رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الأعمال الصالحة رأسها الإيمان فهي تابعة له ، فالشرط المصحح لقبول جميع الفرائض فرض الإيمان ، فإن الإيمان والإسلام واجب على كل إنسان ، والأحكام كلها الواجبة واجبة على كل إنسان ، ولكن يتوقف قبول فعلها أو فعلها من الإنسان على وجود الإسلام منه ، فلا يقبل تلبسه بشيء منها إلا بشرط وجود الإسلام عنده ، فإن لم يؤمن أخذ بالوجهين جميعا يوم القيامة (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) الجنة وهي دار السعادة ثماني جنات ، وهي : جنة عدن ، وجنة الفردوس ، وجنة النعيم ، وجنة المأوى ، وجنة الخلد ، وجنة السلام ، وجنة المقامة ، والوسيلة ، وهي أعلى جنة في الجنات ، فإنها في كل جنة من جنة عدن إلى آخر جنة ، فلها في كل جنة صورة ، وهي مخصوصة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده ، نالها بدعاء أمته ، حكمة من الله حيث نال الناس السعادة ببركة بعثته ودعائه إياهم إلى الله ، وتبيينه ما نزل الله إلى الناس من أحكامه ، جزاء وفاقا ، وأرض هذه الجنات سطح الفلك المكوكب ، الذي هو سقف النار ، وجعل الله في كل جنة مائة درجة ، بعدد الأسماء الحسنى والاسم الأعظم المسكوت عنه لوترية الأسماء ، وهو الاسم الذي يتميز به الحق عن العالم ، هو الناظر إلى درجة الوسيلة خاصة. ومنازل الجنة على عدد آي القرآن ما بلغ إلينا منه نلنا تلك المنزلة بالقراءة ، وما لم يبلغ إلينا نلناه بالاختصاص في جنات الاختصاص ، كما نلنا بالميراث جنات أهل النار الذين هم أهلها ، وأبواب الجنة ثمانية على عدد أعضاء التكليف فلكل عضو باب ، والأعضاء الثمانية : العين والأذن واللسان واليد

____________________________________

الذين عملوا الصالحات قولا يظهر منه السرور على بشرتهم ، وهو (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) يعني الأنهار المعروفة ، فأتى بحرف العهد والتعريف ، قال تعالى (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ، وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ، وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) وسيأتي الكلام عليها في السورة التي تذكر فيها ، ولم يعرّف الجنات لأن الأعمال التي تقتضيها لم تفصل ، فتتعرف جنة كل عمل ، وهذه مسئلة عظيمة جليلة الخطب ، عظيمة الفائدة ، لنا فيها باع متسع ، وقد أهملها الناس لعدم استقصائهم على مراتب الآخرة في دار السعادة والشقاء ، ثم قال (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً) أي كل وقت ، وما هنا ظرفية (قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) لشبهه في الصورة ، فإن المثل يشبه المثل ، ولا سيما في الأسماء ، فيقولون : هذا تفاح ورمان وغير ذلك ، فإذا طعموه تبيّن لهم الفرق بين المثلين ، كالصلوة تشبة الصلوة الأخرى في

٨١

والبطن والفرج والرجل والقلب ، فقد يقوم الإنسان في زمن واحد بأعمال هذه الأعضاء كلها ، فيدخل من أبواب الجنة الثمانية في حال دخوله من كل باب منها ، فإن نشأة الآخرة تشبه البرزخ وباطن الإنسان ، وأما خوخات الجنات فهي تسعة وسبعون خوخة وهي شعب الإيمان ، فلكل شعبة من الإيمان طريق إلى الجنة ، ولأهل الجنات الرؤية متى شاؤوا ، والذي تولى بناء الجنات كلها هم الاثنا عشر ملكا ، ملائكة البروج ، إلا جنة عدن فإن الله خلقها بيده ، وجعل بأيديهم غراس الجنات ، إلا شجرة طوبى فإن الحق تعالى غرسها بيده في جنة عدن ، وأطالها حتى علت فروعها سور الجنة جنة عدن ، وتدلت مطلة على سائر الجنات كلها ، وليس في أكمامها ثمر إلا الحلي والحلل ، لباس أهل الجنة وزينتهم ، زائدا في الحسن والبهاء على ما تحمل أكمام شجر الجنات من ذلك ، لأن لشجرة طوبى اختصاص فضل بكون الله خلقها بيده ، فإن لباس أهل الجنة ما هو نسج ينسج ، وإنما تشقق عن لباسهم ثمر الجنّة كما تشقق الأكمام هنا عن الورد ، وعن شقائق النعمان وما شاكلهما من الأزهار كلها ، هكذا ورد في الحديث الحسن نقلا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأدار بجنة عدن سائر الجنات ، وبين كل جنة وجنة سور يميزها عن صاحبتها ، وسمى كل جنة باسم معناه سار في كل جنة ، وإن اختصت هي بذلك الاسم ، فإن ذلك الاسم الذي اختصت أمكن ما هي عليه من معناه وأفضله (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) أي يشبه بعضه بعضا ، فيتخيل أن الثاني عين الأول وليس كذلك بل هو مثله ، والفارق بين المثلين في أشياء يعسر إدراكه بالمشاهدة.

____________________________________

إقامة نشأتها ، ولكن الذي يجده المصلي في كل صلوة مختلف باختلاف الأحوال ، فكما كانت الأعمال هنا متشابهة الصور ، كذلك ثمراتها متشابهة الصور ، وكل ذائق يعرف الفرق في الآخرة كما عرفه في العمل في الدنيا (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) ولم يقل مطهرات لأن تطهير كل زوجة ما هو تطهير الزوجة الأخرى ، كالجنات سواء وما فيها ، فيقول : كل زوجة مطهرة ، ولو لم يكن كذلك لكان الذوق له من كل واحدة على نسبة واحدة ، ولا تكرار فيها أصلا ، بل ولا في العالم للاتساع الإلهي ، بل نعيم مجدد مع تجدد الأنفاس ، وليس اجتماعه بها الأول شبه الثاني (وَهُمْ فِيها) يعني في الجنة (خالِدُونَ) أي لا يخرجون منها ، قال تعالى (وَما هُمْ مِنْها

٨٢

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ) (٢٦)

الحياء : معناه الترك ، ورد في الخبر : أن الله حيي ، لكن للحياء موطن خاص ، فإن الله قد قال في الموطن الذي لا حكم للحياء فيه : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي) أي إن الله لا يترك (أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً) فالوجود كله عظيم فلا يترك منه شيء ، لأن الحياء ترك ، فما ثمّ تافه ولا حقير ، فإن الكل شعائر الله ، وذلك لقول من ضلّ بهذا المثل من المشركين الذين تكلموا فيه ، فلو وجد الحق عند السامع ما هو أخفى من البعوضة لجاء بها ، كما جاء بذلك مجملا في قوله (فَما فَوْقَها) يعني في الصغر ، يعني أنه لا يترك ضرب المثل بالأدنى والأحقر عند الجاهل ، فإنه ما هو حقير عند الله ، وكيف يكون حقيرا من هو عين الدلالة على الله ، فيعظم الدليل بعظمة المدلول ، لذلك قال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) فالقرآن له وجه نفع في المؤمن فإنه يزيده إيمانا ، وفيه وجه ضرر للكافر لأنه يزيده ، رجسا إلى رجسه ، ولذلك قال تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) أي بهذا المثل المضروب به في القرآن أي بسببه وهو من القرآن ،

