التيسير في التفسير للقرآن - ج ٥

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي

التيسير في التفسير للقرآن - ج ٥

المؤلف:

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٧

وقيل : الإتقان حسن في إيثاق. (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) أي : عليم بما يفعل أعداؤه من المعصية ، وبما يفعل أولياؤه من الطاعة (١).

* س ٢٢ : ما هو معنى قوله تعالى :

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٩٠) [سورة النمل : ٨٩ ـ ٩٠]؟!

الجواب / قال أمير المؤمنين عليه‌السلام لأبي عبد الله الجدليّ : «يا أبا عبد الله ، هل تدري ما الحسنة التي من جاء بها فله خير منها ، وهم من فزع يومئذ آمنون ومن جاء بالسيئة فكبّت وجوههم في النار؟».

قال أبو عبد الله الجدليّ : لا.

قال عليه‌السلام : «الحسنة مودّتنا أهل البيت ، والسيئة عداوتنا أهل البيت» (٢).

* س ٢٣ : ما هو وجه اتصال قوله تعالى :

(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٩٣) [سورة النمل : ٩١ ـ ٩٣] بما قبله ، وما معنى الآيات؟!

الجواب / ١ ـ وجه اتصال قوله تعالى (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ) بما قبله : أنه سبحانه لما بين أن الأمن من أهوال القيامة للمؤمن

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٧ ، ص ٤٠٩.

(٢) تأويل الآيات : ج ١ ، ص ٤١٠ ، ح ١٦.

٢٨١

المحسن ، فكأن قائلا قال : ما الحسنة؟ وكيف العبادة؟ فقال : إنما أمرت (١).

٢ ـ المعنى : هناك معاني وروايات عديدة في معنى هذه الآية نذكر منها :

١ ـ قال علي بن إبراهيم القمي : قوله : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها). قال : مكّة وله كلّ شيء.

قال الله عزوجل : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ـ إلى قوله تعالى ـ (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها) قال : الآيات : أمير المؤمنين والأئمّة عليهم‌السلام ، إذا رجعوا ، يعرفهم أعداؤهم إذا رأوهم ، والدليل على أنّ الآيات هم الأئمّة ، قول أمير المؤمنين عليه‌السلام : «والله ، ما لله آية أكبر منّي» فإذا رجعوا إلى الدنيا ، يعرفهم أعداؤهم إذا رأوهم في الدنيا (٢).

٢ ـ قال الشيخ الطبرسيّ (رحمه‌الله تعالى) : ثم قال سبحانه لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قل لهم : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ) يعني مكة ، وقال أبو العالية : هي منى. (الَّذِي حَرَّمَها) أي : جعلها حرما آمنا يحرم فيها ما يحل في غيرها ، لا ينفر صيدها ، ولا يختلى خلاها ، ولا يقتص فيها. (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) أي : وهو مالك كل شيء مما أحله وحرمه ، فيحرم ما شاء ، ويحل ما شاء.

(وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي : من المخلصين لله بالتوحيد (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) عليكم يا أهل مكة ، وأدعوكم إلى ما فيه (فَمَنِ اهْتَدى) إلى الحق ، والعمل بما فيه (فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) لأن ثواب ذلك وجزاءه ، يصل إليه دون غيره.

(وَمَنْ ضَلَ) عنه ، وحاد ولم يعمل بما فيه ، ولم يهتد إلى الحق. (فَقُلْ) له يا محمد (إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) الذين يخوفون بعقاب الله من

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٧ ، ص ٤١١.

(٢) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ١٣١.

٢٨٢

معاصيه ، ويدعون إلى طاعته ، ولا أقدر على إكراههم على الإيمان ، والدين (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) اعترافا بنعمته إذ اختارني لرسالته (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ) يوم القيامة (فَتَعْرِفُونَها) وتعرفون أنها على ما أخبرتم بها في الدنيا. وقيل : معنى آياته هي العذاب في الدنيا ، والقتل ببدر ، فتعرفونها أي : تشاهدونها ، ورأوا ذلك. ثم عجلهم الله إلى النار (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) بل هو عالم بجميع ذلك ، فيجازيكم عليها. وإنما يؤخر عقابكم إلى وقت تقتضيه الحكمة (١).

