التفسير القيّم

ابن القيّم الجوزيّة

التفسير القيّم

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الشيخ إبراهيم محمّد رمضان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

هذا؟ قال : نعم ولدت سخلة عام أول ، فأكلها الذئب بهذا المكان ، ثم أتينا على قوم فيهم ظعينة على جمل لها وهو يرغو ، ويحنو عنقه إليها. فقال : أتدرون ما يقول هذا البعير؟ قلنا : لا. قال : فإنه يلعن راكبته ويزعم أنها رحلته على مخيط وهو في سنامه. قال : فانتهينا إليهم. فقلنا : يا هؤلاء ، إن صاحبنا هذا يزعم أن هذا البعير يلعن راكبته ، ويزعم أنها رحلته على مخيط ، وأنه في سنامه ، قال : فأناخوا البعير وحطوا عنه ، فإذا هو كما قال.

فهذه شاة قد حذرت سخلتها من الذئب مرة فحذرت. وقد حذر الله سبحانه ابن آدم من ذئبه مرة بعد مرة ، وهو يأبى إلا أن يستجيب له إذا دعاه ، ويبيت معه ويصبح ١٤ : ٢٣ (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ، فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ، ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ، إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ. إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

قول الله تعالى ذكره : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)) فأمرهم بالصبر ، وهو حال الصابر في نفسه.

والمصابرة : مقاومة الخصم في ميدان الصبر ، فإنها مفاعلة ، تستدعي وقوفها بين اثنين ، كالمشاتمة والمضاربة ـ فهي حال المؤمن في الصبر مع خصمه.

والمرابطة ، وهي الثبات واللزوم ، والإقامة على الصبر والمصابرة.

فقد يصبر العبد ولا يصابر ، وقد يصابر ولا يرابط. وقد يصبر ولا يصابر ، ويرابط من غير تعبد بالتقوى.

فأخبر سبحانه أن ملاك ذلك كله : التقوى ، وأن الفلاح موقوف عليها.

٢٢١

فقال (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

فالمرابطة كما أنها لزوم الثغر الذي يخاف هجوم العدو منه في الظاهر ، فهي لزوم ثغر القلب لئلا يدخل منه الهوى والشيطان ، فيزيله عن مملكته.

٢٢٢

سورة النساء

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣))

قال الشافعي : أن لا يكثر عيالكم. فدل على أن قلة العيال. أدنى.

قيل : قد قال الشافعي ذلك ، وخالف جمهور المفسرين من السلف والخلف ، وقالوا : معنى الآية : ذلك أدنى أن لا تجوروا ولا تميلوا. فإنه يقال : عال الرجل يعول عولا إذا مال وجار. ومنه : عول الفرائض. لأن سهامها زادت. ويقال : عال يعيل عيلة إذا احتاج. قال تعالى : ٩ : ٢٨ (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) وقال الشاعر :

وما يدري الفقير : متى غناه

وما يدري الغني : متى يعيل؟.

أي متى يحتاج ويفتقر. وأما كثرة العيال فليس من هذا ، ولا من هذا ، ولكنه من أفعل. يقال : أعال الرجل يعيل ، إذا كثر عياله. مثل ألبن وأتمر إذا صار ذا لبن وتمر. هذا قول أهل اللغة. قال الواحدي في بسيطه : ومعنى تعولوا تميلوا وتجوروا ، عن جميع أهل التفسير واللغة. وروى ذلك مرفوعا.

٢٢٣

روت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أن لا تعولوا» قال : لا تجوروا» وروى : «أن لا تميلوا» قال : وهذا قول ابن عباس والحسن وقتادة والربيع والسدي وابن مالك وعكرمة والفراء والزجاج وابن قتيبة وابن الأنباري.

قلت : ويدل على تعين هذا المعنى من الآية ، وإن كان ما ذكره الشافعي لغة حكاه الفراء عن الكسائي ـ قال : ومن الصحابة من يقول : عال يعول إذا كثر عياله. قال الكسائي : وهي لغة فصيحة سمعتها من العرب ، لكن يتعين الأول لوجوه.

