التفسير القيّم

ابن القيّم الجوزيّة

التفسير القيّم

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الشيخ إبراهيم محمّد رمضان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

أعناقهم رفعت الأغلال أذقانهم ورؤوسهم صعدا كالإبل الرافعة رؤوسها انتهى.

فإن قيل : فما وجه التشبيه بين هذا وبين حبس القلب عن الهدى والايمان.

قيل : أحسن وجه وأبينه. فإن الغل إذا كان في العنق واليد. مجموعة إليها منع اليد عن التصرف والبطش. فإذا كان عريضا قد ملأ العنق ووصل إلى الذقن منع الرأس من تصويبه. وجعل صاحبه شاخص الرأس منتصبه ، لا تستطيع له حركة ، ثم أكد هذا المعنى والحبس قوله : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩)) قال ابن عباس : منعهم عن الهدى لما سبق في علمه والسد الذي جعل من بين أيديهم ومن خلفهم هو الذي سد عليهم طريق الهدى. فأخبر سبحانه عن الموانع التي منعهم بها من الايمان ، عقوبة لهم ، ومثلها بأحسن تمثيل وأبلغه وذلك حال يوم قد وضعت الأغلال العريضة الواصلة إلى الأذقان في أعناقهم ، وضمت أيديهم إليها وجعلوا بين السدين ، لا يستطيعون النفوذ من بينها ، وأغشيت أبصارهم فهم لا يرون شيئا.

وإذا تأملت حال الكافر الذي عرف الحق وتبين له ثم جحده وكفر به وعاداه أعظم معاداة وجدت هذا المثل مطابقة له أتم مطابقة ، وأنه قد حيل بينه وبين الإيمان كما بين هذا وبين التصرف. والله المستعان.

٤٤١
٤٤٢

سورة الصافات

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

قال تعالى عن نوح : ٣٧ : ٧٨ ـ ٨٠ (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).

وقال عن إبراهيم خليله : ٣٧ : ١٠٨ ، ١٠٩ (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ).

وقال في موسي وهارون : ٣٧ : ١١٩ ، ١٢٠ (وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ).

وقال : ٣٧ : ١٣٠ (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ).

فالذي تركه سبحانه على رسله في الآخرين : هو السلام عليهم المذكور.

وقد قال جماعة من المفسرين ، منهم : مجتهد وغيره (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) الثناء الحسن ، ولسان الصدق للأنبياء كلهم. وهذا قول قتادة أيضا. ولا ينبغي أن يحكى هذا قولان للمفسرين ، كما يفعله من ليس عناية

٤٤٣

بحكاية الأقوال ، بل هما قول واحد. فمن قال : إن المتروك هو السلام عليهم في الأخرى نفسه ، فلا ريب أن قوله (سَلامٌ عَلى نُوحٍ) جملة في موضع نصب بتركنا. والمعنى : أن العالمين يسلمون على نوح ومن بعده من الأنبياء.

ومن فسره بلسان الصدق والثناء الحسن. نظر إلى لازم السلام وموجبه ، وهو الثناء عليهم ، وما جعل لهم من لسان الصدق الذي لأجله إذا ذكروا سلم عليهم.

وقد زعمت طائفة ، منهم : ابن عطية وغيره. أن من قال : تركنا عليه ثناء لها حسنا ولسان صدق. كان : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) جملة ابتدائية ، لا محل من الإعراب. وهو سلام من الله سلم به عليه.

قالوا : فهذا السلام من الله أمنة لنوح في العالمين أن يذكره أحد بشر : قاله الطبراني.

وقد يقوي هذا القول : أنه سبحانه أخبر أن المتروك عليه هو في الأخرى وأن المسلم عليه في العالمين ، وبأن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أبقى الله عليه ثناء حسنا. وهذا القول ضعيف لوجوه.

