رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

بني آدم ذرية عن نسيان آدم ، على أن الحق ما وصف إحدى المرأتين إلا بالحيرة فيما شهدت فيه (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) ما وصفها بالنسيان ، والحيرة نصف النسيان لا كله ، ونسب النسيان على الكمال للرجال ، فقال : (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) فقد يمكن أن ينسى الرجل الشهادة رأسا ولا يتذكرها ، ولا يمكن أن تنسى إحدى المرأتين ، وهي المذكرة لا على التعيين ، فتذكر التي ضلت عما شهدت فيه ، فإن خبر الله صدق بلا شك ، وهو قد أخبر في هذه الآية أن إحداهما تذكر الأخرى ، فلا بد أن تكون الواحدة لا تضل عن الشهادة ولا تنسى ، وهذا جبر لقلب المرأة الذي يكسره من لا علم له من الرجال بالأمر ، ومن لحوق النساء بالرجال ، بل تقوم المرأة في بعض المواطن مقام رجلين ، إذ لا يقطع الحاكم بالحكم إلا بشهادة رجلين ، فقامت المرأة في بعض المواطن مقامهما ، وهو قبول الحاكم قولها في حيض العدة ، وقبول الزوج قولها في أن هذا ولده مع الاحتمال المتطرق إلى ذلك ، وقبول قولها إنها حائض ، فقد تنزلت هنا منزلة شاهدين عدلين ، كما تنزل الرجل في شهادة الدين منزلة امرأتين ، فتداخلا في الحكم (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً ، أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ، ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ ، وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها ، وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ، وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ ، وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ، وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) واتقوا الله بما علمكم من أعلمته بطريق التقوى ، فللإنسان أن يسأل أمثاله عن حد التقوى المشروع ، فيتعلم منه ليتقي الله فقال تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) بالأعمال المنتجة للعلوم (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) فكان سبحانه هو المعلم ، فبالتقوى تزيد علما لم يكن عندك ، يعلمك إياه الحق تشريفا منحك إياه التقوى ، وقد كان هذا العلم مغيبا عنك ، فأعطاك العلم به به زيادة الإيمان بالغيب الذي لو عرض على أغلب العقول لردته ببراهينها ، فالمعرفة بالله ذوقا وتعليما إلهيا فيما لا يكون ذوقه إلا من فتوح المكاشفة لا من طريق الأدلة بالبراهين هو قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) وأكثر الناس يتخيلون أن العلوم الحاصلة عن التقوى علوم وهب ، وليست كذلك ، وإنما هي علوم مكتسبة بالتقوى ، فإن التقوى جعلها الله طريقا إلى حصول هذا العلم ، والعلم الوهبي لا يحصل عن سبب بل من لدنه سبحانه ، فالنبوات كلها علوم وهب ، لأن النبوة ليست مكتسبة ، والشرائع كلها من علوم الوهب