أحدها : أنه المعروف في اللغة الذي لا يكاد يعرف سواه ، ولا يعرف : عال يعول ، إذا كثر عياله : إلا في حكاية الكسائي ، وسائر أهل اللغة على خلافه.

الثاني : أن هذا مروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو كان من الغرائب. فأنه يصلح للترجيح.

الثالث : أنه مروي عن عائشة وابن عباس ، ولم يعلم لهما مخالف من المفسرين وقد قال الحاكم أبو عبد الله : تفسير الصحابة عندنا في حكم المرفوع.

الرابع : أن الأدلة التي ذكرناها على استحباب تزوج الولود وإخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يكاثر بأمته الأمم يوم القيامة يرد هذا التفسير.

الخامس : أن سياق الآية إنما هو في نقلهم مما يخافون من الظلم والجور فيه إلى غيره. فإنه قال في أولها ٤ : ٣ (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) فدلهم سبحانه على ما يتخلصون به من ظلم اليتامى ، وهو نكاح ما طاب لهم من النساء البوالغ ، وأباح لهم منهن أربعا. ثم دلهم على ما يتخلصون به من الجور والظلم في عدم التسوية بينهن. فقال (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً

٢٢٤

أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ثم أخبر سبحانه أن الواحدة وملك اليمين أدنى إلى عدم الميل والجور. وهذا صريح في المقصود.

السادس : أنه لا يلتئم قوله (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) في الأربع فانكحوا واحدة أو تسروا بما شئتم بملك اليمين. فإن ذلك أقرب إلى أن تكثر عيالكم ، بل هذا أجنبي من الأول. فتأمله.

السابع : أنه من الممتنع أن يقال لهم : فإن خفتم أن لا تعدلوا بين الأربع فلكم أن تتسروا بمائة سرية وأكثر. فإنه أدنى أن لا تكثر عيالكم.

الثامن : أن قوله : (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) تعليل لكل واحد من الحكمين المتقدمين ، وهما نقلهم من نكاح اليتامى إلى نكاح النساء البوالغ ، ومن نكاح الأربع إلى نكاح الواحدة ، أو ملك اليمين. ولا يليق تعليل ذلك بقلة العيال.

التاسع : أنه سبحانه قال (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) ولم يقل : إن خفتم أن لا تفتقروا وتحتاجوا. ولو كان المراد قلة العيال لكان الأنسب أن يقول ذلك.

العاشر : أنه سبحانه إذا ذكر حكما منهيا عنه وعلل النهي بعلته ، أو أباح شيئا وعلق إباحته بعلة. فلا بد أن تكون العلة مضادة لضد الحكم المعلل. وقد علل سبحانه إباحة نكاح غير اليتامى والاقتصار على الواحدة أو ملك اليمين بأنه أقرب إلى عدم الجور. ومعلوم أن كثرة العيال لا تضاد عدم الحكم المعلل. فلا يحسن التعليل به ـ والله أعلم.

قول الله تعالى ذكره : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ، درجات منه

٢٢٥

ومغفرة ورحمة وكان الله غفوراً رحيماً).

نفى سبحانه التسوية بين المؤمنين القاعدين عن الجهاد وبين المجاهدين ، ثم أخبر سبحانه عن تفضيل المجاهدين على القاعدين درجة ، ثم أخبر أنه فضلهم عليهم درجات.

وقد أشكل فهم هذه الآية على طائفة من الناس ، من جهة أن القاعدين الذين فضّل عليهم المجاهدون بدرجات ، إن كانوا هم والقاعدون الذين فضّل عليهم أولو الضرر المجاهدون بدرجات : هم غير أولي الضرر. فيكون المجاهدون أفضل من القاعدين مطلقا. وعلى هذا فما وجه استثناء أولي الضرر من القاعدين ، وهم لا يستوون والمجاهدون أصلا؟ فيكون حكم المستثنى والمستثنى منه واحدا.

