التفسير القيّم

ابن القيّم الجوزيّة

التفسير القيّم

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الشيخ إبراهيم محمّد رمضان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

عَلَيْكُمْ» فبدءوهم بالسلام المتضمن للسلامة من كل شر ومكروه ، أي سلمتم فلا يلحقكم بعد اليوم ما تكرهون ، ثم قالوا لهم (طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) أي سلامتكم ودخولكم الجنة بطيبكم ، فإن الله حرمها إلا على الطيبين ، فبشروهم بالسلامة والطيب ، والدخول والخلود.

أما أهل النار فإنهم حين انتهوا إليها على تلك الحال من الهم والغم والحزن ، فتحت لهم أبوابها وقفوا عليها ، وزيدوا على ما هم عليه : توبيخ خزنتها وتبكيتهم لهم بقولهم (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ ، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟) فاعترفوا وقالوا «بلى» فبشروهم بدخول النار والخلود فيها ، وأنها بئس المثوى والمآب لهم.

وتأمل قول خزنة الجنة لأهلها «ادخلوها» وقول خزنة النار لأهلها (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) تجد تحته سرا لطيفا ، ومعنى بديعا ، لا يخفى على المتأمل. وهو أنه لما كانت النار دار العقوبة وأبوابها أفظع شيء وأشده حرا ، وأعظمه غما ، يستقبل الداخل فيها من العذاب ما هو أشد منها ، ويدنو من الغم والخزي والحزن والكرب بدخول الأبواب. فقيل (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) صغارا لهم ، وإذلالا وخزيا. ثم قيل لهم : لا يقتصر بكم العذاب على مجرد دخول الأبواب الفظيعة ، ولكن وراءها الخلود في النار.

قول الله تعالى ذكره :

٣٩ : ٧٥ (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥))

فحذف فاعل القول ، لأنه غير معين ، بل كل أحد يحمده على ذلك الحكم الذي حكم به ، فيحمده السموات وأهل الأرض : الأبرار ،

٤٦١

والفجار ، والإنس والجن ، حتى أهل النار.

قال الحسن : وغيره : لقد دخلوا النار ، وإن حمده لفي قلوبهم ، ما وجدوا لهم عليه سبيلا.

وهذا ـ والله أعلم ـ هو السر الذي الذي حذف لأجله الفاعل في قوله : (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) وفي قوله : ٦٦ : ١٢ (وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) كأن الكون كله نطق بذلك ، وقال لهم ذلك ، والله أعلم بالصواب.

٤٦٢

سورة غافر

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ (٣٧))

قرأ أهل الكوفة «وصد» على البناء للمفعول ، حملا على «زين» وقرأه الباقون «وصد» بفتح الصاد ، ويحتمل معنيين.

أحدهما : أعرض ، فيكون لازما.

والثاني : يكون صد ومنع غيره ، فيكون متعديا ، والقراءتان كالآيتين لا يتناقضان.

وأما الشد على القلب ففي قوله تعالى : ١٠ : ٨٨ ، ٨٩ (وَقالَ مُوسى : رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ، رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ ، وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ ، فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ ، قالَ : قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما).

فهذا الشد على القلب : هو الصد والمنع ، ولهذا قال ابن عباس :

٤٦٣

يريد منعها ، والمعنى قسّها واطبع عليها ، حتى لا تلين ، ولا تنشرح للايمان.

وهذا مطابق لما في التوراة : إن الله سبحانه قال لموسى : اذهب إلى فرعون ، فإني سأقسي قلبه ، فلا يؤمن حتى أظهر آياتي وعجائبي بمصر.

وهذا الشد والتقسية ، من كمال عدل الرب سبحانه في أعدائه ، فإنه جعله عقوبة لهم على كفرهم وإعراضهم ، كعقوبته لهم بالمصائب ، ولهذا كان محمودا ، فهو حسن منه ، وأقبح شيء منهم ، فإنه عدل منه وحكمة ، وهو ظلم منهم وسفه. فالقضاء والقدر فعل عادل حكيم غني عليم ، يضع الخير والشر في أليق المواضع لهما والمقضي المقدر يكون من العبد ظلما وجورا وسفها ، وهو فعل جاهل ظالم سفيه.

٤٦٤

سورة حم السجدة

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ (١٦))

لا ريب أن الأيام التي أوقع الله سبحانه فيها العقوبة بأعدائه وأعداء رسله كانت أياما نحسات عليهم ، لأن النحس أصابهم فيها ، وإن كانت أيام خير لأوليائه المؤمنين ، فهي نحس على المكذبين ، سعد للمؤمنين.

