التفسير القيّم

ابن القيّم الجوزيّة

التفسير القيّم

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الشيخ إبراهيم محمّد رمضان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

وأجود من هذا : ما فهمه المبرد من الآية ، قال : كأن كفرهم لم يكن باديا لهم ، إذا خفيت عليهم مضرته.

ومعنى كلامه : أنهم لما خفيت عليهم مضرة عاقبته ووباله ، فكأنه كان خفيا عنهم ، لم تظهر لهم حقيقته. فلما عاينوا العذاب ظهرت لهم حقيقته وشره.

قال : وهذا كما تقول لمن كنت حدثته في أمر قبل : قد ظهر لك الآن ما كنت قلت لك. وقد كان ظاهرا له قبل هذا. ولا يسهل أن يعبر عن كفرهم وشركهم الذي كانوا ينادون به على رؤوس الأشهاد ويدعون إليه كل حاضر وباد بأنهم كانوا يخفونه ، لخفاء عاقبته عنهم. ولا يقال لمن أظهر الظلم والفساد ، وقتل النفوس وسعى في الأرض بالفساد : إنه أخفى ذلك ، لجهله بسوء عاقبته ، وخفائها عليه.

فمعنى الآية ـ والله أعلم بما أراد من كلامه ـ : أن هؤلاء المشركين لما وقفوا على النار ، وعاينوها وعلموا أنهم داخلوها ، تمنوا أنهم يردون إلى الدنيا فيؤمنون بالله وآياته ، ولا يعودون إلى تكذيب رسله. فأخبر سبحانه أن الأمر ليس كذلك ، وأنهم ليس في طبائعهم ولا سجاياهم الإيمان بل سجيتهم الكفر والشرك والتكذيب وأنهم لو ردوا لكانوا بعد الرد كما كانوا قبله. وأخبر أنهم كاذبون في زعمهم : أنهم لو ردوا لآمنوا وصدقوا.

فإذا تقرر مقصود الآية ومرادها تبين معنى الإضراب ب «بل» وتبين معنى الذي بدا لهم ، والذي كانوا يخفونه ، والحامل لهم على قولهم : «يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا» فالقوم كانوا يعلمون أنهم في الدنيا على باطل ، وأن الرسل صدقوهم فيما بلغوهم عن الله ، وتيقنوا ذلك وتحققوه ، ولكنهم أخفوه ولم يظهروه بينهم ، بل تواصوا بكتمانه. فلم يكن الحامل لهم على تمني الرجوع والإيمان معرفة ما لم يكونوا يعرفونه من صدق الرسل ، فإنهم كانوا يعلمون ذلك ويخفونه. وظهر لهم يوم القيامة ما كانوا ينطوون عليه

٢٤١

من علمهم أنهم على باطل ، وأن الرسل على الحق ، فعاينوا ذلك عيانا ، بعد أن كانوا يكتمونه ويخفونه. فلو ردوا لما سمحت نفوسهم بالإيمان ، ولعادوا إلى الكفر والتكذيب. فإنهم لم يتمنوا الإيمان لعلمهم يومئذ أنه هو الحق ، وأن الشرك باطل. وإنما تمنوه لما عاينوا العذاب الذي لا طاقة لهم باحتماله. وهذا كمن كان يخفي محبة شخص ومعاشرته ، وهو يعلم أن حبه باطل ، وأن الرشد في عدوله عنه. فيقال له : إن اطلع عليك وليه عاقبك ، وهو يعلم ذلك ويكابر ، ويقول : بل محبته ومعاشرته هي الصواب ، فلما أخذه وليه ليعاقبه على ذلك وتيقن العقوبة ، تمنى أن يعفى من العقوبة وأنه لا يجتمع به بعد ذلك وفي قلبه من محبته والحرص على معاشرته ما يحمله على المعاودة بعد معاينة العقوبة ، بل بعد أن مسته العقوبة وأنهكته. فظهر له عند العقوبة ما كان يخفي من معرفته بخطئه ، وصواب ما نهاه عنه. ولو رد لعاد لما نهى منه.

وتأمل مطابقة الإضراب لهذا المعنى ، وهو نفي قولهم : إنا لو رددنا لآمنا وصدقنا. لأنه ظهر لنا الآن أن ما قاله الرسل هو الحق ، أي ليس كذلك ، بل كنتم تعلمون ذلك وتعرفونه ، وكنتم تخفونه ، فلم يظهر لكم شيء جديد لتكونوا عالمين به لتعذروا ، بل ظهر لكم ما كان معلوما ، وكنتم تتواصون بإخفائه وكتمانه. والله أعلم.