فهذا وجه الإشكال.

ونحن نذكر ما يزيل الإشكال بحمد الله. فنقول :

اختلف القراء في إعراب «غير» فقرىء رفعا ونصبا وهما في السبعة ، وقرئ بالجر في غير السبعة. وهي قراءة أبي حبوة.

فأما قراءة النصب فعلى الاستثناء ، لأن «غير» يعرب في الاستثناء إعراب الاسم الواقع بعد «إلا» وهو النصب. هذا هو الصحيح.

وقالت طائفة : إعرابها نصب على الحال ، أي لا يستوي القاعدون غير مضرورين ، أي لا يستوون في حال صحتهم هم والمجاهدون ، والاستثناء أصح ، فإن «غير» لا تكاد تقع حالا في كلامهم إلا مضافة إلى نكرة ، كقوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ) وقوله عزوجل (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ، غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «مرحبا بالوفد غير خزايا ولا ندامى».

فإن أضيفت إلى معرفة كانت تابعة لما قبلها. كقوله تعالى : (صِراطَ

٢٢٦

الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) ولو قلت : مرحبا بالوفد غير الخزايا ولا الندامى لجررت «غير» هذا هو المعروف من كلامهم.

والكلام في عدم تعريف «غير» بالإضافة ، وحسن وقوعها إذ ذاك حالا له مقام آخر.

وأما بالرفع : فعلى النعت للقاعدين. هذا هو الصحيح.

وقال أبو إسحاق وغيره : هو خبر مبتدأ محذوف تقديره : الذين هم غير أولي الضرر.

والذي حمله على هذا : ظنه أن «غير» لا يقبل التعريف بالإضافة. فلا تجزى صفة للمعرفة. وليس مع من ادعى ذلك حجة يعتمد عليها ، سوى أن «غير» توغلت في الإبهام. فلا تتعرف بما يضاف إليه.

وجواب هذا : أنها إذا دخلت بين متقابلين لم يكن فيها إبهام لتعيينها ما تضاف إليه.

وأما قراءة الجر : ففيها وجهان أيضا.

أحدهما ـ وهو الصحيح ـ أنه نعت للمؤمنين.

والثاني ـ وهو قول المبرد ـ أنه بدل منه. بناء على أنه نكرة. فلا ينعت به المعرفة.

وعلى الأقوال كلها : فهو مفهم معنى الاستثناء ، وأن نفي التسوية غير مسلط على ما أضيف إليه «غير».

وقوله (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) هو مبين لمعنى نفي المساواة.

قالوا : والمعنى : فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر درجة واحدة لامتيازهم عنهم بالجهاد بنفسهم ومالهم. ثم أخبر سبحانه أن

٢٢٧

الفريقين كليهما موعود بالحسنى ، فقال (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) أي المجاهد والقاعد المضرور لاشتراكهم في الإيمان.

قالوا : وفي هذا دليل على تفضيل الغني المنفق على الفقير. لأن الله أخبر أن المجاهد بماله ونفسه أفضل من القاعد ، وقدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس. وأما الفقير فنفى عنه الحرج بقوله ٩ : ٩٢ (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ).

فأين مقام من حكم له بالتفضيل إلى مقام من نفى عنه الحرج؟.

قالوا : فهذا حكم القاعد من أولي الضرر والمجاهد.

وأما القاعد من غير أولي الضرر : فقال تعالى : (دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٩٦))

وقوله «درجات» قيل : هو نصب على البدل من قوله «أجرا عظيما» وقيل : تأكيد له ، وإن كان بغير لفظه. لأنه هو هو في المعنى.

قال قتادة : كان يقال : الإسلام درجة ، والهجرة في الإسلام درجة ، والجهاد في الهجرة درجة ، والقتل في الجهاد درجة.

