التفسير القيّم

ابن القيّم الجوزيّة

التفسير القيّم

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الشيخ إبراهيم محمّد رمضان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

واتبعوا أحسن ما أنزل إليهم من ربهم ، فيكونون من عبيد الإلهية والطاعة.

وإنما انقسمت العبودية إلى خاصة وعامة : لأن أصل معنى اللفظة : الذل والخضوع. يقال : «طريق معبد» إذا كان مذللا بوطء الأقدام ، وفلان عبّده الحب إذا ذلله ، لكن أولياؤه خضعوا له وذلوا طوعا واختيارا ، وانقيادا لأمره ونهيه ، وأعداؤه خضعوا له قهرا ورغما.

ونظير انقسام العبودية إلى خاصة وعامة : انقسام القنوت إلى خاص وعام ، والسجود كذلك. قال تعالى في القنوت الخاص ٣٩ : ٩ (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) وقال في حق مريم ٦٦ : ١٢ (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) وهو كثير في القرآن.

وقال في القنوت العام ٢ : ١١٦ (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) أي خاضعون أذلاء.

وقال في السجود الخاص ٤٠ : ٦٠ (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) وقال ١٩ : ٥٨ (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) وهو كثير في القرآن.

وقال في السجود العام ١٣ : ١٥ (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ).

ولهذا كان هذا السجود الكره غير السجود المذكور في قوله ٢٢ : ١٨ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) فخص بالسجود هنا كثيرا من الناس وعمهم بالسجود في سورة النحل ١٦ : ٢٤٩ وهو سجود الذل والقهر والخضوع. فكل أحد خاضع لربوبيته ، ذليل لعزته. مقهور تحت سلطانه تعالى.

١٠١

فصل

في مراتب «إياك نعبد» علما وعملا

للعبودية مراتب ، بحسب العلم والعمل. فأما مراتبها العلمية فمرتبتان :

إحداهما : العلم بالله. والثانية : العلم بدينه.

فأما العلم به سبحانه ، فخمس مراتب : العلم بذاته ، وصفاته ، وأفعاله ، وأسمائه ، وتنزيهه عما لا يليق به.

والعلم بدينه مرتبتان. إحداهما : دينه الأمر الشرعي. وهو الصراط المستقيم الموصل إليه.

والثانية : دينه الجزائي ، المتضمن ثوابه وعقابه ، وقد دخل في هذا العلم العلم بملائكته وكتبه ورسله.

وأما مراتبها العلمية فمرتبتان : مرتبة لأصحاب اليمين ، ومرتبة للسابقين المقربين.

فأما مرتبة أصحاب اليمين : فأداء الواجبات ، وترك المحرمات ، مع ارتكاب المباحات وبعض المكروهات ، وترك بعض المستحبات.

وأما مرتبة المقربين : فالقيام بالواجبات والمندوبات ، وترك المحرمات والمكروهات ، زاهدين فيما لا ينفعهم في معادهم ، متورعين عما يخافون ضرره.

وخاصتهم : قد انقلبت المباحات في حقهم طاعات وقربات بالنية فليس في حقهم مباح متساو الطرفين ، بل كل أعمالهم راجحة ، ومن دونهم يترك المباحات مشتغلا عنها بالعبادات ، وهؤلاء يأتونها إطاعات وقربات ، ولأهل هاتين المرتبتين درجات لا يحصيها إلا الله.

١٠٢

فصل

ورحى العبودية على خمس عشرة قاعدة. من كملها كمل مراتب العبودية.

وبيانها : أن العبودية منقسمة على القلب ، واللسان ، والجوارح. وعلى كل منها عبودية تخصه.

والأحكام التي للعبودية خمسة : واجب ، ومستحب ، وحرام ، ومكروه ، ومباح ، وهي لكل واحد من القلب واللسان ، والجوارح. فواجب القلب : منه متفق على وجوبه ، ومختلف فيه.

فالمتفق على وجوبه : كالإخلاص ، والمحبة ، والصبر ، والإنابة ، والخوف ، والرجاء ، والتصديق الجازم ، والنية في العبادة ، وهذه قدر زائد على الإخلاص ، فإن الإخلاص هو إفراد المعبود عن غيره.

ونية العبادة لها مرتبتان.

إحداهما : تمييز العبادة عن العادة.

والثانية : تمييز مراتب العبادات بعضها عن بعض.

والأقسام الثلاثة واجبة.

وكذلك الصدق. والفرق بينه وبين الإخلاص : أن للعبد مطلوبا وطلبا ، فالإخلاص : توحيد مطلوبه. والصدق : توحيد طلبه.

فالإخلاص : أن لا يكون المطلوب منقسما. والصدق : أن لا يكون الطلب منقسما : فالصدق بذل الجهد ، والإخلاص : إفراد المطلوب.

