا قوله : ١٧ : ٢٩ (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) شبه الإمساك عن الإنفاق باليد إذا غلت إلى العنق. ومن هذا قال الفراء : إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا :

٤٣٩

حبسناهم عن الاتفاق. قال أبو إسحاق : إنما يقال للشيء اللازم : هذا في عنق فلان ، أي لزومه كلزوم القلادة من بين ما يلبس في العنق. فقال أبو علي : هذا مثل قولهم : طوقتك كذا وقلدتك. ومنه : قلده السلطان كذا ، أي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة ، ومكان الطوق.

قلت : ومن هذا قولهم : قلدت فلانا حكم كذا وكذا. كأنك جعلته طوقا في عنقه. وقد سمى الله التكاليف الشاقة أغلالا في قوله : ٧ : ١٥٧ (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) فشبهها بالأغلال لشدتها وصعوبتها. قال الحسن : هي الشدائد التي كانت في العبادة. كقطع أثر البول والنجاسة ، وقتل النفس في التوبة. وقطع الأعضاء الخاطئة. وتتبع العروق من اللحم. وقال ابن قتيبة : هي تحريم الله سبحانه عليهم كثيرا مما أطلقه لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعلها أغلالا لأن التحريم يمنع ، كما يفيض الغل اليد.

وقوله : (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) قالت طائفة : الضمير يعود إلى الأيدي ، وإن لم تذكر لدلالة السياق عليها. قالوا : لأن الغل يكون في العنق فتجمع إليه اليد. ولذلك سمي جامعة. وعلى هذا فالمعنى : فأيديهم ، أو فأيمانهم مضمومة إلى أذقانهم. وهذا قول الفراء والزجاج.

وقالت طائفة : الضمير يرجع إلى الأغلال. وهذا هو الظاهر. وقوله : (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) أي واصلة وملزوزة إليها ، فهو غل عريض قد أحاط بالعنق حتى وصل إلى الذقن.

وقوله : (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) قال الفراء والزجاج : المقمح : هو الغاض بصره بعد رفع رأسه. ومعنى الإقماح في اللغة رفع الرأس وغض البصر. يقال : أقمح البعير رأسه ، وقمح. وقال الأصمعي : بعير قامح إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب. قال الأزهري : لما غلت أيديهم إلى

٤٤٠