وهذا كيوم القيامة ، فإنه عسير على الكافرين ، يوم نحس لهم ، يسير على المؤمنين ، يوم سعد لهم.

قال مجاهد : أيام نحسات مشائيم ، وقال الضحاك : معناه شديد ، أي شديد البرد ، حتى كان البرد هذابا لهم.

وقال أبو على : وأنشد الأصمعي في النحس بمعنى البرد :

كأن سلافة عرضت بنحس

يحيل شفيفها الماء الزلالا

وقال ابن عباس : نحسات متتابعات. وكذلك قوله : ٥٤ : ١٩ (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ).

٤٦٥

وكان اليوم نحسا عليهم لإرسال العذاب عليهم فيه ، أي لا يقلع فيه ، أي لا يقلع عنهم ، كما تقلع مصائب الدنيا التي تأتي وتذهب ، بل هذا النحس دائم على هؤلاء المكذبين للرسل.

و «مستمر» صفة للنحس ، لا لليوم ، ومن ظن أنه صفة لليوم ، وأنه كان يوم أربعاء آخر شهر ، وأن هذا اليوم نحس أبدا. فقد غلط وأخطأ فهم القرآن ، فإن اليوم المذكور بحسب ما يقع فيه ، فكم لله من نعمة على أوليائه في هذا اليوم ، وكم له فيه من بلايا ونقم على أعدائه ، كما يقع ذلك في غيره من الأيام ، فسعود الأيام ونحوسها : إنما هو لسعود الأعمال ، وموافقتها لمرضاة الرب ، ونحوس الأعمال : إنما هو بمخالفتها لما جاءت به الرسل. واليوم الواحد يكون يوم سعد لطائفة ، ونحس لطائفة ، كما كان يوم بدر يوم سعد للمؤمنين ، ويوم نحس على الكافرين.

وقال تعالى : ٤١ : ٣٣ (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

وقال تعالى : ٨٢ : ١٠٨ (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ ، أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) وسواء كان المعنى : أنا ومن اتبعني يدعو إلى الله على بصيرة ، أو كان الوقف عند قوله : (أَدْعُوا إِلَى اللهِ) ثم يبتدئ : (عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) فالقولان متلازمان. فإنه أمره سبحانه أن يخبر أن سبيله الدعوة إلى الله. فمن دعا إلى الله تعالى. فهو على سبيل رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو على بصيرة ، وهو من أتباعه ، ومن دعا إلى غير ذلك فليس على سبيله ، ولا هو على بصيرة ، ولا هو من أتباعه. فالدعوة إلى الله تعالى هي وظيفة المرسلين وأتباعهم ، وهم خلفاء الرسل في أممهم. والناس تبع لهم. والله سبحانه قد أمر رسوله أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه وضمن له حفظه وعضمته من الناس. وهؤلاء المبلغون عنه من أمته لهم من حفظ الله وعصمته إياهم بحسب قيامهم بدينه ، وتبليغهم له ، وقد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتبليغ عنه ولو آية ، ودعا لمن بلغ عنه ولو حديثا.

٤٦٦

وتبليغ سنته إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو. لأن تبليغ السهام يفعله كثير من الناس. وأما تبليغ السنن فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم. جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه.

وهم كما قال عمر بن الخطاب في خطبته التي ذكرها ابن وضاح في كتاب الحوادث والبدع له ، إذ قال :

«الحمد لله الذي امتن على العباد بأن جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم ، يدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى ، ويبصرون بكتاب الله أهل العمى ، كم من قتيل لا بليس قد أحيوه. وضال قد هدوه ، بذلوا دماءهم وأموالهم دون هلكة العباد. فما أحسن أثرهم على الناس ، وما أقبح أثر الناس عليهم. يغلبونهم في سالف الدهر ، وإلى يومنا هذا. فما نسيهم ربك. وما كان ربك نسيا ، جعل قصصهم هدى ، وأخبر عن حسن مقالتهم ، فلا تقصر عنهم ، فإنهم في منزلة رفيعة وإن أصابتهم الوضيعة».

وقال عبد الله بن مسعود «إن لله عند كل بدعة كيد بها للإسلام وليا من أوليائه يذب عنها ، وينطق بعلاماتها ، فاغتنموا حضور تلك المواطن وتوكلوا على الله».