واتفقت الأمة على وجوب هذه الأعمال على القلب من حيث الجملة.

وكذلك النصح في العبودية. ومدار الدين عليه ، وهو بذل الجهد في

١٠٣

إيقاع العبودية على الوجه المحبوب للرب المرضى له. وأصل هذا واجب وكماله مرتبة المقربين.

وكذلك كل واحد من هذه الواجبات القلبية له طرفان ، واجب مستحق. وهو مرتبة أصحاب اليمين ، وكمال مستحب. وهو مرتبة المقربين.

وكذلك الصبر واجب باتفاق الأمة ، قال الإمام أحمد : ذكر الله الصبر في تسعين موضعا من القرآن ، أو بضعا وتسعين ، وله طرفان أيضا : واجب مستحق ، وكمال مستحب.

[ثم ذكر القسم الواجب المختلف فيه ـ إلى أن قال].

والمقصود : أن يكون ملك الأعضاء ـ وهو القلب ـ قائما بعبوديته لله هو ورعيته.

وأما المحرمات التي عليه : فالكبر ، والرياء ، والعجب ، والحسد ، والغفلة ، والنفاق ، وهي نوعان : كفر ومعصية. فالكفر كالشك ، والنفاق والشرك ، وتوابعها.

والمعصية نوعان : كبائر وصغائر.

فالكبائر : كالرياء ، والعجب ، والكبر ، والفخر ، والخيلاء ، والقنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله ، والفرح والسرور بأذى المسلمين ، والشماتة بمصيبتهم ، ومحبة أن تشيع الفاحشة فيهم ، وحسدهم على ما آتاهم الله من فضله ، وتمني زوال ذلك عنهم ، وتوابع هذه الأمور التي هي أشد تحريما من الزنا ، وشرب الخمر ، وغيرهما من الكبائر الظاهرة ، ولا صلاح للقلب ولا للجسد إلا باجتنابها ، والتوبة منها ، وإلا فهو قلب فاسد ، وإذا فسد القلب فسد البدن.

وهذه الآفات إنما تنشأ من الجهل بعبودية القلب ، وترك القيام بها.

١٠٤

فوظيفة «إياك نعبد» على القلب قبل الجوارح فإذا جهلها وترك القيام بها امتلأ بأضدادها ولا بد. وبحسب قيامه بها يتخلص من أضدادها.

وهذه الأمور ونحوها قد تكون صغائر في حقه ، وقد تكون كبائر بحسب قوتها وغلظها وخفتها ودقتها.

ومن الصغائر أيضا : شهوة المحرمات وتمنيها ، وتفاوت درجات الشهوة في الكبر والصغر ، بحسب تفاوت درجات المشتهي ، فشهوة الكفر والشرك : كفر ، وشهوة البدعة : فسق ، وشهوة الكبائر : معصية ، فإن تركها لله مع قدرته عليها أثيب. وإن تركها عجزا عن بذله مقدورة في تحصيلها : استحق عقوبة الفاعل ، لتنزله منزلته في أحكام الثواب والعقاب ، وإن لم ينزل منزلته في أحكام الشرع ، ولهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما ، فالقاتل والمقتول في النار ، قالوا : هذا القاتل يا رسول الله ، فما بال المقتول؟ قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه» (١) فنزله منزلة القاتل ، لحرصه في الإثم دون الحكم ، وله نظائر كثيرة في الثواب والقلب.

وقد علم بهذا مستحب القلب ومباحه.

فصل

وأما عبوديات اللسان الخمس : فواجبها : النطق بالشهادتين ، وتلاوة ما يلزمه تلاوته من القرآن. وهو ما يتوقف صحة صلاته عليه ، وتلفظه بالأذكار الواجبة في الصلاة التي أمر الله بها ورسوله ، كما أمر بالتسبيح في الركوع والسجود ، وأمر بقول : «ربنا ولك الحمد» بعد الاعتدال الواجبة بالتشهد ، وأمر بالتكبير.

ومن واجبه : رد السلام. وفي ابتدائه قولان. ومن واجبه : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتعليم الجاهل ، وإرشاد الضال ، وأداء

__________________

(١) أخرج النسائي حديثا مقاربا له ٧ / ١٢٤.

١٠٥

الشهادة المتعينة ، وصدق الحديث.

وأما مستحبه : فتلاوة القرآن ودوام ذكر الله ، والمذاكرة في العلم النافع ، وتوابع ذلك.

وأما محرمة فهو النطق بكل ما يبغضه الله ورسوله ، كالنطق بالبدع المخالفة لما بعث الله به رسوله ، والدعاء إليها وتحسينها وتقويتها ، وكالقذف وسب المسلم ، وأذاه بكل قول ، والكذب ، وشهادة الزور ، والقول على الله بلا علم ، وهو أشدها تحريما.

