التفسير القيّم

ابن القيّم الجوزيّة

التفسير القيّم

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الشيخ إبراهيم محمّد رمضان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

وبسر قد ذنّب ، وماء عذب أتخاف علينا أن يكون هذا من النعيم الذي نسأل عنه؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنما ذلك للكفار ، ثم قرأ ٤٣ : ١٧ (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ؟).

وقال الواحدي : والظاهر يشهد بهذا القول. لأن السورة كلها خطاب للمشركين وتهديد لهم. والمعنى أيضا يشهد بهذا القول ، وهو أن الكفار لم يؤدوا حق النعيم عليهم ، حيث أشركوا بربهم وعبدوا غيره ، فاستحقوا أن يسألوا عما أنعم به عليهم ، توبيخا لهم ، هل قاموا بالواجب فيه ، أم ضيعوا حق النعمة؟ ثم يعذبون على ترك الشكر بتوحيد المنعم.

قال : وهذا معنى قول مقاتل ، وهو قول الحسن. قال : لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار.

قلت : ليس في اللفظ ولا في السنة الصحيحة ، ولا في أدلة العقل ما يقتضي اختصاص الخطاب بالكفار ، بل ظاهر اللفظ ، وصريح السنة والاعتبار : يدل على عموم الخطاب لكل من اتصف بأنه ألهاه التكاثر. فلا وجه لتخصيص الخطاب ببعض المتصفين بذلك.

ويدل على ذلك : قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند قراءة هذه السورة «يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت؟ أو لبست فأبليت ـ الحديث» وهو في صحيح مسلم. وقائل ذلك قد يكون مسلما. وقد يكون كافرا.

ويدل عليه أيضا : الأحاديث التي تقدمت ، وسؤال الصحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفهمهم العموم ، حتى قالوا له «وأي نعيم نسأل عنه ، وإنما هو الأسودان» فلو كان الخطاب مختصا بالكفار لبين لهم ذلك. وقال : مالكم ولها؟ إنما هي للكفار. فالصحابة فهموا العموم ، والأحاديث صريحة في التعميم. والذي أنزل عليه القرآن أقرهم على فهم العموم.

٥٨١

وأما حديث أبي بكر الذي احتج به أرباب هذا القول. فحديث لا يصح. والحديث الصحيح في تلك القصة يشهد ببطلانه. ونحن نسوقه بلفظه.

في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : «خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم أو ليلة. فإذا هو بأبي بكر وعمر ، فقال : ما أخرجكما من بيوتكما في هذه الساعة؟ قالا : الجوع ، يا رسول الله. قال : وأنا والذي نفسي بيده ، لأخرجني الذي أخرجكما ، قوما ، فقاما معه. فأتى رجلا من الأنصار ، فإذا هو ليس في بيته. فلما رأته امرأته قالت : مرحبا وأهلا. فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أين فلان؟ قالت : ذهب ليستعذب لنا من الماء ، إذ جاء الأنصاري ، فنظر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاحبيه ، فقال : الحمد لله ما أجد اليوم أكرم أضيافا مني. قال : فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب فقال : كلوا من هذا. فأخذ المدية ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إياك والحلوبة. فذبح لهم ، فأكلوا من الشاة ، ومن ذلك العذق ، وشربوا. فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بكر وعمر : والذي نفسي بيديه لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة. أخرجكم من بيوتكم الجوع ، ثم لم ترجعوا حتى أصبتم هذا النعيم».

فهذا الحديث الصحيح صريح في تعميم الخطاب ، وأنه غير مختص بالكفار.

وأيضا فالواقع يشهد بعدم اختصاصه ، وأن الإلهاء بالتكاثر واقع بين المسلمين كثيرا ، بل أكثرهم قد ألهاه التكاثر. وخطاب القرآن عام لمن بلغه ، وإن كان أول من دخل فيه المعاصرون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو متناول لمن بعدهم. وهذا معلوم بضرورة الدين ، وإن نازع فيه من لا يعتد بقوله من المتأخرين.

فنحن اليوم ومن قبلنا ومن بعدنا داخلون تحت قوله تعالى : ٢ :

٥٨٢

١٨٣ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) ونظائره ، كما دخل تحته الصحابة بالضرورة المعلومة من الدين.

فقوله : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) خطاب لكل من اتصف بهذا الوصف. وهم في الإلهاء والتكاثر درجات لا يحصيها إلا الله.

فإن قيل : فالمؤمنون لم يلههم التكاثر. ولهذا لم يدخلوا في الوعيد المذكور لمن ألهاه.

قيل : هذا هو الذي أوجب لأرباب هذا القول تخصيصه بالكفار ، لأنه لم يمكنهم حمله على العموم ، ورأوا أن الكفار أحق بالوعيد ، فخصوهم به.

وجواب هذا : أن الخطاب للإنسان من حيث هو إنسان ، على طريقة القرآن في تناول الذم له من حيث هو إنسان. كقوله : ١٧ : ١١ (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) ١٧ : ٦٧ (وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) ١٠٠ : ٦ (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) ٣٣ : ٧٣ (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) ٢٢ : ٦٦ (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) ونظائره كثيرة.