ويكفي في هذا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي ولمعاذ أيضا «لأن يهدي بك الله رجلا واحدا خير لك من حمر النعم» وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أحيي شيئا من سنتي كنت أنا وهو في الجنة كهاتين. وضم بين إصبعيه» وقوله «من دعا إلى الهدى فأتبع عليه كان له مثل أجر من اتبعه إلى يوم القيامة».

فمتى يدرك العامل هذا الفضل العظيم. والحظ الجسيم بشيء من علمه. وإنما ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

٤٦٧

سورة الشورى

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١))

معناها : أن الله سبحانه يعيشكم فيما خلق لكم من الأنعام المذكورة ، قال الكلبي : يكثرها لكم ويكثر نسلكم في هذا التزويج ، ولو لا هذا التزويج لم يكثر النسل.

والمعنى : يخلقكم في هذا الوجه الذي ذكر : من جعله لكم وللأنعام أزواجا ، فإن سبب خلقتنا وخلق الحيوان بالأزواج.

والضمير في قوله «فيه» يرجع إلى الجعل.

ومعنى «الذرء» الخلق ، وهو هاهنا الخلق الكثير ، فهو خلق وتكثير.

فقيل «في» بمعنى الباء ، أي يكثركم بذلك. وهذا قول الكوفيين.

والصحيح : أنها على بابها ، والفعل متضمن معنى ينشئكم ، وهو يتعدى بفي كما قال تعالى : ٥٦ : ٦١ (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ).

٤٦٨

قول الله تعالى ذكره :

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩))

قسم سبحانه حال الزوجين إلى أربعة أقسام ، اشتمل عليها الوجود ، وأخبر أن ما قدره بينهما من الولد فقد وهبهما إياه وكفى بالعبد تعرضا لمقته : أن يتسخط ما وهبه.

وبدأ سبحانه بذكر الإناث. فقيل : خيرا لهن لأجل استقبال الوالدين لمكانهما.

وقيل ـ وهو أحسن ـ إنما قدمهن لأن سياق الكلام أنه فاعل لما يشاء ، لا لما يشاء الأبوان. فإن الأبوين لا يريدان إلا الذكور غالبا ، وهو سبحانه قد أخبر أنه يخلق ما يشاء ، فبدأ بذكر الصنف الذي يشاؤه ولا يريده الأبوان.

وعندي وجه آخر : وهو أنه سبحانه قدم ما كانت تؤخره الجاهلية من أمر البنات ، حتى كأن الغرض بيان أن هذا النوع المؤخر الحقير عندكم مقدم عندي في الذكر.

وتأمل كيف نكّر سبحانه الإناث ، وعرف الذكور ، فجبر نقص الأنوثة بالتقديم ، وجبر نقص التأخير للذكور بالتعريف. فإن التعريف تنزيه. كأنه قال : ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم.

ثم لما ذكر الصنفين معا قدم الذكور إعطاء لكل من الجنسين حقه من التقديم والتأخير. والله أعلم بما أراد من ذلك.

والمقصود : أن التسخط بالإناث من أخلاق الجاهلية الذين ذمهم الله سبحانه في قوله : ١٦ : ٥٨ (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ، يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ : أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ ، أَمْ يَدُسُّهُ فِي

٤٦٩

التُّرابِ؟ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) وقال تعالى : ٤٣ : ١٧ (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ).

ومن هاهنا عبّر بعض المعبرين لرجل قال له : رأيت كأن وجهي أسود. فقال له : ألك امرأة حامل؟ قال : نعم. قال تلد لك أنثى؟

قول الله تعالى ذكره :

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢))

قد قيل : إن الضمير في «جعلناه» عائدا إلى الأمر. وقيل : إلى الكتاب. وقيل : إلى الإيمان.

والصواب : أنه عائد إلى «الروح» أي جعلنا الذي أوحيناه إليك نورا ، فسماه روحا لما يحصل به من الحياة الطيبة ، والعلم والقوة. وجعله نورا لما يحصل به من الإشراق والإضاءة ، وهما متلازمان. فحيث وجدت هذه الحياة بهذا الروح وجدت الإضاءة والاستنارة ، وحيث وجدت الاستنارة والإضاءة وجدت الحياة.

فمن لم يقبل قلبه هذا الروح فهو ميت مظلم ، كما أن من فارق بدنه روح الحياة فهو هالك مضمحل.

فلهذا يضرب سبحانه وتعالى المثلين المائي والناري لما يحصل بالماء من الحياة ، وبالنار من الإشراق والنور ، كما ضرب ذلك في أول سورة البقرة.