ومكروهه : التكلم بما تركه خير من الكلام به ، مع عدم العقوبة عليه.

وقد اختلف السلف. هل في حقه كلام مباح متساوي الطرفين؟ على قولين. ذكرهما ابن المنذر وغيره. أحدهما : أنه لا يخلو كل ما يتكلم به :

إما أن يكون له أو عليه. وليس في حقه شيء لا له ولا عليه.

واحتجوا بالحديث المشهور ، وهو «كل كلام ابن آدم عليه لا له ، إلا ما كان من ذكر الله وما والاه» (١).

واحتجوا بأنه يكتب عليه كلامه كله. ولا يكتب إلا بالخير والشر.

وقالت طائفة : بل هذا الكلام مباح لا له ولا عليه كما في حركات الجوارح.

قالوا : لأنّ كثيرا من الكلام لا يتعلق به أمر ولا نهي. وهذا شأن المباح.

والتحقيق : أن حركة اللسان بالكلام لا تكون متساوية الطرفين ، بل إما راجحة وإما مرجوحة. لأن للسان شأنا ليس لسائر الجوارح ، وإذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان ، تقول : اتق الله فإنما نحن بك ، فإن

__________________

(١) أخرجه الترمذي عن أم حبيبة برقم ٢٤١٢.

وأخرجه البخاري في التاريخ عن أم حبيبة بلفظ : كل كلام ابن آدم عليه لا له إلّا أمره بالمعروف ١ / ١ / ٢٦٢.

١٠٦

استقمت استقمنا ، وإن اعوججت اعوججنا. وأكثر ما يكبّ الناس على مناخرهم في النار حصائد ألسنتهم ، وكل ما يتلفظ به اللسان فإما أن يكون مما يرضي الله ورسوله أولا ، فإن كان كذلك فهو الراجح ، وإن لم يكن كذلك فهو المرجوح. وهذا بخلاف حركات سائر الجوارح ، فإن صاحبها ينتفع بتحريكها في المباح المستوي الطرفين ، لما له في ذلك من الراحة والمنفعة ، فأبيح له استعمالها فيما فيه منفعة له ، ولا مضرة عليه فيه في الآخرة ، وأما حركة اللسان بما لا ينتفع به فلا يكون إلا مضرة. فتأمله.

فإن قيل : فقد يتحرك بما فيه منفعة دنيوية مباحة مستوية الطرفين. فيكون حكم حركته حكم ذلك الفعل.

قيل : حركته بها عند الحاجة إليها راجحة ، وعند عدم الحاجة إليها مرجوحة لا تفيده. فتكون عليه لا له.

فإن قيل : فإذا كان الفعل متساوي الطرفين كانت حركة اللسان الوسيلة إليه كذلك ، إذ الوسائل تابعة للمقصود في الحكم.

قيل : لا يلزم ذلك. فقد يكون الشيء مباحا ، بل واجبا ، ووسيلته مكروهة كالوفاء بالطاعة المنذورة : هو واجب ، مع أن وسيلته ، وهو النذر مكروه منهي عنه ، وكذلك الحلف المكروه مرجوح ، مع وجوب الوفاء به أو الكفارة ، وكذلك سؤال الخلق عند الحاجة مكروه. ويباح له الانتفاع بما أخرجته له المسألة ، وهذا كثير جدا. فقد تكون الوسيلة متضمنة مفسدة تكره أو تحرم لأجلها ، وما جعلت وسيلة إليه ليس بحرام ولا مكروه.

فصل

وأما المعبودات الخمس على الجوارح : فعلى خمس وعشرين مرتبة أيضا : إذ الحواس خمسة. وعلى كل حاسة خمس عبوديات ، فعلى السمع : وجوب الإنصات ، والاستماع لما أوجبه الله ورسوله عليه ، من

١٠٧

استماع الإسلام والإيمان وفروضهما ، وكذلك استماع القراءة في الصلاة إذا جهر بها الإمام ، واستماع الخطبة للجمعة في أصح قولي العلماء.

ويحرم عليه استماع الكفر والبدع ، إلا حيث يكون في استماعه مصلحة راجحة. من ردّه ، أو الشهادة على قائله ، أو زيادة قوة الإيمان والسنة بمعرفة ضدهما من الكفر والبدعة ونحو ذلك ، وكاستماع أسرار من يهرب عنك بسره ، ولا يجب أن يطلعك عليه ، ما لم يكن متضمنا لحق الله يجب القيام به ، أو لأذى مسلم يتعين نصحه ، وتحذيره منه.

وكذلك استماع أصوات النساء الأجانب التي تخشى الفتنة بأصواتهن ، إذا لم تدع إليه حاجة ، من شهادة ، أو معاملة ، أو استفتاء ، أو محاكمة ، أو مداواة ونحوها.