فالإنسان من حيث هو عار عن كل خير من العلم النافع ، والعمل الصالح ، وإنما الله سبحانه هو الذي يكمله بذلك ، ويعطيه إياه. وليس له ذلك من نفسه. بل ليس له من نفسه إلا الجهل المضاد للعلم ، والظلم المضاد للعدل ، وكل علم وعدل وخير فيه فمن ربه ، لا من نفسه. فإلهاء التكاثر طبيعته وسجيته ، التي هي له من نفسه. ولا خروج له عن ذلك إلا بتزكية الله له ، وجعله مريدا للآخرة ، مؤثرا لها على التكاثر بالدنيا. فإن أعطاه ذلك وإلا فهو ملته بالتكاثر في الدنيا ولا بد.

أما احتجاجهم بالوعيد على اختصاص الخطاب بالكفار. فيقال :

الوعيد المذكور مشترك ، وهو العلم عند معاينة الآخرة. فهذا أمر

٥٨٣

يحصل لكل أحد ، لم يكن حاصلا له في الدنيا. وليس في قوله : (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) ما يقتضى دخول النار ، فضلا عن التخليد فيها. وكذلك رؤية الجحيم لا يستلزم دخولها لكل من رآها. فإن أهل الموقف يرونها ، ويشاهدونها عيانا ، وقد أقسم الرب تبارك وتعالى أن لا بد أن يراها الخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم ، وبرهم وفاجرهم ١٩ : ٧١ (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها. كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا).

فليس في جملة هذه السورة ما ينفي عموم خطابها.

وأما ما ذكروه عن الحسن : لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار. فباطل قطعا ، إما عليه وإما منه. والأحاديث الصحيحة الصريحة ترده. وبالله التوفيق.

ولا يخفى أن مثل هذه السورة مع عظم شأنها وشدة تخويفها. وما تضمنته من تحذير الإنسان عن التكاثر الملهي ، وانطباق معناها على أكثر الخلق يأبى اختصاصها من أولها إلى آخرها بالكفار ، ولا يليق ذلك بها. ويكفي في ذلك تأمل الأحاديث المرفوعة فيها. والله أعلم.

وتأمل ما في هذا العتاب الراجع لمن استمر على إلهاء التكاثر له مدة حياته كلها ، إلى أن زار القبور ، ولم يستيقظ من نوم الإلهاء ، بل أرقد التكاثر قلبه فلم يستفق منه إلا وهو في عسكر الأموات.

وطابق بين هذا وبين حال أكثر الخلق يتعين لك أن العموم مقصود.

وتأمل تعليقه سبحانه الذم والوعيد على مطلق التكاثر من غير تقييد بمتكاثر به ، ليدخل فيه التكاثر بجميع أسباب الدنيا ، على اختلاف أجناسها وأنواعها.

وأيضا فإن التكاثر تفاعل ، وهو طلب كل من المتكاثرين أن يكاثر صاحبه. فيكون أكثر منه فيما يتكاثره به. والحامل له على ذلك : توهمه أن

٥٨٤

العزة للكاثر كما قيل :

ولست بالأكثر منهم غنى

وإنما العزة للكاثر

فلو حصلت له الكثرة من غير تكاثر لم تضره ، كما كانت الكثرة حاصلة لجماعة من الصحابة ، ولم تضرهم. إذ لم يتكاثروا بها. وكل من كاثر إنسانا في دنياه ، أو جاهه ، أو غير ذلك ، أشغلته مكاثرته عن مكاثرة أهل الآخرة. فالنفوس الشريفة العلوية ذات الهمم العالية إنما تكاثر بما يدوم عليها نفعه ، وتكمل به وتزكوا ، وتصير مفلحة. فلا تحب أن يكثرها غيرها في ذلك ، وينافسها في هذه المكاثرة ، ويسابقها إليها. فهذا هو التكاثر الذي هو غاية سعادة العبد.

وضده : تكاثر أهل الدنيا بأسباب دنياهم. فهذا تكاثر مله عن الله وعن الدار الآخرة. وهو جارّ إلى غاية القلة.

فعاقبة هذا التكاثر : قلّ وفقر وحرمان.

والتكاثر بأسباب السعادة الأخروية تكاثر لا يزال يذكر بالله وبنعمه. وعاقبته الكثرة الدائمة التي لا تزول ولا تفنى. وصاحب هذا التكاثر لا يهون عليه أن يرى غيره أفضل منه قولا ، وأحسن منه عملا ، وأغزر منه علما. وإذا رأى غيره أكثر منه في خصلة من خصال الخير يعجز عن لحوقه فيها كاثره بخصلة أخرى ، وهو قادر على المكاثرة بها. وليس هذا التكاثر مذموما ، ولا قادحا في إخلاص العبد ، بل هو حقيقة المنافسة ، واستباق الخيرات.