٤٧٠

سورة الدخان

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١))

المقام : موضع الإقامة. و «الأمين» الآمن من كل سوء وآفة ومكروه. وهو الذي قد جمع صفات الأمن كلها. فهو آمن من الزوال والخراب ، وأنواع النقص. وأهله آمنون فيه من الخروج والنقص والنكد ، والبلد الأمين الذي قد أمن أهله فيه مما يخاف منه سواهم.

وتأمل كيف ذكر سبحانه الأمن في قوله : ٤٤ : ٥١ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) وفي قوله تعالى : ٤٤ : ٥٥ (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ) فجمع لهم بين أمن المكان. وأمن الطعام. فلا يخافون انقطاع الفاكهة ، ولا سوء عاقبتها ومضرتها وأمن الخروج منها. فلا يخافون ذلك ، وأمن الموت ، فلا يخافون فيها موتا.

٤٤ : ٥٢ ـ ٥٦ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ. كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ. يَدْعُونَ فِيها

٤٧١

بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ. لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ). جمع لهم بين حسن المنزل وحصول الأمن فيه من كل مكروه ، واشتماله على الثمار والأنهار ، وحسن اللباس ، وكمال العشرة بمقابلة بعضهم بعضا ، وتمام اللذة بالحور العين ، ودعائهم لجميع أنواع الفاكهة ، مع أمنهم من انقطاعها ومضرتها وغائلتها ، وختام ذلك : أعلمهم بأنهم لا يذوقون فيها هناك موتا.

«والحور» جمع حوراء. وهي المرأة الشابة الحسناء ، الجميلة ، البيضاء شديدة سواد العين. وقال زيد بن أسلم : الحوراء التي يحار فيها الطرف. و «عين» حسان الأعين. وقال مجاهد : الحوراء التي يحار فيها الطرف ، من رقة الجلد ، وصفاء اللون. وقال الحسن : الحوراء شديدة بياض العين ، شديدة سواد العين.

واختلف في اشتقاق هذه اللفظة. فقال ابن عباس : الحور في كلام العرب : البيض. وكذلك قال قتادة : والحور البيض. وقال مقاتل : الحور البيض الوجوه وقال مجاهد : الحور العين : التي يحار فيهن الطرف ، باديا مخ سوقهن من وراء ثيابهن ، ويرى الناظر وجهه في كبد إحداهن ، كالمرآة من رقة الجلد وصفاء اللون ، وهذا من الاتفاق. وليست اللفظة مشتقة من الحيرة. وأصل الحور : البياض ، والتحوير التبييض. والصحيح : أن الحور مأخوذ من الحور في العين ، وهو شدة بياضها مع قوة سوادها. فهو يتضمن الأمرين. وفي الصحاح للجوهري «الحور» شدة بياض العين في شدة سوادها ، وامرأة حوراء بينة الحور. وقال أبو عمرو : الحور : أن تسود العين كلها ، مثل أعين الظباء والبقر. وليس في بني آدم حور وإنما قيل للنساء : حور العين. لأنهن شبهن بالظباء والبقر. وقال الأصمعي : ما أدري ما الحور في العين؟

قلت : خالف أبو عمرو أهل اللغة في اشتقاق اللفظة ، ورد الحور

٤٧٢

إلى السواد ، والناس غيره إنما ردوه إلى البياض ، وإلى بياض في سواد. والحور في العين معنى يلتئم من حسن البياض والسواد وتناسبهما ، واكتساب كل واحد منهما الحسن من الآخر. ويقال عين حوراء ، إذا اشتد بياض أبيضها وسواد أسودها. ولا تسمى المرأة حوراء حتى يكون مع حور عينها بياض لون الجسد.

«والعين» جمع عيناء. وهي العظيمة العين من النساء ، ورجل أعين : إذا كان ضخم العين. وامرأة عيناء. والجمع عين. والصحيح : أن العين هن اللاتي جمعت أعينهن صفات الحسن والملاحة. قال مقاتل : العين حسان الأعين. ومن محاسن المرأة : اتساع عينها في طول. وضيق العين في المرأة من العيوب.