وكذلك استماع المعازف وآلات الطرب واللهو ، كالعود والطنبور واليراع ونحوها. ولا يجب عليه سدّ أذنه إذا سمع الصوت ، وهو لا يريد استماعه ، إلا إذا خاف السكون إليه والإنصات ، فحينئذ يجب تجنب سماعها وجوب سد الذرائع.

ونظير هذا المحرم : لا يجوز له تعمد شم الطيب ، وإذا حملت الريح رائحته وألقتها في مشامّه لم يجب عليه سد أنفه ، ونظير هذا : نظرة الفجأة لا تحرم على الناظر ، وتحرم عليه النظرة الثانية إذا تعمدها.

وأما السمع المستحب : فكاستماع المستحب من العلم ، وقراءة القرآن ، وذكر الله ، واستماع كل ما يحبه الله ، وليس بفرض.

والمكروه : عكسه ، وهو استماع كل ما يكرهه ولا يعاقب عليه ، والمباح ظاهر.

وأما النظر الواجب : فالنظر في المصحف وكتب العلم عند تعين تعلم الواجب منها ، والنظر إذا تعين لتمييز الحلال من الحرام في الأعيان التي

١٠٨

يأكلها وينفقها ويستمتع بها ، والأمانات التي يؤديها إلى أربابها ليميز بينها. ونحو ذلك.

والنظر الحرام : النظر إلى الأجنبيات بشهوة مطلقا ، وبغيرها إلّا لحاجة ، كنظر الخاطب ، والمستام والمعامل ، والشاهد ، والحاكم ، والطبيب ، ذي المحرم.

والمستحب : النظر في كتب العلم والدين التي يزداد بها الرجل إيمانا وعلما والنظر في المصحف ووجوه العلماء الصالحين ، الوالدين ، والنظر في آيات الله المشهودة ، ليستدل بها على توحيده ومعرفته وحكمته.

والمكروه : فضول النظر الذي لا مصلحة فيه. فإن له فضولا كما للسان فضولا ، وكم قاد فضولها إلى فضول عزّ التخلص منها ، وأعيي دواؤها. وقال بعض السلف : كانوا يكرهون فضول النظر كما يكرهون فضول الكلام.

والمباح : النظر الذي لا مضرة فيه في العاجل والآجل ولا منفعة.

ومن النظر الحرام : النظر إلى العورات. وهي قسمان.

عورة وراء الثياب ، وعورة وراء الأبواب.

ولو نظر في العورة التي وراء الأبواب فرماه صاحب العورة ففقأ عينه لم يكن عليه شيء ، وذهبت هدرا ، بنص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث المتفق على صحته. وإن ضعفه بعض الفقهاء ، لكونه لم يبلغه النص ، أو تأوله ، وهذا إذا لم يكن للناظر سبب يباح لأجله ، كعورة له هناك ينظرها. أو ريبة هو مأمور أو مأذون له في اطلاعها.

وأما الذوق الواجب : فتناول الطعام والشراب عند الاضطرار إليه ، وخوف الموت ، فإن تركه حتى مات ، مات عاصيا قاتلا لنفسه. قال الإمام

١٠٩

أحمد وطاوس (١) : من اضطر إلى أكل الميتة فلم يأكل حتى مات ، دخل النار.

ومن هذا : تناول الدواء إذا تيقن به من الهلاك ، على أصح القولين. وإن ظن الشفاء به ، فهل هو مستحب مباح ، أو الأفضل تركه؟ فيه نزاع معروف بين السلف والخلف.

والذوق الحرام : كذوق الخمر والسموم القاتلة. والذوق الممنوع منه للصوم الواجب.

وأما المكروه : فكذوق المشتبهات ، والأكل فوق الحاجة ، وذوق طعام الفجاءة ، وهو الطعام الذي تفجأ آكله ، ولم يرد أن يدعوك إليه ، وكأكل أطعمة المرائين في الولائم والدعوات ونحوها ، وفي السنن : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نهى عن طعام المتبارين» وذوق طعام من يطعمك حياء منك لا بطيبة نفس.

والذوق المستحب : أكل ما يعينك على طاعة الله عزوجل ، مما أذن الله فيه. والأكل مع الضيف ليطيب له الأكل ، فينال منه غرضه. والأكل من طعام صاحب الدعوة الواجب إجابتها أو المستحب.

وقد أوجب بعض الفقهاء الأكل من الوليمة الواجب إجابتها ، للأمر به عن الشارع.