٤٠١

عند أهل الإسلام الذين هم أهله ، وأريد بالاكتساب في العلوم ما يكون للعبد فيه تعمل ، كما أن الوهب ما ليس للعبد فيه تعمل ، فإن القلب المؤمن بالله التقي الورع قد وسع الحق ، فتولى الله تعالى تعليم عباده المتقين الذين قال فيهم : (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) ومعناه أن يفهمكم الله معاني القرآن ، فتعلموا مقاصد المتكلم به ، لأن فهم كلام المتكلم ما هو بأن يعلم وجوه ما تتضمنه تلك الكلمة بطريق الحصر مما تحوي عليه مما تواطأ عليه أهل اللسان ، وإنما الفهم أن يفهم ما قصده المتكلم بذلك الكلام ، هل قصد جميع الوجوه الذي يتضمنها ذلك الكلام أو بعضها ، فينبغي لك أن تفرق بين الفهم للكلام ، أو الفهم عن المتكلم وهو المطلوب ، فالفهم عن المتكلم ما يعلمه إلا من أنزل القرآن على قلبه ، وفهم الكلام للعامة ، فكل من فهم عن المتكلم فقد فهم الكلام ، وما كل من فهم الكلام فهم عن المتكلم ما أراد به على التعيين ، إما كل الوجوه أو بعضها ، جعلنا الله ممن رزق الفهم عن الله ، ولهذا قيل : ما اتخذ الله وليا جاهلا قط ، فإن الله يتولى بالفعل تعليم أوليائه بما يشهدهم إياه في تجلياته ، فهذه الآية حظّ الورثة من النبوة ، بأن يتولى الله تعليم المتقي من عباده ، فيقرب سنده ، فيقول أخبرني ربي بشرع نبيه الذي تعبده به ممن أخذه وأوحى به إليه ، فهو عال في العلم ، تابع في الحكم ، وهم الذين ليسوا بأنبياء وتغبطهم الأنبياء عليهم‌السلام في هذه الحالة ، لأنهم اشتركوا معهم في الأخذ عن الله ، وكان أخذ هذه الطائفة عن الله بعد التقوى بما عملوا عليه مما جاءهم به هذا الرسول ، فهم وإن كانوا بهذه المثابة وأنتج لهم تقواهم الأخذ عن الله في موازين الرسل وتحت حيطتهم وفي دائرتهم ، ووقع الاغتباط من كونهم لم يكونوا رسلا ، فبقوا مع الحق دائما على أصل عبودية لم تشبها ربوبية أصلا ، فمن هنا وقع الغبط لراحتهم ، وإن كانت الرسل أرفع مقاما منهم (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) بنية فعيل ترد بمعنى الفاعل وبمعنى المفعول ، فعليم بمعنى عالم وبمعنى معلوم ، وكلا الوجهين سائغ في هذه الآية ، إذا كانت الباء من قوله : (بِكُلِّ) بمعنى الفاء فهو في كل شيء معلوم ، ولما صح بالاستواء نزوله تعالى كل ليلة إلى السماء ، ومع هذا فهو مع عباده أينما كانوا ، ولما علم أن بعض عباده يقولون في مثل هذا بعلمه ، أعلم في هذه الآية أنه بكل شيء عليم ، ليغلب على ظن السامع أنه ليس على ما تأولوه ، فإنا لا نشك أنه يحيط بنا علما أينما كنا ، وكيف لا يعلم ذلك وهو خلقنا وخلق الأينية التي نحن فيها ، فذكر الله ذلك عن نفسه بطريق المدحة لذاته.

٤٠٢

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٨٤)

كم بين الرغبة عنه والرغبة فيه ، عبد مصطفى وعبد لا يصطفيه ، عناية أزلية ، بسعادة أبدية ، وخذلان سبق ، وكل ذلك حق ، أحق ما قال العبد ، وكلنا لك عبد ، فجمع بين المطرود والمجتبى ، ومن أطاع ومن أبى في عبودية القصاص ، لا في عبودية الاختصاص ، عبد يصلح الله بينه وبين خصمه فيسعده ، وعبد يأمر به إلى النار بعدله ، فيبعده ، مع القول بعدم الاستحقاق ، ومفارقة الوفاق ، وكلاهما عاصيان ، وما هما سيان ، يا ليت شعري لم كان ذلك؟ عاص ناج وعاص هالك ، عبدان لملك واحد ، وما ثمّ أمر زائد ، إن كان لعمارة الدار فلما ذا يخرج بالشفاعة ، ولا يبقى مع الجماعة ، ما ذاك إلا لما قيل في بعض الأشعار (ماء ونار ... ما التقيا إلا لأمر كبّار) (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) فذكر الله عن نفسه اختيار مشيئته بين المغفرة والعذاب ، فهو غير قاطع بأحد الأمرين ، وهذا هو ما جرأ النفوس الأمارة بالسوء على ما ارتكبوه من المخالفات وتعدوه من الحدود وانتهكوه من المحارم ، فلو قطعوا بالمؤاخذة على ما صدر منهم إن ماتوا على غير توبة ما فعلوا ما لا يرضي سيدهم (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يخرج على أنه عين قوله للأشياء (كُنْ) إذا أراد تكوينها ، فإن الله ما جعل سبب إيجاد الكائنات الممكنات سبحانه وتعالى إلا الإرادة والأمر الإلهي ، وهو قوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ) فأتى في الإرادة والأمر ، ولم يذكر معنى ثالثا يسمى القدرة ، والتحقيق أن القدرة ما لها أثر سوى إعطاء الوجود لكل عين يريد الحق وجودها من الممكنات ، فيقول لها : (كُنْ) وأخفى الاقتدار بقوله :