____________________________________

بِمُخْرَجِينَ) (٢٧) (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً) الآية ، الأوجه في قوله (لا يَسْتَحْيِي) نفي الحياء عن الله ، فمن قال بالمفهوم من الخطاب ، أو احتج في أن الله ذو حياء بحديث (إن الله يستحي من ذي الشيبة) فالأوجه في التأويل في هذه الآية ، أن يكون قول الله جوابا بحكم المطابقة لكلام تقدم من الكفار ، وهو : أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلا بالمحقرات ، كبيت العنكبوت والذباب؟ وهم طائفة من الكفار لا حرمة للحق عندهم ، أو يقولون : الله أعلى وأجل وأعظم حياء أن يضرب مثلا بما يعاب عليه من ذكره هذه المحقرات ، فقال الله (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما) فيكون جوابا بحكم التطابق لكلامهم ، وهل يتصف بالحياء أم لا؟ مسئلة أخرى ، فإن ورد بذلك نص عنه أجريناه مجرى ما نسب إليه من اليد والعين وغير ذلك ، على

٨٣

ومعلوم أن القرآن مهداة كله ، ولكن بالتأويل في المثل المضروب ضل من ضل ، وبه اهتدى من اهتدى ، فهو من كونه مثلا لم تتغير حقيقته ، وإنما العيب وقع في عين الفهم ، فاحذر من القرآن إلا أن تقرأه فرقانا فإن الله (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) أي يحيرهم (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) أي يرزقهم الفهم فيه بما هو عليه من البيان ، فعلّمك في هذه الآية أن لا تترك شيئا إلا وتنسبه إلى الله ولا يمنعك حقارة ذلك الشيء ولا ما تعلق به من الذم عرفا وشرعا في عقدك ، ثم تقف عند الإطلاق ، فلا تطلق ما في العقد على كل شيء ولا في كل حال وقف عندما قاله لك الشارع ، قف عنده فإن ذلك هو الأدب الإلهي الذي جاء به الشرع. (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) فإنهم حاروا فيه ، والضلالة الحيرة ، ورأوا عزة الله وجلاله وكبرياءه وحقارة البعوضة في المخلوقات ، فاستعظموا جلال الله أن ينزل في ضرب المثل لعباده هذا النزول ، وذلك لجهلهم بالأمور فإنه لا فرق بين أعظم المخلوقات وهو العرش المحيط ، وبين

____________________________________

الوجهين ، على ما تتأوله الأشاعرة ، أو على ما ذهب إليه السلف من الوقوف عند ذلك من غير تأويل ، قال تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما) فأبهمه بقوله «ما» أي بكل ما يجوز أن يضرب به المثل ، لأن القصد من المثل إيصال المعنى إلى المخاطب السامع ، حتى يفهم المراد منه إذا كان لا يصل إلى معرفة المعاني بغامضات الأدلة لبعدها ، فينزل لهم المتكلم في العبارات بضرب الأمثال لذلك ، ولا يتصور أن ينكر ضرب الأمثال بالمحقرات أهل الكتاب ، لأنه في كتبهم من ذلك كثير ، وهم مؤمنون به إلا أن يباهتوا ، وأما ما عدا أهل الكتاب فقد يسوغ منهم ذلك على الطريقين اللذين ذكرناهما ، من التعظيم لله ، وعدم التعظيم أو التعليل ، ثم قال (بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) في الصغر كالذرة ، ثم قال (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) يريد أصحاب الكتب ، ونحن وكل من أنزل عليه كتاب وآمنوا بكتبهم (فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ) المثل (الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي حق مطابق للممثل به ، وأن الله قاله (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا) الذي ذكره (مَثَلاً) أي لأي شيء ضرب المثل ، وقد يتصور هذا القول من العالم أنه من الحق ومن غيره ، فيقوله معنى : إنه على زعمكم أنه قاله سبحانه ، فقال تعالى (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) يعني بالمثل يقول ليضل به (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) ولم يذكر المؤمنين وذكر الفاسقين (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) الذين خرجوا عما دخل فيه المؤمنون من الإيمان بالله مطلقا ، وبرسوله في حق البراهمة ، وبمحمد في حق من كفر به من أهل الكتب ، على الخصوص ، وما جاء به ، والفسوق الخروج عن الشيء ، وفي الشرع الخروج عن

٨٤

الذرة في الخلق ، والبعوضة وإخراجها من العدم إلى الوجود ، فما هي حقيرة إلا في صغر جسمها إذا أضفته إلى ذي الجسم الكبير ، بل الحكمة في البعوضة أتم ، والقدرة أنفذ ، فإن البعوضة على صغرها خلقها الله على صورة الفيل على عظمه ، فخلق البعوضة أعظم في الدلالة على قدرة خالقها من الفيل لأهل النظر والاعتبار ، ولهذا لم يصف نفسه بالحياء في ذلك لما فيها من الدلالة على تعظيم الحق ، ثم إن من رحمته تعالى بخلقه أن قال (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) الخارجين عن حكم إما العقل السليم أو الشرع المعصوم ، وهم الذين خرجوا عن حدوده ورسومه ، فأعطانا العلامة ، فمن وجد في نفسه تلك العلامة علم أنه من أهل الضلال.

(الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٢٧) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٨)

الوجه الأول ـ (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) وهو الموت الأصلي لا عن حياة متقدمة في الموصوف بالموت ، وهو العدم الذي للممكن إذ كان معلوم العين لله ولا وجود

____________________________________

أوامر الله ، ثم وصفهم فقال تعالى (٢٨) (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) مطلقا ، يريد ميثاق أخذ الذرية بالإقرار ، وأخذ العهد على أهل الكتاب ، وقوله (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) من وصل الإيمان بالرسل مع الإيمان بالله في حق البراهمة ومن قال بقولهم ، وفي حق أهل الكتاب الذين جحدوا نبوة محمد عليه‌السلام ولم يصلوا إيمانهم به بإيمانهم بالله ورسلهم (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) أن يفعلوا فيها بخلاف أمر الله مطلقا (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) يقول : هم الذين ما ربحت تجارتهم ، بل خسروا رأس مالهم ، وبعد أن ذكرنا أصول هذه الآية من الإيمان ، فالمقصود أيضا منها فروع الأحكام ، فكل عهد مشروع بيننا بعضنا في بعض ، وبين الكفار وبيننا مما ألزمنا الحق الوفاء به ، يدخل تحت هذا النقض ، وأنه عهد الله الذي شرعه لنا ، وكذلك ما أمرنا الله به أن نوصله من الأرحام وأهل ودّ آبائنا ، فيلزمنا إيصاله ، وتلحقنا المذمة من هذه الآية بقطع ذلك (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) حيث اشتروا الضلالة بالهدى ، والعذاب بالمغفرة ، والكفر