وقال ابن زيد : الدرجات التي فضل الله بها المجاهد على القاعد سبع. وهي التي ذكرها الله تعالى في براءة ، إذ يقول تعالى : ٩ : ١٢٠ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ ، وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ ، إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) فهذه خمس.

ثم قال ٩ : ١٢١ (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً ، وَلا كَبِيرَةً ، وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً ، إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) فهاتان اثنتان.

٢٢٨

وقيل : الدرجات سبعون درجة ما بين الدرجتين حضر الفرس الجواد المضمر سبعين سنة.

والصحيح : أن الدرجات هي المذكورة في حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري في صحيحه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «من آمن بالله ورسوله ، وأقام الصلاة ، وصام رمضان. فإن حقا على الله أن يدخله الجنة ، هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها. قالوا : يا رسول الله ، أفلا نخبر الناس بذلك؟ قال : إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله. كل درجتين كما بين السماء والأرض. فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس. فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن. ومنه تفجر أنهار الجنة» قالوا : وجعل سبحانه تعالى : التفضيل الأول بدرجة فقط ، وجعله هاهنا بدرجات ، ومغفرة ورحمة. وهذا يدل على أنه يفضل على غير أولي الضرر.

فهذا تقرير هذا القول وإيضاحه.

ولكن بقي أن يقال : إذا كان المجاهدون أفضل من القاعدين مطلقا لزم أن لا يستوي مجاهد وقاعد مطلقا ، فلا يبقى في تقييد القاعدين بكونهم من غير أولي الضرر فائدة. فإنه لا يستوي المجاهدون والقاعدون من أولي الضرر أيضا.

وأيضا فإن القاعدين المذكورين في الآية الذين وقع التفضيل عليهم هم غير أولي الضرر ، لا القاعدون الذين هم أولو الضرر. فإنهم لم يذكر حكمهم في الآية ، بل استثناهم ، وبين أن التفضيل على غيرهم. فاللام في القاعدين للعهد. والمعهود : هم غير أولي الضرر ، لا المضرورون.

وأيضا فالقاعد من المجاهدين لضرورة تمنعه من الجهاد له مثل أجر المجاهد ، كما ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل صحيحا مقيما» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن بالمدينة أقواما ما

٢٢٩

سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا وهم معكم. قالوا : وهم بالمدينة؟ قال : وهم بالمدينة ، حبسهم العذر».

وعلى هذا فالصواب أن يقال : الآية دلت على أن القاعدين من غير أولي الضرر عن الجهاد لا يستوون هم والمجاهدون ، وسكت عن حكمهم بطريق منطوقها ولا يدل مفهومها على مساواتهم للمجاهدين ، بل هذا النوع منقسم إلى معذورين من أهل الجهاد ، غلبه عذره ، وأقعده عنه ، ونيته جازمة لم يتخلف عنها مقدورها وإنما أقعده العجز.

فهذا الذي تقتضيه أدلة الشرع أن له مثل أجر المجاهد. وهذا القسم لا يتناوله الحكم بنفي التسوية.

وأما الأركاس فقال تعالى : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨)) قال الفراء «أركسهم» ردهم إلى الكفر ، وقال أبو عبيدة : يقال : أركست الشيء وركسته ـ لغتان ـ إذا رددته. والركس : قلب الشيء على رأسه ، أو ردّ أوله على آخره. والارتكاس الارتداد. قال أمية :

فأركسوا في حميم النار ، إنهم

كانوا عصاة ، وقالوا الإفك والزورا

ومن هذا يقال للروث : الركس ، لأنه رد إلى حال النجاسة. ولهذا المعنى سمي رجيعا والركس والنكس ، والمركوس والمنكوس : بمعنى واحد. قال الزجاج : أركسهم نكسهم وردهم. والمعنى : أنه ردهم إلى حكم الكفار من الذل والصغار. وأخبر سبحانه عن حكمه وقضائه فيهم وعدله ، وإن إركاسه لهم كان بسبب كسبهم وأعمالهم ، كما قال ٨٣ : ١٤ (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) فهذا توحيده ، وهذا عدله لا ما يقوله القدرية والمعطلة من أن التوحيد : إنكار الصفات والعدل والتكذيب بالقدر.