أحدها : أنه يلزم منه حذف المفعول لتركنا ، ولا يبقى في الكلام فائدة على هذا التقدير ، فإن المعنى يؤول إلى : أنا تركنا عليه في الآخرين أمرا لا ذكر له في اللفظ. لأن السلام عند هذا القائل منقطع بما قبله ، لا تعلق له بالفعل.

الثاني : أنه لو كان المفعول محذوفا كما ذكره لذكروه في موضع واحد ، ليدل على المراد منه عند حذفه. ولم يطرد حذفه في جميع من أخبر أنه ترك عليه في الآخرين الثناء الحسن. وهذه طريقة القرآن ، بل وكل كلام فصيح : أن يذكر الشيء في موضع ثم يحذفه في موضع آخر ، لدلالة فصيح : أن يذكر الشيء في موضع ثم يحذفه في موضع آخر ، لدلالة

٤٤٤

المذكور على المحذوف. وأكثر ما تجده مذكورا وحذفه قليل. وإما أن يحذف حذفا مطردا ولم يذكره في موضع واحد ، ولا في اللفظ ما يدل عليه. فهذا لا يقع في القرآن.

الثالث : أن في قراءة ابن مسعود ، وتركنا عليه في الآخرين. سلاما فالنصب وهذا يدل على أن المتروك هو السلام نفسه.

الرابع : أنه لو كان السلام منقطعا مما قبله لأخل ذلك بفصاحة الكلام وجزالته ، ولما حسن الوقوف على ما قبله.

وتأمل هذا بحال السامع إذا سمع قوله : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) كيف يجد قلبه متشوفا متطلعا إلى تمام الكلام واجتناء الفائدة منه ، ولا يجد فائدة الكلام انتهت وتمت ، ليظهر عندها ، بل يبقى طالبا لتمامها وهو المتروك. فالوقف على «الآخرين» ليس بوقف تام.

فإن قيل : فيجوز حذف المحذوف من هذا الباب ، لأن «ترك» هنا في معنى «أعطى» لأنه أعطاه ثناء حسنا أبقاه عليه في الأخرى ويجوز في باب «أعطى» ذكر المفعولين وحذفهما والاقتصار على أحدهما : وقد وقع ذلك في القرآن. كقوله : ١٠٨ : ١ (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) فذكرهما. وقال : ٩٢ : ٥ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) فحذفهما. وقال لسوف : ٩٨ : ٥ (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ) فحذف الثاني ، واقتصر على الأول. وقال : (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) فحذف الأول. واقتصر على الثاني.

قيل : فعل الإعطاء فعل مدح ، لفظه دليل على أن المفعول المعطي قد ناله عطاء المعطى والإعطاء إحسان ونفع وبر ، فجاز ذكر المفعولين وحذفهما والاقتصار على أحدهما بحسب الغرض المطلوب من الفعل.

فإن كان المقصود إيجاد ماهية الإعطاء المخرجة للعبد من البخل والشح والمنع ، المنافي للإحسان ذكر الفعل مجردا. كما قال تعالى : (فَأَمَّا مَنْ

٤٤٥

أَعْطى وَاتَّقى) ولم يذكر ما أعطى ، ولا من أعطى. وتقول فلان يعطي ويتصدق ويهب ويحسن ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطى لما منعت» لما كان المقصود بهذا تفرّد الرب سبحانه بالإعطاء والمنع لم يكن لذكر المعطى ولا لحظ المعطى معنى ، بل المقصود : أن حقيقة الإعطاء والمنع إليك لا إلى غيرك ، بل أنت المتفرد بها ، لا يشركك فيها أحد ، فذكر المفعولين هنا يخلّ بتمام المعنى وبلاغته.

وإذا كان المقصود ذكرهما ذكرا معا كقوله تعالى : ١٠٨ : ١ (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) فإن المقصود إخباره لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما خصه به وأعطاه إياه من الكوثر. ولا يتم هذا إلا بذكر المفعولين. وكذا قوله تعالى : ٧٦ : ٨ (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً).