وأما تقليب الأفئدة فقال تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)

هذا عطف على قوله : (أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) أي نحول بينهم وبين الإيمان ولو جاءتهم تلك الآية فلا يؤمنون.

واختلف في قوله : (كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) فقال كثير من المفسرين : المعنى نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم الآية ، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة قال ابن عباس في رواية عطاء عنه : ونقلب

٢٤٢

أفئدتهم وأبصارهم حتى يرجعوا إلى ما سبق عليهم من علمي. قال : وهذا كقوله : ٨ : ٢٤ (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ).

وقال آخرون : المعنى : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم لتركهم الإيمان به أول مرة ، فعاقبناهم بتقليب أفئدتهم وأبصارهم. وهذا معنى حسن. فإن كاف التشبيه تتضمن نوعا من التعليل. كقوله : (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) وقوله : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) والذي حسن اجتماع التعليل والتشبيه : الإعلام بأن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر.

والتقليب : تحويل الشيء من وجه إلى وجه ، وكان الواجب من مقتضى إنزال الآية ووصولهم إليها كما سألوا : أن يؤمنوا إذ جاءتهم لأنهم رأوها عيانا وعرفوا أدلتها وتحققوا صدقها. فإذا لم يؤمنوا كان ذلك تقليبا لقلوبهم وأبصارهم عن وجهها الذي ينبغي أن تكون عليه. وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد ، يصرفه كيف يشاء ، ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك» وروى الترمذي من حديث أنس قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر أن يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. فقلت : يا رسول الله ، آمنا بك وبما جئت به. فهل تخاف علينا؟ قال : إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء» قال الترمذي : هذا حديث حسن. وروى حماد عن أيوب وهشام ويعلى بن زياد عن الحسن قال : قالت عائشة رضي الله عنها : «دعوة كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر أن يدعو بها : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. فقلت : يا رسول الله ، دعوة كثيرا ما تدعو بها؟ قال : إنه ليس من عبد إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله. فإذا شاء أن يقيمه أقامه ،

٢٤٣

وإذا شاء أن يزيغه أزاغه».

وقوله : (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) قال : ابن عباس : أخذلهم وأدعهم في ضلالهم يتمادون.

وأما التزيين وقال : ٣٥ : ٨ (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً؟ فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) وقال : ٦ : ٤٣ (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

وأما التزيين إليه سبحانه خلقا ومشيئة. وحذف فاعله تارة ، ونسبه إلى سببه ، ومن أجراه على يده تارة.

وهذا التزيين منه سبحانه حسن ، إذ هو ابتلاء واختبار للعبد ليتميز المطيع منهم من العاصي ، والمؤمن من الكافر ، كما قال تعالى : ١٨ : ٧ (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) وهو من الشيطان قبيح.

وأيضا فتزيينه سبحانه للعبد عمله السيء عقوبة منه له على إعراضه عن توحيده وعبوديته ، وإيثار سيء العمل على حسنه فإنه لا بد أن يعرفه سبحانه السيء من الحسن ، فإذا آثر القبيح واختاره وأحبه ورضيه لنفسه زينه سبحانه له وأعماه عن رؤية قبحه بعد أن رآه قبيحا. وكل ظالم وفاجر وفاسق لا بد أن يريه الله تعالى ظلمه وفجوره وفسقه قبيحا ، فإذا تمادى عليه ارتفعت رؤية قبحه من قلبه. فربما رآه حسنا عقوبة له ، فإنه إنما يكشف له عن قبحه بالنور الذي في قلبه ، وهو حجة الله عليه فإذا تمادى في غيه وظلمه ذهب ذلك النور ، فلم ير قبحه في ظلمات الجهل والفسوق والظلم. ومع هذه فحجة الله قائمة عليه بالرسالة ، وبالتعريف الأول.

فتزيين الرب تعالى عدل ، وعقوبته حكمة ، وتزيين الشيطان إغواء

٢٤٤

وظلم وهو السبب الخارج عن العبد ، والسبب الداخل فيه حبه وبغضه ، وإعراضه ، والرب سبحانه خالق الجميع ، والجميع واقع بمشيئته وقدرته ، ولو شاء لهدى خلقه أجمعين. والمعصوم من عصمه الله ، والمخذول من خذله الله. ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.