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٧ ، ص ٤١١.

٢٨٣
٢٨٤

تفسير

سورة القصص

رقم السورة ـ ٢٨ ـ

٢٨٥
٢٨٦

سورة القصص

* س ١ : ما هو فضل سورة القصص؟!

الجواب / وردت روايات عديدة في فضل هذه السورة نذكر منها :

١ ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قرأ هذه السورة ، كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ من صدّق بموسى عليه‌السلام ، وعدد من كذّب به ، ولم يبق ملك في السماوات والأرض إلّا شهد له يوم القيامة بأنّه صادق ، ومن كتبها وشربها ، زال عنه جميع ما يشكو من الألم ، بإذن الله تعالى» (١).

٢ ـ قال الصادق عليه‌السلام : «من كتبها ، وعلّقها على المبطون ، وصاحب الطّحال ، ووجع الكبد ، ووجع الجوف ، يكتبها ويعلّقها عليه ، وأيضا يكتبها في إناء ويغسلها بماء المطر ، ويشرب ذلك الماء ، زال عنه ذلك الوجع والألم ، ويشفى من مرضه ، ويهون عنه الورم ، بإذن الله تعالى» (٢).

* س ٢ : ما هو معنى قوله تعالى :

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) (٢) [سورة القصص : ١ ـ ٢]؟!

الجواب / ١ ـ قال سفيان بن سعيد الثوري : قلت لجعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام : يابن رسول الله ما معنى قول الله عزوجل : (طسم)؟ ، قال : معناه : أنا الطالب السميع المبدىء المعيد (٣).

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٧ ، ص ٣١٩.

(٢) خواص القرآن : ص ٤٦ «مخطوط».

(٣) معاني الأخبار : ص ٢٢ ، الصدوق.

٢٨٧

وروي عن ابن الحنفية ، عن علي عليه‌السلام ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لما نزلت (طسم) قال : «الطاء : طور سيناء ، وسين الإسكندرية ، والميم مكة». وقيل : الطاء شجرة طوبى ، والسين : سدرة المنتهى ، والميم : محمد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

وقال عليّ بن إبراهيم القميّ : هو حرف من حروف اسم الله الأعظم المرموز في القرآن (٢).

٢ ـ قال الشيخ الطبرسيّ (رحمه‌الله تعالى) ، في قوله تعالى : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) إشارة (تِلْكَ) إلى ما ليس بحاضر ، لكنه متوقع فهو كالحاضر لحضور المعنى في النفس ، والتقدير : تلك الآيات التي وعدتم بها ، هي آيات الكتاب أي : القرآن. والمبين : الذي يبين الحق من الباطل (٣).

* س ٣ : ما هو معنى قوله تعالى :

(نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (٤) [سورة القصص : ٣ ـ ٤]؟!

الجواب / قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إن يوسف بن يعقوب (صلوات الله عليهما) حين حضرته الوفاة جمع آل يعقوب ـ وهم ثمانون رجلا ـ فقال : إنّ هؤلاء القبط سيظهرون عليكم ، ويسومونكم سوء العذاب ، وإنما ينجيكم الله من أيديهم برجل من ولد لاوي بن يعقوب ، اسمه موسى بن عمران ، غلام طوال ، جعد ، آدم (٤). فجعل الرجل من بني إسرائيل يسمّي ابنه عمران ،

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٧ ، ص ٣٢٠.

(٢) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ١١٨.

(٣) مجمع البيان : ج ٧ ، ص ٣٢٠.

(٤) الآدم من الناس : الأسمر. «الصحاح ـ أدم ـ ج ٥ ص ١٨٥٩».

٢٨٨

ويسمّي عمران ابنه موسى».

وقال أبو جعفر عليه‌السلام : «ما خرج موسى بن عمران حتى خرج قبله خمسون كذّابا من بني إسرائيل ، كلّهم يدّعي أنّه موسى بن عمران».

