رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (٢١٤) يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٢١٦)

(وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً) وهو ما لا يوافق الغرض ، فإن أكثر الناس يسأل نيل ما

____________________________________

مهتدون إلى الإيمان (أَمْ حَسِبْتُمْ) لكونكم مؤمنين (أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) من غير ابتلاء وامتحان (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ) يصبكم (مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) شبه الذين خلوا من الأمم (مَسَّتْهُمُ) الضمير يعود على الذين خلوا (الْبَأْساءُ) شدة القتل (وَالضَّرَّاءُ) ما يضرهم من البلاء الواقع بهم من الأعداء (وَزُلْزِلُوا) أي أرجفوا في قلوبهم بالمخاويف ، من قصد العدو ونكايتهم ومنازلتهم فيشتد عليهم ذلك (حَتَّى) إلى أن (يَقُولَ الرَّسُولُ) المبعوث إليهم (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) لشدة ما مسهم من الضر والإرجاف (مَتى نَصْرُ اللهِ) أي متى يأتي نصر الله الذي وعدنا من قوله (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) فقال الله لهم (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) إتيانه إليكم ، بشرى لهم وتسكين لما وقع في قلوبهم من الخوف أن تعلو [...] ، إذ المؤمن الحقيقي غائب عن نفسه بإيثار جانب ربه في إعلاء كلمته وإعزازها ، ولما كانت لا تعلو ولا تظهر إلا بظهور المؤمنين وسلامتهم وقوتهم وبقائهم ، كان سؤالهم في حصول العافية لهم تبعا ، فأيقن الصحابة عند ذلك ومن يأتي بعدهم من المؤمنين إلى يوم القيامة أنه سبحانه لا بد أن يبتلي عباده ، فإنه خبّر وخبره صدق ، قال تعالى : (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) ومثل هذه الآيات (٢١٦) (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) الآية ، قال تعالى : (وأنفقوا) فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ما ذا يُنْفِقُونَ) فقال الله تعالى : (قُلْ) يا محمد (ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) فبيّن أن النفقة من

٣٢١

له فيه غرض من الله ، فإذا لم يفعله الله له يكره العبد ذلك الترك من الله ، ويقول : لعل الله جعل لي في ذلك خيرا من حيث لا أشعر ، وهو قوله تعالى : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) ومن هنا يعلم فضل الحاصل على الفائت في حقك إذا كان فيه سعادتك ، ولا فضل للفائت على الحاصل إذا كان الفائت مطلوبك ولو حصل لك أشقاك وأنت لا تعلم ، فكان الفضل فيه في حقك فوته ، فإن بفوته سعدت ، وهذا لا يكون إلا لمن أسعده الله.

____________________________________

المال الذي هو الخير ، كما قال : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) أي مالا ، ف» أعطوه «للوالدين والأقربين» أي صلوا به أرحامكم (وَالْيَتامى) الذين لا مال لهم (وَالْمَساكِينِ) الذين يسكنون إليكم لحاجتهم وإن لم يسألوا (وَابْنِ السَّبِيلِ) يريد الضيف وتزويد المسافر الذي هو عابر سبيل ، ثم قال : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) فالخير هنا كل معروف وكل عمل محمود شرعا (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) أي بقدره ومنزلته ، ليكون الجزاء مطابقا له ، يقول (عَلِيمٌ) بالإنفاق وبالخير الذي وقع فيه الفعل ، وبالمنفق عليهم من الأصناف ، فإنه لكل حال جزاء معين ، فللإنفاق جزاء من حيث ما هو إنفاق مأمور به وجوبا أو ندبا ، وللمنفق منه جزاء يخصه ، كما قال : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) فكان ابن عمر يشتري السكر ويتصدق به ويقول إني أحبه ، وله من جهة المنفق عليه جزاء مخصوص يفضل بعضه على بعض ، فليس الإنفاق على ذوي الأرحام كغيرهم ، فإنها صدقة وصلة ، وصدقة الرجل على نفسه أفضل منها على زوجه ، ونفقته على زوجه أفضل منها على ولده ، وعلى ولده أفضل منها على خادمه ، وعلى الصالحين من المساكين أفضل منها على من ليس بصالح ، وفي هذه الآية باب من أجاب بأكثر مما سئل عنه ، كان السائل عمرو بن الجموح ، قيل نزلت قبل آية الزكاة ، وعلى أي وجه كان ، فالمراد بها نفقة التطوع (٢١٧) (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) الآية ، أخبر تعالى في هذه الآية أنه أعلم بمصالح عباده ، وأنهم لا يعلمون ذلك ، وأنه لا يكلف عباده إلا بما هو الأصلح لهم في سعادتهم ، ولا يترك ما يترك من التكاليف إلا كذلك ، لعلمه سبحانه بذلك ولطفه بعباده ، ففى هذه الآية تحريض للمسلمين على الرضا بما يقضيه الله لهم ، خيرا إما عاجلا وإما آجلا ، فلا ينبغي للمؤمن أن يكره شيئا من ذلك ، قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) أي أمر تكرهونه لما فيه من بذل المال والنفس (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً) مما كلفكم فعله (وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) عند الله مثل هذا إما عاجلا فالغنيمة والتشفي من نكاية العدو ، وإما آجلا فالأجر وإن استشهد فأجر الشهادة (وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً) وهو ترك ما

٣٢٢

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢١٧)

(حَتَّى يَرُدُّوكُمْ) يعني في الفتنة (عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا) فأضاف الدين إليهم (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من بدل دينه فاقتلوه ، فاختلف الناس

____________________________________

كلفكم فعله (وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) عند الله ، ومنه هذا إما عاجلا فما ذكرناه وإما آجلا فما ذكرناه (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما في ذلك من الخير والشر (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وتتضمن هذه الآية فرض القتال وهو قوله : (كُتِبَ) أي فرض ، وقد وردت الأوامر الإلهية بذلك ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) وقال : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) وقال : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) والضمير في (عَلَيْكُمُ) يعود على الرجال الأحرار ، فإنه لا خلاف في ذلك ، البالغين العقلاء لارتفاع التكليف عن غير البالغ بحديث [رفع القلم عن ثلاث فذكر منهم الصبي والمجنون] ، الأصحاء الذين يجدون ما ينفقون لقوله : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ) ، الذين لا عذر لهم من حق يجب عليهم القيام به ، وهو من فروض الكفاية ، إذا قام به من يقع به الغناء سقط عن الباقي ، لقوله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما خرج قط إلى غزو عدو إلا وترك بعض الناس في المدينة ، ويتعلق بهذه الآية أحكام كثيرة هي مذكورة في القرآن ، نتكلم عليها في أماكنها ، مثل معرفة المحارب الذي أمرنا بقتاله ، ومعرفة ما يجوز من النكاية في صنف صنف من أهل الحرب مما لا يجوز ، وشروط جواز الحرب والثبات ، والفرار فيه والمهادنة ، ولماذا نحاربهم ، وما يتفرع على هذا من المسائل ، ولها مواضع في القرآن تأتي إن شاء الله (٢١٨) (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) الآية ، سأل في ذلك من كان بمكة من المسلمين غير المهاجرين قبل الفتح بسبب