٢٤٥
٢٤٦

سورة الأعراف

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢))

وهذا دليل على أنها فواحش في نفسها لا تستحسنها العقول. فتعلق التحريم بها لفحشها. فإن ترتيب الحكم على الوصف المناسب المشتق. يدل على أنه هو العلة المقتضية له. وهذا دليل في جميع الآيات التي ذكرناها. تدل على أنه حرمها لكونها فواحش ، وحرم الخبيث لكونه خبيثا. وأمر بالمعروف لكونه معروفا. والعلة يجب أن تغاير المعلول. فلو كان كونه فاحشة هو معنى كونه منهيا عنه ، وكونه خبيثا هو معنى كونه محرما : كانت العلة عين المعلول. وهذا محال. فتأمله.

وكذا تحريم الإثم والبغي دليل على أن هذا وصف ثابت له قبل التحريم.

٢٤٧

ومن هذا قوله تعالى : ١٧ : ٣٣ (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) فعلل النهي في الموضعين بكون المنهي عنه فاحشة. ولو كان جهة كونه فاحشة هو النهي لكان تعليلا للشيء بنفسه ، ولكان بمنزلة أن يقال : لا تقربوا الزنا فإنه يقول لكم لا تقربوه ، أو فإنه منهي عنه. وهذا محال من وجهين.

أحدهما : أنه يتضمن إخلاء الكلام من الفائدة.

والثاني : أنه تعليل للنهي بالنهي!

قوله تعالى ذكره :

(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦))

هاتان الآيتان مشتملتان على آداب نوعي الدعاء : دعاء العبادة ، ودعاء المسألة.

فإن الدعاء في القرآن يراد به هذا تارة ، وهذا تارة. ويراد به مجموعهما. وهما متلازمان.

فإن دعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي ، وطلب كشف ما يضره ، أو دفعه. ومن يملك الضر والنفع فإنه هو المعبود حقا. والمعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر. ولهذا أنكر الله تعالى على عبد من دونه ما لا يملك ضرا ولا نفعا ، وذلك كثير في القرآن. كقوله تعالى : ١٠ : ١٨ (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) وقوله تعالى : ١٠ : ١٠٦ (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) وقوله تعالى : ٥ : ٧٦ (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) وقوله تعالى : ٢١ : ٦٦ ، ٦٧ (قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا

٢٤٨

يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) وقوله تعالى : ٢٦ : ٦٩ ـ ٧٣ (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ. قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) وقوله تعالى : ٢٥ : ٣ (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ، وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) وقال تعالى : ٢٥ : ٥٥ (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً).

فنفي سبحانه عن هؤلاء المعبودين من دونه النفع والضر ، القاصر والمعتدي. فلا يملكون لأنفسهم ولا لعابديهم. وهذا في القرآن كثير بيّن : أن المعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر ، فهو يدعى للنفع ودفع الضر. ودعاء المسألة ، ويدعى خوفا ورجاء ، ودعاء العبادة. فعلم أن النوعين متلازمان : فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة ، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة.

وعلى هذا قوله تعالى : ٢ : ١٨٦ (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) يتناول نوعي الدعاء. وبكل منهما فسرت الآية.

قيل : أعطيه إذا سألني. وقيل : أثيبه إذا عبدني. والقولان متلازمان.

وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما ، أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، بل هذا استعمال له في حقيقته الواحدة المتضمنة للأمرين جميعا.

فتأمله فإنه موضع عظيم النفع ، قل من يفطن له.

وأكثر ألفاظ القرآن الدالة على معنيين فصاعدا هي من هذا القبيل.

ومثال ذلك قوله : ١٧ : ٧٨ (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ

٢٤٩

اللَّيْلِ) فسر «الدلوك» بالزوال ، وفسر بالغروب. وحكيا قولين في كتب التفسير. وليسا بقولين ، بل اللفظ يتناولهما معا. فإن الدلوك هو الميل. ودلوك الشمس ميلها ولهذا الميل مبدأ ومنتهى. فمبدؤه الزوال ، ومنتهاه الغروب. فاللفظ متناول لهما بهذا الإعتبار لا بتناول المشترك لمعنييه. ولا اللفظ لحقيقته ومجازه.

ومثاله أيضا تفسير الغاسق : بالليل والقمر ، وأن ذلك ليس باختلاف ، بل يتناولهما لتلازمهما. فإن القمر آية الليل. ونظائره كثيرة.

ومن ذلك قوله عزوجل : ٢٥ : ٧٧ (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ).