٤٠٣

(كُنْ) وجعله سترا على الاقتدار ، فكان الممكن عن الاقتدار الإلهي من حيث لا يعلم الممكن ، وسارع الممكن إلى التكوين فكان ، فظهر منه عند نفسه السمع والطاعة لمن قال له كن ، وأخفى عزوجل اقتداره وجاء بالقول بصيغة الأمر ليتصف الممكن بالسمع والطاعة ، فلا تزال عين الحق تنظر إليه بالرحمة وتراعي منه هذا الأصل ، مع أن القول لا حكم له في المعدوم ، ولا سيما فيمن ليس له اقتدار بالأصالة ، فأشبه صورة التكليف والفعل لله.

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (٢٨٥)

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) منزلة الأنبياء فيما يأخذونه من الغيب بطريق الإيمان منزلة المؤمنين مع ما يأخذونه من الأنبياء ، فالأنبياء مؤمنون بما يلقي إليهم الروح ، فلا يأخذون التشريع إلا من الروح الذي ينزل به على قلوبهم ، وهو تنزيل خبري لا علمي ، فلا يتلقونه إلا بصفة الإيمان ، ولا يكشفونه إلا بنوره ، فهم صدّيقون للأرواح التي تنزل عليهم بذلك (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) ونحن أمرنا بالإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبجميع الرسل والكتب ، وأخبر الحق عنا بذلك ، وخبره صدق ، فاستحال في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يؤمن المؤمن منهم ببعض ويكفر ببعض ، فهذه عناية إلهية حيث أخبر بعصمتنا من ذلك ، فهي بشرى لنا ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لليهود : نحن أولى بموسى منكم ، فكنى بنحن عن نفسه وأمته ، فكنا أولى بموسى عليه‌السلام من اليهود ، لأنهم لم يؤمنوا بكل ما أتى به موسى ، ونحن آمنا به وبما أنزل عليه ، ولا يلزم الإيمان بالشيء العمل به إلا حتى يكون فيما أنزل العمل بما أنزل أو ببعض ما أنزل ، فالتصديق يعمّ ، فنحن آمنا بما أنزل من قبلنا من حيث ما أنزل على نبينا لا من حيث ما نقل إلينا (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) مع علمنا بأن الله فضل بعضهم على بعض رسلا وأنبياء ، ثم نهانا أن نفضل بين الأنبياء قياسا ونظرا ، فإن العبد

٤٠٤

لا يحكم على الله بشيء ، فيطلب منا الإيمان بالله وبما جاء من عنده وبالرسول وبالرسل ، فإن الله أوجب الإيمان علينا بنفسه ، ومن نفسه أسماؤه (وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) فلا يستخدم العقل في الإلهيات إذا ورد النص المتواتر من الشرع الذي لا يدخله احتمال ولا إشكال فيه ، فإن الإيمان بالنص يعطي العلم الحق والكشف (وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) :

على السمع عولنا فكنا أولي النهى

ولا علم فيما لا يكون عن السمع

إذا كان معصوما وقال فقوله

هو الحق لا يأتيه مين على القطع

فعقل وشرع صاحبان تألفا

فبورك من عقل وبورك من شرع

فالعاقل يقول بالسمع والطاعة لأمر الله وهذه حالة معجلة وراحة (غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٢٨٦)