٨٥

له في نفسه ، (فَأَحْياكُمْ) فأخرجكم إلى الوجود (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) وهو الموت العارض ، الذي يطرأ على الحي فيزيل حياته ، فإن حياة الجسم الظاهرة من آثار حياة الروح كنور الشمس الذي في الأرض من الشمس ، فإذا مضت الشمس تبعها نورها وبقيت الأرض مظلمة ، كذلك الروح إذا رحل عن الجسم إلى عالمه الذي جاء منه تبعته الحياة المنتشرة منه في الجسم الحي ، وبقي الجسم في صورة الجماد في رأي العين ، فيقال مات فلان وتقول الحقيقة رجع إلى أصله (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) كما رجع أيضا الروح إلى أصله ، حتى البعث والنشور يكون من الروح تجل للجسم بطريق العشق ، فتلتئم أجزاؤه ويتركب أعضاؤه بحياة لطيفة جدا تحرك الأعضاء للتأليف ، فإذا استوت البنية وقامت النشأة الترابية تجلى له الروح بالرقيقة الإسرافيلية في الصور المحيط ، فتسري الحياة في أعضائه ، فيقوم شخصا سويا كما كان أول مرة ، وهو قوله تعالى : (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ)(ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فإما شقي وإما سعيد ـ الوجه الثاني ـ لما كان الموت سببا لتفريق المجموع ، وفصل الاتصالات وشتات الشمل سمي التفريق الذي هو بهذه المثابة موتا ، فقال تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) أي كنتم متفرقين في كل جزء من عالم الطبيعة ، فجمعكم وأحياكم ثم يميتكم أي يردكم متفرقين ، أرواحكم مفارقة لصور أجسامكم التي أخذ عليها الميثاق (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) الحياة الدنيا (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بعد مفارقة الدنيا ـ صلاة الجنازة على الطفل ـ أطلق الله علينا اسم الموت قبل نفخ الروح ، ولذلك يصلى على صورة الجنين ولو كان أصغر من البعوضة بحيث تكون أعضاؤه مصورة حتى يعلم أنه إنسان ، وإن

____________________________________

بالإيمان ، والفساد بالصلاح ، والقطيعة بالوصل ، ونقض العهد بالوفاء ، ثم أخذ سبحانه يقرر نعمته عليهم ، فقال (٢٩) (كَيْفَ) حرف استفهام مثل الهمزة بضرب من التوبيخ والتقرير والإنكار عليهم ، بما قررهم عليه من النعم التي يذكرها ، فقال كيف (تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) بلا حياة (فَأَحْياكُمْ) فخلق فيكم الحياة بخلق الروح الذي هو المقصود من الإنسان (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) أي يقبض أرواحكم الله ، لتلقوه فتشرفون بلقائه (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) ثم يرد أرواحكم إلى أجسادها ، ليكون العبد عند ربه بكليته روحا وجسما ، كما كان بالموت روحا دون جسم ، فكان نعمة على نعمة ، فركب أرواحكم في أجسادكم لترجعوا إليه سبحانه ، فقال (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وجعله رجوعا لأنه خرج من عنده روحا عبدا ، فرده إلى تدبير جسده ، فرجع إليه واليا مليكا ،

٨٦

كان قبل نفخ الروح فيه ، فإنه ينطلق بالشرع على تلك الصورة أنها ميتة ، فإذا خرج الجنين بالطرح ، وشاهدناه صورة وإن لم ينفخ فيه روح للصورة الظاهرة ، وتحقق اسم الموت ، فلا مانع للصلاة عليه بوجه من الوجوه ، ولم يقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه لا يصلى على ميت إلا بعد أن تتقدمه حياة ، ما تعرض لذلك ، وإن كان لم يقع الأمر إلا فيمن تقدمت له حياة ، وما يدل عدم النقل على رفع الحكم ، بل المفهوم من الشرع الصلاة على الميت من غير تخصيص ، إلا ما خصصه الشارع من النهي عن الصلاة على الكافر وغير ذلك ، ممن نص ترك الصلاة عليه ، وليس للطفل فيه مدخل. بل قد ذكر الترمذي عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الطفل يصلى عليه ، ولا يرث ولا يورث حتى يستهل صارخا ، فقد حكم بالصلاة عليه وما حكم بالميراث مثل ما حكم على من مات عن حياة ، فهذا الخبر يقوي ما ذهبنا إليه ، من وجود صورة الإنسان وإن لم يعلم أن موته عن حياة ولا عن غير حياة ، وحديث المغيرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الطفل يصلى عليه.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٩)

إن الرزق على نوعين في الميزان الموضوع في العالم لإقامة العدل وهو الشرع : النوع الواحد يسمى حراما ، والنوع الآخر يسمى حلالا ، وهو بقية الله التي جاء نصها في القرآن. قال تعالى : (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فهذه هي التي بقيت للمؤمنين

____________________________________

بما ولاه الله عليه من تدبير جسده ، ومن ملكه الذي يصل إليه في جواره في دار الكرامة ، فإن كنتم مؤمنين كنتم بهذه المثابة من الكرامة ، وإن كفرتم كنتم على النقيض من هذه الصفة ، وكان خلق الحياة والموت في حقكم ابتلاء ، فقال تعالى (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) فأحسن المؤمنون فربحوا ، ولم يحسن الكفار فخسروا ، حيث لم يقوموا بشكر هذه النعم ، ثم أردف هذه النعم بنعم أخر فقال (٣٠) (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ردا على القائلين بنسبة الخلق المولد في الأرض للطبيعة ، فأضافه إليه سبحانه ، وخلق هنا خاصة بمعنى قدّر ، وهو

٨٧

من قوله (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) وقد ورد في الخبر أن ما سكت عن الحكم فيه بمنطوق فهو عافية ، أي دارس لا أثر له ولا مؤاخذة فيه ، فإن الله قد بيّن للناس ما نزّل إليهم من الأحكام في كتابه ، وعلى لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والساكت لا ينسب إليه أمر حتى يتكلم ولا مذهب ، ولهذا لا يدخل في الإجماع بسكوته. وهذه مسألة خلاف ، والصحيح ما قلناه ، كما أن ترك النكير ليس بحجة إلا في بقاء ذلك الأمر على الأصل المنطوق به في قوله تعالى (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) وكلام بني آدم مما خلق في الأرض وجميع أفعالهم ، فإذا رأينا أمرا قد قيل ، أو فعل بمحضر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم ينكره ، فلا نقول إن حكمه الإباحة ، فإنه لم يحكم فيه بشيء ، إذ يحتمل أنه لم ينزل فيه شيء عليه ، وهو لا يحكم إلا بما أوحى الله فيه إليه ، فيبقى ذلك على الأصل وهو التصرف الطبيعي الذي تطلبه هذه النشأة من غير تعيين حكم عليه بأحد الأحكام الخمسة وهو الأصل الأول ، أو نرده إلى الأصل الثاني وهو قوله تعالى (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) وليس بنص في الإباحة ، وإنما هو ظاهر لأن حكم المحظور خلق أي حكم به من أجلنا ، أي نزل حكمه من أجلنا ابتلاء من الله هل نمتنع منه أم لا ، كما نزل الوجوب والندب والكراهة والإباحة ، فالأصل أن لا حكم ، وهو الأصل الأول الذي يقتضيه النظر الصحيح (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) فالسموات من العناصر ، فهي أجسام عنصريات وإن كانت فوق الأركان بالمكان ، فالأركان فوقهن بالمكانة. ـ بحث في الاسنواء ـ من الآيات المتشابهة آيات الاستواء ، والأحاديث الواردة فيه ، ومرجعها فيه عند المحققين إلى الآيات المحكمات ، وأول ما ينبغي تقديمه معنى الاستواء لغة ، وأصله افتعال من السواء والسواء في اللغة العدل والوسط ، وله وجوه في الاستعمال ترجع إلى ذلك ، منها استوى يعني أقبل ، نقله الهروي عن الفراء ، فإن العرب يقولون استوى إلي يخاصمني أي أقبل إلي ـ الثاني : بمعنى قصد ، قاله الهروي ـ الثالث : بمعنى استولى ـ الرابع : بمعنى استقام ـ الخامس :