٢٣٠

قول الله تعالى : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ (١١٣)) وقال تعالى : ٢ : ٢٦٩ (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) وقال عن المسيح عليه‌السلام : ٣ : ٤٨ (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ).

الحكمة في كتاب الله نوعان : مفردة ، ومقترنة بالكتاب. فالمفردة فسرت بالنبوة ، وفسرت بعلم القرآن. قال ابن عباس : هي علم القرآن ناسخه ومنسوخة ، ومحكمة ومتشابهة ، ومقدمه ومؤخره ، وحلاله وحرامه ، وأمثاله ، وقال الضحاك : هي القرآن والفهم فيه. وقال مجاهد : هي القرآن ، والعلم والفقه ، وفي رواية أخرى عنه : هي الإصابة في القول والفعل. وقال النخعي : هي معاني الأشياء وفهمها. وقال الحسن : الورع في دين الله ، كأنه فسرها بثمرتها ومقتضاها.

وأما الحكمة المقرونة بالكتاب فهي السنة. كذلك قال الشافعي وغيره من الأئمة. وقيل : هي القضاء بالوحي ، وتفسيرها بالسنة أعم وأشهر.

وأحسن ما قيل في الحكمة قول مجاهد ومالك : أنها معرفة الحق والعمل به ، والإصابة في القول والعمل. وهذا لا يكون إلا بفهم القرآن والفقه في شرائع الإسلام ، وحقائق الإيمان.

٢٣١
٢٣٢

سورة المائدة

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ (٢))

كل منهما إذا أفرد تضمن الآخر. فكل إثم عدوان ، إذ هو فعل ما نهى الله عنه ، أو ترك ما أمر الله به. فهو عدوان على أمره ونهيه. وكل عدوان إثم. فإنه يأثم به صاحبه ، ولكن عند اقترانهما فهما شيئان ، بحسب متعلقهما.

فالإثم ما كان محرم الجنس ، كالكذب والزنا ، وشرب الخمر ، وغير ذلك.

والعدوان : ما كان محرم القدر والزيادة. فالعدوان تعدي ما أبيح منه إلى القدر المحرم ، كالاعتداء في أخذ الحق ممن هو عليه. إما بأن يتعدى على ماله ، أو بدنه ، أو عرضه. فإذا غصبه خشبة لم يرض عوضها إلا داره. وإذا أتلف عليه شيئا أتلف عليه أضعافه. وإذا قال فيه كلمة فيه أضعافها. فهذا كله عدوان وتعد للعدل.

٢٣٣

قول الله تعالى ذكره : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (٣))

تأمل كيف وصف الدين الذي اختاره لهم بالكمال ، والنعمة التي أسبغها عليهم بالتمام إيذانا في الدين بأنه لا نقص فيه ولا عيب ولا خلل ، ولا شيء خارجا عن الحكمة بوجه ، بل هو الكامل في حسنه وجلالته ووصف النعمة بالتمام إيذانا بدوامها واتصالها ، وأنه لا يسلبهم إياها بعد إذ أعطاهموها بل يتمها لهم بالدوام في هذا الدار وفي دار القرار.

وتأمل حسن اقتران التمام بالنعمة وحسن اقتران الكمال بالدين ، وإضافة الدين إليهم ، إذ هم القائمون به المقيمون له. وأضاف النعمة إليه إذ هو وليها ومسديها والمنعم بها عليهم ، فهي نعمة حقا ، وهم قابلوها.

وأتى في الكمال باللام المؤذنة بالاختصاص ، وأنه شيء خصوا به دون الأمم.