وقد كانت هذه حال الأوس مع الخزرج رضي الله عنهم في تصاولهم بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومكاثرة بعضهم لبعض في أسباب مرضاته ونصره.

وكذلك كانت حال عمر مع أبي بكر رضي الله عنهما. فلما تبين لعمر مدى سبق أبي بكر له قال : «والله لا أسابقك إلى شيء أبدا».

٥٨٥

فصل

ومن تأمل حسن موقع «كلا» في هذا الموضع ، فإنها تضمنت ردعا لهم ، وزجرا عن التكاثر ، ونفيا وإبطالا لما يؤملونه ، من نفع التكاثر لهم ، وعزتهم وكمالهم به ، فتضمنت اللفظة نهيا ونفيا ، وأخبرهم سبحانه أنهم لا بد أن يعلموا عاقبة تكاثرهم علما بعد علم ، وأنهم لا بد أن يروا دار المكاثرين بالدنيا التي ألهتهم عن الآخرة رؤية بعد رؤية ، وأنه سبحانه لا بد أن يسألهم عن أسباب تكاثرهم : من أين استخرجوها؟ وفيم صرفوها؟.

فلله ما أعظمها من سورة ، وأجلها وأعظمها فائدة ، وأبلغها موعظة وتحذيرا ، وأشدها ترغيبا في الآخرة ، وتزهيدا في الدنيا على غاية اختصارها ، وجزالة ألفاظها وحسن نظمها. فتبارك من تكلم بها حقا وبلغها رسوله عنه وحيا.

فصل

وتأمل كيف جعلهم عند وصولهم إلى غاية كل حي زائرين غير مستوطنين ، بل هم مستودعون في المقابر مدة ، وبين أيديهم دار القرار. فإذا كانوا عند وصولهم إلى الغاية زائرين ، فكيف بهم وهم في الطريق في هذه الدار؟ فهم فيها عابرو سبيل إلى محل الزيارة ، ثم منتقلون من محل الزيارة إلى المستقر.

فهنا ثلاثة أمور : عبور السبيل في هذه الدنيا ، وغايته زيارة القبور ، وبعدها النقلة إلى دار القرار.

٥٨٦

سورة الكافرون

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦))

«ما» على بابها لأنها واقعة على معبوده صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الإطلاق ، لأن امتناعهم من عبادة الله ليس لذاته ، بل كانوا يظنون أنهم يعبدون الله ، ولكنهم كانوا جاهلين به. فقوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي لا أنتم تعبدون معبودي. ومعبوده هو كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم عارفا به دونهم ، وهم جاهلون به. هذا جواب بعضهم.

وقال آخرون : إن «ما» هنا مصدرية. لا موصولة ، أي لا تعبدون عبادتي. ويلزم من تبرئتهم من عبادته تبرئتهم من المعبود ، لأن العبادة متعلقة به ، وليس هذا بشيء. إذ المقصود : براءته من معبوديهم ، وإعلامه أنهم بريئون من معبوده تعالى. فالمقصود المعبود لا العبادة.

وقيل : إنهم كانوا يقصدون مخالفته صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسدا له ، وأنفة من أتباعه. فهم لا يعبدون معبوده لا كراهية لذات المعبود ، ولكن كراهية لاتباعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

٥٨٧

وحرصا على مخالفته في العبادة. وعلى هذا لا يصح في النظم البديع والمعنى الرفيع إلا لفظ «ما» لإبهامها ومطابقتها الغرض الذي تضمنته الآية.

وقيل في ذلك وجه رابع ، وهو : قصد ازدواج الكلام في البلاغة والفصاحة مثل قوله : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) و (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) فكذلك (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) ومعبودهم لا يعقل. ثم ازدوج مع هذا الكلام قوله (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) فاستوى اللفظان ، وإن اختلف المعنيان ، ولهذا لا يجيء في الأفراد مثل هذا ، بل لا يجيء إلا «من» كقوله ؛ قل (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)؟ (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ)؟ (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ)؟ (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)؟ (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ)؟ (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ)؟ إلى أمثال ذلك.

وعندي فيه وجه خامس ، أقرب من هذا وهو : أن المقصود هنا ذكر المعبود الموصوف بكونه أهلا للعبادة مستحقا لها ، فأتى ب «ما» الدالة على هذا المعنى. كأنه قيل : ولا أنتم عابدون معبودي الموصوف بأنه المعبود الحق. ولو أتى بلفظة «من» لكانت إنما تدل على الذات فقط ، ويكون ذكر الصلة تعريفا ، لا أنه هو جهة العبادة.

ففرق بين أن يكون كونه تعالى أهلا لأن يعبد ، وبين أن يكون تعريفا محضا أو وصفا مقتضيا لعبادته. فتأمله فإنه بديع جدا. وهذا معنى قوله النحاة : إن «ما» تأتي لصفات من يعلم.