____________________________________

قوله تعالى (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) وسيأتي في (فصلت) وإنما قلنا خلق هنا بمعنى قدر ، لأنه قال بعد هذا (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) فجاء بثم ، يؤذن بالبعدية ، فخلق الأرض وقدر فيها أقواتها علما ، ثم استوى إلى السماء وكانت واحدة ففتقها وسواها سبع سموات طباقا

٨٨

بمعنى اعتدل ـ السادس : بمعنى علا ـ قال الشاعر :

ولما علونا واستوينا عليهم

تركناهم صرعى لنسر وكاسر

قال الحسن بن سهل : إذا علم أصل الوضع وتصاريف الاستعمال فنزل على ذلك الاستواء المنسوب إلى ربه سبحانه وتعالى ، وقد فسره الهروي بالقصد ، وفسره ابن عرفة بالإقبال كما نقل عن الفراء ، وفسره بعضهم بالاستيلاء ، وأنكره ابن الأعرابي وقال : العرب لا تقول استولى إلا لمن له تضادد ، وفيما قاله نظر لأن الاستيلاء من الولي وهو القرب أو من الولاية وكلاهما لا يفتقر إطلاقه بالمضادد ، ونقل الحسن بن سهل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسر قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) قال : علا أمره ، وهذه التفاسير كلها ومنه قوله تعالى (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) وقوله تعالى (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) الآية فلا يليق نسبة مثله إلى استواء ربنا تعالى على العرش ، مع أنا نقول قد علمت أصل اشتقاق الاستواء ولا مدخل فيه لمعنى الاستقرار ، وإنما الحق أن معنى استوى على الدابة جاء على الأصل ، ويكون معناه اعتدل ، أو علا عليها ، والاستقرار لازم ذلك بحسب خصوصية المحل ، لا أن للاستقرار مدخلا في معنى اللفظ مطلقا ، وحينئذ فلا يصح نسبة مثله إليه تعالى لاستحالته في حقه ، وعدم وضع اللفظ له ، وقد ثبت عن الإمام مالك رضي الله عنه أنه سئل كيف استوى؟ فقال : كيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، فقوله كيف غير معقول ، أي : كيف من صفات الحوادث وكلما كان من صفات الحوادث فإثباته في صفات الله تعالى ينافي ما يقتضيه العقل ، فيجزم على نفيه عن الله تعالى ، وقوله : والاستواء غير مجهول ، أي أنه معلوم المعنى عند أهل اللغة ، : والإيمان به على الوجه الأليق به تعالى واجب ، لأنه من الإيمان بالله تعالى وبكتبه ، : والسؤال عنه بدعة : أي حادث لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا عالمين بمعناه الأليق بحسب اللغة ، فلم يحتاجوا للسؤال عنه ، فلما جاء من لم يحط بأوضاع لغتهم ، ولا له نور كنورهم ، يهديه لصفات ربهم ، شرع يسأل عن ذلك ، فكان سؤاله سببا لاشتباهه

____________________________________

فدارت بكواكبها ، ففتق الأرض بما أخرج فيها ومنها من معدن ونبات وحيوان ، فكان إيجادا عند دوران الأفلاك بعد تقدير ، وجعل سبحانه هذا الخلق كله من أجلنا ، فأية نعمة أو أية عناية أعظم

٨٩

على الناس وزيغهم عن المراد ، وتعين على العلماء حينئذ أن لا يهملوا البيان ، قال الله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) ولا بد في إيضاح البيان الزيادة فنقول : قد قررنا أن الاستواء مشتق من السواء وأصله العدل ، وحينئذ الاستواء المنسوب إلى ربنا تعالى في كتابه بمعنى اعتدل أي قام بالعدل ، وأصله من قوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إلى قوله (قائِماً بِالْقِسْطِ) فقيامه بالقسط والعدل هو استواؤه ، ويرجع معناه إلى أنه أعطى بعدله كل شيء خلقه ، موزونا بحكمته البالغة في التعرف لخلقه بوحدانيته ، ولذلك قرنه بقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) والاستواء المذكور في كتابه استواءان : استواء سماوي واستواء عرشي ، فالأول تعدى بإلى قال تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) وقال (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) ومعناه ـ والله أعلم ـ اعتدل أي : قام بقسطه وتسويته إلى السماء فسواهن سبع سموات ، ونبّه على أن استواءه هذا هو قيامه بميزان الحكمة ، وتسويته بقوله أولا عن الأرض (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) وبقوله آخرا (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) وأما الاستواء العرشي : فهو أنه تعالى قام بالقسط ، متعرفا بوحدانيته في عالمين : عالم الخلق ، وعالم الأمر وهو عالم التدبير ، (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) فكان استواؤه على العرش للتدبير بعد انتهاء عالم الخلق لقوله تعالى : (الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه) وبهذا يفهم سر تعدية الاستواء العرشي بعلى ، لأن التدبير للأمر لا بد فيه من استعلاء واستيلاء (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وعلمه تعالى ذاته ، فإنه يستحيل عليه أن يقوم بذاته أمر زائد ، أو عين زائدة ما هي ذاته ، تعطيها حكما لا يصح لها ذلك الحكم دونها مما يكون كمالا لها في ألوهيتها ، بل لا تصح الألوهة إلا بها وهو كونه عالما بكل شيء ، ذكر ذلك عن نفسه بطريق المدحة لذاته ، ودل عليه دليل العقل. ـ رقيقة ـ لما خلق الله الثقلين في المقام الذي قصده بخلقهم وهو أجلية الحق ، من قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فرغهم لذلك

____________________________________

من هذه العناية ، التي لأجلها خلق هذا الخلق العظيم الكبير ، ومصداق كونه من أجلنا أنه إذا انتقلنا إلى الدار الآخرة مارت السماء وانشقت ، وزالت الأرض وسارت الجبال بزوالنا من الدنيا ،

٩٠

حتى لا يقوم لهم حجة بالاشتغال بما به قوامهم ، فخلق الأشياء التي بها قوامهم خاصة من أجلهم ليتفرغوا لما قصد بهم ، فقامت عليهم حجة الله إذا لم يقوموا بما خلقوا له ، جاء في الأثر أن الحق يقول لابن آدم : خلقت الأشياء من أجلك ، وخلقتك من أجلي ، فلا تهتك ما خلقت من أجلي ، فيما خلقت من أجلك ـ تحقيق ـ العالم لا يرمي بشيء من الوجود ، وإنما يبرز إليه ما يناسبه منه ، ولا يغلب عليه حال من الأحوال ، بل هو مع كل حال بما يناسبه ، فإن أكثر الناس لا يعلمون ذلك ، بل هم بهذا القدر جاهلون ، وهذا هو الذي أداهم إلى ذم الدنيا وما فيها ، والزهد في الآخرة ، وفي كل ما سوى الله ، وانتقدوا على من شغل نفسه بمسمى هذه كلها ، وجعلهم في ذلك ما حكي عن الأكابر في هذا النوع ، وحملوا ألفاظهم على غير وجه ما تعطيه الحقيقة ، ورأوا أن كل ما سوى الله حجاب عن الله ، فأرادوا هتك هذا الحجاب فلم يقدروا عليه إلا بالزهد فيه ، والحق كل يوم في شأن الخلق ، والجنة وهي دار القربة ومحل الرؤية ، هي دار الشهوات وعموم اللذات ، ولو كانت حجابا لكان الزهد والحجاب فيها ، وكذلك الدار الدنيا ، فالله خلق أجناس الخلق وأنواعه ، وما أبرز من أشخاصه لننظر فيه نظرا يوصلنا إلى العلم بخالقه ، فما خلقه لنزهد فيه ، فوجب علينا الانكباب عليه ، والمثابرة والمحبة فيه ، لأنه طريق النظر الموصل إلى الحق ، فمن زهد في الدليل فقد زهد في المدلول ، وخسر الدنيا والآخرة ، ذلك هو الخسران المبين. وجهل حكمة الله في العالم وجهل الحق وكان من الخاسرين ، فالرجل كل الرجل من ظهر بصورة الحق في عبودة محضة ، فأعطى كل ذي حق حقه ، ويبدأ بحق نفسه فإنها أقرب إليه من كل من توجه له عليه حق من المخلوقين ، وحق الله أحق بالقضاء ، وحق الله عليه إيصال كل حق إلى من يستحقه ، فيطلبه أصحاب الحقوق بحقوقهم نطقا وحالا ظاهرا وباطنا ، فيطلبه السمع بحقه ، والبصر واللسان واليدان والبطن والفرج والقدمان والقلب والعقل والفكر والنفس النباتية ، والحيوانية والغضبية والشهوانية والحرص ، والأمل والخوف والرجاء والإسلام والإيمان والإحسان ، وأمثال هؤلاء من عالمه المتصل به ، وأمره الحق أن لا يغفل