٣٢٣

في اليهودي إن تنصر ، والنصراني إن تهود ، هل يقتل أم لا؟ ولم يختلفوا فيه إن أسلم ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما جاء يدعو الناس إلا إلى الإسلام ، وجعل بعض العلماء أن هذا تبديل مأمور به ، وما هو عندنا كذلك ، فإن النصراني وأهل الكتاب كلهم إذا أسلموا ما بدلوا دينهم ، فإنه من دينهم الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والدخول في شرعه إذا أرسل وأن رسالته عامة ، فما بدل أحد من أهل الدين دينه إذا أسلم ، وما بقي إلا المشرك ، فإن ذلك ليس بدين مشروع وإنما هو أمر موضوع من عند غير الله ، والله ما قال إلا (مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : من بدل دينه ، وإنما لم يسم الشرك دينا لأن الدين الجزاء ، ولا جزاء في الخير للمشرك على الشرك أصلا ، لا فيما سلف ولا فيما بقي ، فما أراد بالدين إلا الذي له جزاء في الخير والشر ، ما هو الدين الذي هو العادة ، فهو الدين المشروع الذي العادة جزء منه ، وقوله : (عَنْ دِينِهِ) الأوجه أن يكون الضمير في الهاء هنا يعود على ما هو عليه في ضمير المخاطب (مِنْكُمْ) سواء ، وإن جاز أن يكون ضمير الهاء يعود على الله ، لكن الأصل في الضمائر كلها عودها على أقرب مذكور إذا عريت عن قرائن الأحوال.

____________________________________

طرأ ، من بعث بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى نخلة إلى المشركين ، فأصابوا منهم ، وذلك في رجب وهو من الأشهر الحرم ، فعاب ذلك المشركون على المسلمين حيث أباح القتال في شهر حرام ، فلما وصل الخبر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزلت هذه الآية (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) أي عن القتال فيه فقال الله لرسوله (قُلْ) لهم يا محمد (قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) يعني ما أردتموه من قتالكم لنا في ذي القعدة لما صددتمونا (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) وعن المسجد الحرام الذي كان منكم لنا (وَكُفْرٌ بِهِ) أي كفركم فيه (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ) أي إخراجكم لنا وللمؤمنين من أهل الحرم من الحرم ، كل ذلك (أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) من قتالنا إياكم في الشهر الحرام (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) إما يريد الشرك وإما يريد ما امتحنوا به من كان عندهم من المؤمنين وعذبوهم على الإسلام ، كخباب بن الأرت وبلال وغيرهما ، يقول : ذلك أكبر من القتل فيه ، فهذا تقرير وتقريع كيف أنكرتم علينا أمرا هو بالنسبة إلى ما فعلتموه أنتم وما تفعلونه كلا شيء ، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا) وحتى هنا للعلة والسبب ، كما تقول : جئتك حتى تعطيني ، أي العلة في مجيئي إليك العطاء ، ثم أخبر الله المؤمنين فقال : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) أي من يرجع لأجل الفتنة عن دينه ، أي عن إيمانه وتصديقه ، فإنه يقول : (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) (فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ) أي ويبقى

٣٢٤

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (٢١٩)

ـ راجع إيجاز البيان ـ كل مسكر حرام ، فالحكم التحريم ، والعلة الإسكار ، فالحكم أعم من العلة الموجبة التحريم ، فإن التحريم قد يكون له سبب آخر غير السكر في أمر آخر ، والسكران هو الذي لا يعقل وهو مذهب أبي حنيفة ، وهو الصحيح في حد

____________________________________

على ردته إلى حين موته ، فإنه يموت كافرا (فَأُولئِكَ) إشارة لمن ارتد من المؤمنين (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي بطل ما كانوا يرجون من الثواب على أعمالهم في الآخرة التي عملوها في الدنيا في حال الإسلام بالردة إلى الكفر ، فالعامل في الدنيا إنما هو أعمالهم ، والعامل في الآخرة حبطت ، يقول : (وَأُولئِكَ) الإشارة إليهم (أَصْحابُ النَّارِ) أهل النار (هُمْ فِيها خالِدُونَ) فيها معمول لخالدين ، وهنا تفصيل في ردتهم ، هل رجعوا عن توحيد الله أو عن الإيمان بما جاء من عنده؟ ولكل ردة مما ذكرناه حكم خاص وعذاب خاص ليس للآخر ، والقتال في الأشهر الحرم مختلف فيه بين العلماء ، فإن الله يقول (قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) فجعل ذلك من الكبائر وبه قال عطاء ، واحتج المبيح لذلك بغزوة حنين والطائف وأوطاس وبيعة الرضوان على القتال ، وذلك في شوال وبعض ذي العقدة ، وهو متأخر عن تحريم القتال فيه بلا شك (٢١٩) (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية ، في هذه الآية تحريض لمن في مكة من المسلمين على الهجرة والجهاد في سبيل الله للمؤمنين ، فقال (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا) ولم يقل [وهاجروا] فيه تنبيه على من هاجر من دار الحرب وآثر جوار المسلمين وجاهد في سبيل الله مع المؤمنين (أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ) بأن يرزقهم الإيمان فيؤمنوا بطول مجالسة المؤمنين ومعاشرتهم (وَاللهُ غَفُورٌ) ما كان منهم من الخطايا في كفرهم (رَحِيمٌ) حيث منّ عليهم بالإيمان والمغفرة كما فعل بالمؤمنين ، وهذا الوجه سائغ في الآية ، وفي استعانة المؤمنين في القتال بالكفار خلاف ، وأنهم إن قاتلوا من غير استعانة من المؤمنين بهم بل تطوعا من أنفسهم

٣٢٥

السكر ، ولكن من شيء يتقدم هذا السكران قبل سكره من شربه طرب وابتهاج ، وهو الذي اتخذه غير أبي حنيفة في حد السكر ، وهو ليس بصحيح ، فكل مسكر بهذه المثابة فهو الذي يترتب عليه الحكم المشروع ، فإن سكر من شيء لا يتقدم سكره طرب لم يترتب

____________________________________

فلا خلاف أعرف في ذلك ، ثم ليعلم أنه ما من طائفة من الكفار والمشركين إلا وهي ترجو رحمة الله ، إلا المعطلة والقائلين بأن الله لا يعلم الجزئيات ، قال المشركون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) فهم يرجون القرب من الله ، وقربه سبحانه رحمته بخلقه في الدار الآخرة ، وقد يكون قوله : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا) تأكيد التشريف بالذكر ، لأن هاجر واصلة الذين ، إذ كانت من الأسماء النواقص ، المهاجرة المتاركة عن عداوة وشحناء وزهد ، من هجر فلان فلانا لشيء وقع بينهما ، فهو ترك خاص ، والجهاد مأخوذ من الجهد وهو المشقة ، فأثنى الله على هؤلاء المؤمنين بهجرتهم أوطانهم وديارهم وأهليهم إلى دار الإيمان وإخوانهم من المؤمنين ، إيثارا لجناب الله حتى تعز كلمة الله وتعلو ، وجاهدوا ذوي أرحامهم من آبائهم وأبنائهم وإخوانهم في سبيل الله أي في طريق الله ، رجاء رحمة الله أن تصيبهم ، فأخبر الله تعالى أنه غفور رحيم ، فقوله (رَحِيمٌ) تحقيق لرجائهم أنه ينيلهم رحمته ، وزادهم الغفران لما وقع منهم ويقع من الزلل ، زيادة في كرم الكريم أن يعطي فوق المأمول والمرجو منه (٢٢٠) (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) الخمر معروف ، والميسر القمار كله ، ومنه المراهنة والمخاطرة ، إلا ما أباحه الشرع في سباق الخيل والرمي ، وما عدا ذلك فهو حرام ، حتى اللعب بالجوز والكعاب. في هذه الآية تحريم الخمر والقمار الذي هو الميسر ، وذلك أن الحل والحرمة والإثم وغير الإثم وجميع الأحكام لا تتعلق بأعيان الأشياء ، وإنما تتعلق بأفعال المكلفين ، فالخمر ليس عين الذنب والإثم ولا الميسر ، ولكن الإثم استعمال ذلك وهو شرب الخمر ، وهو فعل المكلف ، فقول الله تعالى : (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) أي في استعمالهما ، وإذا فعل الإنسان ما وجب عليه أو ما أبيح له لا يقال إنه أثم بهذا الفعل ، ولا خلاف في ذلك ، وإنما يأثم في الشرع إذا فعل فعلا حرم الشرع عليه ذلك الفعل ، فكان قوله تعالى : (فِيهِما إِثْمٌ) نص في التحريم في الاستعمال ، وما خص شيئا من شيء ، وأما من يجعل الإثم اسما من أسماء الخمر ويحتج بقول الشاعر :