وفي إتمام النعمة بعلى المؤذنة بالاستعلاء والاشتمال والإحاطة فجاء «أتممت» في مقابلة (أَكْمَلْتُ) و «عليكم» في مقابلة (لَكُمْ) و «نعمتي» في مقابلة (دِينِكُمْ) وأكد ذلك وزاده تقريرا وكمالا وإتماما للنعمة بقوله ٥ : ٣ (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً).

وأما عدم مشيئته سبحانه وإرادته ، فكما قال تعالى : ٥ : ٤١ (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) وقال (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) وعدم مشيئته للشيء مستلزم لعدم وجوده ، كما أن مشيئته تستلزم وجوده. فما شاء الله وجب وجوده ، وما لم يشأ امتنع وجوده وقد أخبر سبحانه أن العباد لا يشاءون إلا بعد مشيئته ، ولا يفعلون شيئا إلا بعد مشيئته فقال (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) وقال (وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ).

فإن قيل : فهل يكون الفعل مقدورا للعبد في حال عدم مشيئة الله له أن يفعله؟.

٢٣٤

قيل : إن أريد بكونه مقدورا : سلامة آلة العبد التي يتمكن بها من الفعل ، وصحة أعضائه ، ووجود قواه ، وتمكينه من أسباب الفعل ، وتهيئة طريق فعله وفتح الطريق له. فنعم ، هو مقدور بهذا الاعتبار. وإن أريد بكونه مقدورا : القدرة المقارنة للفعل ، وهي الموجبة له التي إذا وجدت لم يتخلف عنها الفعل. فليس بمقدور بهذا الاعتبار.

وتقرير ذلك : أن القدرة نوعان : قدرة مصححة ، وهي قدرة الأسباب والشروط وسلامة الآلة ، وهي مناط التكليف. وهذه متقدمة على الفعل غير موجبة له. وقدرة مقارنة للفعل ، مستلزمة له ، لا يتخلف الفعل عنها. وهذه ليست شرطا في التكليف. فلا يتوقف صحته وحسنه عليها. فإيمان من لم يشأ الله إيمانه ، وطاعة من لم يشأ طاعته : مقدور بالاعتبار الأول ، غير مقدور بالاعتبار الثاني.

وبهذا التحقيق تزول الشبهة في تكليف ما لا يطاق ، كما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.

فإذا قيل : هل خلق لمن علم أنه لا يؤمن قدرة على الإيمان أم لم يخلق له قدرة؟.

قيل : خلق له قدرة مصححة متقدمة على الفعل ، هي مناط الأمر والنهي. ولم يخلق له قدرة موجبة للفعل مستلزمة له ، لا يتخلف عنها. فهذه فضله يؤتيه من يشاء ، وتلك عدله التي تقوم بها حجته على عبده.

فإن قيل : فهل يمكنه الفعل ولم يخلق له هذه القدرة؟.

قيل : هذا هو السؤال السابق بعينه. وقد عرفت جوابه. وبالله التوفيق.

قول الله تعالى : ٥ : ٣ (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً).

٢٣٥

النعمة نعمتان : نعمة مطلقة ونعمة مقيدة. فالنعمة المطلقة : هي المتصلة بسعادة الأبد ، وهي نعمة الإسلام والسنة ، وهي التي أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نسأله في صلواتنا أن يهدينا صراط أهلها ، ومن خصهم بها ، وجعلهم أهل الرفيق الأعلى ، حيث يقول تعالى : ٤ : ٦٩ (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ ، وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) فهؤلاء الأصناف الأربعة هم أهل هذه النعمة المطلقة ، وأصحابها أيضا هم المعنيون بقول الله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) فأضاف الدين إليهم ، إذ هم المختصون بهذا الدين القيم دون سائر الأمم.

والدين تارة يضاف إلى العبد ، وتارة يضاف إلى الرب ، فيقال : الإسلام دين الله الذي لا يقبل من أحد سواه ولهذا يقال في الدعاء : اللهم انصر دينك الذي أنزلت من السماء.