ونظيره (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) لما كان المراد الوصف ، وأن السبب الداعي إلى الأمر بالنكاح ، وقصده ـ وهو الطيب ـ فتنكح المرأة الموصوفة به : أتى ب «ما» دون «من» ، وهذا باب لا ينخرم ، وهو من ألطف مسالك العربية.

وإذا قد أفضى الكلام بنا إلى هنا ، فلنذكر فائدة ثانية على ذلك ، وهي

٥٨٨

تكرير الأفعال في هذه السورة.

ثم فائدة ثالثة ، وهي كونه كرر الفعل في حق نفسه بلفظ المستقبل في الموضعين ، وأتى في حقهم بالماضي.

ثم فائدة رابعة ، وهي أنه جاء في نفي عبادة معبودهم بلفظ الفعل المستقبل ، وجاء في نفي عبادتهم معبوده باسم الفاعل.

ثم فائدة خامسة : وهي كون إيراده النفي هنا ب «لا» دون «لن».

ثم فائدة سادسة ، وهي : أن طريقة القرآن في مثل هذا أن يقرن النفي بالإثبات فينفي عبادة ما سوى الله ويثبت عبادته ، وهذا هو حقيقة التوحيد. والنفي المحض ليس بتوحيد. وكذلك الإثبات بدون النفي. فلا يكون التوحيد إلا متضمنا للنفي والإثبات ، وهذا حقيقة «لا إله إلا الله».

فلم جاءت هذه السورة بالنفي المحض ، وما سر ذلك؟.

وفائدة سابعة ، وهي : ما حكمة تقديم نفي عبادته عن معبودهم ثم نفي عبادتهم عن معبوده؟.

وفائدة ثامنة ، وهي : أن طريقة القرآن إذا خاطب الكفار أن يخاطبهم بالذين كفروا ، والذين هادوا ، كقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ) ولم يجيء : (يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) إلا في هذا الموضع ، فما وجه هذا الاختصاص؟.

وفائدة تاسعة ، وهي : أن في قوله : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) معنى زائد على النفي المتقدم ، فإنه يدل على اختصاص كل بدينه ومعبوده ، وقد فهم هذا من النفي فما أفاد التقسيم المذكور؟.

وفائدة عاشرة ، وهي : تقديم ذكرهم ومعبودهم في هذا التقسيم والاختصاص ، وتقديم ذكر شأنه وفعله في أول السورة.

٥٨٩

وفائدة حادية عشرة ، وهي : أن هذه السورة قد اشتملت على جنسين من الأخبار :

أحدهما : براءته من معبودهم ، وبراءتهم من معبوده ، وهذا لازم أبدا.

الثاني : إخباره بأن له دينه ولهم دينهم.

فهل هذا متاركة وسكوت عنهم ، فيدخله النسخ بالسيف ، أو التخصيص ببعض الكفار ، أم الآية باقية على عمومها وحكمها ، غير منسوخة ولا مخصوصة؟.

فهذه عشر مسائل في هذه السورة. فقد ذكرنا منها مسألة واحدة ، وهي وقوع «ما» فيها بدل «من».

فلنذكر المسائل التسع مستمدين من فضل الله ، مستعينين بحوله وقوته ، متبرئين إليه من الخطأ ، فما كان من صواب فمنه وحده لا شريك له ، وما كان من خطأ فمنا ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه.

فأما المسألة الثانية ، وهي : فائدة تكرار الأفعال. فقيل فيها وجوه :

أحدها : أن قوله : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) نفى للحال والمستقبل ، وقوله : (أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) مقابله ، أي لا تفعلون ذلك. وقوله : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) أي لم يكن مني ذلك قط قبل نزول الوحي ، ولهذا أتى في عبادتهم بلفظ الماضي فقال «ما عبدتم» فكأنه قال : لم أعبد قط ما عبدتم. وقوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) مقابله ، أي لم تعبدوا قط في الماضي ما أعبده أنا دائما.

وعلى هذا فلا تكرار أصلا. وقد استوفت الآيات أقسام النفي ماضيا وحالا ومستقبلا عن عبادته وعبادتهم بأوجز لفظ وأخصره وأبينه ، وهذا إن شاء الله أحسن ما قيل فيها. فلنقتصر عليه ولا نتعداه إلى غيره. فإن الوجوه

٥٩٠

التي قيلت في مواضعها ، فعليك بها.

وأما المسألة الثالثة ، وهي : تكرير الأفعال بلفظ المستقبل حين أخبر عن نفسه وبلفظ الماضي حين أخبر عنهم.

ففي ذلك سر ، وهو الإشارة والإيماء إلى عصمة الله لنبيه عن الزيغ والانحراف عن عبادة معبوده ، والاستبدال به غيره ، وأن معبوده الحق واحد في الحال والمآل على الدوام ، لا يرضى به بدلا ، ولا يبغي عنه حولا ، بخلاف الكافرين فإنهم يعبدون أهواءهم ، ويتبعون شهواتهم في الدين وأغراضهم. فهم بصدد أن يعبدوا اليوم معبودا ، وغدا غيره. فقال : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) يعني الآن (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي الآن أيضا. ثم قال : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) يعني ولا أنا فيما يستقبل يصدر مني عبادة لما عبدتم أيها الكافرون ، وأشبهت «ما» هنا رائحة الشرط ، فلذلك وقع بعدها الفعل بلفظ الماضي ، وهو مستقبل في المعنى ، كما يجيء ذلك بعد حرف الشرط ، كأنه يقول : مهما عبدتم من شيء فلا أعبده أنا.