شربت الإثم حتى ضل عقلي

كذاك الإثم يذهب بالعقول

فلا ننكر أن تسمى إثما ، فإن وضع الأسماء غير ممنوع إلا في أسماء الله ، ولكن كلامنا في الإثم

٣٢٦

عليه حكم الشرعة لا بحد ولا بحكم ، والحاكم إذا كان شافعيا وجيء إليه بحنفي قد شرب النبيذ الذي يقول بأنه حلال ، فإن الحاكم من حيث ما هو حاكم وحكم بالتحريم في النبيذ يقيم عليه الحد ، ومن حيث إن ذلك الشارب حنفي وقد شرب ما هو حلال له شربه في علمه لا تسقط عدالته فلم يؤثر في عدالته ، وأما أنا لو كنت حاكما ما حددت حنفيا على

____________________________________

المذكور في هذه الآية ، وبطلان من يحتج بذلك في هذه الآية من وجهين : الوجه الواحد أنه أدخل الميسر في الإثمية ، ولا يسمى الميسر إثما كما سموا الخمر ، والوجه الثاني أنك إذا فسرت الإثم بأنه اسم الخمر ، فكأنه يقول يسألونك عن الخمر قل فيه خمر ، نعم إن يتوجه أن يريد الله بالإثم اسم الخمر في قوله : (إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ) فقد يكون هنا الإثم اسم الخمر ، والصحيح أنه كل ما يأثم به فاعله من المكلفين ، ثم أنه أكد ذلك بقوله : (كَبِيرٌ) فجعله من الكبائر ، والعجب ممن يقول ما ورد في القرآن تحريمها! وأي شيء أبين من هذا ، وقوله : (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) أما في الميسر فمعلوم ، فإن الغالب في القمار ينتفع به بلا شك مما يحصل له من مال غيره أو أهله أو عقاره ، وأما الخمر فبوجهين : الوجه الواحد ما يحصل من ثمنها وإن كان حراما ولا يجوز له استعماله ، ولكن لا شك أنه انتفع به عاجلا في نيل أغراضه ، ولا يلزم من ذلك أنه فعل ما يجوز أو ما لا يجوز ، ذلك حكم شرعي ، وهذا انتفاع عقلي ، معلوم ذلك ضرورة ، وأما الوجه الآخر من المنافع فتعرفه الأطباء ، فإنهم أطبقوا على الثناء عليها بالمنافع التي أودع الله فيها ، ونحن نجوز التداوي بها والعدول إليها في الأمراض الشديدة التي لا يقوم فيها بدلها من غيرها ، والذي يحتج علينا بقوله عليه‌السلام : [إن الله ما جعل شفاء أمته فيما حرم عليها] فصحيح ذلك ، ولكن المضطر ما هو محرم عليه استعمال ما اضطر إليه ، ثم أنه زاد بالتكرار تأكيد الإثم فزاد تأكيد التحريم ، فقال : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) فإن نفع الخمر في بيعها وفي دفع المرض باستعمالها ولو كانت حراما شرعا على المضطر ، فكيف والأمر بخلافه ، وأما الإثم فيتعلق بها من جهتين : الواحدة شربها ، والجهة الأخرى ما يستلزمها عند أخذها بالعقول من الآثام الكبائر كالقتل والزنا والكفر وشتم ما أمر الله بتعظيمه ، وقس على ذهاب العقل كل رذيلة ، ثم ما ينضاف إلى ذلك مما يدخل شارب الخمر من العجب والكبرياء في نفسه والخيلاء ، كما قال بعضهم :

فإذا سكرت فإنني

رب الخورنق والسرير

وإذا صحوت فإنني

رب الشويهة والبعير

فلهذا قال : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) وأما الميسر ففعله إثم نفسه ، ثم يتضمن آثاما ومحرمات ، فإنه إذا وقعت المغالبة ، لا بد أن يجد المغلوب في نفسه موجدة على غالبه فيؤديه ذلك إلى السب ،

٣٢٧

شرب النبيذ ما لم يسكر ، فإن سكر حددته لكونه سكرانا من النبيذ ، فالحنفي مأجور ما عليه إثم في شربه النبيذ وفي ضرب الحاكم له ، وما هو في حقه إقامة حد عليه ، وإنما هو أمر ابتلاه الله به على يد هذا الحاكم الذي هو الشافعي ، كالذي غصب ماله غير أن الحاكم هنا أيضا غير مأثوم لأنه فعل ما أوجبه عليه دليله أن يفعله ، فكلاهما غير مأثوم عند الله ـ راجع المائدة آية (٩٠) ـ.

____________________________________

والتسابب إذا فحش أدّى إلى ذكر محرمات كبائر ، وأدّى إلى المؤاخذة بالأيدي من الضرب والجراحة ، فكان الإثم أكبر من المنفعة بلا شك ، والميسر قد يكون مأخوذا من اليسر واليسار ، فإن كان من اليسر فهو من يسر ، يقال : يسرته إذا قامرته ، وهو أخذ مال من قامرته بيسر من غير تعب ، ومن جعله من اليسار ، قال : يكثر يساره بما يأخذه ممن يقامره ، وكذلك اسم الخمر من خمرت الشيء إذا غطيته ، والخمر تغطي عن شاربها عقله ، يقال نزلت هذه الآية في عبد الله ابن عبد الرحمن بن عوف وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ونفر من الأنصار ، وذلك أن الرجل كان يقول في الجاهلية : أين أصحاب الجزور؟ فيقوم نفر فيشترون الجزور بثمن معلوم ، فيجعلون لكل رجل منهم سهما ، ثم يقترعون ، فمن خرج سهمه تبرأ من الثمن ، حتى يبقى آخرهم رجلا فيكون ثمن الجزور كله عليه وحده ، ولا يكون له نصيب في الجزور ، ويقتسم الجزور بقيتهم بينهم ، وهذا نوع من أنواع القمار ، وهذا كانت تسميه العرب الميسر ، والأزلام قداحه واحده زلمه ، وسيأتي تفسيره إن شاء الله في المائدة (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) العفو من الأضداد ، ينطلق على القليل والكثير ، وكالقرء ينطلق على الطهر والحيض ، والجون على الأبيض والأسود ، فإذا كان مما ينطلق على الشيء وضده فنجمع بينهما بأمر ونقول : الإنفاق من فضل المال قل ذلك الفضل أو كثر فهو العفو ، فيكون رحمة بالمنفق والمنفق عليه ، فكان السؤال هنا عن قدر ما ينفق ، والسؤال في الأول من أي شيء ينفق ، واختلف السؤالان في المعنى بالجواب لا بنفس السؤال ، وفهمهما المسؤول بقرائن الأحوال ، ولهذا كان علم الصحابة بالأحكام أتم من علم التابعين وغيرهم ، لمشاهدة القرآن عند نزول الحكم من الله ، فيفهمون منه ما لا نفهم فيعملون بمقتضى ذلك ، ونحن نعمل بمقتضى التأويل بحسب ما يعطيه الكلام معرى عن القرينة ، إلا أن تنقل القرينة كما نقل الحكم ، ووجه آخر عندي فيه ، وهو أن يكون من العافية ، كما قال عليه‌السلام في الدعاء : [اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني] أي تجاوز ، وذلك أن النبي عليه‌السلام كان يكره لأصحابه أن يسألوه لئلا يفترض عليهم ما يعجزون عن القيام به ، وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ) وقال عليه‌السلام : [إنما أهلك من كان قبلكم