ونسب الكمال إلى الدين والتمام إلى النعمة ، مع إضافتها إليه لأنه هو وليها ومسديها إليهم. وهم محل محض النعمة قابلين لها. ولهذا يقال في الدعاء المأثور للمسلمين «واجعلهم مثنين بها عليك ، قابليها ، وأتممها عليهم» وأما الدين فلما كانوا هم القائمين به ، الفاعلين له بتوفيق ربهم نسبه إليهم ، فقال (أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وكان الإكمال في جانب الدين والإتمام في جانب النعمة.

واللفظتان ـ وإن تقاربتا وتواخيتا ـ فبينهما فرق لطيف يظهر عند التأمل. فإن الكمال أخص بالصفات والمعاني ، ويطلق على الأعيان والذوات ، ولكن باعتبار صفاتها وخواصها ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران ، وآسية بنت مزاحم ، وخديجة بنت خويلد» وقال عمر بن عبد العزيز «إن للإيمان حدودا وفرائض ، وسننا وشرائع ، فمن استكملها فقد استكمل الإيمان».

٢٣٦

وأما الإتمام فيكون في الإيمان والمعاني ، ونعم الله أعيان وأوصاف ومعان.

وأما دينه فهو شرعه المتضمن لأمره ونهيه ومحابه. فكانت نسبة الكمال إلى الدين والتمام إلى النعمة أحسن ، كما كانت إضافة الدين إليهم والنعمة إليه أحسن. والمقصود : أن هذه النعمة هي النعمة المطلقة ، وهي التي اختصت بالمؤمنين. وإذا قيل : ليس لله على الكافر نعمة بهذا الاعتبار فهو صحيح ، والنعمة الثانية : النعمة المقيدة كنعمة الصحة والغنى وعافية الجسد وبسطة الجاه ، وكثرة الولد والزوجة الحسنة ، وأمثال هذه. فهذه النعمة مشتركة بين البر والفاجر ، والمؤمن والكافر وإذا قيل : لله على الكافر نعمة بهذا الاعتبار ، فهو حق.

فلا يصح إطلاق السلب والإيجاب إلا على وجه واحد ، وهو أن النعمة المقيدة لما كانت استدراجا للكافر ، ومآلها إلى العذاب والشقاء ، فكأنها لم تكن نعمة ، وإنما كانت بلية ، كما سماها الله تعالى في كتابه كذلك. فقال تعالى : ٨٩ : ١٥ ، ١٦ (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ، فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ ، فَيَقُولُ : رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ، فَيَقُولُ : رَبِّي أَهانَنِ. كَلَّا) أي ليس كل من أكرمته في الدنيا ونعمته فيها فقد أنعمت عليه ، وإنما كان ذلك ابتلاء مني له واختبار ، ولا كل من قدرت عليه رزقه فجعلته بقدر حاجته بقدر فضلة أكون قد أهنته ، بل أبتلي عبدي بالنعم كما أبتليه بالمصائب.

فإن قيل : كيف يلتئم هذا المعنى ويتفق مع قوله «فأكرمه» فأثبت له الإكرام ، ثم أنكر عليه قوله «ربي أكرمن» وقال «كلا» أي ليس ذلك إكراما مني هو ابتلاء ، فكأنه أثبت له الإكرام ونفاه.

وقيل : الإكرام المثبت غير الإكرام المنفي ، وهما من جنس النعمة

٢٣٧

المطلقة والمقيدة ، فليس هذا الإكرام المقيد بموجب لصاحبه أن يكون من أهل الإكرام المطلق.

وكذلك أيضا إذا قيل : إن الله أنعم على الكافر نعمة مطلقة ، ولكنه رد نعمة الله وبدّلها. فهو بمنزلة من أعطى مالا ليعيش به فرماه في البحر ، كما قال ١٤ : ٢٨ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) وقال تعالى : ٤١ : ١٧ (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) فهدايته إياهم نعمة منه عليهم ، فبدلوا نعمة الله ، وآثروا عليها الضلال.