«فبلغ فرعون أنهم يرجفون (١) به ، ويطلبون هذا الغلام ، وقال له كهنته وسحرته : إنّ هلاك دينك وقومك على يدي هذا الغلام الذي يولد العام في بني إسرائيل. فوضع القوابل على النساء ، وقال : لا يولد العام غلام إلا ذبح. ووضع على أمّ موسى قابلة ، فلما رأى بنو إسرائيل ذلك ، قالوا : إذا ذبح الغلمان ، واستحيي النساء ، هلكنا ، فلم نبق ، فتعالوا لا نقرب النساء. فقال عمران أبو موسى عليه‌السلام : بل باشروهنّ ، فإنّ أمر الله واقع ولو كره المشركون ، اللهم ، من حرّمه فإنّي لا أحرّمه ، ومن تركه فإني لا أتركه ، وباشر أم موسى ، فحملت به. فوضع على أمّ موسى قابلة تحرسها ، فإذا قامت قامت ، وإذا قعدت قعدت ، فلما حملته أمه وقعت عليها المحبة ، وكذلك حجج الله على خلقه ، فقالت لها القابلة : ما لك يا بنيّة تصفرّين وتذوبين؟ قالت : لا تلوميني ، فإني أخاف إذا ولدت ، أخذ ولدي فذبح. قالت : لا تحزني ، فإني سوف أكتم عليك. فلم تصدّقها ، فلما أن ولدت ، التفتت إليها وهي مقبلة ، فقالت : ما شاء الله. فقالت لها : ألم أقل أني سوف أكتم عليك. ثم حملته فأدخلته المخدع ، وأصلحت أمره. ثم خرجت إلى الحرس ، فقالت : انصرفوا ـ وكانوا على الباب ـ فإنه خرج دم منقط. فانصرفوا ، فأرضعته.

فلما خافت عليه الصوت ، أوحى الله إليها أن أعملي التابوت ، ثم اجعليه فيه ، ثم أخرجيه ليلا ، فاطرحيه في نيل مصر. فوضعته في التابوت ، ثم دفعته

__________________

(١) أرجفوا في الشيء : أي خاضوا فيه. «لسان العرب ـ رجف ـ ج ٩ ، ص ١١٣».

٢٨٩

في اليمّ ، فجعل يرجع إليها ، وجعلت تدفعه في الغمر (١) ، وإنّ الريح ضربته فانطلقت به ، فلمّا رأته قد ذهب به الماء ، همّت أن تصيح ، فربط الله على قلبها».

قال : «وكانت المرأة الصالحة ، امرأة فرعون ـ وهي من بني إسرائيل ـ قالت لفرعون : إنها أيام الرّبيع ، فأخرجني واضرب لي قبّة على شط النيل ، حتى أتنزّه هذه الأيام. فضرب لها قبّة على شطّ النيل ، إذ أقبل التابوت يريدها ، فقالت : أما ترون ما أرى على الماء؟ قالوا : إي والله ـ يا سيّدتنا ـ إنا لنرى شيئا. فلما دنا منها ، قامت إلى الماء ، فتناولته بيدها ، كاد الماء يغمرها ، حتى تصايحوا عليها ، فجذبته ، فأخرجته من الماء ، فأخذته فوضعته في حجرها ، وقالت : هذا ابني. فقالوا : إي والله ـ يا سيّدتنا ـ مالك ولد ، ولا للملك ، فاتّخذي هذا ولدا. فقامت إلى فرعون ، فقالت : إني أصبت غلاما طيّبا حلوا ، نتّخذه ولدا ، فيكون قرّة عين لي ولك ، فلا تقتله. قال : ومن أين هذا الغلام؟ قالت : لا والله لا أدري ، إلا أنّ الماء جاء به ، فلم تزل به حتى رضي.