وإذا كان المقصود أحدهما فقط اقتصر عليه. كقوله تعالى : (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) المقصود به : أنهم يفعلون هذا الواجب عليهم ، ولا يهملونه. فذكره لأنه هو المقصود.

وقوله ان أهل النار : ٧٤ : ٤٣ ، ٤٤ (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) لما كان المقصود الإخبار عن المستحق للاطعام أنهم بخلوا عنه. ومنعوه حقه من الإطعام ، وقست قلوبهم عنه كان ذكره هو المقصود ، دون ذكر المطعوم.

وتدبر هذه الطريقة في القرآن ، وذكره للأهم المقصود ، وحذفه لغيره ، يطلعك على باب من أبواب إعجازه وكمال فصاحته.

وأما فعل الترك : فلا يشعر بشيء من هذا ، ولا يمدح به. فلو قلت : فلان يترك لم يكن مفيدا فائدة أصلا ، بخلاف قولك : يطعم ، ويعطي ، ويهب ، ونحوه ، بل لا بد أن تذكر ما يترك. ولهذا لا يقال : فلان يأكل ، ويقال : مطعم ومطعم. ومن أسمائه سبحانه المعطى.

فقياس «ترك» على «أعطى» من أفسد القياس.

٤٤٦

و (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) جملة محكية. قال الزمخشري : وتركنا عليه في الآخرين من الأمم. هذه الكلمة ـ وهي (سَلامٌ عَلى نُوحٍ) ـ يعني يسلمون عليه تسليما. ويدعون له ، وهو من الكلام المحكي ، كقولك : قرأت : سورة أنزلناها.

الخامس : أنه قال : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) فأخبر سبحانه أن هذا السلام عليه في العالمين ، ومعلوم أن هذا السلام فيهم هو سلام العالمين عليه ، كلهم يسلم عليه ، ويثني عليه ، ويدعو له. فذكره بالسلام عليه فيهم.

وأما سلام الله سبحانه عليه. فليس مقيدا بهم ، ولهذا لا يشرع أن يسأل الله تعالى مثل ذلك : فلا يقال : السلام على رسول الله في العالمين ، ولا : اللهم سلم على رسولك في العالمين ، ولو كان هذا هو سلام الله لشرع أن يطلب من الله على الوجه الذي سلم به.

وأما قولهم : إن الله سلم عليه في العالمين. وترك عليه في الآخرين. فالله سبحانه وتعالى أبقى على أنبيائه ورسله سلاما وثناء حسنا فيمن تأخر بعدهم ، جزاء على صبرهم وتبليغهم رسالات ربهم ، واحتمالهم للأذى من أممهم في الله. وأخبر أن هذا المتروك على نوح هو عام في العالمين ، وأن هذه التحية ثابتة فيهم جميعا ، لا يخلون منها. فأدامها عليه في الملائكة والثقلين طبقا بعد طبق ، وعالما بعد عالم مجازاة لنوح عليه‌السلام بصبره ، وقيامه بحق ربه ، وبأنه أول رسول أرسله إلى أهل الأرض. وكل المرسلين بعده بعثوا بدينه ، كما قال تعالى : ٤٢ : ١٣ (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) الآية.

وقولهم : إن هذا قول ابن عباس ، فقد تقدم. أن ابن عباس وغيره : إنما أرادوا بذلك أن السلام عليهم من الثناء الحسن ولسان الصدق. فذكروا بمعنى السلام عليه وفائدته. والله سبحانه أعلم.

٤٤٧

قول الله تعالى ذكره :

(سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠)) فهذه الآية فيها قراءتان.

إحداهما : إلياسين بوزن إسماعيل. وفيه وجهان.

أحدهما : أنه اسم ثان للنبي إلياس والياسين. كميكال وميكائيل.

والوجه الثاني : أنه جمع وفيه وجهان.

أحدهما : أنه جمع إلياس. وأصله إلياسين. بياءين. كعبرانيين. خففت إحدى الياءين. فقيل : إلياسين. والمراد : أتباعه ، كما حكي سيبويه : الأشعرون مثله الأعجمون.