__________________

(١) هو الإمام طاوس بن كيسان اليماني الجندي الخولاني أحد الأعلام علما وعملا أخذ عن عائشة وطائفة ، قال عمرو بن دينار : ما رأيت أحدا قط مثل طاوس ، ولما ولي عمر بن عبد العزيز كتب إليه طاوس : إن أردت أن يكون عملك كله خيرا فاستعمل أهل الخير فقال عمر : كفى بها موعظة ، توفي حاجا بمكة قبل يوم التروية بيوم وصلّى عليه هشام بن عبد الملك ، كان أعلم التابعين بالحلال والحرام. توفي سنة ست ومائة. (انظر شذرات الذهب).

١١٠

والذوق المباح : ما لم يكن فيه إثم ولا رجحان.

وأما تعلق العبوديات الخمس بحاسة الشم ، فالشم الواجب : كل شم تعين طريقا للتمييز بين الحلال والحرام ، كالشم الذي يعلم به هذه العين هل هي خبيثة أو طيبة؟ وهل هي سم قاتل أو لا مضرة فيه؟ أو يميز به بين ما يملك الانتفاع به ، وما لا يملك؟ ومن هذا شم المقوّم وربّ الخبرة عند الحكم بالتقويم ، والعبيد ونحو ذلك.

وأما الشم الحرام : فالتعمد لشم الطيب في الإحرام ، وشم الطيب المغصوب والمسروق ، وتعمد شم الطيب من النساء الأجنبيات للافتتان بما وراءه.

وأما الشم المستحب : فشم ما يعينك على طاعة الله ويقوي الحواس ، ويبسط النفس للعلم والعمل. ومن هذا : هدية الطيب والريحان إذا أهديت لك. ففي صحيح مسلم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من عرض عليه ريحان فلا يرده. فإنه طيب الريح ، خفيف المحمل». (١)

والمكروه : كشم الظّلمة ، وأصحاب الشبهات ، ونحو ذلك.

والمباح : ما لا منع فيه من الله ولا تبعة ، ولا فيه مصلحة دينية ولا تعلق له بالشرع.

وأما تعلق هذه الخمسة بحاسة اللمس. فاللمس الواجب : كلمس الزوجة حين يجب جماعها ، والأمة الواجب إعفافها.

والحرام : لمس ما لا يحل من الأجنبيات.

والمستحب : إذا كان فيه غض بصره وكف نفسه عن الحرام وإعفاف أهله.

__________________

(١) أخرجه النسائي بلفظ : من عرض عليه طيب فلا يرده ٨ / ١٨٩.

١١١

والمكروه : لمس الزوجة في الإحرام للذة ، وكذلك في الاعتكاف. وفي الصيام إذا لم يأمن على نفسه.

ومن هذا لمس بدن الميت ـ لغير غاسله ـ لأن بدنه قد صار بمنزلة عورة الحي تكريما له ، ولهذا يستحب ستره عن العيون وتغسيله في قميص في أحد القولين ، ولمس فخذ الرجل ، إذا قلنا : هو عورة.

والمباح : ما لم يكن فيه مفسدة ولا مصلحة دينية.

وهذه المراتب أيضا مرتّبة على البطش باليد والمشي بالرجل. وأمثلها لا تخفى.

فالتكسب المقدور للنفقة على نفسه وأهل عياله : واجب. وفي وجوبه لقضاء دينه خلاف ، والصحيح : وجوبه ليمكنه من أداء دينه ، ولا يجب لإخراج الزكاة وفي وجوبه لأداء فريضة الحج نظر ، والأقوى في الدليل : وجوبه لدخوله في الاستطاعة ، وتمكنه بذلك من أداء النسك. والمشهور عدم وجوبه.

ومن البطش الواجب : إعانة المضطر ورمي الجمار ، ومباشرة الوضوء والتيمم.

والحرام : كقتل النفس التي حرم الله ، ونهب المال المغصوب ، وضرب من لا يحل ضربه ونحو ذلك ، وكأنواع اللعب المحرم بالنص كالنّرد ، أو ما هو أشد تحريما منه عند أهل المدينة كالشطرنج ، أو مثله عند فقهاء الحديث كأحمد وغيره ، أو دونه عند بعضهم. ونحو كتابة البدع المخالفة للسنة تصنيفا أو نسخا ، إلا مقرونا بردها ونقضها ، وكتابة الزور والظلم ، والحكم الجائر ، والقذف والتشبيب بالنساء الأجانب ، وكتابة ما فيه مضرة على المسلمين في دينهم أو دنياهم ، ولا سيما إن كسبت عليه مالا : ٢ : ٩ ٧٩ (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) وكذلك كتابة

١١٢

المفتي على الفتوى ما يخالف حكم الله ورسوله ، إلا أن يكون مجتهدا مخطئا ، فالإثم موضوع عنه.

وأما المكروه : فكالعبث واللعب الذي ليس بحرام ، وكتابة ما لا فائدة في كتابته ، ولا منفعة فيه في الدنيا والآخرة.