فهذا فصل النزاع في مسألة : هل لله على الكافر نعمة أم لا؟.

وأكثر اختلاف الناس من جهتين.

إحداهما : اشتراك الألفاظ وإجمالها والثانية من جهة الإطلاق والتفصيل.

٢٣٨

سورة الأنعام

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره : (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩))

إن المشركين قالوا تعنتا في كفرهم ٦ : ٨ (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) يعنون ملكا نشاهده ونراه ، يشهد له ويصدقه وإلا فالملك كان ينزل عليه بالوحي من الله. فأجاب الله تعالى عن هذا ، وبين الحكمة في عدم إنزال الملك على الوجه الذي اقترحوه : بأنه لو أنزل ملكا كما اقترحوا ولم يؤمنوا به ويصدقوه ، لعوجلوا بالعذاب كما استمرت به سنته تعالى مع الكفار في آيات الاقتراح ، وإذا جاءتهم ولم يؤمنوا بها. فقال ٦ : ٨ (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) ثم بين سبحانه أنه لو أنزل ملكا كما اقترحوا لما حصل به مقصودهم ، لأنه إن أنزله في صورته لم يقدروا على التلقي عنه ، إذ البشر لا يقدر على مخاطبة الملك ومباشرته. وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو أقوى الخلق ـ إذا نزل عليه الملك كرب لذلك وأخذه البرحاء (١) ، وتحدّر منه العرق في اليوم الشاتي. وإن جعله في صورة رجل حصل لهم لبس : هل هو رجل أم ملك فقال تعالى : ٦ : ٩ (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا

__________________

(١) برحاء الحمر وغيرها بالضم والمد شدة الأذى.

٢٣٩

عَلَيْهِمْ) في هذه الحال (ما يَلْبِسُونَ) على أنفسهم حينئذ فإنهم يقولون : إذا رأوا الملك في صورة الإنسان لقالوا : هذا إنسان وليس بملك. هذا معنى الآية.

٦ : ٢٧ ـ ٢٨ (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ، وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ).

وقد حام أكثر المفسرين حول معنى هذه الآية ، وما أوردوا ما يشفي. فراجع أقوالهم تجدها لا تشفي عليلا ، ولا تروي غليلا.

الآية معناها أجل وأعظم مما فسر وهابه. ولم يتفطنوا لوجه الإضراب ب «بل» ولا للأمر الذي بدا لهم ، وكانوا يخفونه وظنوا أن الذي بدا لهم هو العذاب. فلما لم يروا ذلك ملتئما مع قوله (ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) قدروا مضافا محذوفا ، وهو خبر ما كانوا يحقون من قبل ، فدخل عليهم أمر آخر ، لا جواب لهم عنه. وهو : أن القوم لم يكونوا يخفون شركهم وكفرهم ، بل كانوا يظهرونه ، ويدعون إليه ، ويحاربون عليه. ولما علموا أن هذا ورد عليهم ، قالوا : إن القوم في بعض موارد القيامة ومواطنها أخفوا شركهم وجحدوه ، وقالوا : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) فلما وقفوا على النار بدا لهم جزاء ذلك الذي أخفوه.

قال الواحدي : وعلى هذا أهل التفسير.

ولم يصنع أرباب هذا القول شيئا. فإن السياق والإضراب ب «بل» والإخبار عنهم بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ، وقولهم «والله ربنا ما كنا مشركين» لا يلتئم بهذا الذي ذكروه. فتأمله.

وقالت طائفة ، منهم الزجاج : بل لاتباع ما أخفاه عنهم الرؤساء ، من أمر البعث. وهذا التفسير يحتاج إلى تفسير ، وفيه من التكليف ما ليس بخاف.

٢٤٠