قيل : لو لا دعاؤكم إياه. وقيل : دعاؤه إياكم إلى عبادته فيكون المصدر مضافا إلى المفعول. وعلى الأول مضافا إلى الفاعل. وهو الأرجح من القولين. وعلى هذا : فالمراد به نوعا الدعاء والعبادة أظهر ، أي ما يعبأ لكم ربي لو لا أنكم تعبدونه. عبادة تستلزم مسألته. فالنوعان داخلان فيه.

ومن ذلك قوله تعالى : ٤٠ : ٦٠ (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) فالدعاء يتضمن النوعين ، وهو في دعاء العبادة أظهر. ولهذا عقبه بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) فسر الدعاء في الآية بهذا وهذا وقد روى سفيان عن منصور عن زرّ عن نسيع الكندي عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول على المنبر : «إن الدعاء هو العبادة». ثم قرأ : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ. إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) رواه الترمذي ، وقال حديث حسن صحيح.

وأما قوله تعالى : ٢٢. ٧٣ (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ ، فَاسْتَمِعُوا لَهُ. إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) وقوله : ٤ : ١١٧ (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) وقوله : ٤١ : ٤٨

٢٥٠

وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ) وكل موضع ذكر فيه دعاء المشركين لأصنامهم وآلهتهم فالمراد به دعاء العبادة ، المتضمن دعاء المسألة. فهو في دعاء العبادة أظهر لوجوه ثلاثة :

أحدها : أنهم قالوا ٣٩ : ٣ (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) فاعترفوا بأن دعاءهم إياهم هو عبادتهم لهم.

والثاني : أن الله تعالى فسّر هذا الدعاء في موضع آخر بأنه العبادة. كقوله ٢٦ : ٩٢ ـ ٩٣ (وَقِيلَ لَهُمْ : أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ) وقوله : ٢١ : ٩٨ (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) وقوله : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) وهو كثير في القرآن. فدعاؤهم لآلهتهم وعبادتهم لها.

الثالث : أنهم إنما كانوا يعبدونها يتقربون بها إلى الله. فإذا جاءتهم الحاجات والكربات والشدائد دعوا الله وحده وتركوها. ومع هذا فكانوا يسألونها بعض حوائجهم ويطلبون منها ، وكان دعاؤهم لها دعاء عبادة ودعاء مسألة.

وقوله تعالى : ٤٠ : ١٤ (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) هو دعاء العبادة. والمعنى : اعبدوه وحده وأخلصوا عبادته ، لا تعبدوا معه غيره.

وأما قول إبراهيم الخليل عليه‌السلام : ١٤ : ٣٩ (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) فالمراد بالسمع هنا : السمع الخاص ، وهو سمع الإجابة والقبول ، لا السمع العام. لأنه سميع لكل مسموع.

وإذا كان كذلك فالدعاء هنا يتناول دعاء الثناء ودعاء الطلب. وسمع الرب تبارك وتعالى له إثابته على الثناء ، وإجابته للطلب. فهو سميع لهذا ولهذا.

وأما قول زكريا عليه‌السلام : ١٩ : ٤ (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا)

٢٥١

فقد قيل : إنه دعاء المسألة ، والمعنى : إنك عودتني إجابتك وإسعافك ، ولم تشقني بالرد والحرمان ، فهو توسل إليه تعالى بما سلف من إجابته وإحسانه ، كما حكي أن رجلا سأل رجلا وقال : أنا الذي أحسنت إليّ وقت كذا وكذا. فقال : مرحبا بمن توسل إلينا بنا ، وقضى حاجته. وهذا ظاهر هنا.

ويدل عليه : أنه قدم ذلك أمام طلبه الولد ، وجعله وسيلة إلى ربه ، فطلب منه أن يجاريه على عادته التي عوده : من قضاء حوائجه وإجابته إلى ما سأله.

ويدل عليه : أنه قدم ذلك أمام طلبه الولد ، وجعله وسيلة إلى ربه ، فطلب منه أن يجاريه وأما قوله تعالى : ١٧ : ١١٠ (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا ، فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) فهذا الدعاء المشهور ، وأنه دعاء المسألة ، وهو سبب النزول ، قالوا : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو ربه ، فيقول مرة : يا الله ، ومرة : يا رحمن فظن الجاهلون من المشركين أنه يدعو إلهين ، فأنزل الله تعالى هذه الآية» قال ابن عباس : «سمع المشركون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو في سجوده : يا رحمن يا رحيم فقالوا : هذا يزعم أنه يدعو واحدا ، وهو يدعو مثنى مثنى. فأنزل الله هذه الآية (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ).