أصل التكاليف مشتق من الكلف وهي المشقات (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) وهو ما آتاها من التمكن الذي هو وسعها ، فقد خلق سبحانه لنا التمكن من فعل بعض الأعمال ، نجد ذلك من نفوسنا ولا ننكره ، وهي الحركة الاختيارية ، كما جعل سبحانه فينا المانع من بعض الأفعال الظاهرة فينا ، ونجد ذلك من نفوسنا ، كحركة المرتعش الذي لا اختيار للمرتعش فيها ، وبذلك القدر من التمكن الذي يجده الإنسان في نفسه صح أن يكون مكلفا ، ولا يحقق الإنسان بعقله لماذا يرجع ذلك التمكن ، هل لكونه قادرا أو لكونه مختارا؟ وإن كان مجبورا في اختياره ، ولا يمكن رفع الخلاف في هذه المسئلة ، فإنها من المسائل المعقولة ولا يعرف الحق فيها إلا بالكشف ، وإذا بذلت النفس الوسع في طاعة الله لم يقم عليها حجة ،

٤٠٥

فإن الله أجلّ أن يكلف نفسا إلا وسعها ، ولذلك كان الاجتهاد في الفروع والأصول (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) لما كانت النفوس ولاة الحق على الجوارح ، والجوارح مأمورة مجبورة غير مختارة فيما تصرف فيه ، مطيعة بكل وجه ، والنفوس ليست كذلك ، فإذا عملت لغير عبادة لا يقبل العمل من حيث القاصد لوقوعه الذي هو النفس المكلفة ، لكن من حيث أن العمل صدر من الجوارح أو من جارحة مخصوصة ، فإنها تجزى به تلك الجارحة ، فيقبل العمل لمن ظهر منه ولا يعود منه على النفس الآمرة به للجوارح شيء إذا كان العمل خيرا بالصورة كصلاة المرائي والمنافق وجميع ما يظهر على جوارحه من أفعال الخير الذي لم تقصد به النفس عبادة ، وأما أعمال الشر المنهي عنها فإن النفس تجزى بها للقصد ، والجوارح لا تجزى بها لأنها ليس في قوتها الامتناع عما تريد النفوس بها من الحركات ، فإنها مجبورة على السمع والطاعة لها ، فإن جارت النفوس فعليها ، وللجوارح رفع الحرج ، بل لهم الخير الأتم ، وإن عدلت النفوس فلها وللجوارح ، لذلك قال تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) فميز الله بين الكسب والاكتساب باللام وعلى ، وهذه الآية بشرى من الله حيث جعل المخالفة اكتسابا والطاعة كسبا ، فقال : (لَها ما كَسَبَتْ) فأوجبه لها ، وقال في المعصية والمخالفة : (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) فما أوجب لها الأخذ بما اكتسبته ، فالاكتساب ما هو حق لها فتستحقه ، فتستحق الكسب ولا تستحق الاكتساب ، والحق لا يعامل إلا بالاستحقاق ، والعفو من الله يحكم على الأخذ بالجريمة (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) اعلم أن الرحمة أبطنها الله في النسيان الموجود في العالم ، وأنه لو لم يكن لعظم الأمر وشق ، وفيما يقع فيه التذكر كفاية ، وأصل هذا وضع الحجاب بين العالم وبين الله في موطن التكليف ، إذ كانت المعاصي والمخالفات مقدرة في علم الله فلا بد من وقوعها من العبد ضرورة ، فلو وقعت مع التجلي والكشف لكان مبالغة في قلة الحياء من الله حيث يشهده ويراه ، والقدر حاكم بالوقوع فاحتجب رحمة بالخلق لعظيم المصاب ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله إذا أراد نفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم ، حتى إذا أمضى فيهم قضاءه وقدره ردها عليهم ليعتبروا ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، فلا يؤاخذهم الله به في الدنيا ولا في الآخرة ، فأما في الآخرة فمجمع عليه من الكل ، وأما في الدنيا فأجمعوا على رفع الذنب ، واختلفوا في الحكم ، وكذلك في الخطأ على قدر ما شرع الشارع في