والثاني : أنه جمع إلياس محذوف الياء.

والقراءة الثانية (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) وفيه أوجه.

أحدها : أن «ياسين» اسم لأبيه ، فأضيف إليه الآل ، كما يقال : آل إبراهيم.

والثاني : أن «آل ياسين» هو إلياس نفسه. فيكون «آل» مضافة إلى «ياسين» والمراد بالآل : ياسين نفسه : كما ذكر الأولون.

والثالث : أنه على حذف ياء النسب ، فيقال : ياسين وأصله : ياسيين ، كما تقدم. وآلهم أتباعهم على دينهم.

والرابع : أن «ياسين» هو القرآن ، وآله هم أهل القرآن.

والخامس : أنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وآله أقاربه وأتباعه. كما سيأتي وهذه الأقوال كلها ضعيفة.

والذي حمل قائليها عليها : استشكالهم إضافة آل إلى «ياسين» واسمه «الياس» و «الياسين» ورووها في المصحف مفصولة. وقد قرأها بعض القراء «آلياسين» فقال طائفة منهم : له أسماء ياسين ، والياسين. وإلياس.

٤٤٨

وقالت طائفة : ياسين : اسم لغيره.

ثم اختلفوا : فقال الكلبي «ياسين» محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقالت طائفة : هو القرآن. وهذا كله تعسف ظاهر لا حاجة إليه.

والصواب ـ والله أعلم ـ في ذلك أن أصل الكلمة «آل ياسين» كآل إبراهيم ، فحذفت الألف واللام من أوله لاجتماع الأمثال ، ودلالة الاسم على موضع المحذوف. وهذا كثير في كلامهم ، إذا اجتمعت الأمثال كرهوا النطق بها كلها ، فحذفوا منها ما لا لبس في حذفه ، وإن كانوا لا يحذفونه في موضع لا تجتمع فيه الأمثال. ولهذا يحذفون النون من إني وأني وكأني ولكني. ولا يحذفونها من ليتني. ولما كانت اللام في «لعل» شبيهة بالنون حذفوا النون معها ، ولا سيما عادة العرب في استعمالها للاسم الأعجمي وتغييرها له ، فيقولون مرة : إلياسين. ومرة : إلياس. ومرة : ياسين ، وربما قالوا : يأس.

ويكون على إحدى القراءتين : قد وقع السلام عليه ، وعلى القراءة الأخرى : على آله.

٤٤٩
٤٥٠

سورة ص

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠))

تأمل قوله ، كيف تجد تحته معنى بديعا؟ وهو أنهم إذا دخلوا الجنة لم تغلق أبوابها عليهم ، بل تبقى مفتحة كما هي. وأما النار فإذا دخلها أهلها أغلقت عليهم أبوابها. كما قال تعالى : ١٠٤ : ٨ (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) أي مطبقة مغلقة. ومنه سمي الباب وصيدا. وهي مؤصدة في عمد ممددة قد جعلت العمد ممسكة للأبواب من خلفها. كالحجر العظيم الذي يجعل خلف الباب.

قال مقاتل : يعني أبوابها عليهم مطبقة. فلا يفتح لها باب ، ولا يخرج منها غم. ولا يدخل فيها روح آخر الأبد.

وأيضا فإن في تفتيح الأبواب لهم إشارة إلى تصرفهم وذهابهم وإيابهم وتبوئهم في الجنة حيث شاؤوا ، ودخول الملائكة عليهم كل وقت بالتحف

٤٥١

والألطاف من ربهم ، ودخول ما يسرهم عليهم كل وقت.

وأيضا فيه إشارة إلى أنها دار أمن ، لا يحتاجون فيها إلى غلق الأبواب ، كما كانوا يحتاجون إلى ذلك في الدنيا.