فإن قيل : وكيف يكون فيها الشرط ، وقد عمل فيها الفعل ، ولا جواب لها وهي موصولة. فما أبعد الشرط منها؟.

قلنا : لم نقل : إنها نفسها شرط ، ولكن فيها رائحة منه ، وطرف من معناه لوقوعها على غير معين وإبهامها في المعبودات وعمومها ، وأنت إذا ذقت معنى هذا الكلام وجدت معنى الشرط باديا على صفحاته. فإذا قلت لرجل مّا ـ تخالفه في كل ما يفعل ـ : أنا لا أفعل ما تفعل. ألست ترى معنى الشرط قائما في كلامك وقصدك ، وأن روح هذا الكلام : مهما فعلت من شيء فإني لا أفعله؟.

وتأمل ذلك من مثل قوله تعالى : (قالُوا : كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا؟) كيف تجد معنى الشرطية فيه؟ حتى وقع الفعل بعد «من» بلفظ الماضي ، والمراد به المستقبل ، وأن المعنى : من كان في المهد صبيا

٥٩١

كيف نكلمه؟ وهذا هو المعنى الذي حام حوله من قال من المفسرين والمعربين : أن «كان» نبيا. بمعنى «يكون» لكنهم لم يأتوا إليه من بابه ، بل ألقوه عطلا من تقدير وتنزيل ، وعزب فهم غيرهم عن هذا ، للطفه ودقته. فقالوا : «كان» زائدة.

والوجه ما أخبرتك به ، فخذه عفوا ، لك غنمه ، وعلي غرمه. هل على «من» في الآية قد عمل فيها الفعل وليس لها جواب ، ومعنى الشرطية قائم فيها فكذلك في قوله : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) وهذا كله مفهوم من كلام فحول النحاة كالزجاج وغيره.

فإذا ثبت هذا فقد صحت الحكمة التي من أجلها جاء الفعل بلفظ الماضي من قوله : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) بخلاف قوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) لبعد «ما» فيها عن معنى الشرط ، تنبيها من الله على عصمة نبيه أن يكون له معبود سواه ، وأن يتنقل في المعبودات تنقل الكافرين.

وأما المسألة الرابعة هي : أنه لم يأت النفي في حقهم إلا باسم الفاعل ، وفي جهته جاء بالفعل تارة وباسم الفاعل أخرى.

فذلك ـ والله أعلم ـ لحكمة بديعة وهي : أن المقصود الأعظم براءته من معبوديهم بكل وجه وفي كل وقت. فأتى أولا بصيغة الفعل الدالة على الحدوث والتجدد ، ثم أتى في هذا النفي بعينه بصيغة اسم الفاعل في الثاني : أن هذا ليس وصفي ولا شأني ، فكأنه قال : عبادة غير الله لا تكون فعلا لي ولا وصفا لي. فأتى بنفيين لمنفيين مقصودين بالنفي. وأما في حقهم فإنما أتى بالاسم الدال على الوصف والثبوت دون الفعل. أي إن الوصف الثابت اللازم العائد لله منتف عنكم ، فليس هذا الوصف ثابتا لكم ، وإنما ثبت لمن خص الله وحده بالعبادة ، ولم يشرك معه فيها أحدا ، وأنتم لما عبدتم غيره فلستم من عابديه. وإن عبدوه في بعض الأحيان ، فإن المشرك

٥٩٢

يعبد الله ويعبد معه غيره ، كما قال أهل الكهف (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) أي اعتزلتم معبوديهم ، إلّا الله ، فإنكم لم تعتزلوه. وكذا قال المشركون عن معبوديهم (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) فهم كانوا يعبدون معه غيره ، فلم ينف عنهم الفعل لوقوعه منهم ، ونفى الوصف لأن من عبد غير الله لم يكن ثابتا على عبادة الله موصوفا بها.

فتأمل هذه النكتة البديعة ، كيف تجد في طيها أنه لا يوصف بأنه عابد لله ، وأنه عبده المستقيم على عبادته : إلا من انقطع إليه بكليته ، وتبتل إليه تبتيلا ، لم يلتفت إلى غيره ، ولم يشرك به أحدا في عبادته ، وأنه إن عبده وأشرك معه غيره ، فليس عابدا لله ، ولا عبدا له.

وهذا من أسرار هذه السورة العظيمة الجليلة ، التي هي إحدى سورتي الإخلاص ، التي تعدل ربع القرآن ، كما جاء في بعض السنن. وهذا لا يفهمه كل أحد ، ولا يدركه إلا من منحه الله فهما من عنده. فله الحمد والمنة.