٤٠٦

أشخاص المسائل ، مثل الإفطار ناسيا في رمضان وغير ذلك من المسائل ، فإن الله تعالى الذي شرع المعصية والطاعة وبيّن حكمهما ، رفع حكم الأخذ بالمعصية في حق الناسي والمخطئ (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) وهذا تعليم من الحق لنا أن نسأله في أن لا يقع منه في المستقبل ما لم يقع في الحال ، (وَاعْفُ عَنَّا) أي كثر خيرك لنا وقلل بلاءك عنا ، أي قلل ما ينبغي أن يقلل وكثر ما ينبغي أن يكثر ، فإن العفو من الأضداد يطلق بإزاء الكثرة والقلة ، وليس إلا عفوك عن خطايانا التي طلبنا منك أن تسترنا عنها حتى لا تصيبنا ، وهو قولنا : (وَاغْفِرْ لَنا) أي استرنا من المخالفات حتى لا تعرف مكاننا فتقصدنا (وَارْحَمْنا) برحمة الامتنان ورحمة الوجوب ، أي برحمة الاختصاص.

٤٠٧

(٣) سورة آل عمران مدنيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم) (١)

ـ إشارة ـ «اعلم أن مبادي السور المجهولة ، لأهل الصور المعقولة» ، يعني معاني سور القرآن تجتمع مع الصور المعقولة التي يأخذها العقل من طريق التعريف الإلهي ، لا من طريق فكره ، فهي تجهلها الأفكار مثل ما جهلت ما أراد الحق بمبادي هذه السور ، والصور المجهولة كالنبوة والولاية ، وكرؤية الحق ، وكل ما لا يستقل العقل بإدراكه ، حتى يقع به التعريف الإلهي ، (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) جملتها تسعة وعشرون سورة» وهي ثمانية وعشرون مرتبة كمرتبة الحروف ، واللام ألف هي عبارة عن الحق والعبد ، وهي بمنزلة القمر الدائر في المنازل ، فالألف للحق من حيث التجلي ، فمشيه في المنازل هي تجلياته ومظاهره ، وذلك كمال الصورة ، (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) ونصيب العبد منها قبول ذلك التجلي ، واللام للعبد «أكملت فيها» أي الحروف «العالم بأسره» «وفرقت بيني وبينهم بما لوحت به من نهيه وأمره» أي إني وإن كنت الفاعل على الإطلاق ، والفعل لي ، فأنت محل تعلق الأمر والنهي ، والوعد والوعيد (فَمِنْها) أي الحروف «مفرد» مثل ص ، ق ، «ومثنى» ومنها ما جمع لمعنى ، ولئن شكرتم لأزيدنكم ، منها ما زيد فيه فاستغنى ، ومنها من نقص منه فتعنّى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) منها متماثلة الصور ومختلفة ، كما منها مفرقة ومؤتلفة (ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة) غايتها خمسة حروف ، وبقي اثنان للواصف والموصوف ، من مقام آدم وحوى ، في جنة الإقامة ، ومأوى الإمامة (وكلا منها حيث شئتما) مبلغها ثمانية وسبعون ، فمن كوشف بحقائقها ملك الأعلى والدون» قوله منها ومنها يعني أن هذه السور المجهولة جاءت مطابقة لصور الإنسان على المطابقة ، فهذه الحروف أربعة عشر حرفا غير مكررة ، وهي نصف الفلك الظاهر ، والأربعة عشر الأخرى الغائبة للنصف الباطن ، والحروف إذا نظرتها مكررة كانت ثمانية

٤٠٨

وسبعين ، وهي في معنى مراتب الإيمان ، كما جاء في الخبر [الإيمان بضع وسبعون شعبة] قوله «فمن كوشف بحقائقها ملك العالي والدون» هذا باب الكشف والذوق ، إذا أراد الله تعالى التعريف به أقامه في الكشف ، أو وهب العلم الضروري للمحل بطريق المعاني المجردة ، فتعرّض لنيل ذلك من الوهاب الفتاح سبحانه وتعالى واستعمل المجاهدة ، وتحلّ بالموافقة والمساعدة ، عساك تلتذ بالمشاهدة.