فلمّا سمع الناس أن الملك قد تبنّى ابنا ، لم يبق أحد من رؤوس من كان مع فرعون إلا بعث إليه امرأته ، لتكون له ظئرا (٢) ، أو تحضنه ، فأبى أن يأخذ من امرأة منهنّ ثديا. قالت امرأة فرعون : اطلبوا لا بني ظئرا ، ولا تحقروا أحدا. فجعل لا يقبل من امرأة منهن ثديا. فقالت أمّ موسى لأخته : انظري أترين له أثرا؟ فانطلقت حتى أتت باب الملك ، فقالت : قد بلغني أنكم تطلبون ظئرا ، وها هنا امرأة صالحة تأخذ ولدكم ، وتكفله لكم. فقالت : أدخلوها ، فلما دخلت ، قالت لها امرأة فرعون : ممّن أنت؟ قالت : من بني إسرائيل.

__________________

(١) الغمر : الماء الكثير. «لسان العرب ـ غمر ـ ج ٥ ، ص ٢٩».

(٢) الظئر : المرضعة غير ولدها. «النهاية : ج ٣ ، ص ١٥٤».

٢٩٠

قالت : اذهبي ـ يا بنيّة ـ فليس لنا فيك حاجة. فقالت لها النساء : عافاك الله ، انظري هل يقبل ، أو لا؟ فقالت امرأة فرعون : أرأيت لو قبل هذا ، هل يرضى فرعون أن يكون الغلام من بني إسرائيل ، والمرأة من بني إسرائيل ـ يعني الظئر ـ؟ لا يرضى. قلن : فانظري أيقبل ، أو لا يقبل؟ قالت امرأة فرعون : فاذهبي فادعيها. فجاءت إلى أمّها ، فقالت : إنّ امرأة الملك تدعوك. فدخلت عليها ، فدفع إليها موسى ، فوضعته في حجرها ، ثم ألقته ثديها ، فازدحم اللبن في حلقه ، فلمّا رأت امرأة فرعون أن ابنها قد قبل ، قامت إلى فرعون ، فقالت : إني قد أصبت لابني ظئرا ، وقد قبل منها. فقال : وممّن هي؟ قالت من بني إسرائيل. قال فرعون : هذا مما لا يكون أبدا ، الغلام من بني إسرائيل ، والظئر من بني إسرائيل؟ فلم تزل تكلّمه فيه ، وتقول : ما تخاف من هذا الغلام ، إنما هو ابنك ، ينشأ في حجرك؟ حتى قلبته عن رأيه ، ورضي.

فنشأ موسى عليه‌السلام في آل فرعون ، وكتمت أمه خبره ، وأخته ، والقابلة ، حتى هلكت أمه ، والقابلة التي قبلته ، فنشأ عليه‌السلام لا يعلم به بنو إسرائيل ـ قال ـ وكانت بنو إسرائيل تطلبه وتسأل عنه ، فيعمى عليهم خبره ـ قال ـ فبلغ فرعون أنهم يطلبونه ، ويسألون عنه ، فأرسل إليهم ، فزاد في العذاب عليهم ، وفرّق بينهم ، ونهاهم عن الإخبار به ، والسؤال عنه».

قال : «فخرجت بنو إسرائيل ذات ليلة مقمرة إلى شيخ عنده علم ، فقالوا : لقد كنّا نستريح إلى الأحاديث ، فحتى متى ، وإلى متى نحن في هذا البلاء؟! قال : والله إنكم لا تزالون فيه حتى يحيي الله ذكره بغلام من ولد لاوي بن يعقوب ، اسمه موسى بن عمران ، غلام طوال جعد. فبينا هم كذلك ، إذ أقبل موسى عليه‌السلام يسير على بغلة ، حتى وقف عليهم ، فرفع الشيخ رأسه ، فعرفه بالصفة ، فقال : ما اسمك ، يرحمك الله؟ قال : موسى. قال : ابن من؟ قال : ابن عمران. فوثب إليه الشيخ ، فأخذ بيده فقبّلها ، وثاروا إلى

٢٩١

رجليه فقبلوهما ، فعرفهم وعرفوه ، واتّخذهم شيعة.