والمستحب : كتابة كل ما فيه منفعة في الدين ، أو مصلحة لمسلم ، والإحسان بيده بأن يعين صانعا ، أو يصنع لأخرق ، أو يفرغ من دلوه في دلو المستسقي ، أو يحمل له على دابته ، أو يمسكها حتى يحمل عليها ، أو يعاونه بيده فيما يحتاج إليه ونحو ذلك ، ومنه : لمس الركن بيده في الطواف ، وفي تقبيلها بعد اللمس قولان.

والمباح : ما لا مضرة فيه ولا ثواب.

وأما المشي الواجب : فالمشي إلى الجمعات والجماعات ، في أصح القولين لبضعة وعشرين دليلا ، مذكورة في غير هذا الموضع. والمشي حول البيت للطواف الواجب ، والمشي بين الصفا والمروة بنفسه أو بمركوبه ، والمشي إلى حكم الله ورسوله إذا دعي إليه ، والمشي إلى صلة رحمه ، وبر والديه ، والمشي إلى مجالس العلم الواجب طلبه وتعلمه ، والمشي إلى الحج إذا قربت المسافة ولم يكن عليه فيه ضرر.

والحرام : المشي إلى معصية الله ، وهو من رجل الشيطان. قال تعالى : ١٧ : ٦٤ (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) قال مقاتل (١) :

__________________

(١) هو أبو الحسن مقاتل بن سليمان الأزدي مولاهم الخراساني المفس وقال في المغني : مقاتل بن سليمان البلخي هالك كذبه وكيع والنسائي. وقال ابن الأهول : كان نبيلا واتهم في الرواية ، قال مرة : سلوني عما دون العرش ، فقيل له : من حلق رأس آدم لما حج؟ وقال له آخر : الذرة أو النملة معاؤها في مقدمها أو مؤخرها فلم يدر ما يقول وقال : ليس هذا علمكم لكن بليت به لعجبي بنفسي ، وسأله المنصور : لم خلق الله الذباب ، فقال : ليذل به الجبابرة ، وقال الشافعي : الناس عيال على مقاتل بن سليمان في

١١٣

استعن عليهم بركبان جندك ومشاتهم. فكل راكب وماش في معصية الله فهو من جند إبليس.

وكذلك تعلق هذه الأحكام الخمس بالركوب أيضا :

فواجبه في الركوب في الغزو والجهاد والحج الواجب.

ومستحبه : في الركوب المستحب من ذلك ، ولطلب العلم ، وصلة الرحم ، وبر الوالدين ، وفي الوقوف بعرفة نزاع : هل الركوب فيه أفضل ، أم على الأرض؟ والتحقيق : أن الركوب أفضل إذا تضمن مصلحة : من تعليم للمناسك ، واقتداء به ، وكان أعون على الدعاء ولم يكن فيه ضرر على الدابة.

وحرامه : الركوب في معصية الله عزوجل.

ومكروهه : الركوب للهو واللعب ، وكل ما تركه خير من فعله.

ومباحه : الركوب لما لم يتضمن فوت أجر ، ولا تحصيل وزر.

فهذه خمسون مرتبة على عشرة أشياء : القلب ، واللسان ، والسمع ، والبصر ، والأنف ، والفم ، واليد ، والرجل ، والفرج ، والإستواء على ظهر الدابة.

__________________

التفسير وعلى زهير بن أبي سلمى في السقر وعلى أبي حنيفة في الفقه وعلى الكسائي في النحو وعلى ابن إسحاق في المغازي. توفي سنة خمسين ومائة. (انظر شذرات الذهب).

١١٤

سورة البقرة

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ)

«الختم» قال الأزهري : أصله التغطية ، وختم البذر في الأرض ، إذا غطاه. قال أبو إسحاق : معنى ختم وطبع في اللغة واحد ، وهو التغطية على الشيء والاستيثاق منه ، فلا يدخله شيء ، كما قال تعالى : ٤٧ : ٢٤ (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) كذلك قوله : ٢ : ٩٤ و ١٦ : ١٠٨ (وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ).

قلت : الختم والطبع يشتركان فيما ذكر ، ويفترقان في معنى آخر ، وهو أن الطبع ختم بصير سجيّة وطبيعة ، فهو تأثير لازم لا يفارق.

وأما المرض : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠)) وقال ؛ ٣٣ : ٣٢ (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) وقال : ٧٤ : ٣١ (وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ : ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً).

ومرض القلب خروجه عن صحته واعتداله. فإن صحته أن يكون

١١٥

عارفا بالحق محبا له ، مؤثرا له على غيره ، فمرضه إما بالشك فيه ، وإما بإيثار غيره عليه.