____________________________________

وكان أيضا هذا ابتلاء مدرجا في نعمة ، أو نعمة مدرجة في ابتلاء ، مثل خلق الحياة والموت ، فقال تعالى (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ

٩١

عن أحد من هؤلاء أوّلا ، ويصرفهم في المواطن التي عين له الحق ، وجعل هذه القوى كلها متوجهة على هذه النفس الناطقة بطلب حقوقها ، وجعلها كلها ناطقة بتسبيح الله تعالى جعلا ذاتيا لا تنفك عنه ، وجعل هذه الحقوق التي توجهت لها على النفس الناطقة الحاكمة على الجماعة ثابتة الحق جزاء لما هي عليه من تسبيح الله بحمده دنيا وآخرة ، فالعارف المكمّل المعرفة يعلم أن فيه من يطلب مشاهدة ربه ومعرفته الفكرية والشهودية ، فتعين عليه أن يؤدي إليهم حقهم من ذلك ، وعلم أن فيه من يطلب المأكل الشهي الذي يلائم مزاجه ، والمشرب والمنكح والمركب والملبس والسماع والنعيم الحسي المحسوس ، فتعين عليه أيضا أن يؤدي إليهم حقوقهم من ذلك الذي عين لهم الحق ، ومن كان هذا حاله كيف يصح له أن يزهد في شيء من الموجودات؟ وما خلقها الله إلا له. إلا أنه مفتقر إلى علم ما هو له وما هو لغيره لئلا يقول كل شيء هو له ، فلا ينظر من الوجوه الحسان إلا ما يعلم أنه له ، وما يعلم أنه لغيره يكف بصره ويغضه عنه ، فإنه محجور عليه ما هو لغيره ، فهذا حظه من الورع والاجتناب ، والزهد إنما متعلقة الأولوية بخلاف الورع وكل ترك ، فأما الأولوية فينظر في الموطن يعمل بمقتضاه ، ومقتضاه قد عينه له الحق بما أعلمه به بلسان الشرع ، فسموا من طريق الأخذ بالأولوية زهادا ، حيث أخذوا بها ، فإن لهم تناول ذلك في الحياة الدنيا فما فعلوا ، لأن الله خيرهم فما أوجبه عليهم ولا ندبهم إليه ولا حجر عليهم ولا كرهه فاعلم ذلك ، ثم إنه ينظر في هذا المخير فيه فلا يخلو حاله في تناوله أن يحول بينه هذا التناول وبين المقام الأعلى الذي رجحه له أو لا يحول ، فإن حال بينه وبينه تعين عليه بحكم العقل الصحيح السليم تركه والزهد فيه ، وإن كان على بينة من ربه أن ذلك لا يقدح ، ولا يحول بينه وبين الرتبة العليا من ذلك فلا فائده لتركه ، كما قال لنبيه سليمان عليه‌السلام : (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) ولا تكون ممن تلتبس عليه الأمور فيتخيل أنه بزهده فيما هو حق لشخص ما من رعيته ، ينال حظ ما يطلبه به منه شخص آخر من رعيته ، فإن

____________________________________

أَحْسَنُ عَمَلاً) وقال (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ) فقال تعالى (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي بما خلق ، وبما لأجله خلق ، وبما يكون ممن خلق ، وقال تعالى (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) فهو قوله (خَلَقَ لَكُمْ) أي من أجلكم ، وجعل ذلك آيات لقوم يتفكرون ليعلموا ما مراد

٩٢

ذلك عين الجهل ، فالأولى بالعبد الذي كلفه الله تدبير نفسه وولاه أن يعلم ، فإذا علم استعمله علمه فوفّى الحقوق أربابها ، ومثل هذا الإمام في العالم قليل.

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٣٠)

خلق الخليفة من العناصر ـ لما خلق الله الأفلاك والسموات ، وأوحى في كل سماء أمرها ، ورتب فيها أنوارها وسرجها ، وعمرها بملائكته وحركها فتحركت ، وخلق الجان من النار ، والطير والدواب البرية والبحرية والحشرات ، وقدر في الأرض أقواتها من أجل المولدات ، فجعلها خزانة لأقواتهم ، واستوت المملكة وتهيأت ، ما عرف أحد من هؤلاء المخلوقات كلها من أي جنس يكون هذا الخليفة؟ الذي مهد الله هذه المملكة لوجوده ، بترتيب الله الخلق بالإيجاد ، إلى أن انتهت النوبة والترتيب الإلهي إلى ظهور هذه النشأة الإنسانية الآدمية ، فلما وصل الوقت المعين في علمه لإيجاد هذا الخليفة ، أمر بعض ملائكته بأن يأتيه بقبضة من كل أجناس تربة الأرض ، فأتاه بها ـ في خبر طويل معلوم عند الناس ـ فأخذها سبحانه وخمرها بيديه في قوله «لما خلقت بيدي» فلما خمر الحق تعالى بيديه طينة آدم حتى تغير ريحها وهو المسنون ، وذلك الجزء الهوائي الذي في النشأة ، وكان الجزء الناري الذي أنشأه الله منه في قوله تعالى : (مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) والجزء المائي هو الذي عجن به التراب فصار طينا ، فلما سوى نشأته جعل ظهره محلا للأشقياء والسعداء من ذريته ، فأودع فيه ما كان في قبضتيه ، فإنه سبحانه أخبر أن في قبضة يمينه السعداء ، وفي قبضة اليد الأخرى الأشقياء ، وكلتا يدي ربي يمين مباركة ، فقال : هؤلاء للجنة ،

____________________________________

الله من ذلك ، فمن وجوهه عندنا الابتلاء الذي نبهنا عليه ، ثم أردف هذه الآية بنعمة الاستخلاف وتعليم الأسماء والسجود لهذه النشأة الإنسانية ، فقال تعالى (٣١) (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ)