فمكث بعد ذلك ما شاء الله ، ثم خرج ، فدخل مدينة لفرعون ، فيها رجل من شيعته يقاتل رجلا من آل فرعون من القبط ، (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) القبطيّ (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) وكان موسى عليه‌السلام قد أعطي بسطة في الجسم ، وشدة في البطش ، فذكره الناس ، وشاع أمره وقالوا : إنّ موسى قتل رجلا من آل فرعون. (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ) فلما أصبحوا من الغد (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) على آخر ، فقال له موسى : (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) ، بالأمس رجل واليوم رجل؟! (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ)(١) فخرج من مصر بغير ظهر ولا دابّة ولا خادم ، تخفضه أرض وترفعه أخرى ، حتى انتهى إلى أرض مدين ، فانتهى إلى أصل شجرة فنزل ، فإذا تحتها بئر ، وإذا عندها أمّة من الناس يسقون ، وإذا جاريتان ضعيفتان ، وإذا معهما غنيمة لهما ، قال : ما خطبكما؟ قالتا : أبونا شيخ كبير ، ونحن جاريتان ضعيفتان لا نقدر أن نزاحم الرّجال ، فإذا سقى الناس سقينا. فرحمهما موسى عليه‌السلام ، فأخذ دلوهما ، وقال لهما : قدّما غنمكما. فسقى لهما ، ثم رجعتا بكرة قبل الناس ، ثم أقبل موسى إلى الشجرة ، فجلس تحتها ، وقال : (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)(٢) فروي أنّه قال ذلك وهو محتاج إلى شقّ تمرة.

فلمّا رجعتا إلى أبيهما ، قال : ما أعجلكما في هذه الساعة؟ قالتا : وجدنا

__________________

(١) القصص : ١٥ ـ ٢١.

(٢) القصص : ٢٤.

٢٩٢

رجلا صالحا ، رحمنا فسقى لنا. فقال لإحداهما : اذهبي فادعيه إليّ. فجاءته تمشي على استحياء ، قالت : إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ـ فروي أن موسى عليه‌السلام قال لها : وجّهيني إلى الطريق ، وامشي خلفي ، فإنّا بنو يعقوب لا ننظر في أعجاز النساء ـ (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ)(١) فروي أنه قضى أتّمهما ، لأن الأنبياء عليهم‌السلام لا يأخذون إلا بالفضل والتمام.

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ)(٢) نحو بيت المقدس ، أخطأ عن الطريق ليلا ، فرأى نارا ، قال لأهله : امكثوا ، إني آنست نارا ، لعلّي آتيكم منها بقبس ، أو بخبر عن الطريق. فلما انتهى إلى النار ، إذا شجرة تضطرم من أسفلها إلى أعلاها ، فلمّا دنا منها تأخّرت عنه ، فرجع ، وأوجس في نفسه خيفة ، ثمّ دنت منه الشجرة ، فنودي من شاطىء الواد الأيمن ، في البقعة المباركة من الشجرة : (أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ)(٣) ، فإذا حيّة مثل الجذع ، لأنيابها صرير ، يخرج منها مثل لهب النار ، فولى مدبرا ، فقال له ربّه عزوجل : ارجع. فرجع وهو يرتعد ، وركبتاه تصطكّان ، فقال : إلهي ، هذا الكلام الذي أسمع كلامك؟ قال : نعم ، فلا تخف. فوقع عليه الأمان ، فوضع رجله على ذنبها ، ثمّ تناول لحييها ، فإذا يده في شعبة العصا ، قد عادت عصا ، وقيل له : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً)(٤) ـ فروي أنه أمر بخلعهما لأنهما كانتا من جلد حمار ميت ـ وروي في قوله عزوجل : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ)

__________________

(١) القصص : ٢٥ ـ ٢٧.

(٢) القصص : ٢٩.

(٣) القصص : ٣٠ و ٣١.

(٤) طه : ١٢.

٢٩٣

أي خوفيك : خوفك من ضياع أهلك ، وخوفك من فرعون ـ ثمّ أرسله الله عزوجل إلى فرعون وملئه بآيتين : يده ، والعصا».

روي عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال لبعض أصحابه : «كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو ، فإن موسى بن عمران خرج ليقتبس لأهله نارا ، فرجع إليهم وهو رسول نبيّ ، فأصلح الله تبارك وتعالى أمر عبده ونبيّه موسى في ليلة ، وهكذا يفعل الله تعالى بالقائم عليه‌السلام ، الثاني عشر من الأئمّة ، يصلح الله أمره في ليلة ، كما أصلح أمر موسى عليه‌السلام ، ويخرجه من الحيرة والغيبة إلى نور الفرج والظهور» (١).