وأما المسألة الخامسة ، وهي : أن النفي في هذه السورة أتى بأداة «لا» دون «لن» فلما تقدم تحقيقه عن قرب أن النفي «بلا» أبلغ منه «بلن» وأنها أدل على دوام النفي وطوله من «لن» وأنها للطول والمد الذي في لفظها طال النفي بها واشتد ، وأن هذا ضد ما فهمته الجهمية والمعتزلة من أن «لن» إنما تنفي المستقبل ولا تنفي الحال المستمر النفي في الاستقبال ، وقد تقدم تقرير ذلك بما لا تكاد تجده في غير هذا التعليق ، فالإتيان «بلا» متعين هنا. والله أعلم.

وأما المسألة السادسة ، وهي : اشتمال هذه السورة على النفي المحض ، فهذا هو خاصة هذه السورة العظيمة ، فإنها سورة البراءة من الشرك ، كما جاء في وصفها : أنها براءة من الشرك. فمقصودها الأعظم : هو البراءة المطلوبة. وهذا مع أنها متضمنة للإثبات صريحا. فقوله : (لا

٥٩٣

أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) براءة محضة (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) إثبات أن له معبودا يعبده وحده ، وأنتم بريئون من عبادته ، فتضمنت النفي والإثبات ، وطابقت قول إبراهيم إمام الحنفاء ٤٣ : ٢٧ (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) وطابقت قول الفئة الموحدة ١٨ : ١٦ (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) فانتظمت حقيقة «لا إله إلا الله» ولهذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرنها بسورة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) في سنة الفجر وسنة المغرب.

فإن هذين السورتين سورتا الإخلاص ، وقد اشتملتا على نوعي التوحيد الذي لا نجاة للعبد ولا فلاح له إلا بهما ، وهما توحيد العلم والاعتقاد المتضمن تنزيه الله عما لا يليق به من الشرك والكفر والولد والوالد ، وأنه إله أحد صمد لم يلد فيكون له فرع (وَلَمْ يُولَدْ) فيكون له أصل (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) فيكون له نظير. ومع هذا فهو الصمد الذي اجتمعت له صفات الكمال كلها.

فتضمنت السورة إثبات ما يليق بجلاله من صفات الكمال ، ونفي ما لا يليق به من الشريك أصلا وفرعا ونظيرا. فهذا توحيد العلم والاعتقاد.

والثاني : توحيد القصد والإرادة وهو : ألا يعبد إلا إياه ، فلا يشرك به في عبادته سواه ، بل يكون وحده هو المعبود.

وسورة (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) مشتملة على هذا التوحيد.

فانتظمت السورتان نوعي التوحيد وأخلصتا له ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفتتح بهما النهار في سنة الفجر ، ويختتمه بهما في سنة المغرب. وفي السنن «أنه كان يوتر بهما» فيكونان خاتمة عمل الليل كما كانا خاتمة عمل النهار.

ومن هنا تخريج جواب المسألة السابعة. وهي : تقديم براءته من معبودهم ، ثم أتبعها ببراءتهم من معبوده فتأمله.

وأما المسألة الثامنة. وهي : إثباته هنا بلفظ (يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) دون

٥٩٤

يا أيها الذين كفروا فسّره ـ والله أعلم ـ إرادة الدلالة على أن من كان الكفر وصفا ثابتا له لازما لا يفارقه ، فهو حقيق أن يتبرأ الله منه ، ويكون هو أيضا بريئا من الله ، فحقيق بالموحد البراءة منه ، فكان في معرض البراءة التي هي غاية البعد والمجانبة بحقيقة حاله ، التي هي غاية الكفر ، وهو الكفر الثابت اللازم ، في غاية المناسبة ، فكأنه يقول : كما أن الكفر لازم لكم ثابت لا تنتقلون عنه فمجانبتكم والبراءة منكم ثابتة لي دائما أبدا ، ولهذا أتى فيها بالنفي الدال على الاستمرار في مقابلة الكفر الثابت المستمر. وهذا واضح.

وأما المسألة التاسعة. وهي : ما هي الفائدة في قوله : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) وهل أفاد هذا معنى زائدا على ما تقدم؟.

فيقال : في ذلك من الحكمة ـ والله أعلم ـ أن النفي الأول أفاد البراءة وأنه لا يتصور منه ، ولا ينبغي له : أن يعبد معبوديهم ، وهم أيضا لا يكونون عابدين لمعبوده ، وأفاد آخر السورة إثبات ما تضمنه النفي من جهتهم من الشرك والكفر الذي هو حظهم وقسمهم ونصيبهم ، فجرى ذلك مجرى من اقتسم هو وغيره أرضا فقال له : لا تدخل في حدى ، ولا أدخل في حدك ، لك أرضك ، ولي أرضي.