واعلم أنه لما كان الألف يسري في مخارج الحروف كلها ، سريان الواحد في مراتب الأعداد كلها ، فهو قيوم الحروف ، وله التنزيه بالقبلية ، وله الاتصال بالبعدية ، فكل شيء يتعلق به ، ولا يتعلق هو بشيء ، فأشبه الواحد ، لأن وجود أعيان الأعداد يتعلق به ، ولا يتعلق الواحد بها ، فيظهرها ولا تظهره ، وتشبهه في هذا الحكم الدال والذال والراء والزاي والواو ، ويشبه في حكم السريان الواو المضموم ما قبلها والياء المكسور ما قبلها ، وكما أن الواحد لا يتقيد بمرتبة دون غيرها ، ويخفى عينه ، أعني اسمه ، في جميع المراتب كلها ، كذلك الألف لا يتقيد بمرتبة ويخفى اسمه في جميع المراتب ، الاسم هناك للباء والجيم والحاء وجميع الحروف ، والمعنى للألف.

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (٢)

هذا توحيد حروف النفس ، وهو الألف واللام والميم وهو التوحيد الثالث في القرآن من نفس الرحمن ، وهذا التوحيد أيضا توحيد الابتداء ، فإن الاسم الله مبتدأ ، وله من أسماء الأفعال منزل الكتاب بالحق من الله المسمى بالحي القيوم ، فبيّن أنه منزل الكتاب بالحق من الله المسمى بالحي القيوم ، وهي أربعة كتب يصدق بعضها بعضا ، والكتب الإلهية وثائق الحق على عباده ، فهي كتب مواثيقه ، وتحقيق بما له عليهم ، وما لهم عليه مما أوجبه على نفسه لهم فضلا منه ومنّة ، فدخل معهم في العهدة (الْحَيُّ) الحياة شرط في جميع وجود النسب المنسوبة إلى الله ، وهذه النسبة أوجبت له سبحانه أن يكون اسمه الحي ، فجميع الأسماء الإلهية موقوفة عليه ومشروطة به ، حتى الاسم الله ، فالاسم الله هو المهيمن على جميع الأسماء التي من جملتها الاسم الحي ، ونسبة الاسم الحي لها المهيمنية على جميع النسب

٤٠٩

الأسمائية ، حتى نسبة الألوهة التي بها تسمى الله الله ، فكل اسم هو للحي إذا حققت الأمر ، فيسري سره في جميع العالم ، فخرج على صورته فيما نسب إليه من التسبيح بحمده ، فما في العالم إلا حي ، ولما لم يتمكن أن يتقدم الاسم الحي الإلهي اسم من الأسماء الإلهية ، كانت له رتبة السبق ، فهو المنعوت على الحقيقة بالأول. (الْقَيُّومُ) الحق قيوم بعباده فيما يحتاجون إليه ، وهو تعالى الحي لنفسه ، لتحقيق ما نسب إليه مما لا يتصف به إلا من شرطه أن يكون حيا ، القيوم لقيامه على كل نفس بما كسبت.

(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) (٣)

لما ضم الحق تعالى حروف القرآن وسوره ومعانيه بهذا النظم المعجز سماه كتابا ، فهو نظم حروف رقمية لانتظام كلمات لانتظام آيات لانتظام سور ، كل ذلك عن يمين كاتبة ، كما كان القول عن نفس رحماني ، فصار الأمر على مقدار واحد وإن اختلفت الأحوال ، لأن حال التلفظ ليس حال الكتابة ، وصفة اليد ليست صفة النفس ، فكونه كتابا كصورة الظاهر والشهادة ، وكونه كلاما كصورة الباطن والغيب ، فالقرآن في الصدور قرآن ، وفي اللسان كلام ، وفي المصاحف كتاب.

(مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) (٤)

لما كان الانتقام من رحمة المنتقم بنفسه من الخلق ، قال تعالى : (وَاللهُ عَزِيزٌ) عن مثل هذا (ذُو انْتِقامٍ).