وقيل : إن الدعاء هاهنا بمعنى التسمية ، كقولهم : دعوت ولدي سعيدا. وادعه بعبد الله ونحوه. والمعنى : سموا ربكم الله أو سموه الرحمن : فالدعاء هاهنا بمعنى التسمية. وهذا قول الزمخشري. والذي حمله على هذا قوله : (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) فإن المراد بتعدده : معنى «أي» وعمومها هنا تعدد الأسماء ليس إلا. والمعنى : أي اسم سميتموه به من أسماء الله تعالى. إما الله وإما الرحمن فله الأسماء الحسنى ، أي فللمسمى سبحانه الأسماء الحسنى. والضمير في «له» يعود إلى

٢٥٢

المسمى. فهذا الذي أوجب له أن يحمل الدعاء في هذه الآية على التسمية.

وهذا الذي قاله هو من لوازم المعنى المراد بالدعاء في الآية وليس هو عين المراد بل المراد بالدعاء معناه المعهود المطرد في القرآن ، وهو دعاء السؤال ، ودعاء الثناء ولكنه متضمن معنى التسمية فليس المراد مجرد التسمية الخالية عن العبادة والطلب بل التسمية الواقعة في دعاء الثناء والطلب.

فعلى هذا المعنى : يصح أن يكون في «تدعوا» معنى تسموا. فتأمله. والمعنى أيّا ما تسموا في ثنائكم ودعائكم وسؤالكم. والله أعلم.

وأما قوله تعالى : ٥١ : ٢٨ (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ ، إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) فهذا دعاء العبادة المتضمن للسؤال رغبة ورهبة.

والمعنى : إنا كنا من قبل نخلص له العبادة. وبهذا استحقوا أن وقاهم عذاب السموم ، لا بمجرد السؤال المشترك بين الناجي وغيره ، فإن الله سبحانه يسأله من في السموات ومن في الأرض ، والفوز والنجاة إنما هي بإخلاص العبادة لا بمجرد السؤال والطلب.

وكذلك قول الفتية أصحاب الكهف : ١٨ : ١٤ (رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً) أي لن نعبد غيره.

وكذلك قوله تعالى : ٣٧ : ١٢٥ (أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ؟).

وأما قوله تعالى : ٢٨ : ٦٤ (وَقِيلَ : ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ. فَدَعَوْهُمْ ، فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ، وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) فهذا من دعاء المسألة ، يبكتهم الله عزوجل ويخزيهم يوم القيامة بإراءتهم أن شركاءهم لا يستجيبون لدعوتهم. وليس المراد اعبدوهم.

وهو نظير قوله تعالى : ١٨ : ٥٢ (وَيَوْمَ يَقُولُ : نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ).

٢٥٣

وهذا التقرير نافع في مسألة الصلاة ، وأنها : هل نقلت عن مسماها في اللغة ، فصارت حقيقة شرعية منقولة استعملت في هذه العبادة مجازا ، للعلاقة بينها وبين المسمي اللغوي ، أو هي باقية على الوضع اللغوي وضم إليها أركان وشرائع؟.

وعلى ما قررناه : لا حاجة إلى شيء من ذلك. فإن المصلي من أول صلاته إلى آخرها لا ينفك عن دعاء ، إما دعاء عبادة وثناء ، أو دعاء طلب ومسألة ، وهو في الحالين داع. فما خرجت الصلاة عن حقيقة الدعاء ، فتأمله.

إذا عرفت هذا. فقوله تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) يتناول نوعي الدعاء ولكنه ظاهر في دعاء المسألة متضمن دعاء العبادة. ولهذا أمر بإخفائه وإسراره قال الحسن : بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا.

ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ، وما يسمع لهم صوت ، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم. وذلك أن الله تعالى يقول : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) وأن الله ذكر عبدا صالحا ورضي بفعله ، وقال : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا).

وفي إخفاء الدعاء فوائد عديدة.

أحدها : أنه أعظم إيمانا ، لأن صاحبه يعلم أن الله يسمع دعاءه الخفي. وليس كالذي قال : إن الله يسمع إن جهرنا ، ولا يسمع إن أخفينا.

وثانيها : أنه أعظم في الأدب والتعظيم. ولهذا لا تخاطب الملوك ولا تسأل برفع الأصوات ، وإنما تخفض عندهم الأصوات ، ويخف عندهم الكلام بمقدار ما يسمعونه ومن رفع صوته لديهم مقتوه ، ولله المثل الأعلى. فإذا كان ربنا يسمع الدعاء الخفي فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت به.