قول الله تعالى ذكره :

٤٤ : ٥٤ (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) قال أبو عبيدة : جعلناهم أزواجا ، كما يزوج النعل بالنعل. جعلناهم اثنين اثنين. وقال يونس : قرناهم بهن ، وليس من عقد التزويج. قال : والعرب لا تقول : تزوجت بها ، وإنما تقول : تزوجتها. قال ابن نصر : هذا والتنزيل يدل على ما قاله يونس. وذلك قوله تعالى : ٣٣ : ٣٧ (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها) ولو كان على تزوجت بها لقال : زوجناك بها. وقال ابن سلام : تميم تقول : تزوجت امرأة. وتزوجت بها. وحكاه الكسائي أيضا. قال الأزهري : تقول العرب : زوجته امرأة ، وتزوجت امرأة وليس من كلامهم : تزوجت بامرأة.

قوله تعالى : (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) أي قرناهم ، وقال الفراء : هي لغة في أزد شنوءة. قال الواحدي : وقول أبي عبيدة في هذا أحسن ، لأنه جعله من التزويج الذي هو بمعنى جعل الشيء زوجا. لا بمعنى عقد النكاح. ومن هذا يجوز أن يقال : كان فردا فزوجته بآخر ، كما يقال : شققته بآخر. وإنما تمنع الباء عند من يمنعها إذا كان بمعنى عقد التزويج.

٤٧٣

قلت : ولا يمتنع أن يراد الأمران معا. فلفظ التزويج يدل على النكاح. كما قال مجاهد : أنكحناهم الحور. ولفظ الباء تدل على الاقتران والضم. وهذا أبلغ من حذفها والله أعلم.

٤٧٤

سورة الجاثية

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣))

الغشاوة : هي الغطاء. وهذا الغطاء سرى إليها من غطاء القلب. فإن ما في القلب من الخير والشر يظهر على العين ، فالعين مرآة القلب ، تظهر ما فيه. وأنت إذا بغضت رجلا بغضا شديدا أبغضت كلامه ومجالسته ، فتجد على عينك غشاوة عند رؤيته ومخالطته. فذلك أثر البغض والإعراض عنه.

وغلطت الغشاوة على الكفار عقوبة لهم على إعراضهم ونفورهم عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعما جاء به من الهدى ومن الحق. وجعل الغشاوة عليها يشعر بالإحاطة على ما تحتها كالغمامة ، ولما غشوا عن ذكره الذي أنزله صار ذلك الغشي غشاوة على أعينهم ، فلا تبصر مواقع الهدى.

٤٧٥

سورة الأحقاف

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥))

قال الزجاج من نحو سبع عشرة سنة إلى نحو الأربعين. وقال ابن عباس في رواية عطاء : سن الأشد ثلاث وثلاثون سنة. وروي عنه أيضا ثلاثون. وقال الضحاك : عشرون سنة. وقال مقاتل ثماني عشرة.

وقد أحكم الأزهري تفسير اللفظة ، فقال بلوغ الأشد يكون من وقت بلوغ الإنسان مبلغ الرجال إلى أربعين سنة ، قال : فبلوغ الأشد مرتبة بين البلوغ وبين الأربعين.

ومعنى اللفظة من الشدة ، وهي القوة والجلادة ، والشديد الرجل القوي. فالأشد القوي.

قال الفراء واحدها شد في القياس ، ولم أسمع لها بواحد.

وقال أبو الهيثم : واحدها شدة كالنعمة وأنعم.

وقال بعض أهل اللغة : واحدها شد ـ بضم الشين ـ.

وقال آخرون منهم هو اسم مفرد وليس لجمع حكاه ابن الأنباري.

٤٧٦

سورة محمد

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤)) قال ابن عباس : يريد على قلوب هؤلاء أقفال.

وقال مقاتل : يعني الطبع على القلب. وكأن القلب بمنزلة الباب المرتج ، الذي قد ضرب عليه قفل. فإنه إن ما لم يفتح القفل لا يمكن فتح الباب والوصول إلى ما وراءه. وكذلك ما لم يرفع الختم والقفل عن القلب لم يدخل الإيمان ولا القرآن.

وتأمل تنكير القلوب وتعريف الأقفال بالإضافة إلى ضمير القلوب. فإن تنكير القلوب يتضمن إرادة قلوب هؤلاء من هم بهذه الصفة. ولو قال : أم على القلوب أقفالها. لم تدخل قلوب غيرهم في الجملة.

وفي قوله «أقفالها» بالتعريف نوع تأكيد. فإنه لو قال : أقفال. لذهب الوهم إلى ما يعرف بهذا الاسم. فلما أضافها إلى ضمير القلوب علم أن المراد بها ما هو للقلب بمنزلة العقل للباب ، فكأنه أراد أقفالها المختصة بها ، التي لا تكون لغيرها والله أعلم.