وقد اختلف أهل العربية في الضمير العائد من الصفة على الموصوف في هذه الجملة. فقال الكوفيون : التقدير مفتحة لهم أبوابها. والعرب تعاقب بين الألف واللام والاضافة ، فيقولون : مررت برجل حسن العين ، أي عينه. ومنه قوله تعالى : (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) أي مأواه. وقال بعض البصريين : التقدير مفتحة لهم الأبواب منها. فحذف الضمير وما اتصل به. قال : وهذا التقدير في العربية أجود من أن يجعل الألف واللام بدلا من الهاء والألف. لأن معنى الألف واللام ليس من معنى الهاء والألف في شيء. لأن الهاء والألف اسم ، والألف واللام دخلتا للتعريف. فلا يبدل حرف من اسم ، ولا ينوب عنه.

قالوا : وأيضا لو كانت الألف واللام بدلا من الضمير لوجب أن يكون في «مفتحة» ضمير الجنات ، ويكون المعنى : مفتحة هي ، ثم أبدل منها الأبواب ولو كان كذلك لوجب نصب الأبواب ، لكون «مفتحة» قد رفع ضمير الفاعل فلا يجوز أن يرفع به اسم آخر ، لامتناع ارتفاع فاعلين بفعل واحد. فلما ارتفع «الأبواب» دل على أن «مفتحة» حال من ضمير ، و «الأبواب» مرتفعة يه. وإذا كان في الصفة ضمير تعين نصب الثاني ، كما تقول : مررت برجل حسن الوجه. ولو رفعت الوجه ونونت «حسنا» لم يجز. فالألف واللام إذا للتعريف ليس إلا ، فلا بد من ضمير يعود على الموصوف الذي هو «جنات عدن» ولا ضمير في اللفظ. فهو محذوف ، تقديره : الأبواب منها.

وعندي أن هذا غير مبطل لقول الكوفيين. فإنهم لم يريدوا بالبدل إلا أن الألف واللام خلف وعوض عن الضمير تغني عنه. وإجماع العرب على قولهم : حسن الوجه ، وحسن وجهه : شاهد بذلك. وقد قالوا : إن التنوين

٤٥٢

بدل من الألف واللام ، بمعنى أنهما لا يجتمعان ، وكذلك المضاف إليه يكون بدلا من التنوين والتنوين بدلا من الاضافة بمعنى التعاقب والتوارد. ولا يريدون بقولهم : هذا بدل من هذا : أن معنى البدل معنى المبدل منه ، بل قد يكون في كل منهما معنى لا يكون في الآخر.

فالكوفيون أرادوا أن الألف واللام في «الأبواب» أغنت عن الضمير أو قيل : أبوابها ، وهذا صحيح. فإن المقصود الربط بين الصفة والموصوف بأمر يجعلها له ، لا مستقلة. فلما كان الضمير عائدا على الموصوف نفي توهم الاستقلال وكذلك لام التعريف فإن كلا من الضمير واللام يعين صاحبه ، هذا يعين مفسره وهذا يعين ما دخل عليه. وقد قالوا في زيد نعم الرجل : أن الألف واللام أغنت عن الضمير. والله أعلم.

وقد أعرب الزمخشري هذه الآية إعرابا اعترض عليه فيه. فقال «جنات عدن» معرفة لقوله : ١٩ : ٦١ (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) وانتصابها على أنها عطف بيان (لَحُسْنَ مَآبٍ) و «مفتحة» حال ، والعامل فيها ما في «المتقين» من معنى الفعل. وفي «مفتحة» ضمير الجنات ، والأبواب بدل من الضمير ، تقديره : مفتحة هي الأبواب ، كقولهم : ضرب زيد اليد والرجل. وهو من بدل الاشتمال. هذا إعرابه.