٣٢٨

(فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٢٠)

(فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) الذي يقوم عليه الدليل أن كل ما سوى الله حادث ولم يكن ثم كان ، فينفي الدليل كون ما سوى الله في كينونة الحق الواجب الوجود لذاته ، فدوام الإيجاد لله تعالى ، ودوام الانفعال للممكنات ، والممكنات هي العالم ، فلا يزال التكوين على الدوام ، والأعيان تظهر على الدوام ، فلا يزال امتداد الخلا إلى غير نهاية لأن أعيان الممكنات توجد إلى غير نهاية ولا تعمر بأعيانها إلا الخلا ، لأنه ما يمكن أن يعمر الملا ، لأن الملا هو العامر فلا يعمر في ملا ، وما ثم إلا ملا أو خلا ، فالعالم في تجديد أبدا ، فالآخرة لا نهاية لها ، ولولا نحن ما قيل دنيا ولا آخرة ، وإنما كان يقال ممكنات وجدت وتوجد كما هو الأمر ، فلما عمرنا نحن من الممكنات المخلوقة أماكن معينة إلى أجل مسمى من حيث ظهرت أعياننا ونحن صور من صور العالم ، سمينا ذلك الموطن دار الدنيا ، أي القريبة التي عمرناها في أول وجودنا لأعياننا ، وقد كان العالم ولم نكن نحن ، مع أن الله تعالى جعل لنا في عمارة الدنيا آجالا ننتهي إليها ثم ننتقل إلى موطن آخر يسمى آخرة ، فيها ما في هذه الدار الدنيا ولكن متميز بالدار كما هو هنا متميز بالحال ، ولم يجعل لإقامتنا في تلك الدار الآخرة أجلا تنتهي إليه مدة إقامتنا ، وجعل تلك الدار محلا للتكوين دائما أبدا إلى غير نهاية ، وبدّل الصفة على الدار الدنيا فصارت بهذا التبديل آخرة والعين واحدة.

____________________________________

كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم] فلما سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قدر ما ينفقون ، قال الله له : (قُلْ) لهم (الْعَفْوَ) أي أن يتجاوزوا عن هذا السؤال لئلا يفرض عليهم ما يشق عليهم ، إذ كان يمكن أن يقول لهم : انفقوا أموالكم كلها واخرجوا عنها ، ثم قال : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (٢٢١) (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) متعلق في الدنيا والآخرة على وجه بإثمهما ، وعلى وجه بيبيّن ، وعلى وجه بقوله تتفكرون ، يقول : وإثمهما في الدنيا والآخرة

٣٢٩

(وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٢٢١)

مسمى النكاح قد يكون عقد الوطء ، وقد يكون عقدا ووطأ معا ، وقد يكون وطأ

____________________________________

أكبر من نفعهما في الدنيا ، فإن الآخرة ليس لها تعلق بمنافعهما ، يقول : كذلك يبين أي يظهر لكم الآيات ـ جميع ما تقدم من الدلالات فيما مضى من ذلك في هذه السورة ـ في الدنيا لتؤمنوا ، والآخرة لمن لم يتبينها هنا ، لعلكم تتفكرون في الدنيا وأحوالها وفنائها فتزهدون فيها ، والآخرة وما أعد فيها للعصاة والطائعين من عباده ، فترغبون فيها بالأعمال الموصلة إلى النجاة من عذابها والحصول على نعيمها ، ثم قال : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ، وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ ، وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ، وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ ، إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) السائل هنا ثابت بن رفاعة الأنصاري ، سأله عن خلط مال اليتيم بماله ، فإنهم كانوا على ذلك ، فلما نزلت (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ونزلت (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) عزل كل من كان عنده يتيم ماله عن ماله ، في طعامه وشرابه وجميع مصالحه ، فشق ذلك عليهم ، وربما صار في ذلك تبذير لمال اليتيم ، فسألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، فأنزل الله (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) فقال الله : (قُلْ) لهم (إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) أي اعملوا معهم ما يكون لهم فيه مصلحة وتوفير لأموالهم وحفظها ، فإن كان ذلك الصلاح في مخالطتهم في الأكل والشرب وما تمس حاجة الإنسان إليه ومصاهرتهم وإنكاحهم ونكاحهم فخالطوهم ، فإنهم إخوانكم في الدين ، قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)(وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) هذا مثل قوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) يقول من أفسد منكم في مال اليتيم فأنا أعلمه ، والمعنى أجازيه على ذلك ، وكذلك المصلح (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) يقول لفرض عليكم في ذلك ما يشق عليكم بما فيه مصلحة لليتيم ومشقة شديدة عليكم ، من العنت وهو الشيء الشاق على الإنسان فعله (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أي غالب لمن خالف أمره وتعدى على مال يتيم عنده (حَكِيمٌ) يقول : فيما كلفكم مما

٣٣٠

ويكون نفس الوطء عين العقد ، لأن الوطء لا يصح إلا بعقد الزوجين ، والعقد عبارة عما يقع عليه رضى الزوجين ، وجعل الله الكفاءة في النكاح بالدين (وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) اعلم أن الإنسان قد أودع الله فيه علم كل شيء ، ثم حال بينه وبين أن يدرك ما عنده مما أودع الله فيه ، وما هو الإنسان مخصوص بهذا وحده ، بل العالم كله على هذا ، وهو من الأسرار الإلهية التي ينكرها العقل ويحيلها جملة واحدة ، وقربها من الذوات الجاهلة في حال علمها قرب الحق من عبده ، ومع هذا القرب لا يدرك ولا يعرف إلا تقليدا ، ولولا إخباره ما دل عليه عقل ، وهكذا جميع ما لا يتناهى من المعلومات التي يعلمها ، هي كلها في الإنسان وفي العالم بهذه المثابة من القرب ، وهو لا يعلم ما فيه حتى يكشف له عنه مع الآنات ، ولا يصح فيه الكشف دفعة واحدة ، لأنه يقتضي الحصر ، وقد قلنا إنه لا يتناهى ، فليس يعلم إلا شيئا بعد شيء إلى ما لا يتناهى ، فكل ما يعلمه الإنسان دائما وكل موجود فإنما هو تذكر على الحقيقة وتجديد ما نسيه ، فإن الخلق أنساهم الله ذلك العلم كما أنساهم شهادتهم بالربوبية في أخذ الميثاق مع كونه قد وقع ، وقد عرفنا ذلك بالإخبار الإلهي ، فعلم الإنسان دائما إنما هو تذكر ، فمنا من إذا ذكّر تذكر أنه قد كان علم ذلك المعلوم ونسيه ، ومنا من لا يتذكر ذلك مع إيمانه به إذ قد كان يشهد بذلك ، ويكون في حقه ابتداء علم ، ولولا أنه عنده ما قبله من الذي أعلمه ولكن لا شعور له بذلك ، ولا يعلمه إلا من نوّر الله بصيرته ، فإن الإنسان عالم بجميع الأمور الحقية من حيث روحه المدبر ، وهو لا يعلم أنه يعلم ، فهو بمنزلة الساهي والناسي ، والأحوال والمقامات والمنازل تذكّره.