وقال علي بن إبراهيم : قوله تعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) إلى قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) ، قال : فأخبر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما لقي موسى وأصحابه من فرعون من القتل والظلم ، تعزية له فيما يصيبه في أهل بيته من أمته ، ثم بشّره بعد تعزيته أنّه يتفضّل عليهم بعد ذلك ، ويجعلهم خلفاء في الأرض ، وأئمّة على أمّته ، ويردّهم إلى الدنيا مع أعدائهم حتى ينتصفوا منهم (٢).

* س ٤ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) (٦) [سورة القصص : ٥ ـ ٦]؟!

الجواب / قال المفضل بن عمر : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نظر إلى عليّ والحسن والحسين عليهم‌السلام فبكى ، وقال : أنتم

__________________

(١) كمال الدين وتمام النعمة : ص ١٤٧ ، ح ١٣.

(٢) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ١٣٣.

٢٩٤

المستضعفون بعدي».

قال المفضّل : فقلت له : ما معنى ذلك ، يابن رسول الله؟ قال : «معناه أنتم الأئمّة بعدي ، إن الله عزوجل يقول : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) ، فهذه الآية فينا جارية إلى يوم القيامة» (١).

وقال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام : «قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) : لتعطفنّ علينا الدنيا بعد شماسها (٢) عطف الضّروس (٣) على ولدها» ثمّ قرأ عليه‌السلام : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) ، الآية (٤).

وقال الطبرسي : صحّت الرواية عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، أنّه قال : «والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، لتعطفنّ علينا الدنيا بعد شماسها عطف الضّروس على ولدها» وتلا عقيب ذلك : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) ، الآية (٥).

وقال الطّبرسيّ : وقال سيد العابدين علي بن الحسين عليهما‌السلام : «والذي بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحقّ بشيرا ونذيرا ، إنّ الأبرار منّا أهل البيت ، وشيعتهم بمنزلة موسى وشيعته ، وإنّ عدوّنا وأشياعه بمنزلة فرعون وأشياعه» (٦).

__________________

(١) معاني الأخبار : ص ٧٩ ، شواهد التنزيل : ج ١ ، ص ٤٣٠ ، ح ٥٨٩.

(٢) شمس الفرس : كأن لا يمكن أحدا من ظهره ، ولا من الإسراج والإلجام ، ولا يكاد يستقر. «أقرب الموارد ـ شمس ـ ج ١ ، ص ٦١١».

(٣) الضّروس : الناقة التي يموت ولدها ، أو يذبح ، ويحشى جلده ، فتدنو منه ، فتعطف عليه. (تأويل الآيات : ج ١ ، ص ٤١٤ ، ح ٣).

(٤) خصائص الأئمة : ص ٧٠.

(٥) مجمع البيان : ج ٧ ، ص ٣٧٥.

(٦) مجمع البيان : ج ٧ ، ص ٣٧٥.

٢٩٥

وقال علي بن إبراهيم القميّ : وقوله : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) ـ إلى قوله ـ (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما) ، وهم الذين غصبوا آل محمد عليهم‌السلام حقّهم.

وقوله : (مِنْهُمْ) ، أي من آل محمد (ما كانُوا يَحْذَرُونَ) ، أي من القتل والعذاب. ولو كانت هذه الآية نزلت في موسى وفرعون ، لقال : ونري فرعون وهامان وجنودهما منه ما كانوا يحذرون ـ أي من موسى ـ ولم يقل (مِنْهُمْ) ، فلما تقدّم قوله : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) ، علمنا أن المخاطبة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما وعد الله به رسوله فإنّما يكون بعده ، والأئمّة يكونون من ولده ، وإنما ضرب الله هذا المثل لهم في موسى وبني إسرائيل ، وفي أعدائهم بفرعون وهامان وجنودهما ، فقال : إنّ فرعون قتل بني إسرائيل ، فأظفر الله موسى بفرعون وأصحابه حتى أهلكهم الله ، وكذلك أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصابهم من أعدائهم القتل والغصب ، ثمّ يردّهم الله ، ويردّ أعداءهم إلى الدنيا حتى يقتلوهم.