فاعترض عليه بأن «جنات عدن» ليس فيها ما يقتضي تعريفها. وأما قوله «التي وعد الرحمن عباده» فبدل لا صفة. وبأن جنات عدن لا يسهل أن يكون عطف بيان لحسن مآب ، على قوله. لأن جريان المعرفة على النكرة عطف بيان لا قائل به. فإن القائل قائلان. أحدهما : أنه لا يكون إلا في المعارف ، كقول البصريين. والثاني : أنه يكون في المعارف والنكرات ، بشرط المطابقة ، كقول الكوفيين وأبي علي الفارسي.

وقوله : إن في «مفتحة» ضمير الجنات. فالظاهر خلافه. فإن الأبواب ترتفع به ولا ضمير فيه.

٤٥٣

وقوله : إن «الأبواب» بدل اشتمال. فبدل الاشتمال قد صرح هو وغيره : أنه لا بد فيه من الضمير. وإن نازعهم فيه آخرون ، ولكن يجوز أن يكون الضمير ملفوظا به. وأن يكون مقدرا. وهاهنا لم يلفظ به. فلا بد من تقدير ، أي الأبواب منها. فإذا كان التقدير : مفتحة لهم هي الأبواب منها : كان فيه تكثير للاضمار وتقليله أولى.

قول الله تعالى ذكره :

(خَلَقْتُ بِيَدَيَّ (٧٥))

إن لفظ اليد جاء في القرآن على ثلاثة أنواع. مفردا ، ومثنى ، ومجموعا.

فالمفرد : كقوله : ٦٨ : ١ (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) والمثنى كقوله : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) والمجموع كقوله : (عَمِلَتْ أَيْدِينا).

فحيث ذكر اليد مثناة. أضاف الفعل إلى نفسه بضمير الإفراد ، وعدى الفعلى بالباء إليهما ، وقال : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ).

وحيث ذكرها مجموعة أضاف الفعل إليها ، ولم يعدّ الفعل بالباء.

فهذه ثلاثة فروق : فلا يحتمل «خلقت بيدي» من المجاز ما يحتمله (عَمِلَتْ أَيْدِينا) فإن كل أحد يفهم من قوله : (عَمِلَتْ أَيْدِينا) ما يفهمه من قوله : عملنا وخلقنا ، كما يفهم ذلك من قوله : (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) وأما قوله : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) فلو كان المراد منه مجرد الفعل لم يكن لذكر اليد بعد نسبة الفعل إلى الفاعل معنى فكيف وقد دخلت عليها الباء؟ فكيف إذا ثنيت؟

وسرّ الفرق ؛ أن الفعل قد يضاف إلى يد ذي اليد ، والمراد الإضافة إليه. كقوله : (بِما قَدَّمَتْ يَداكَ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) وأما إذا أضيف إليه الفعل ، ثم عدي بالباء إلى اليد مفردة أو مثناة ، فهو مما باشرته يده.

٤٥٤

ولهذا قال عبد الله بن عمر «إن الله لم يخلق بيده إلا ثلاثا ؛ خلق آدم بيده ، وغرس جنة الفردوس بيده ، وكتب التوراة بيده» فلو كانت اليد هي القدرة لم يكن لها اختصاص بذلك ، ولا كانت لآدم فضيلة بذلك على كل شيء مما خلق بالقدرة.

وقد أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن «أهل الموقف يأتونه يوم القيامة ، فيقولون : يا آدم ، أنت أبو البشر ، خلقك الله بيده» وكذلك قال آدم لموسى في محاجته له «اصطفاك الله بكلامه ، وخطّ لك الألواح بيده» وفي لفظ آخر «كتب لك التوراة بيده» وهو من أصح الأحاديث. وكذلك الحديث المشهور «أن الملائكة قالوا : يا رب خلقت بني آدم يأكلون ويشربون ، وينكحون ، ويركبون ، فأجعل لهم الدنيا ولنا الأخرى ، فقال الله تعالى : لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي ونفخت فيه من روحي ، كمن قلت له : كن فكان».