____________________________________

تعاملون به اليتامى وفيما لم يكلفكم من ذلك ، إذ كان الحكيم واضع الأمور في مواضعها (٢٢٢) (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) نهانا الله عن نكاح المشركات ، والنهي محمول على التحريم حتى تخرجه عن ذلك قرينة حال ، كما أن الأمر محمول على الوجوب ، ولما قال : (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) فمن تأكد عنده النهي بقوله : (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) تقوى عنده التحريم ، والتحريم ضد الحل ، كما قال تعالى لنبيه عليه‌السلام : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ) تقوية للحكم بتحريم ذلك عليه ، ويخرج قوله : (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ) مخرج العلة للتحريم ، ومن فهم من قوله : (خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ) المفاضلة والأولوية عدل عن نهي التحريم إلى الكراهة والأولى ، ويؤيد التحريم قوله : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) ويؤيده

٣٣١

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (٢٢٢)

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً) فيتأذى الرجل بالنكاح في دم الحيض ، وأما الاستحاضة فلا تمنع من الصلاة ولا من الوطء فالرجل لا يتأذى بالنكاح في دم الاستحاضة وإن كان عن مرض ، ودم النفاس حكمه حكم دم الحيض ، وكلاهما له زمان ومدة في الشرع ، ودم الاستحاضة ما له مدة يوقف عندها ، والحيض يمنع من الصلاة والصيام والوطء والطواف (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) ولا يجتنب من الحائض إلا موضع الدم خاصة (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) بسكون الطاء وضم الهاء مخففا ، وقرئ بفتح الطاء والهاء مشددا ، ولذلك قال بجواز وطء الحائض قبل الاغتسال وبعد الطهر المحقق على قراءة من خفف ، ومن قائل بعدم جوازه على قراءة من شدد وهو محتمل ، وبالأول أقول ، ومن أتى امرأته وهي حائض فهو عاص ولا كفارة عليه (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) إن الله يحب التوابين ، التوبة المشروعة هي التوبة من المخالفات ، والتوبة الحقيقية هي التبري من الحول والقوة بحول الله وقوته ، فليست التوبة

____________________________________

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) فيلحق بالنكاح الفاسد الذي لا ينعقد معه النكاح ، فإن الله قد أحبط عمله في الدنيا بقوله : (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) وقال فيمن يموت وهو كافر : (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) وقال : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) كسائر العبادات من الصوم والصلاة ، لم يكن ذلك عملا مشروعا لعدم المصحح وهو الإيمان ، والنكاح من جملة العبادات المشروعة ، والمشرك هو الذي يجعل مع الله إلها آخر سواء كان من أهل الكتاب أو من غير أهل الكتاب ، وإذا كان أهل الكتاب هم الذين أنزل إليهم الكتاب وجاءهم الرسول بذلك وكانوا كافرين بكتابهم وأمرنا الله بقتالهم حتى يعطوا الجزية ، فيجوز لنا نكاح بناتهم بقوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ونمنع من ذلك بقوله : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) على من يحمل النهي هنا على التحريم ، وقوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) على أظهر

٣٣٢

المشروعة إلا الرجوع من حال المخالفة إلى حال الموافقة ، فالله يحب التوابين الذين يكثرون الرجوع إليه في كل حال يرضيه ، فالتوابون هم الراجعون من الله إلى الله ، وأما من رجع إليه من غيره فهو تائب خاصة ، فإنه لا يرجع إليه من غيره من هذه صفته إلا إلى عين واحدة ، ومن يرجع منه إليه فإنه يرجع إلى أسماء متعددة في عين واحدة ، وذلك هو المحبوب ، ومن أحبه الله كان سمعه وبصره ويده ورجله ولسانه ، والله سبحانه وصف نفسه بالتواب لا التائب ، فالتواب صفة الحق تعالى ومن أسمائه عزوجل ، فما أحب الله إلا اسمه وصفته ، وأحب العبد لا تصافه بها على حد ما أضافها الحق إليه ، وذلك أن الحق يرجع على عبده في كل حال يكون العبد عليه مما يبعده من الله ، وهو المسمى ذنبا ومعصية ومخالفة ، فإذا أقيم

____________________________________

الوجهين ، فإن النص عزيز في ذلك ، وفي قوله : (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) مثل ذلك ، غير أنه في هذه الآية أن ولي المرأة أحق بتزويجها منها ، إذ رجح إنكاح الولي بكونه ذكره ، ولو اعتبر ولايتها لنفسها لنصب التاء ، وبينهما من الفرق أن نكاح المرأة المشركة فيه إعلاء كلمة الله على كلمة الكفر لما للرجل عليها من الحكم والولاية ، وفي نكاح المشرك عكس ذلك على السواء ، فيجوز نكاح المشركة ولا يجوز إنكاح المشرك ، وقوله : (وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) ولو أعجبكم في الحسن والمال والجاه وشرف النسب وقوله (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أي إلى الأعمال المؤدية إلى النار ، أما في حق الرجل فإنه الأقوى والضعف الذي في النساء ، وأما من جانب المرأة فلما يتعلق بقلب الرجل من حبها ، والحب يعمي ويصم ، فقد تدعوه إلى دينها فيجيب ، وقد رأينا ذلك ورويناه (وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ) أي إلى أسباب ما يوجب الجنة والمغفرة من الله ، ونكاح المسلمة وإنكاح المسلم من الأسباب المعينة على طاعة الله ، وقوله : (بِإِذْنِهِ) أي بما أمر الله كل واحد من الزوجين أن يأمر الآخر به من الخير المؤدي إلى السعادة وقال : (وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ) أي ما نصب من الأدلة على ذلك (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ما أعطاهم الفكر الصحيح والعقل الموافق لما جاءت به الشرائع من الدلالات ، فإنه ما جاء بما تحيله العقول ، بل ما تجيزه ، فنصب الآيات على ترجيح أحد الممكنين بالوقوع ، فهذا معنى قوله : (يَتَذَكَّرُونَ) فهو خطاب خاص لذوي الألباب ، وما خاطب الله في القرآن إلا أولي الألباب وأولي النهى ، قوله : (٢٢٣) (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً) الآية ، يقول : (وَيَسْئَلُونَكَ) يا محمد عن وطئ النساء في موضع الحيض في حال الحيض ، فقل لهم : (هُوَ أَذىً) أي هو مما تتأذون بفعله ، وقد يخرج مخرج العلة في تحريم الوطئ ، ويحتمل