وقد ضرب أمير المؤمنين عليه‌السلام في أعدائه مثلا ، مثل ما ضرب الله لهم في أعدائهم بفرعون وهامان ، فقال : «يا أيها الناس ، إنّ أول من بغى على الله عزوجل على وجه الأرض عناق بنت آدم عليه‌السلام ، خلق لها عشرين إصبعا ، لكلّ إصبع منها ظفران طويلان كالمنجلين العظيمين ، وكان مجلسها في الأرض موضع جريب (١) ، فلمّا بغت ، بعث الله لها أسدا كالفيل ، وذئبا كالبعير ، ونسرا كالحمار ، وكان ذلك في الخلق الأول ، فسّلطهم الله عليها ، فقتلوها. ألا وقد قتل الله فرعون وهامان ، وخسف الله بقارون ، وإنّما هذا مثل لأعدائه الذين غصبوا حقّه ، فأهلكهم الله».

__________________

(١) الجريب من الأرض : مقدار معلوم. «الصحاح ـ جرب ـ ج ١ ، ص ٩٨».

٢٩٦

ثم قال عليّ عليه‌السلام على أثر هذا المثل الذي ضربه : «وقد كان لي حقّ حازه دوني من لم يكن له ، ولم أكن أشركه فيه ، ولا توبة له إلّا بكتاب منزل ، أو برسول مرسل ، وأنى له بالرسالة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا نبيّ بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فأنّى يتوب وهو في برزخ القيامة ، غرّته الأماني ، وغرّه بالله الغرور؟ وقد أشفى على جرف هار ، فانهار به في نار جهنّم ، والله لا يهدي القوم الظالمين».

وكذلك مثل القائم عليه‌السلام في غيبته وهربه واستتاره ، مثل موسى عليه‌السلام ، خائف مستتر إلى أن يأذن الله في خروجه ، وطلب حقّه ، وقتل أعدائه ، في قوله : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ)(١) ، وقد ضرب الله بالحسين بن عليّ عليهما‌السلام مثلا في بني إسرائيل بذلّتهم من أعدائهم (٢).

* س ٥ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ

__________________

(١) الحج : ٣٩ و ٤٠.

(٢) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ١٣٣.

٢٩٧

ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) (١٩) [سورة القصص : ٧ ـ ١٩]؟!

الجواب / قال محمد بن مسلم : قال أبو جعفر عليه‌السلام : «إنّ موسى لمّا حملت به أمّه ، لم يظهر حملها إلا عند وضعه ، وكان فرعون قد وكّل بنساء بني إسرائيل نساء من القبط يحفظونهنّ ، وذلك أنه كان لما بلغه عن بني إسرائيل أنّهم يقولون : إنّه يولد فينا رجل ، يقال له موسى بن عمران ، يكون هلاك فرعون وأصحابه على يده. فقال فرعون عند ذلك : لأقتلنّ ذكور أولادهم ، حتى لا يكون ما يريدون. وفرّق بين الرجال والنساء ، وحبس الرجال في المحابس.

فلمّا وضعت أم موسى موسى عليه‌السلام ، نظرت إليه ، وحزنت عليه ، واغتمّت وبكت ، وقالت : يذبح الساعة. فعطف الله بقلب الموكّلة بها عليه ، فقالت لأمّ موسى : مالك قد اصفرّ لونك؟ فقالت : أخاف أن يذبح ولدي. فقالت : لا تخافي. وكان موسى لا يراه أحد إلّا أحبه ، وهو قول الله :

٢٩٨

(وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي)(١) فأحبّته القبطيّة الموكلة به.