٢٥٤

ثالثها : أنه أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبه ومقصوده. فإن الخاشع الذليل الضارع إنما يسأل مسألة مسكين ذليل إذا انكسر قلبه ، وذلت جوارحه ، وخشع صوته ، حتى إنه ليكاد تبلغ به ذلته ومسكنته ، وكسرته ، وضراعته إلى أن ينكسر لسانه فلا يطاوعه بالنطق. فقلبه سائل طالب مبتهل ، ولسانه لشدة ذله وضراعته ومسكنته ساكت. وهذه الحالة لا يتأتى معها رفع الصوت بالدعاء أصلا.

ورابعها : أنه أبلغ في الإخلاص.

وخامسها : أنه أبلغ في جمعية القلب على الله في الدعاء. فإن رفع الصوت يفرقه ويشتته. فكلما خفض صوته كان أبلغ في حمده وتجريده همته وقصده للمدعو سبحانه وتعالى.

وسادسها : وهو من النكت السرية البديعة جدا ـ أنه دال على قرب صاحبه من الله ، وأنه لاقترابه منه ، وشدة حضوره يسأله مسألة أقرب شيء إليه. فيسأله مسألة مناجاة القريب للقريب ، لا مسألة نداء البعيد للبعيد. ولهذا : أثنى سبحانه وتعالى على عبده زكريا بقوله : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) فكلما استحضر القلب قرب الله تعالى منه ، وأنه أقرب إليه من كل قريب ، وتصور ذلك أخفى دعاءه ما أمكنه ولم يتأت له رفع الصوت به ، بل يراه غير مستحسن كما أن من خاطب جليسا له يسمع خفي كلامه فبالغ في رفع الصوت استهجن ذلك منه ولله المثل الأعلى سبحانه. وقد أشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى هذا المعنى بعينه بقوله في الحديث الصحيح. لما رفع الصحابة أصواتهم بالتكبير وهم معه في السفر

فقال : «أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» وقال تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ. أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) وقد جاء أن سبب نزولها : أن الصحابة قالوا : «يا رسول الله ربنا قريب فنناجيه ، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله عزوجل : (وَإِذا سَأَلَكَ

٢٥٥

عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) وهذا يدل على إرشادهم للمناجاة في الدعاء ، لا للنداء الذي هو رفع الصوت فإنهم عن هذا سألوا ، فأجيبوا بأن ربهم تبارك وتعالى قريب لا يحتاج في دعائه وسؤاله إلى النداء ، وإنما يسأل مسألة القريب المناجى ، لا مسألة البعيد المنادى.

وهذا القرب من الداعي هو قرب خاص ، ليس قربا عاما من كل أحد ، فهو قريب من داعيه وقريب من عابده ، و «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» (١) وهو أخص من قرب الإنابة وقرب الإجابة ، الذي لم يثبت أكثر المتكلمين سواه ، بل هو قرب خاص من الداعي والعابد ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم راويا عن ربه تبارك وتعالى : «من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا» فهذا قربه من عابده. وأما قربه من داعيه وسائله فكما قال تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ، أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ).

وقوله : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) فيه الإشارة والإعلام بهذا القرب. وأما قربه تبارك وتعالى من محبه فنوع آخر وبناء آخر ، وشأن آخر ، كما قد ذكرناه في كتاب التحفة المكية. على أن العبارة تنبو عنه ولا تحصل في القلب حقيقة معناه أبدا ، لكن بحسب قوة المحبة وضعفها يكون تصديق العبد بهذا القرب. وإياك ثم إياك أن تعبر عنه بغير هذه العبارة النبوية ، أو يقع في قلبك غير معناها ومرادها فتزل بك قدم بعد ثبوتها وقد ضعف تمييز خلائق في هذا المقام وساء تعبيرهم فوقعوا في أنواع من الطامات والشطح ، وقابلهم من غلظ حجابه ، فأنكر محبة العبد لربه جملة وقربه منه وأعاد ذلك إلى مجرد الثواب المخلوق فهو عنده المحبوب القريب ليس إلا. وقد ذكرنا من طرق الرد على هؤلاء وهؤلاء في كتاب التحفة أكثر من مائة طريق.

والمقصود هاهنا : الكلام على هذه الآية.

__________________

(١) أخرجه الترمذي برقم ٣٥٧٩.