وهذا التخصيص إنما فهم من قوله «خلقت بيديّ» فلو كان مثل قوله : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) لكان هو والأنعام في ذلك سواء. فلما فهم المسلمون أن قوله : ٣٨ : ٧٥ (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) يوجب له تخصيصا وتفضيلا بكونه مخلوقا باليدين على من أمر أن يسجد له ، وفهم ذلك أهل الموقف حين جعلوه من خصائصه : كانت التسوية بينه وبين قوله : ٣٦ : ٧١ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) خطأ محضا.

٤٥٥
٤٥٦

سورة الزمر

بسم الله الرحمن الرحيم

قول الله تعالى ذكره :

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩))

هذا مثل ضربه الله سبحانه للمشرك والموحد. فالمشرك بمنزلة عبد يملكه جماعة متنازعون ، مختلفون متشاحّون.

والرجل الشّكس : الضيق الخلق. فالمشرك لما كان يعبد آلهة شتّى شبه بعبد يملكه جماعة متنافسون في خدمته ، لا يمكنه أن يبلغ رضاهم أجمعين.

والموحد لما كان يعبد الله وحده فمثله كمثل عبد لرجل واحد ، قد سلم له ، وعلم مقاصده ، وعرف الطريق إلى رضاه. فهو في راحة من تشاحن الخلطاء فيه ، بل هو سالم لمالكه من غير تنازع فيه ، مع رأفة مالكه به ، ورحمته له ، وشفقته عليه ، وإحسانه إليه ، وتوليه لمصالحه

فهل يستوي هذان العبدان؟

وهذا من أبلغ الأمثال. فإن الخالص لمالك واحد يستحق من معونته وإحسانه والتفاته إليه وقيامه بمصالحه ما لا يستحق صاحب الشركاء المتشاكسين (الْحَمْدُ لِلَّهِ. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

٤٥٧

قول الله تعالى ذكره :

(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢))

احتج المعتزلة على خلق القرآن بقوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ونحو ذلك من الآيات.

فأجاب الأكثرون : بأنه عام مخصوص ، يختص محل النزاع ، كسائر الصفات : من العلم والنحو. قال ابن عقيل في الإرشاد : ووقع نحو لي هذا أن القرآن لا تتناوله هذه الأخبار ، ولا تصلح لتناوله ، قال : لأن به حصل عقد الإعلام بكون الله خالقا لكل شيء ، وما حصل به عقد الأعلام والإخبار لم يكن داخلا تحت الخبر. قال : ولو أن شخصا قال : لا أتكلم اليوم كلاما إلا كذبا. لا يدخل إخباره بذلك تحت ما أخبر به.

قلت : ثم تدبرت هذا فوجدته مذكورا في قوله في قصة مريم : ١٩ : ٢٦ (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي : إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً ، فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) وإنما أمرت بذلك لئلا تسأل عن ولدها. فقولها (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) به يحصل إخبارها بأنها لا تكلم الإنس ، ولم يكن ما أخبرت به داخلا تحت الخبر ، وإلا كان قولها مخالفا لنذرها.

قول الله تعالى ذكره :

(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣))

عقّب دخولها على الطيب بحرف الفاء ، الذين يؤذن بأنه سبب للدخول ، أي بسبب طيبكم قيل لكم : ادخلوها ـ فإنها دار الطبيين لا يدخلها إلا طيب.

وقال في حادي الأرواح :

٤٥٨

قال لأهل الجنة : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) بالواو.

وقال في صفة النار : (حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) بغير واو.

فقالت طائفة : هذه واو الثمانية. دخلت في أبواب الجنة لكونها ثمانية ، وأبواب النار سبعة ، فلم تدخلها الواو. وهذا قول ضعيف لا دليل عليه ، ولا تعرفه العرب ، ولا أئمة العربية. وإنما هو من استنباط بعض المتأخرين.

وقالت طائفة أخرى : الواو زائدة. والجواب الفعل الذي بعدها ، كما هو في الآية الثانية. وهذا أيضا ضعيف. فإن زيادة الواو غير معروف في كلامهم ، ولا يليق بأسفه الكلام أن يكون فيه حرف زائد لغير معنى ولا فائدة.