فمرض المنافقين : مرض شك وريب ، ومرض العصاة غي وشهوة. وقد سمى الله سبحانه كلّا منهما مرضا.

قال ابن الأنباري : أصل المرض في اللغة : الفساد ، مرض فلان : فسد جسمه ، وتغيرت حاله. ومرضت بالمرض : تغيرت وفسدت ، قالت ليلى الأخيلية :

إذا هبط الحجاج أرضا مريضة

تتبع أقصى دائها فشفاها

وقال آخر :

ألم تر أنّ الأرض أضحت مريضة

لفقد الحسين ، والبلاد اقشعرت

والمرض يدور على أربعة أشياء : فساد ، وضعف ، ونقصان ، وظلمة. ومنه مرض الرجل في الأمر ، إذا ضعف فيه. ولم يبالغ ، وعين مريضة النظر : أي فاترة ضعيفة. وريح مريضة : إذا هبّ هبوبها ، كما قال :

راحت لأربعك الرياح مريضة

أي لينة ضعيفة ، حتى لا يعفى أثرها.

وقال ابن الإعرابي : أصل المرض النقصان. ومنه : بدن مريض ، أي ناقص القوة ، وقلب مريض : ناقص الدين ، ومرض في حاجتي : إذا نقصت حركته.

وقال الأزهري ، عن المنذري عن بعض أصحابه : المرض إظلام الطبيعة واضطرابها بعد صفائها. قال : والمرض الظلمة ، وأنشد :

وليلة مرضت من كل ناحية

فما يضيء لها شمس ولا قمر

هذا أصله في اللغة.

١١٦

ثم الشك ، والجهل ، والحيرة ، والضلال ، وإرادة الغي ، وشهوة الفجور في القلب : تعود إلى هذه الأمور الأربعة ، فيتعاطى العبد أسباب المرض حتى يمرض ، فيعاقبه الله بزيادة المرض ، لإيثاره أسبابه وتعاطيه لها.

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨))

شبه سبحانه أعداءه المنافقين بقوم أوقدوا نارا لتضيء لهم ، وينتفعوا بها فلما أضاءت لهم النار فأبصروا في ضوئها ما ينفعهم وما يضرهم ، وأبصروا الطريق بعد أن كانوا حيارى تائهين. فهم كقوم سفّر ضلوا عن الطريق ، فأقدوا النار تضيء لهم الطريق ، فلما أضاءت لهم فأبصروا وعرفوا طفئت عنهم تلك الأنوار ، وبقوا في الظلمات لا يبصرون ، قد سدت عليهم أبواب الهدى الثلاث.

فإن الهدى يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب ، مما يسمعه بأذنه ، ويراه بعينه ويعقله بقلبه. وهؤلاء قد سدت عليهم أبواب الهدى ، فلا تسمع قلوبهم شيئا ، ولا تبصره ، ولا تعقل ما ينفعها.

وقيل : لما لم ينتفعوا أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم نزّلوا منزلة من لا سمع له ولا بصر ولا عقل. والقولان متلازمان.

وقال في صفتهم (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) لأنهم قد رأوا في ضوء النار ، وأبصروا الهدى ، فلما أطفئت عنهم لم يرجعوا إلى ما رأوا وأبصروا.

وقال سبحانه وتعالى : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) ولم يقل : ذهب نورهم. وفيه سر بديع ، وهو انقطاع سر تلك المعية الخاصة التي هي للمؤمنين من الله تعالى ، فإن الله تعالى مع المؤمنين ، و ٢ : ١٥٣ (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) و ١٦ : ١٢٨ (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ).

١١٧

فذهاب الله بذلك النور هو انقطاع المعية التي خصّ بها أولياءه ، فقطعها بينه وبين المنافقين ، فلم يبق عندهم بعد ذهاب نورهم ولا معهم ، فليس لهم نصيب من قوله : ٩ : ٤٠ (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) ولا من ٢٦ : ٦٣ (كَلَّا ، إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ).

وتأمل قوله تعالى : (أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) كيف جعل ضوءها خارجا عنه منفصلا؟ ولو اتصل ضوؤها به ولابسه لم يذهب ، ولكنه كان ضوء مجاورة ، لا ملابسة ومخالطة. وكان الضوء عارضا والظلمة أصلية. فرجع الضوء إلى معدنه وبقيت الظلمة في معدنها. فرجع كل منهما إلى أصله اللائق به ، حجة من الله تعالى قائمة. وحكمة بالغة ، تعرّف بها إلى أولي الألباب من عباده.