وأنزل الله على موسى التابوت ، ونوديت أمّه : ضعيه في التابوت فاقذفيه في اليمّ ، وهو البحر (وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) ، فوضعته في التابوت ، وأطبقت عليه ، وألقته في النيل. وكان لفرعون قصر على شطّ النيل متنزّه (٢) ، فنزل من قصره ومعه آسية امرأته ، فنظر إلى سواد في النيل ترفعه الأمواج ، والرياح تضربه ، حتى جاءت به إلى باب قصر فرعون ، فأمر فرعون بأخذه ، فأخذ التابوت ، ورفع إليه ، فلمّا فتحه وجد فيه صبيّا ، فقال : هذا إسرائيلي. وألقى الله في قلب فرعون لموسى محبّة شديدة ، وكذلك في قلب آسية ، وأراد فرعون أن يقتله ، فقالت آسية : (لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أنه موسى عليه‌السلام ، ولم يكن لفرعون ولد ، فقال : ائتوا له بظئر تربّيه. فجاءوا بعدّة نساء قد قتل أولادهنّ ، فلم يشرب لبن أحد من النساء ، وهو قول الله : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ).

وبلغ أمّه أن فرعون قد أخذه ، فحزنت ، وبكت ، كما قال : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) ، يعني كادت أن تخبر بخبره ، أو تموت ، ثم ضبطت نفسها ، فكان كما قال الله عزوجل : (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَقالَتْ لِأُخْتِهِ) ، أي لأخت موسى : (قُصِّيهِ) أي اتّبعيه ، فجاءت أخته إليه (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) أي عن بعد (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) فلمّا لم يقبل موسى بأخذ ثدي أحد من النساء ، اغتمّ فرعون غمّا شديدا ، فقالت أخته : هل أدلّكم على أهل بيت يكفلونه لكم ، وهم له ناصحون؟ فقال : نعم ، فجاءت بأمّه ، فلمّا أخذته في حجرها ، وألقمته ثديها ،

__________________

(١) طه : ٣٩.

(٢) المتنزّه : مكان التنزه. «المعجم الوسيط : ج ٢ ، ص ٩١٥».

٢٩٩

التقمه وشرب ، ففرح فرعون وأهله ، وأكرموا أمه ، وقالوا لها : ربيه لنا ، ولك منّا الكرامة بما تختارين. وذلك قول الله تعالى : (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

وكان فرعون يقتل أولاد بني إسرائيل كلّما يلدون ، ويربّي موسى ويكرمه ، ولا يعلم أن هلاكه على يده ، فلمّا درج موسى ، كان يوما عند فرعون ، فعطس موسى ، فقال : الحمد لله رب العالمين. فأنكر فرعون ذلك عليه ، ولطمه ، وقال : ما هذا الذي تقول؟ فوثب موسى على لحيته ـ وكان طويل اللّحية ، فهلبها ـ أي قلعها ـ فآلمه ألما شديدا ، فهم فرعون بقتله ، فقالت امرأته : هذا غلام حدث ، لا يدري ما يقول ، وقد آلمته بلطمتك إيّاه. فقال فرعون : بل يدري ، فقالت له : ضع بين يديه تمرا وجمرا ، فإن ميز بينهما فهو الذي تقول. فوضع بين يديه تمرا وجمرا ، وقال : كل. فمد يده إلى التّمر ، فجاء جبرئيل فصرفها إلى الجمر ، فأخذ الجمر في فيه ، فاحترق لسانه ، وصاح وبكى ، فقالت آسية لفرعون : ألم أقل لك إنه لا يعقل؟ فعفا عنه».

قال الراوي : فقلت لأبي جعفر عليه‌السلام : فكم مكث موسى غائبا عن أمّه حتى ردّه الله عليها؟ قال : «ثلاثة أيّام».

فقلت : كان هارون أخا موسى لأبيه وأمّه؟ قال : «نعم ، أما تسمع الله تعالى يقول : (يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي)(١).

فقلت : أيّهما كان أكبر سنّا؟ قال : «هارون».

قلت : وكان الوحي ينزل عليهما جميعا؟ قال : «الوحي ينزل على موسى ، وموسى يوحيه إلى هارون».

فقلت : أخبرني عن الأحكام ، والقضاء ، والأمر والنهي ، أكان ذلك

__________________

(١) طه : ٩٤.

٣٠٠