٢٥٦

وسابعها : أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال ، فإن اللسان لا يمل والجوارح لا تتعب ، بخلاف ما إذا رفع صوته فإنه قد يكلّ لسانه وتضعف بعض قواه. وهذا نظير من يقرأ ويكرر رافعا صوته ، فإنه لا يطول له ذلك بخلاف من يخفض صوته.

وثامنها : أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات والمضعفات. فإن الداعي إذا أخفى دعاءه لم يدر به أحد فلا يحصل له هناك تشويش ولا غيره ، وإذا جهر به تفطنت له الأرواح الشريرة والباطولية الخبيثة من الجن والإنس ، فشوشت عليه ولا بد ، ومانعته وعارضته ولو لم يكن من ذلك إلا أن تعلقها به يفرق عليه همته فيضعف أثر الدعاء لكفى. ومن له تجربة يعرف هذا. فإذا أسر الدعاء وأخفاه أمن هذه المفسدة.

وتاسعها : أن أعظم النعم هو الإقبال على الله ، والتعبد له ، والانقطاع إليه والتبتل إليه. ولكل نعمة حاسد على قدرها ، دقت أو جلت ، ولا نعمة أعظم من هذه النعمة. فأنفس الحاسدين المنقطعين متعلقة بها ، وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد وأن لا يقصد إظهارها له. وقد قال يعقوب ليوسف : (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) وكم من صاحب قلب وجمعية وحال مع الله قد تحدث بها وأخبر بها فسلبه إياها الأغيار ، فأصبح يقلب كفيه. ولهذا يوصي العارفون والشيوخ بحفظ السر مع الله وأن لا يطلعوا عليه أحدا ويتكتمون به غاية التكتم كما أنشد بعضهم في ذلك :

من سارروه فأبدى السر مجتهدا

لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا

وأبعدوه فلم يظفر بقربهم

وأبدلوه مكان الإنس إيحاشا

لا يأمنون مذيعا بعض سرهم

حاشا ودادهم من ذلكم حاشا

والقوم أعظم شيء كتمانا لأحوالهم مع الله وما وهب الله لهم من محبته والأنس به وجمعية القلب عليه ، ولا سيما للمبتدي والسالك. فإذا تمكن

٢٥٧

أحدهم وقوي وثبتت أصول تلك الشجرة الطبية التي أصلها ثابت وفرعها في السماء في قلبه بحيث لا يخشى من العواصف ، فإنه إذا أبدي حاله وشأنه مع الله ليقتدي به ويؤتم به لم يبال. وهذا باب عظيم النفع وإنما يعرفه أهله.

وإذا كان الدعاء المأمور بإخفائه يتضمن دعاء الطلب والثناء والمحبة والإقبال على الله فهو من أعظم الكنوز التي هي أحق بالإخفاء والستر عن أعين الحاسدين وهذه فائدة شريفة نافعة.

وعاشرها : أن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه متضمن للطلب منه والثناء عليه بأسمائه وأوصافه ، فهو ذكر وزيادة ، كما أن الذكر سمي دعاء لتضمنه الطلب كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضل الدعاء الحمد لله» فسمى «الحمد لله» دعاء ، وهو ثناء محض. لأن الحمد يتضمن الحب والثناء. والحب أعلى أنواع الطلب للمحبوب ، فالحامد طالب لمحبوبه ، فهو أحق أن يسمى داعيا من السائل الطالب من ربه حاجة ما.

فتأمل هذا الموضع فإذا تأملته لا تحتاج إلى ما قيل : إن الذكر متعرض للنوال وإن لم يكن مصرحا بالسؤال ، فهو داع بما تضمنه ثناؤه من التعرض ، كما قال أمية بن أبي الصلت في ممدوحه :

أأذكر حاجتي ، أم قد كفاني

حباؤك؟ إن شيمتك الحباء

إذا اثنى عليك المرء يوما

كفاه من تعرضه الثناء

وعلى هذه الطريقة التي ذكرناها نفس الحمد والثناء متضمن لأعظم الطلب وهو طلب المحب ، فهو دعاء حقيقة ، بل أحق أن يسمى دعاء من غيره من أنواع الطلب الذي هو دونه.