فتضمنت الآية أن هذه البراءة اقتضت أنا اقتسمنا خطتنا بيننا ، فأصابنا التوحيد والإيمان ، فهو نصيبنا وقسمنا الذي نختص به لا تشركونا فيه ، وأصابكم الشرك بالله والكفر به ، فهو نصيبكم وقسمكم الذي تختصون به لا نشرككم فيه ، فتبارك من أحيا قلوب من شاء من عباده بفهم كلامه.

وهذه المعاني ونحوها إذا تجلت للقلوب. رافلة في حللها ، فإنها تسبي القلوب وتأخذ بمجامعها ، ومن لم يصادف من قلبه حياة فهي خود تزفّ إلى ضرير مقعد ، فالحمد لله على مواهبه التي لا منتهي لها ، ونسأله إتمام نعمته.

وأما المسألة العاشرة. وهي : تقديم قسمهم ونصيبهم على قسمه

٥٩٥

ونصيبه ، وفي أول السورة قدم ما يختص به على ما يختص بهم.

فهذا من أسرار الكلام ، وبديع الخطاب الذي لا يدركه إلا فحول البلاغة وفرسانها ، فإن السورة ما اقتضت البراءة واقتسام ديني التوحيد والشرك بينه وبينهم ، ورضى كل بقسمه ، وكان المحق هو صاحب القسمة ، وقد أبرز النصيبين وميّز القسمين ، وعلم أنهم راضون بقسمهم الدون ، الذي لا أردأ منه ولا أدون ، وأنه هو قد استولى على القسم الأشرف والحظ الأعظم ، بمنزلة من اقتسم هو وغيره سما وشفاء ، فرضي مقاسمة بالسم ، فإنه يقول له : لا تشاركني في قسمي ، ولا أشاركك في قسمك ، لك قسمك ، ولي قسمي.

فتقدم ذكر قسمه هنا أحسن وأبلغ ، كأنه يقول : هذا هو قسمك الذي آثرته بالتقدم وزعمت أنه أشرف القسمين ، وأحقهما بالتقديم ، فكان في تقديم ذكر قسمه من التهكم بهم ، والنداء على سوء اختيارهم ، وقبح ما رضوه لأنفسهم من الحسن والبيان ، ما لا يوجد في ذكر تقديم قسم نفسه ، والحاكم في هذا هو الذوق. والفطن يكتفي بأدنى إشارة ، وأما غليظ الفهم فلا ينجع فيه كثرة البيان.

ووجه ثان. وهو : أن مقصود السورة براءته صلى‌الله‌عليه‌وسلم من دينهم ومعبودهم ، هذا هو لبها ومغزاها ، وجاء ذكر براءتهم من دينه ومعبوده بالقصد الثاني ، مكملا لبراءته ومحققا لها ، فلما كان المقصود براءته من دينهم بدأ به في أول السورة ، ثم جاء قوله : (لَكُمْ دِينُكُمْ) مطابقا لهذا المعنى ، أي لا أشارككم في دينكم ، ولا أوافقكم عليه ، بل هو دين باطل تختصون أنتم به ولا أشارككم فيه أبدا. فطابق آخر السورة أولها ، فتأمل.

وأما المسألة الحادية عشرة. وهي : أن هذا الإخبار بأن لهم دينهم وله دينه ، هل هو إقرار؟ فيكون منسوخا ، أولا نسخ في الآية ولا تخصيص؟.

فهذه مسألة شريفة من أهم المسائل المذكورة ، وقد غلط في السورة خلائق وظنوها منسوخة بآية السيف ، لاعتقادهم أن هذه الآية اقتضت التقرير

٥٩٦

لهم على دينهم ، وظن آخرون أنها مخصوصة بمن يقرون على دينهم وهم أهل الكتاب ، وكلا القولين غلط محض ، فلا نسخ في السورة ولا تخصيص ، بل هي محكمة ، وعمومها نص محفوظ ، وهي من السور التي يستحيل دخول النسخ في مضمونها ، فإن أحكام التوحيد الذي اتفقت عليه دعوة الرسل يستحيل دخول النسخ فيه ، وهذه السورة أخلصت التوحيد ، ولهذا تسمى سورة الإخلاص كما تقدم.

ومنشأ الغلط : ظنهم أن الآية اقتضت إقرارهم على دينهم ، ثم رأوا أن هذا الإقرار زال بالسيف ، فقالوا : هو منسوخ.

وقالت طائفة : زال عن بعض الكفار ، وهم من لا كتاب لهم. فقالوا : هذا مخصوص بأهل الكتاب.