٤٧٧

سورة الحجرات

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦))

نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، لما بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بني المصطلق ـ بعد الوقعة ـ مصدّقا. وكان بينه وبينهم عداوة في الجهلية. فلما سمع به القوم تلقوه ، تعظيما لأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فحدثه الشيطان : أنهم يريدون قتله ، فهابهم ، ورجع من الطريق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهمّ أن يغزوهم ، فبلغ القوم رجوعه ، فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : يا رسول الله سمعنا برسولك ، فخرجنا نتلقاه ونكرمه ، ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله ، فبدا لنا ، فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا. وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله. فاتهمهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعث خالد بن الوليد خفية في عسكر ، وأمره أن يخفي عليهم قدومه ، وقال له «أنظر ، فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ

٤٧٨

منهم زكاة أموالهم. وإن لم تر ذلك فاستعمل فيهم ما تستعمل في الكفار» ففعل ذلك خالد ، ووافاهم ، فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء ، فأخذ منهم صدقاتهم ، ولم ير منهم إلا الطاعة والخير. فرجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبره الخبر. فنزلت ٤٩ : ٦ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا).

والنبأ هو الخبر الغائب عن المخبر ، إذا كان له شأن. «والتبيّن» طلب بيان حقيقته ، والإحاطة بها علما.

وهاهنا فائدة لطيفة. وهي أنه سبحانه لم يأمر برد خبر الفاسق وتكذيبه وشهادته جملة. وإنما أمر بالتبين. فإن قامت قرائن وأدلة من خارج تدل على صدقه عمل بدليل الصدق ، ولو أخبر به من أخبر.

فهكذا ينبغي الاعتماد في رواية الفاسق وشهادته. وكثير من الفاسقين يصدقون في أخبارهم ورواياتهم وشهاداتهم ، بل كثير منهم يتحرى الصدق غاية التحري ، وفسقه من جهات أخر. فمثل هذا لا يرد خبره ولا شهادته ، ولو ردت شهادة مثل هذا وروايته لتعطلت أكثر الحقوق ، وبطل كثير من الأخبار الصحيحة ، ولا سيما من فسقه من جهة الكذب : فإن كثر منه وتكرر ، بحيث يغلب كذبه على صدقه. فهذا لا يقبل خبره ولا شهادته.

وإن ندر منه مرة أو مرتين ففي رد شهادته وخبره بذلك قولان للعلماء ، وهما روايتان عن الإمام أحمد رحمهم‌الله.

قول الله تعالى ذكره :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢))

٤٧٩

وهذا من أحسن القياس التمثيلي. فإنه شبه تمزيق عرض الأخ بتمزيق لحمه.

ولما كان المغتاب يمزق عرض أخيه في غيبته كان بمنزلة من يقطع لحمه في حال غيبة روحه عنه بالموت.

ولما كان المغتاب عاجزا عن دفعه عن نفسه بكونه غائبا عن مجلس ذمه كان بمنزلة الميت الذي يقطع لحمه ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه.

ولما كان مقتضى الأخوة التراحم والتواصل والتناصر ، فعلق عليها المغتاب ضد مقتضاها من الذم والعيب والطعن : كان ذلك نظير تقطيع لحم أخيه ، والأخوة تقتضي حفظه وصيانته والذب عنه.

ولما كان المغتاب متمتعا بعرض أخيه ، متفكها بغيبته وذمه ، متحليا بذلك شبّه بآكل لحم أخيه بعد تقطيعه.

ولما كان المغتاب محبا لذلك معجبا به : شبه بمن يحب أكل لحم أخيه ميتا ومحبته لذلك قدر زائد على مجرد أكله ، كما أن أكله قدر زائد على تمزيقه.

فتأمل هذا التشبيه والتمثيل ، وحسن موقعه ، ومطابقة المعقول فيه للمحسوس.

وتأمل إخباره عنهم بكراهة أكل لحم الأخ ميتا ، ووصفهم بذلك في آخر الآية ، والإنكار عليهم في أولها : أن يحب أحدهم ذلك ، فكما أن هذا مكروه في طباعهم ، فكيف يحبون ما هو مثله ونظيره؟.

فأحتج عليهم بما كرهوه على ما أحبوه. وشبه لهم ما يحبونه بما هو أكره شيء إليهم ، وهم أشد شيء نفرة عنه.

فلهذا يوجب العقل والفطرة والحكمة : أن يكونوا أشد شيء نفرة عما هو نظيره ومشبهه. وبالله التوفيق.

٤٨٠