وقالت طائفة ثالثة : الجواب محذوف.

وقوله : (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) عطف على قوله : (جاؤُها) وهذا اختيار أبي عبيدة والمبرد والزجاج وغيرهم.

قال المبرد : وحذف الجواب أبلغ عند أهل العلم.

وقال أبو الفتح ابن جنّي : وأصحابنا يدفعون زيادة الواو ، ولا يجيزونه ، ويرون أن الجواب محذوف للعلم به.

بقي أن يقال : فما السر في حذف الجواب في آية أهل الجنة ، وذكره في آية أهل النار؟

فيقال : هذا أبلغ في الموضعين. فإن الملائكة تسوق أهل النار إليها ، وأبوابها مغلقة ، حتى إذا وصلوا إليها فتحت في وجوههم ، فيفجؤهم العذاب بغتة فحين انتهوا إليها فتحت أبوابها بلا مهلة. فإن هذا شأن الجزاء المرتب على الشرط : أن يكون عقيبه. والنار دار الإهانة والخزي ، فلم يستأذن لهم في دخولها ، ويطلب إلى خزنتها أن يمكنوهم من

٤٥٩

الدخول. وأما الجنة فإنها دار الله ، ودار كرامته ، ومحل خواصه وأوليائه ، فإذا انتهوا إليها صادفوا أبوابها مغلقة ، فيرغبون إلى صاحبها ومالكها أن يفتتحها ويستشفعون إليه بأولي العزم من رسله ، وكلهم يتأخر عن ذلك حتى تقع الدلالة على خاتمهم وسيدهم وأفضلهم. فيقول «أنا لها» فيأتي إلى تحت العرش ويخر ساجدا حربه فيدعه ربه ساجدا ما شاء أن يدعه ثم يأذن له في رفع رأسه ، وأن يسأل حاجته ، فيشفع إليه سبحانه في فتح أبوابها ، فيشفعه ، ويفتحها تعظيما لخاطرها ، وإظهارا لمنزلة رسوله وكرامته عليه ، وأن مثل هذه الدار التي هي دار ملك الملوك ورب العالمين إنما يدخل إليها بعد تلك الأهوال العظيمة ، التي أولها من حين عقل العبد في هذه الدار إلى أن انتهى إليها ، وما ركبه من الأطباق طبقا بعد طبق ، وقاساه من الشدائد شدة بعد شدة ، حتى أذن الله تعالى لخاتم أنبيائه ورسله ، وأحب خلقه إليه أن يشفع إليه في فتحها لهم. وهذا أبلغ وأعظم في تمام النعمة وحصول الفرح والسرور مما يقدّر بخلاف ذلك ، لئلا ينوهم الجاهل أنها بمنزلة الخان الذي يدخله من شاء. فجنة الله عالية غالية ، وبين الناس وبينها من العقبات والمفاوز والأخطار ما لا تنال إلّا به. فما لمن أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ولهذه الدار؟ فليعد عنها إلى ما أولى به. وقد خلق له وهيئ له.

وتأمل ما في سوق الفريقين إلى الدارين زمرا : من فرحة هؤلاء بإخوانهم وسيرهم معهم ، كل زمرة على حدة ، كمشتركين في عمل متصاحبين فيه على زمرتهم وجماعتهم ، مستبشرين أقوياء القلوب ، كما كانوا في الدنيا وقت إجماعهم على الخير كذلك يؤنس بعضهم بعضا ، ويفرح بعضهم ببعض. وكذلك أصحاب الدار الأخرى : النار يساقون إليها زمرا يلعن بعضهم بعضا ، ويتأذى بعضهم ببعض. وذلك أبلغ في الخزي والفضيحة والهتيكة. من أن يساقوا واحدا واحدا.

فلا تهمل وتدبر قوله : (زُمَراً) وقول خزنة الجنة لأهلها «سَلامٌ

٤٦٠