٣٣٣

العبد في حق من أساء إليه من أمثاله وأشكاله فرجع عليه بالإحسان إليه والتجاوز عن إساءته فذلك هو التواب ، ما هو الذي رجع إلى الله ، فالله معنا على كل حال كما قال : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) فإذا كنت من التوابين على من أساء في حقك ، كان الله توابا عليك فيما أسأت من حقه ، فرجع عليك بالإحسان ، فهكذا تعرف حقائق الأمور وتفهم معاني خطاب الله عباده ، فهو يحب التوابين وهو التواب ، فإنه رأى نفسه فأحبها ، لأنه الجميل فهو يحب الجمال ، فالتواب من البشر ينتقل في الآنات مع الأنفاس من الله إلى الله بالموافقات لا يكون إلا كذلك ، لا أنه الراجع من المخالفة إلى الطاعة ، فإن التائب راجع إليه من عين المخالفة ولو رجع ألف مرة في كل يوم ، فما يرجع إلا من المخالفة إلى عين واحدة ، والتواب ليس كذلك ، فالتواب هو المجهول في الخلق ، لأنه محبوب ، والمحب غيور على محبوبه فستره عن عيون الخلق ، فهم العرائس المخدرات خلف حجاب الغيرة ، والتوابون أحباب الله بنص كتابه الناطق بالحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، وجاء ذكره لهذه المحبة في التوابين عقب ذكر الأذى الذي جعله في المحيض للمناسبة ، وكذلك قال عليه‌السلام : إن الله يحب كل مفتن تواب ، أي مختبر ، يريد أن يختبره الله بمن يسيء إليه من عباد الله ، فيرجع عليهم بالإحسان إليهم في مقابلة إساءتهم ، وهو التواب ، لا أن الله يختبر عباده بالمعاصي ، حاشا الله أن يضاف إليه مثل هذا (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) التطهير صفة تقديس وتنزيه ، وتطهير العبد هو أن يميط عن نفسه كل أذى لا يليق به أن يرى فيه ، وإن كان محمودا بالنسبة إلى غيره وهو مذموم شرعا بالنسبة إليه ، فإذا طهر نفسه من ذلك أحبه الله تعالى ، كالكبرياء والجبروت والفخر والخيلاء والعجب ، فمن طهر ذاته عن أن

____________________________________

معنيين : أحدهما يتعلق بالطب ، أي يتأذى فاعله في نفسه ، والثاني أنه أذى عند الله من حيث حرّمه ، وقد يكون المعنيان مقصودين في الخطاب (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) وقت إتيانه وفي محله (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ) فيه كناية عن الجماع (حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ) الذي ينبغي في الكلام أن لا يقدر فيه المحذوف إلا عند الحاجة إليه ولا بد لاختلال المعنى ، وأن لا ينتقل في الكلمة من الحقيقة إلى المجاز إلا بعد استحالة حملها على الحقيقة ، فنقول : المعنى (حَتَّى يَطْهُرْنَ) أي حتى يغتسلن بالماء بعد انقطاع الدم ، وهو فعل ينطلق عليه اسم الطهارة ، والمفهوم الثاني الاغتسال المشروع الذي يبيح الصلوة فعله ، ولا يحمل (حَتَّى يَطْهُرْنَ) على انقطاع الدم ، فإن الفعل إذا

٣٣٤

ترى عليه هذه النعوت في غير مواطنها فهو متطهر ويحبه الله ، كما نفى محبته عن كل مختال فخور ، فالمتطهرون هم الذين تولاهم الحق من اسمه القدوس بتطهيره ، فتطهيرهم ذاتي لا فعلي ، وهي صفة تنزيه وهو تعمل في الطهارة ظاهرا وفي الحقيقة ليس كذلك ، ولهذا أحبهم الله فإنها صفة ذاتية له يدل عليها اسمه القدوس ، فأحب نفسه ، والصورة فيهم مثل الصورة في التوابين ، ولهذا قرن بينهما في آية واحدة ، فعيّن محبته لهم ليعلم أن صفة التوبة ما هي صفة التطهير ، وجاور بينهما لأحدية المعاملة من الله في حقهما من كونه ما أحب سوى نفسه ، والمتطهر هو الذي تطهر من كل صفة تحول بينه وبين دخوله على ربه ، ومنها الطهارة للصلاة ، وطهارة القلب بصفات العبودة ، وهي حالة مكتسبة يتعمل لها الإنسان فإن التفعل تعمل الفعل ، ثم الكلام في التعمل في ذلك على صورة ما ذكرناه في التواب سواء. ـ إشارة واعتبار ـ المرأة تقابل النفس في الاعتبار ، وقد أجمعوا على أن الكذب حيض النفوس ، فليكن الصدق على هذا طهارة النفس من هذا الحيض ، وهو الكذب على الله تعالى والكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكل كذب متعمد يؤذي ، وكما أن الحيض يمنع من الصلاة والصوم والطواف والجماع فاعتباره الكذب في المناجاة وهو أن تكون في الصلاة بظاهرك وتكون مع غير الله في باطنك ، والكذب في الصوم هو عدم إمساك النفس عن الكذب ، أما الكذب في الطواف فعبارة عن الكذب إلى غير نهاية لأنه دوران ، فهو الإصرار على الكذب ، أما اعتبار الكذب في الجماع هو إذا كانت المقدمات كاذبة خرجت النتيجة عن أصل فاسد ، وأما اعتبار مباشرة الحائض ، فقد قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أيزني المؤمن؟ قال : نعم ، قيل : أيشرب المؤمن؟ قال : نعم ، قيل : أيسرق المؤمن؟ قال : نعم ، قيل له : أيكذب المؤمن؟ قال : لا ، فأكد أن تجتنب النفس في أفعالها الكذب على الله وعلى رسوله ، والراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، ومن عود نفسه الكذب على الناس يستدرجه الطبع حتى يكذب على الله ، فإن الطبع يسرقه ، وأما استحاضة النفس فهو الكذب لعلة إذا كان المراد به دفع مضرة عمّن ينبغي دفعها عنه بذلك الكذب ، أو استجلاب

____________________________________

أضيف إلى المكلف فلا يضاف إليه إلا إذا كان هو الفاعل له ، هذا هو الحقيقة ، وانقطاع الدم ليس من فعل المكلف ، والاغتسال بالماء على الوجهين من فعل المكلف ، وإذا حملنا (يَطْهُرْنَ) على انقطاع الدم يحتاج أن نتكلف الحذف في الكلام ، فيكون التقدير حتى يطهرن ويتطهرن (فَإِذا

٣٣٥

منفعة مشروعة مما ينبغي أن يظهر مثل هذا بها وبسببها ، فيكون قربة إلى الله ، حتى لو صدق في هذا الموطن كان بعدا عن الله ، فكان في عدم منع وطء المستحاضة إشارة إلى أنه لا يمتنع تعليم من تعلم منه أن لا يكذب إلا لسبب مشروع وعلة مشروعة ، فإن ذلك لا يقدح في عدالته ، بل هو نص في عدالته. وأما الاعتبار في الاغتسال من الحيض ، فيجب تطهير القلب من لمة الشيطان [الحيض ركضة من الشيطان] إذا نزلت به ومسه في باطنه ، وتطهيرها بلمة الملك.

(نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣) وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٢٤)

لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم فإن الله لا يرحم ولا يزكي من حلف بالله كاذبا فلا تدخل ابتداء في اليمين ، فإنك إن دخلت في اليمين راعيته ، وأوجبت عليك حقا لم يجب عليك ،

____________________________________

تَطَهَّرْنَ) وإن لم يكن كذلك دالا ، فليس من كلام العرب أن تقول : [لا أعطيك ثوبا حتى تركب ، فإذا دخلت السوق أعطيتك ثوبا] والذي تقوله العرب [فإذا ركبت أعطيتك ثوبا] وتكلف الحذف مع الاستغناء عنه تحكم على كلام الله ، فيكون المفهوم من يطهرن هو المفهوم بعينه من يتطهرن على المعاني الثلاثة التي ذكرناها ، وهو انقطاع الدم أو غسل موضع الحيض بالماء أو الاغتسال المبيح للصلاة ، وهذا هو موضع اجتهاد المجتهد ، ويعمل بحسب ما يترجح عنده ، ثم قال : (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) على ما قدمناه (فَأْتُوهُنَّ) كناية عن الجماع ، (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) بإتيان المرأة إذا طهرت من الحيض في محل المحيض ، ثم قال : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) يريد الذين يرجعون إلى الله وإلى رسوله فيما يتنازعون فيه ، فيرجعون إلى حكم الله ، ثم قال (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) يقول : الذين فعلوا الطهارة ، وهو استعمال الماء على ما ذكرناه قبل ، فأوجب محبته للمتصفين بهاتين الصفتين : التوبة والتطهير ، وقد يكون من حيث ما أمركم الله متعلقا بقوله : (فَاعْتَزِلُوا) التقدير : ولا تقربوهن من حيث أمركم الله باعتزالهن في المحيض حتى يطهرن ، وقد يتعلق بتقربوهن (٢٢٤) (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) الآية ، كناية عن الجماع

٣٣٦

وخشي عليك الحنث.

____________________________________

في غاية الحسن بضرب من التشبيه ، ولما كان المقصود من الحرث بذر الحب في الأرض ليخرج من ذلك ما تقع به المنفعة ، وكان المراد من النكاح في الدنيا التناسل لإبقاء النوع ، أنزل ذلك منزلة الحرث ، فيكون الأوجه على هذا المعنى المفهوم من التشبيه في قوله : (أَنَّى شِئْتُمْ) كيف شئتم من الاختلاف في هيئات الجماع في موضع البذر ، ومع هذا فقوله : (أَنَّى شِئْتُمْ) فهو لفظ يصلح أن يكون موضع كيف وأين وحيث ، وقد اختلف الناس في هذه المسئلة أعني وطئ المرأة الحلال في الدبر ، فمنهم من أباحه ومنهم من حرمه ، والأصل إباحة الأشياء ، ومن ادعى تحجير ما أباحه الله فعليه بالدليل على ذلك ، وما ورد في تحريمه ولا في تحليله شيء يصح جملة واحدة على تعيينه غير الأصل المرجوع إليه العام في كل شيء وهو الإباحة ، وقوله : (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) يؤيد أنه أراد النكاح في الفرج فإنه من أحسن ما يقدمه الإنسان لنفسه عند ربه ولده ، إن مات قبله كان له فرطا وإن مات الوالد دعا له ولده ، وقد ورد الخبر في الأمرين معا ، فيمن قدم ولده أو ترك ولدا بعده ، ثم قال : (وَاتَّقُوا اللهَ) أن تعدلوا أو تخالفوا ما أمرناكم به أو نهيناكم عنه فيما تقدم من الأحكام من الوطئ وصورته ، والنكاح والإنكاح ، واليتامى ، والإنفاق ، والخمر والميسر ، والقتال في الأشهر الحرم ، ثم قال : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) فيسألكم عن ذلك كله ، ففيه إنذار وتخويف وتحريض على فعل الخير ، والوقوف عند ما أمر الله به أو نهى عنه ، ثم قال : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) في مقابلة الإنذار جعل البشرى للمؤمنين العاملين بما آمنوا به ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الإيمان فقال : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلوة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن يؤدوا الخمس من المغنم ، ونهاهم عن الدّبا والحنتم والمزفت والنقير ، وقال : احفظوه وأخبروا به من وراءكم ، ففسر الإيمان بالأفعال ، وهو الذي أراد بالمؤمنين هنا ، زيادة على التصديق ، لأن البشرى الواردة في القرآن للمؤمنين مقرونة بالأعمال الصالحة ، مثل قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى) وقال تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ) فما بشر إلا العاملين بما آمنوا به ، قوله تعالى : (٢٢٥) (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) قوله عرضة من قول القائل اعترضني الشيء دون كذا ، أي حال بيني وبين الوصول إليه ، كأنه يقول : ولا تجعلوا أيمانكم بالله تعترض بينكم وبين فعل الخير ، فتقول : لولا أني حلفت بالله أني لا أوليك برا لأوليتك ، فنهى الله عن ذلك ، وذلك أنه لما كان الله قد شرع لعباده أن يأتوا بمكارم الأخلاق وكره لهم سفسافها ، فأمرهم بأفعال البر

٣٣٧

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (٢٢٥)

لا قسم إلا بالله ، وما عدا ذلك من الأقسام فهو ساقط ما ينعقد به يمين في المقسوم عليه ، ولهذا قال تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) واللغو الساقط ، فمعناه لا يؤاخذكم الله بالأيمان التي أسقط الكفارة فيها إذا حنثتم (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ

____________________________________

والتقوى والإصلاح بين الناس والعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، وكان الناس إذا غضبوا يحلفون بالله لا يفعلون مع فلان خيرا ولا يولونه إحسانا ولا برا ، وإن كان في إصلاح بين اثنين يحلف الرجل بالله لا يصلح بينهما ، ويقول : والله لا اتقيت الله فيك ، فأنزل الله تعالى (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) باسمه ، يقول : قوة وتقوية على ترك فعل الخير الذي أمركم الله بفعله ، فإذا قيل لك افعل هذا الخير ، تقول : قد حلفت بالله أن لا أفعل ذلك ، فشرع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك أن يكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير ، وقد أنزل الله في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وكان ينفق على مسطح ـ رجل من قرابته ـ ويحسن إليه ، فبلغ أبا بكر أنه شارك أهل الإفك فيما تحملوه ، فحلف أبو بكر أن لا يحسن إليه ، فأنزل الله إليه (وَلا يَأْتَلِ) أي لا يحلف (أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) من له مال رزقه الله (وَالسَّعَةِ) يعني في الرزق (أَنْ يُؤْتُوا) يعطوا (أُولِي الْقُرْبى) ذوي الرحم (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِوَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) فرد أبو بكر رضي الله عنه على مسطح نفقته وأجراه على عادته ، وقوله : (أَنْ تَبَرُّوا) معناه أن لا تبروا ، فحذف لدلالة الكلام عليه ، قال امرؤ القيس : [فقلت يمين الله أبرح قاعدا] أراد لا أبرح ، فحذف لا لدلالة الكلام عليه ، والعرضة القوة والشدة ، وقد قيل هو من عرضت العود على الإناء إذا غطيته به خوفا أن يصل إلى الإناء شيء ، فجعلته حاجزا ، فكأنه يقول : ولا تجعلوا أيمانكم بالله عرضة ، أي حاجزا بينكم وبين فعل الخير (وَاللهُ سَمِيعٌ) ما تحلفون به (عَلِيمٌ) بما تقصدونه بأيمانكم ، قوله تعالى : (٢٢٦) (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) يقال لما لا يعتد به من أولاد الإبل لغو ، أي ساقط ، فكل يمين أسقط الشرع الكفارة والإثم على الحالف فتلك اليمين لغو ، لأن الشارع ألغاها وما اعتد بها وأسقط الحكم بالمؤاخذة عن الحالف بها ، فقال تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ) أي لا يعاقبكم بالكفارة والإثم ، وقوله : (بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) أي بما أسقطنا الحكم فيه من الأيمان بالمؤاخذة وإذا تقرر هذا ، فنقول : إن لغو الأيمان عند العلماء بالشريعة