والمقصود أن كل واحد من الدعاء والذكر يتضمن الآخر ويدخل فيه. وقد قال تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥)) فأمر تعالى نبيه أن يذكره في نفسه. قال مجاهد وابن

٢٥٨

جريج : أمر أن يذكره في الصدر بالتضرع والاستكانة دون رفع الصوت أو الصياح. وقد تقدم حديث أبي موسى : «كنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر فارتفعت أصواتنا بالتكبير فقال : يا أيها الناس ، أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ، إنما تدعون سميعا قريبا أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته».

وتأمل كيف قال في آية الذكر : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) وفي آية الدعاء : ٧ : ٥٥ (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) فذكر التضرع فيهما معا. وهو التذلل والتمسكن والانكسار ، وهو روح الذكر والدعاء. وخص الدعاء بالخفية لما ذكرنا من الحكم وغيرها. وخص الذكر بالخيفة لحاجة الذاكر إلى الخوف ، فإن الذكر يستلزم المحبة ويثمرها ولا بد. فمن أكثر من ذكر الله أثمر له ذلك محبته والمحبة ما لم تقرن بالخوف ، فإنها لا تنفع صاحبها بل قد تضره. لأنها توجب الإدلال والإنبساط ، وربما آلت بكثير من الجهال المغرورين إلى أنهم استغنوا بها عن الواجبات وقالوا : المقصود من العبادات إنما هو عبادة القلب وإقباله على الله ومحبته له وتألهه له. فإذا حصل المقصود فالاشتغال بالوسيلة باطل. ولقد حدثني رجل أنه أنكر على رجل من هؤلاء خلوة له ترك فيها حضور الجمعة فقال له الشيخ : أليس الفقهاء يقولون إذا خاف على شيء من ماله فإن الجمعة تسقط عنه؟ فقال له بلى. فقال له فقلب المريد أعز عليه من ضياع عشرة دراهم ، أو كما قال. وهو إذا خرج ضاع قلبه فحفظه لقلبه عذر مسقط للجمعة في حقه. فقال له : هذا غرور بل الواجب عليه الخروج إلى أمر الله وحفظ قلبه مع الله. فالشيخ المربي العارف يأمر المريد بأن يخرج إلى الأمر ويراعي حفظ قلبه ، أو كما قال.

فتأمل هذا الغرور العظيم كيف آل بهؤلاء إلى الانسلاخ عن الإسلام ، جملة فإن من سلك هذا المسلك انسلخ عن الإسلام العام كانسلاخ الحية من قشرها ، وهو يظن أنه من خاصة الخاصة. وسبب هذا عدم اقتران الخوف من

٢٥٩

الله بحبه وإرادته ولهذا قال بعض السلف من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري. ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ. ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن. وقد جمع تعالى هذه المقامات الثلاث بقوله : ١٧ : ٥٧ (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) فابتغاء الوسيلة هو محبته الداعية إلى التقرب إليه. ثم ذكر بعدها الرجاء والخوف. فهذه طريقة عباده وأوليائه.

وربما آل الأمر بمن عبده بالحب المجرد إلى استحلال المحرمات ، ويقول : المحب لا يضره ذنب وقد صنف بعضهم في ذلك مصنفا وذكر فيه أثرا مكذوبا «إذا أحب الله العبد لم تضره الذنوب» وهذا كذب قطعا مناف للإسلام. فالذنوب تضر بالذات لكل أحد كضرر السم للبدن. ولو قدر أن هذا الكلام صح عن بعض الشيوخ. وأما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمعاذ الله من ذلك ـ فله محمل ، وهو أنه إذا أحبه لم يدعه حبه إياه إلى أن يصر على ذنب. لأن الإصرار على الذنب مناف لكونه محبا لله ، وإذا لم يصر على الذنب بل بادر إلى التوبة النصوح منه ، فإنه يمحى أثره ولا يضره الذنب. وكلما أذنب وتاب وأناب إلى الله زال عنه أثر الذنب وضرره ، فهذا المعنى صحيح.

والمقصود أن تجريد الحب والذكر عن الخوف يوقع في هذه المعاطب ، فإذا اقترن بالخوف جمعه على الطريق ورده إليها كلما شرد ، فكأن الخوف سوط يضرب به مطيته لئلا تخرج عن الدرب والرجاء حاد يحدوها يطيب لها السير ، والحب قائدها وزمامها الذي يسوقها. فإذا لم يكن للمطية سوط ولا عصا تردها إذا حادت عن الطريق ، وتركت تركب تعاسيف خرجت عن الطريق وضلت عنها ، فما حفظت حدود الله ومحارمه.

وما وصل الواصلون إليه بمثل خوفه ورجائه ومحبته ، فمتى خلا القلب عن

٢٦٠