ومعاذ الله أن تكون الآية اقتضت تقريرا لهم أو إقرارا على دينهم أبدا ، فلم يزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أول الأمر وأشده عليه وعلى أصحابه أشد في الإنكار عليهم ، وعيب دينهم ، وتقبيحه والنهي عنه ، والتهديد والوعيد لهم كل وقت ، وفي كل ناد ، وقد سألوه أن يكف عن ذكر آلهتهم. وعيب دينهم ، ويتركونه وشأنه ، فأبى إلا مضيا على الإنكار عليهم وعيب دينهم ، فكيف يقال : إن الآية اقتضت تقريره لهم؟ معاذ الله من هذا الزعم الباطل ، إنما الآية اقتضت براءته المحضة كما تقدم ، وأن ما أنتم عليه من الدين لا نوافقكم عليه أبدا ، فإنه دين باطل ، فهو مختص بكم ، لا نشارككم فيه ، ولا أنتم تشاركوننا في ديننا الحق. وهذا غاية البراءة والتنصل من موافقتهم في دينهم ، فأين الإقرار؟ حتى يدعو النسخ أو التخصيص؟.

أفترى إذا جوهدوا بالسيف كما جوهدوا بالحجة لا يصح أن يقال (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)؟ بل هذه آية قائمة محكمة ثابتة بين المؤمنين والكافرين إلى أن يطهر الله منهم عباده وبلاده.

وكذلك حكم هذه البراءة بين أتباع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل سنته وبين أهل

٥٩٧

البدع المخالفين لما جاء به ، الداعين إلى غير سنته ، إذا قال لهم خلفاء الرسول وورثته : لكم دينكم ولنا ديننا. لا يقتضي هذا إقرارهم على بدعتهم ، بل يقولون لهم هذا : براءة منهم ومن بدعتهم. وهم مع هذا منتصبون للرد عليهم ولجهادهم بحسب الإمكان.

فهذا ما فتح الله العظيم به من هذه الكلمات اليسيرة ، والنبذة المثيرة إلى عظمة هذه السورة ، وجلالتها ومقصودها ، وبديع نظمها من غير استعانة بتفسير ، ولا تتبع لهذه الكلمات من مظان توجد فيه ، بل هي استجلاء مما علمه الله وألهمه ، بفضله وكرمه ، والله يعلم أني لو وجدتها في كتاب لأضفتها إلى قائلها ، وبالغت في استحسانها. وعسى الله ، المانّ بفضله الواسع العطاء الذي عطاؤه على غير قياس المخلوقين : أن يعين على تعليق تفسير على هذا النمط وهذا الأسلوب.

وقد كتبت على مواضع متفرقة من القرآن بحسب ما يسنح من هذا النمط وقت مقامي بمكة وبالبيت المقدس. والله المرجو إتمام نعمته.

٥٩٨

سورة الفلق

بسم الله الرحمن الرحيم

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (٥) بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

روى مسلم في صحيحه من حديث قيس بن حازم عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط : أعوذ برب الفلق. أعوذ برب الناس».

وفي لفظ آخر من رواية محمد بن إبراهيم التيمي عن عقبة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له «ألا أخبرك بأفضل ما تعوّذ به المتعوذون؟ قلت : بلى. قال : قل أعوذ برب الفلق ، وقل أعوذ برب الناس».

وفي الترمذي : حدثنا قتيبة أخبرنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر قال : «أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أقرأ بالمعوذتين في دبر كل صلاة» وقال : هذا حديث غريب.

وفي الترمذي والنسائي وسنن أبي داود. عن عبد الله بن حبيب قال : «خرجنا في ليلة مطر وظلمة ، نطلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليصلّي لنا ، فأدركناه ، فقال : قل. فلم أقل شيئا. ثم قال : قل. فلم أقل شيئا. ثم قال : قل. قلت :

٥٩٩

يا رسول الله ، ما أقول؟ قال : قل : قل هو الله أحد والمعوذتين ، حين تمسي وحين تصبح ، ثلاث مرات ، تكفيك من كل شيء». قال الترمذي : حديث حسن صحيح.

وفي الترمذي أيضا : من حديث الجريري عن أبي هريرة عن أبي سعيد قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتعوذ من الجان وعين الإنسان ، حتى نزلت المعوذتان. فلما نزلتا أخذهما وترك ما سواهما» قال : وفي الباب عن أنس. وهذا حديث غريب.

وفي الصحيحين عن عائشة «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بقل هو الله أحد والمعوذتين جميعا ، ثم يمسح بهما وجهه. وما بلغت يداه من جسده. قالت عائشة : فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به».

قلت : هكذا رواه يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة. ذكره البخاري.

ورواه مالك عن الزهري عن عروة عنها «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات ، وينفث. فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه ، وأمسح عليه بيده ، رجاء بركتها» وكذلك قال معمر عن الزهري عن عروة عنها «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ينفث على نفسه في مرضه الذي قبض فيه بالمعوذات ، فلما ثقل كنت أنا أنفث عليه بهن وأمسح بيد نفسه لبركتها. فسألت ابن شهاب : كيف كان ينفث؟ قال : ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه» ذكره البخاري أيضا.

وهذا هو الصواب : أن عائشة كانت تفعل ذلك. والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يأمرها ولم يمنعها من ذلك. وأما أن يكون استرقى وطلب منها أن ترقيه فلا ولعل بعض الرواة رواه بالمعنى. فظن أنها لما فعلت ذلك وأقرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه

٦٠٠