٩٣

وبعمل أهل الجنة يعملون ، وهؤلاء إلى النار ، وبعمل أهل النار يعملون ، وأنشأ الحق هذه النشأة الإنسانية في أحسن تقويم ، ثم نفخ فيها من روحه المضاف إليه ، فحدث عند هذا النفخ فيه بسريانه في أجزائه الحياة وما يتبعها من كونه حيوانا ، وبذلك جمع الله في الإنسان الكامل بين الصورتين الطبيعيتين في نشأته ، فخلقه بجسم مظلم كثيف ، وبجسم لطيف محمول في هذا الجسم الكثيف سماه روحا له ، به كان حيوانا وهو البخار الخارج من تجويف القلب المنتشر في أجزاء البدن المعطي فيه النمو والإحساس ، ثم خصه بما يتميز به عن الحيوان بالقوة المصورة والعاقلة ، ثم أنشأه خلقا آخر وهو الإنسانية فجعله درّاكا بهذه القوى ، حيا عالما قادرا مريدا متكلما سميعا بصيرا على حد معلوم معتاد في اكتسابه ، وخصه دون العالم كله بالقوة المفكرة التي بها يدبر الأمور ويفصلها ، وليس لغيره من العالم ذلك فإنه على الصورة الإلهية ، ومن صورتها يدبر الأمر يفصل الآيات فتبارك الله أحسن الخالقين ـ البحث الثاني : ما هو الإنسان؟ ـ اعلم أن الناس اختلفوا في مسمى الإنسان ما هو؟ فقالت طائقة : هو اللطيفة وطائفة قالت : هو الجسم ، وطائفة قالت : هو المجموع وهو الأولى. وقد وردت لفظة الإنسان على ما ذهبت إليه كل طائفة ، ثم اختلفنا في شرفه هل هو ذاتي؟ أو هو بمرتبته نالها بعد ظهوره في عينه وتسويته كاملا في إنسانيته إما بالعلم وإما بالخلافة والإمامة؟ فمن قال : إنه شريف لذاته ، نظر إلى خلق الله إياه بيديه ، ولم يجمع ذلك لغيره من المخلوقين ، وقال : إنه خلقه على صورته ، فهذه حجة من قال شرفه شرف ذاتي ، ومن خالف هذا القول قال : لو أنه شريف لذاته لكنا إذا رأينا ذاته علمنا شرفه ،

____________________________________

لما اقتضى عند الله خلقنا صلاحا في نفس الأمر ، قرن التعريف لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاسم الرب الذي هو المصلح ، وأضافه إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم اعتناء به أنه المقصود من هذه النشأة ، إذ كان سيد الناس يوم القيامة ، وأخفى في الدنيا ما يجب من تعظيمه لعلو منزلته ، كما أخفى ما يستحقه جل جلاله من تعظيم عباده إياه ، وأطلق الألسنة عليه بأن له صاحبة وولدا ، وما وفع به التعريف مما لا يليق به ، كذلك قيل فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه ساحر مجنون كذاب ، وغير ذلك ، فإذا كان يوم القيامة وظهر الحق سبحانه في عزته وكبريائه ، فذلّ كل موجود تحت عزته على الكشف ، وذهبت الدعاوى وتبرأ الذين اتّبعوا من الذين اتّبعوا ، ظهر أيضا في ذلك اليوم مقام محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسيادته على الناس ، وافتقار

٩٤

والأمر ليس كذلك ، ولم يكن يتميز الإنسان الكبير الشريف بما يكون عليه من العلم والخلق على غيره من الأناسي ويجمعهما الحد الذاتي ، فدل أن شرف الإنسان بأمر عارض يسمى المنزلة أو المرتبة ، فالمنزلة هي الشريفة ، والشخص الموصوف بها نال الشرف بحكم التبعية ، كمرتبة الرسالة والنبوة والخلافة والسلطنة ، فما علم شرف الإنسان إلا بما أعطاه الله من العلم والخلافة ، فليس لمخلوق شرف من ذاته على غيره إلا بتشريف الله إياه. وأرفع المنازل عند الله أن يحفظ الله على عبده مشاهدة عبوديته دائما ، سواء خلع عليه من الخلع الربانية شيئا أو لم يخلع ، فهذه أشرف منزلة تعطى لعبد ، وهو قوله تعالى : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) وقوله سبحانه : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) فقرن معه تنزيهه ، فليس لصنعة شرف أعلى من إضافتها إلى صانعها ، ولهذا لم يكن لمخلوق شرف إلا بالوجه الخاص الذي له من الحق ، لا من جهة سببه المخلوق مثله ، وفي هذا الشرف يستوي أول موجود ـ وهو القلم أو العقل أو ما سميته ـ وأدنى الموجودات مرتبة ، فإن النسبة واحدة في الإيجاد ، والحقيقة واحدة في الجميع من الإمكان ، فآخر صورة ظهر فيها الإنسان الصورة الآدمية ، وليس وراءها صورة أنزل منها ، وبها يكون في النار من شقي لأنها نشأة تركيب تقبل الآلام والعلل ، وأما أهل السعادة فينشؤون نشأة وتركيبا لا يقبل ألما ولا مرضا ولا خبثا ، ولهذا لا يهرم أهل الجنة ولا يتمخطون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يسقمون ولا يجوعون ولا يعطشون ، وأهل النار على النقيض منهم ، وهي نشأة الدنيا وتركيبها فهي أدنى صورة قبلها الإنسان وقد أتت عليه أزمنة ودهور قبل أن يظهر في هذه الصورة الآدمية ، وهو في الصورة التي له في كل مقام وحضرة من فلك وسماء وغير ذلك مما تمر عليه الأزمان والدهور ، ولم يكن قط في صورة من تلك الصور مذكورا بهذه الصورة الآدمية العنصرية ، ولهذا ما

____________________________________

الخلق إليه من سائر الأمم في فتح باب الشفاعة ، وبان فضله على سائر الأنبياء والرسل ، فعلم هنالك عظم منزلته عند ربه ، كما تظهر عزة كل مقرب عند سلطان عند ظهور سلطانه ودولته ، فأخبر سبحانه نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما كان بينه جل علاه وبين ملائكته في حق آدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن جعل لفظة الملائكة بمعنى الرسل كان صفة ، فدخل فيهم إبليس ، ومن جعله اسما لهم من حيث نشأتهم وإن كانوا سموا به لاستتارهم ، لم يدخل إبليس في هذا الخطاب ، وقد يكون الخطاب عاما لهم ولغيرهم من المخلوقين في ذلك الوقت ، وخصوا الملائكة بالذكر اعتناء بهم وتهمما وتشريفا ، فيدخل إبليس