٣٣٨

وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) الحليم هو القادر على الأخذ فيؤخر الأمر ، ويمهل العبد ولا يهمله ، وإنما يؤخره لأجل معدود ولا يمحوه ، لأنه يبدله بالحسنى فيكسوه حلة الحسن وهو هو بعينه ، ليظهر فضل الله وكرمه على عبيده ، ولهذا وصف الذنوب بالمغفرة وهي الستر ، وما وصفها بذهاب العين ، وإنما يسترها بثوب الحسن ، لهذا قال : (وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) ولا حليم إلا أن يكون ذا اقتدار ، فإن صاحب العجز عن إنفاذ اقتداره لا يكون حليما.

____________________________________

على قسمين : منها مقصودة وغير مقصودة ومشتبهة ، فغير المقصودة منها هو الذي يجري على ألسنة الناس من قولهم ، بالله ، ولا والله ، من غير قصد لليمين بقلبه للعادة التي استصحبوها في كلامهم ، فهذه اليمين لغو ، وبذلك فسرته عائشة ، وأما اليمين الأخرى المشتبهة فيمين المحرج والغضبان ، فقد تشبه أن تكون مقصودة وأن تكون غير مقصودة ، فجعلها القاضي إسماعيل من لغو اليمين ، وأما الأيمان المقصودة فمنها أن يحلف الحالف أن الأمر كذا ولا يعلم أن الأمر في نفسه على خلاف ما حلف عليه ، فهذا من لغو اليمين عند مالك وغيره ، ومنها أن يحلف أن يفعل معصية ، فهذه اليمين لغو عند ابن عباس ، ومن لغو اليمين أن يحلف على ما لا يملك عند ابن عباس أيضا ، ومنها أن يحلف أنه يفعل ما له أن يفعل ، فلم يفعل ، ورأى ترك الفعل خيرا له ، فليكفر عن يمينه ويفعل الذي هو خير ، وجعل ابن عباس هذا النوع من لغو اليمين ، وأما يمين المكره وذلك أن يلزمه ذو سلطان يمينا لم يلزمها الشرع إياه ، فالظاهر أن الشرع يلغي هذه اليمين ولا يجب عليه إبرارها ، ولا يعتبر هنا نية المستحلف ، إذ لا حق له في استحلافه شرعا ، وهي على نية الحالف ، ولنا في هذا اليمين نظر ، وهو إن حلف من هذه صورته على نية المستحلف لزمته ولم تكن لغوا ، لأنه ألزم نفسه ما لم يلزمه الشرع ، فقد أوجب على نفسه ، وإن حلف على غير نية المستحلف فهي لغو لا يلزمه فيها حكم ، ثم قال : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ) أي يلزمكم الكفارة والإثم (بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) أي بما تعمدت قلوبكم اليمين عليه وهو باطل ، يقول : ولكن يعاقبكم إذا قصدتم باليمين قطع حق يجب عليكم أداؤه ، أنه ليس كذلك أو هو كذلك ، وأنت تعلم أنك كاذب في يمينك ، فهذا هو اليمين التى شرع فيها الكفارة ، إلا عند بعض الناس ، فإنه لا كفارة في اليمين الغموس وهي هذه ، ثم قال : (وَاللهُ غَفُورٌ) لما وقع منكم من الأيمان لغوا وعقدا ، حيث أسقط المؤاخذة في اللغو وشرع الكفارة في الأخرى ، وقوله : (حَلِيمٌ) أي من حلمه ما عجل عليكم بالعقوبة وأمهلكم لتتوبوا على قول من لا يرى الكفارة ، وعلى قول من يرى الكفارة في اليمين الغموس ليكون حليما ، حيث جعل الكفارة برفع العقوبة ولم يؤاخذكم بما فعلتموه من إسقاط حرمة اسم الله ،

٣٣٩

(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٢٧)

لما علم سبحانه أن الافتراق لا بد منه لكل مجموع مؤلف لحقيقة خفيت عن أكثر الناس ، شرع الطلاق رحمة بعباده ليكونوا مأجورين في أفعالهم ، محمودين غير مذمومين إرغاما للشياطين ، ومع هذا فقد ورد في الخبر النبوي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ما خلق الله حلالا أبغض إليه من الطلاق.

____________________________________

حيث حلفتم به كاذبين وأنتم تعلمون أنه يعلم منكم خلاف ما حلفتم عليه ، وأما إضافة الأيمان إلينا فيدل ظاهرا على كل ما نحلف به عرفا وشرعا مما يسمى يمينا عندنا ، إلا أن يخرج الشرع من ذلك شيئا مثل قوله : [لا تحلفوا بآبائكم] وقوله : [من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت] ولا أعرف في صفة الأيمان المعتبرة يمينا متفقا عليها إلا اليمين بالله ، فانقسمت الأيمان إلى قسمين : إلى ما يجوز أن يحلف به ، وإلى ما لا يجوز أن يحلف به ، وما من قسم جوزته طائفة إلا ومنعته أخرى ، من الحلف بالله وبأسمائه وبصفاته وبأفعاله وما عظمه الشرع ، وما عندنا نص أن الله أقسم بشيء دون نفسه ، ولكن ثم ظواهر ، وسيرد الكلام في الأيمان إن شاء الله في سورة المائدة ، ثم قال من الأيمان : (٢٢٧) (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) الإيلاء اليمين يقال : آليت على الشيء آلية إذا حلفت عليه ، والإيلاء المعلوم في هذه الآية أن يحلف الرجل أن لا يطأ امرأته سواء كان على غضب أو غير غضب ، فإن العلماء اختلفوا في ذلك ، فقال ابن عباس لا إيلاء إلا بغضب ، والأوجه أن لا يعتبر في الإيلاء موجب ، ولا يعتبر فيه إلا العزم على ترك الجماع ، وسواء كان بيمين أو بغير يمين ، فإن كان بيمين وفاء كفر ، وإن كان بغير يمين وفاء لم يكفر ، فليس لليمين هنا حكم إلا الكفارة ، وإنما جاءت لفظة الإيلاء إذ كان الغالب أن لا يقع مثل هذا من الرجل إلا بيمين ، وقد يقع في الغالب عن الغضب ، ولهذا اعتبره ابن عباس ، وأما قوله : (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) فهو حكم من الله تعالى لا يزاد فيه ، فمن زاد فيه فقد شرع ما لم يأذن به الله ، وسواء قيد المولي مدة هي الأربعة أشهر أو أكثر أو أطلقها ، فإنها لا تبلغ إلا أربعة أشهر خاصة ، لأنه قال : (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ) يعني فيها أي في هذه المدة ، يقول : رجعوا ، ولا بد من الجماع في الرجوع فإن لم يجامع فالإيلاء باق على حكمه ، لأن الإيلاء والعزم وقع على ترك الجماع ، فلا تكون الفيئة إلا بوقوعه ، والمفهوم من الشرع في تعيين مدة الإيلاء إنما هو

٣٤٠