وتأمل قوله : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) ولم يقل بنارهم. ليطابق أول الآية. فإن النار فيها إشراق وإحراق. فذهب بما فيها من الإشراق ـ وهو النور ـ وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق ، وهو النارية وتأمل كيف قال : «بنورهم» ولم يقل بضوئهم ، مع قوله : (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) لأن الضوء هو زيادة في النور. فلو قال : ذهب الله بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة فقط ، دون الأصل. فلما كان النور أصل الضوء كان الذهاب به ذهابا بالشيء وزيادته.

وأيضا فإنه أبلغ في النفي عنهم ، وأنهم من أهل الظلمات ، الذين لا نور لهم.

وأيضا فإن الله تعالى سمّى كتابه نورا ، ورسوله نورا ، ودينه نورا ، ومن أسمائه النور ، والصلاة نور ، فذهابه سبحانه بنورهم : ذهاب بهذا كله.

وتأمل مطابقة هذا المثل لما تقدمه من قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) كيف طابق بين هذه

١١٨

التجارة الخاسرة التي تضمنت حصول الضلالة والرضى بها ، وبذل الهدى في مقابلتها ، وحصول الظلمات التي هي الضلالة والرضى بها ، بدلا عن النور الذي هو الهدى والنور ، فبذلوا الهدى والنور ، وتعوضوا عنه بالظلمة والضلالة ، فيا لها من تجارة ما أخسرها! وصفقة ما أشد غبنها!.

وتأمل كيف قال الله تعالى : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) فوحده ، ثم قال : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ) فجمعها. فإن الحق واحد ، وهو صراط الله المستقيم ، الذي لا صراط يوصل إليه سواه ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له بما شرعه على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا بالأهواء والبدع ، وطرق الخارجين عما بعث الله به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من الهدى ودين الحق ، بخلاف طرق الباطل. فإنها متعددة متشعبة. ولهذا يفرد الله سبحانه الحق ويجمع الباطل ، كقوله تعالى : ٢ : ٢٥٧ (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) وقال تعالى : ٦ : ١٥٣ (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) فجمع سبيل الباطل ، ووحد سبيل الحق. ولا يناقض هذا قوله تعالى : ٥ : ١٦ (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) فإن تلك هي طرق مرضاته التي يجمعها سبيله الواحد ، وصراطه المستقيم. فإن طرق مرضاته كلها ترجع إلى صراط واحد وسبيل واحد ، وهي سبيله التي لا سبيل إليه إلا منها. وقد صح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه : «خط خطا مستقيما ، وقال : هذا سبيل الله ، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ، وقال : هذه سبل ، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ، ثم قرأ قوله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ. ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

وقد قيل : إن هذا مثل للمنافقين وما يوقدونه من نار الفتنة التي يوقعونها بين أهل الإسلام ، ويكون بمنزلة قول الله تعالى : ٥ : ٦٤ (كُلَّما أَوْقَدُوا

١١٩

ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) ويكون قوله تعالى : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) مطابقا لقوله تعالى (أَطْفَأَهَا اللهُ) ويكون تخييبهم وإبطال ما راموه : هو تركهم في الظلمات والحيرة لا يهتدون إلى التخلص مما وقعوا فيه ، ولا يبصرون سبيلا ، بل هم صم بكم عمي.

وهذا التقدير ـ وإن كان حقا ـ ففي كونه مرادا بالآية نظر. فإن السياق إنما قصد لغيره ، ويأباه قوله تعالى : (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) وموقد نار الحرب لا يضيء ما حوله أبدا ، ويأباه قوله تعالى : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) وموقد نار الحرب لا نور له. ويأباه قوله تعالى : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) وهذا يقتضي أنهم انتقلوا من نور المعرفة والبصيرة إلى ظلمة الشك والكفر. قال الحسن : هو المنافق ، أبصر ثم عمي ، وعرف ثم أنكر. ولهذا قال : (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) أي لا يرجعون إلى النور الذي فارقوه. وقال تعالى في حق الكفار : ٢ : ١٧١ (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) فسلب العقل عن الكفار ، إذ لم يكونوا من أهل البصيرة والإيمان ، وسلب الرجوع عن المنافقين ، لأنهم آمنوا ثم كفروا فلم يرجعوا إلى الإيمان.

فصل

ثم ضرب الله سبحانه لهم مثلاً آخر مائياً. فقال تعالى (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩)) فشبه نصيبهم مما بعث الله تعالى به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من النور والحياة بنصيب مستوقد النار التي طفئت عنه أحوج ما كان إليها. فذهب نوره ، وبقي في الظلمات حائرا تائها ، لا يهتدي سبيلا ، ولا يعرف طريقا ، وبنصيب أصحاب الصيّب ، وهو المطر الذي يصوب ، أي ينزل من علو إلى سفل. فشبه الهدى الذي هدى به عباده بالصيب. لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر ، وشبه نصيب المنافقين من هذا الهدى بنصيب من لم يحصل له نصيب من الصيب إلا ظلمات ورعد

١٢٠