٩٥

ابتلاه قط في صورة من صوره في جميع العالم إلا في هذه الصورة الآدمية ، ولا عصى الإنسان قط خالقه إلا فيها ، ولا ادعى رتبة خالقه إلا فيها ولا مات إلا فيها ، ولهذا يقبل الموت أهل الكبائر في النار ، ثم يخرجون فيغمسون في نهر الحياة فيتركبون تركيبا لا يقبل الآلام ولا الأسقام ، فيدخلون بتلك الصورة الجنة ـ البحث الثالث ـ خلق آدم عليه‌السلام الإنسان الكامل الأول ، والخليفة الأول ، باليدين وعلى الصورة الإلهية : لما أراد الله بالإنسان الخلافة والإمامة بدأ بإيجاد العالم ، وهيأه وسواه وعدله ورتبه مملكة قائمة ، فلما استعد لقبول أن يكون مأموما أنشأ الله جسم الإنسان الطبيعي ونفخ فيه من الروح الإلهي ، فخلقه على صورته لأجل الاستخلاف ، فظهر بجسمه فكان المسمى آدم فجعله في الأرض خليفة ، وكان من أمره وحاله مع الملائكة ما ذكر الله في كتابه لنا ، وجعل الإمامة في بنيه إلى يوم القيامة ، فالإنسان الكامل هو المقصود الذي به عمرت الدنيا وقامت ، وإذا رحل عنها زالت الدنيا ، ومارت السماء ، وانتثرت النجوم ، وكورت الشمس ، وسيرت الجبال ، وعطلت العشار ، وسجرت البحار ، وذهبت الدار الدنيا بآخرها ، وانتقلت العمارة إلى الدار الآخرة ، بانتقال الإنسان ، فعمرت الجنة والنار ، وما بعد الدنيا من دار : إلا الجنة والنار. واعلم أن الله جمع لنشأة جسد آدم بين يديه فقال «لما خلقت بيدي» فإنه لما أراد الله كمال هذه النشأة الإنسانية جمع لها بين يديه ، وأعطاها جميع حقائق العالم ، وتجلى لها في الأسماء كلها ، فحازت الصورة الإلهية ، والصورة الكونية ، وجعلها روحا للعالم وجعل أصناف العالم له كالأعضاء من الجسم للروح المدبرة له ، فلو فارق العالم هذا الإنسان مات العالم ، فالدار الدنيا جارحة من جوارح جسد العالم الذي الإنسان روحه ، فلما قابل الإنسان الحضرتين بذاته (الحضرة الإلهية والحضرة الكونية) صحت له الخلافة ، وتدبير العالم

____________________________________

في التعريف وإن لم يجر له ذكر ، وأما قوله تعالى (إِنِّي جاعِلٌ) أي خالق وناصب (فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فإن أراد في ذلك من يخلف من مضى في الأرض من الأمم قبلنا أو الملائكة ، وهو الأظهر ، فيدخل تحت هذه اللفظة آدم وذريته الكافر والمؤمن ، وإن أراد بالخلافة النيابة عنه في خلقه ، فتختص بذلك الرسل صلوات الله عليهم ، والوجهان صالحان لذلك (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) فلهذا تقوى عندنا وظهر أنا خلف من الملائكة في الأرض ، لأنهم لو فهموا من الحق في خطابه أن المراد غيرهم لما أجابوا بهذا الجواب ، هذا جواب

٩٦

وتفصيله ، فإذا لم يحز الإنسان رتبة الكمال فهو حيوان تشبه صورته صورة الإنسان. فالإنسان الكامل من تممت له الصورة الإلهية ، ولا يكمل إلا بالمرتبة ، ومن نزل عنها فعنده من الصورة بقدر ما عنده ، ألا ترى الحيوان يسمع ويبصر ويدرك الروائح والطعوم والحار والبارد ولا يقال فيه إنسان! بل هو حمار وفرس وطائر وغير ذلك ، فلو كملت فيه الصورة قيل فيه إنسان ، كذلك الإنسان لا يكمل فيزول عنه الاسم العام إلى الاسم الخاص فلا يسمى خليفة إلا بكمال الصورة الإلهية فيه ، إذ العالم لا ينظرون إلا إليها ، وهو الآخر بخلقه الطبيعي فإنه آخر المولدات فإن الله ما خلق أولا من هذا النوع إلا الكامل ، وهو آدم عليه‌السلام ، وهو لم يكن مبعوثا لأنه لم يكن مرسلا إلى أحد ، وإنما كان في الأرض لوجود عالم التركيب ، فهو مفتتح وجودنا ، فالإنسان الكامل ظاهره خلق ، وباطنه حق ، وما عدا هذا فهو الإنسان الحيواني ، ورتبة الإنسان الحيواني من الإنسان الكامل رتبة خلق النسناس من الإنسان الحيواني ، ثم أبان الحق عن مرتبة الكمال لهذا النوع ، فمن حازها منه فهو الإنسان الذي أريده ، ومن نزل عن تلك الرتبة فعنده من الإنسانية بحسب ما تبقى له ، وليس في الموجودات من وسع الحق سواه ، وما وسعه إلا بقبول الصورة ، فهو مجلى الحق فيرى الحق صورته في الإنسان الكامل ، ومعنى رؤية الحق صورته فيه هو : إطلاق جميع الأسماء الإلهية عليه. كما جاء في الخبر «فبهم تنصرون» والله الناصر «وبهم ترزقون» والله الرازق «وبهم ترحمون» والله الراحم ، فإنه سبحانه ما سمى نفسه باسم من الأسماء إلا وجعل للإنسان في التخلق بذلك الاسم حظا منه يظهر به في العالم على قدر ما يليق به ، وأنزله خليفة عنه في أرضه ، والخليفة معلوم أنه لا يظهر إلا بصفة من استخلفه ، فلا مخلوق أعظم رحمة من الإنسان الكامل الذي هو مجلى حقائق العالم ، فهو آخر نوع ظهر ، فأوليته حق وآخريته خلق ، فهو

____________________________________

على أنهم أجابوا من حيث ما فهموا ، وقد يكون الأمر في نفسه على ما فهموا وقد لا يكون ، وذلك أن كل كلام يحكيه الحق أو يخبر به أنه قول لأحد من خلقه ، لا يلزم منه أن يكون صحيحا مدلول ذلك القول ، ولا فاسدا ولا إصابة ولا خطأ ، وإنما تتبين صحته وفساده من دليل آخر سمعي أو عقلي ، والأظهر ما ذهبنا إليه في مفهومهم ، ولما أبصرت الملائكة نشأة الإنسان مركبة من طبائع متنافرة ، دلهم ذلك على أنه في جبلة هذا المخلوق المنازعة في جنسه ومع غير جنسه ،

٩٧

الأول من حيث الصورة الإلهية ، والآخر من حيث الصورة الكونية ، والظاهر بالصورتين والباطن عن الصورة الكونية بما عنده من الصورة الإلهية ، وقد ظهر حكم هذا في عدم علم الملائكة بمنزلته مع كون الله قد قال لهم : إنه خليفة ، فكيف بهم لو لم يقل لهم ذلك؟ فلم يكن ذلك إلا لبطونه عن الملائكة ، وهم من العالم الأعلى العالم بما في الآخرة وبعض الأولى ، فإنهم لو علموا ما يكون في الأولى ما جهلوا رتبة آدم عليه‌السلام مع التعريف الإلهي لهم بقوله : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) وما عرفه من العالم إلا اللوح والقلم وهم العالون ، ولا يتمكن لهم إنكاره والقلم قد سطره واللوح قد حواه ، فإن القلم لما سطره سطر رتبته وما يكون منه ، واللوح قد علم علم ذوق ما خطه القلم فيه. أما الملائكة فلم تر من آدم إلا صورته الطبيعية الجسمية المظلمة العنصرية الكثيفة ، لذلك قالت ما قالت ، وكان آدم عند العالم من الملائكة فمن دونهم مجهول الباطن ، فحكموا عليه بالفساد ، أي بالإفساد من ظاهر نشأته لمّا رأوها قامت من طبائع مختلفة متضادة متنافرة ، فعلموا أنه لا بد أن يظهر أثر هذه الأصول على من هو على هذه النشأة ، فلو علموا باطنه وهو حقيقة ما خلقه الله عليه من الصورة حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله خلق آدم على صورته» لعلمت الملائكة ما جهلته من آدم ، فلما أعلمهم الله بكمال الصورة فيه وأمرهم بالسجود له سارعوا بالسجود ، ولا سيما وقد ظهر لهم بالفعل في تعليمه الأسماء إياهم ، ولو لم يعلمهم وقال لهم الله إني أعطيته الصورة والسورة لأخذوها إيمانا وعاملوه بما عاملوه به لأمر الله ، فلولا أن الله تعالى جمع لآدم في خلقه بين يديه فحاز الصورتين وإلا كان من جملة الحيوان الذي يمشي على رجليه ، وإنا وإن حزنا بخلقنا الصورة الربانية فنحن بحكم الأصل عبيد عبودية لا حرية فيها ، فما نحن سادة ولا أرباب ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كمل من الرجال كثيرون ولم يكمل من النساء إلا آسية

____________________________________

ويدخل في هذا الجان والإنس ، وإنما لم يذكروا ذلك وإن كانوا من طبائع متنافرة غير أنهم غلب عليهم عنصر النار كما غلب علينا عنصر التراب ، فهم أشد منازعة منا للحركة السريعة التي في لهب النار والسكون الذي في التراب ، فكل منازعة تقع منا فمن غلبة طبيعة النار في ذلك الوقت ، وهو الغضب والحمية ، وهو المرة الصفراء ، لكن الجان لما لم يقل لهم الحق إنهم يخلفونكم في الأرض لم يقولوا شيئا ، وإنما القول في الجان بالمنازعة أولى لما ذكرناه ف (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها

٩٨

امرأة فرعون ، ومريم ابنة عمران. فلكون الإنسان الكامل على الصورة الكاملة صحت له الخلافة والنيابة عن الله تعالى في العالم ، فبالإنسانية والخلافة صحت له الصورة على الكمال ، وما كل إنسان خليفة ، فإن الإنسان الحيوان ليس بخليفة عندنا ، وليس المخصوص بها أيضا الذكورية فقط ، فكلامنا في صورة الكامل من الرجال والنساء ، فإن الإنسانية تجمع الذكر والأنثى ، والذكورية والأنوثة إنما هما عارضان ليستا من حقائق الإنسانية لمشاركة الحيوانات كلها في ذلك ، وقد شهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكمال للنساء كما شهد به للرجال فقال في الصحيح : كمل من الرجال كثيرون ، وكملت من النساء مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون. فالكمل هم الخلائف ، فإن الله قد اعتنى بالإنسان دون العالم غاية العناية ما لم يعتن بمخلوق بكونه جعله خليفة ، وأعطاه الكمال بعلم الأسماء ، وخلقه على الصورة الإلهية ، وأكمل من الصورة الإلهية ما يمكن أن يكون في الوجود. فالإنسان الكامل مثل ، ضد ، خلاف ، فهو مثل من حيث الصورة الإلهية ، ضد من حيث أنه لا يصح أن يكون في حال كونه عبدا ربا لمن هو له عبد ، خلاف من حيث أن الحق سمعه وبصره وقواه فأثبته وأثبت نفسه ، والإنسان الكامل الظاهر بالصورة الإلهية لم يعطه الله هذا الكمال إلا ليكون بدلا من الحق ، ولهذا سماه خليفة ، وما بعده من أمثاله خلفاء له ، فالأول وحده هو خليفة الحق ، وما ظهر عنه من أمثاله في عالم الأجسام فهم خلفاء هذا الخليفة وبدل منه في كل أمر يصح أن يكون له. واعلم أن المراتب كلها إلهية بالأصالة ، وظهرت أحكامها في الكون ، وأعلى رتبة إلهية ظهرت في الإنسان الكامل ، فأعلى الرتب رتبة الغنى عن كل شيء ، وتلك الرتبة لا تنبغي إلا لله من حيث ذاته ، وأعلى الرتب في العالم الغنى بكل شيء وإن

____________________________________

وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) فإن أرادوا بالفساد إزالة ترتيب بعض ما نظم الله عليه بعض العالم مما لهم تسلط عليه وقوة ، ويسفك الدماء فيهم وفيما يذبحونه من الحيوانات ويقتلونها ، فغيرة منهم على جناب الحق ، لأن له في كل ترتيب تسبيح مخصوص ، فإذا فسد ذلك النظام ذهب عين تلك الصورة فزال ذلك التسبيح والتقديس بزوال المسبح والمقدس ، فقالوا حقا وغيرة وإيثارا لجناب الحق ، وهو الظن بهم ، وإن أرادوا بالفساد وسفك الدماء غير ما تشرع لهم ، فينتهكون حرمة الحق المشروع ، ويتعدون حدوده ، ويخالفون أمره ، فيريدون المخالفين من بني آدم ، وسبب وجود الذرية وجود الأب الأول الذي هو الأصل ، وإنما لم يتعرضوا له ولكن يتضمنه الكلام ،

٩٩

شئت قلت : الفقر إلى كل شيء ، وتلك رتبة الإنسان الكامل ، فإن كل شيء خلق له ومن أجله وسخر له ، لما علم الله من حاجته إليه ، فليس له غنى عنه ، ولذلك استخدم الله له العالم كله ، فما من حقيقة صورية في العالم الأعلى والأسفل إلا وهي ناظرة إليه نظر كمال ، أمينة على سر أودعها الله إياه لتوصله إليه. ـ حكم الصورة الإلهية التي خلق عليها الإنسان : إن العالم وإن كان على صورة الحق فما كان العالم على الكمال في صورة الحق حتى وجد الإنسان فيه ، فبه كمل العالم ، فالإنسان الأول بالمرتبة الآخر بالوجود ، والإنسان من حيث رتبته أقدم من حيث جسميته ، فالعالم بالإنسان على صورة الحق ، والإنسان دون العالم على صورة الحق ، والعالم دون الإنسان ليس على الكمال في صورة الحق ، ولذلك لما خلق الله الإنسان الكامل وخلفاءه من الأناسي على أكمل صورة ، وما ثم كمال إلا صورته تعالى ، أخبر أن آدم خلقه على صورته ليشهد فيعرف من طريق الشهود ، فأبطن في صورته الظاهرة أسماءه سبحانه التي خلع عليه حقائقها ، ووصفه بجميع ما وصف به نفسه ، ونفى عنه المثلية فلا يماثل وهو قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) من العالم ، أي ليس مثل مثله شيء من العالم ، ولم يكن مثلا إلا بالصورة ، لهذا كان الخليفة على صورة من استخلفه ، فالنسبة الجامعة بين الحق والخلق ، هي الصورة التي خلق عليها الإنسان ، ولما كان للصورة حكم ، ومن ظهر في صورة كان له حكمها ، من هنا تعرف مرتبة الإنسان الكامل الذي خلقه على صورته ، ولتلك الصور حكم فتتبع الحكم الصورة ، فلم يدّع الألوهية لنفسه أحد من خلق الله إلا الإنسان الذي ظهر بأحكام الأسماء والنيابة ، ومن سواه ادعيت فيه وما ادعاها ، قال فرعون : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) وما في الخلق من يملك سوى الإنسان ، وما سوى الإنسان من ملك وغيره لا يملك شيئا ، يقول الله تعالى في إثبات الملك للإنسان (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) وما ثم موجود ما يقرّ له بالعبودية إلا الإنسان فيقال هذا عبد فلان ، ولهذا شرع الله له العتق ورغّبه فيه وجعل له ولاء المعتق إذا مات من غير وارث ، كما أن الورث لله من عباده قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) وما ثم موجود

____________________________________

وإن كان القصد بإنزال المطر في طلب العباد له سقي زراعاتهم ، فيتخرب بيت العجوز الضعيفة بذلك المطر ، قالت عائشة (يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال نعم إذا كثر الخبث بالمدينة ، فيعم الهلاك الصالح والطالح ويمتازون في القيامة) (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) ثم قالوا عن

١٠٠