(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) (٥)

وكيف يخفى عليه وهو عنده علم المقادير (فِي الْأَرْضِ) وهو كل معلوم وكل ما في الطبيعة من الأسرار ، فإن صورها أرض الأرواح (وَلا فِي السَّماءِ) وهو المعلوم وكل ما

٤١٠

في الأرواح التي بين الطبيعة والعماء ـ نصيحة ـ كل إنسان أعلم بحاله ، ولا ينفعك أن تنزل نفسك عند الناس منزلة ليست لك في نفس الأمر ، فإن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

(هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٦)

(هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ) لكونها مظلمة ، تمدح بإدراك الأشياء فيها ، ويصورنا في الأرحام من غير مباشرة ، وأضاف التصوير إليه لا إلى غيره (كَيْفَ يَشاءُ) أي كيف أراد من أنواع الصور والتصوير (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ) أي المنيع الذي نسب لنفسه الصورة ، لا عن تصوير ولا تصور ، فهو المصور لا الملك ، مع العزة التي تليق بجلاله (الْحَكِيمُ) المرتب الأشياء التي أنزلت منازلها بما تعطيه الاستعدادات المسواة لقبول الصور ، فيعين لها من الصور ما شاء مما قد علم أنها مناسبة له ، وهذا هو التوحيد الرابع ، توحيد المشيئة ، ووصف الهوية بالعزة ، وهو قوله (وَلَمْ يُولَدْ) فهو عزيز الحمى ، إذ كان هو الذي صورنا في الأرحام من غير مباشرة ، إذ لو باشر لضمه الرحم كما يضم القابل للصورة ، ولو لم يكن هو المصور لما صدقت هذه النسبة ، وهو الصادق ، فإنه ما أضاف التصوير إلى غيره ، فقال (كَيْفَ يَشاءُ) أي كيف أراد ، فظهر في هذه الكيفية أن مشيئته تقبل الكيفية ، مع نعته بالعزة ثم بالحكمة ، والحكيم هو المرتب الأشياء أي أنزلت منازلها ، فالتصوير يستدعيه إذ كان هو المصور مع العزة التي تليق بجلاله ، فحيّر العقول السليمة التي تعرف جلاله ـ تفسير من باب الإشارة ـ (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) ما أحسن تنبيه الله أولي الألباب من عباده وأهل الاعتبار بهذه الآية ، فمن الأرحام ما يكون خيالا ، فيصور فيه المتخيلات كيف يشاء ، عن نكاح معنوي وحمل معنوي ، يفتح الله في ذلك الرحم المعاني في أي صورة ما شاء ركبها ، فيريك الإسلام فيه والقرآن سمنا وعسلا ، والقيد ثباتا في الدين ، والدين قميصا سابغا وقصيرا درعا ومجولا ونقيا ودنسا على حسب ما يكون الرائي ، أو من يرى له عليه من الدين ، فالخيال من جملة الأرحام التي تظهر فيها الصور.

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ

٤١١

مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٧)

أم الكتاب هي الآيات المحكمات ، والآيات المحكمات هي الآيات الدالة على وحدانيته تعالى ، بدليل قوله تعالى في أول هود (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) الآية ، ثم فسر إحكامها بالتوحيد في قوله (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) وفسر تفصيلها بالاستغفار والتوبة في قوله (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) ونبه تعالى أن آياته المحكمة ترجع أعدادها إلى آية واحدة محكمة وهي (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) فما من علم من العلوم في الغيب ولا في الشهادة إلا وهو منتظم في سلك (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) مستثمر من ثمار أسرارها ، ولهذا اكتفى بعلمها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إجمالا وتفصيلا في قوله تعالى (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) والآيات المتشابهات إنما أنزلت من الله ابتلاء لعباده ، وبالغ سبحانه في نصيحة عباده في ذلك ، ونهاهم أن يتبعوا المتشابه بالمحكم ، أي لا يحكموا عليه بشيء ، فإن تأويله لا يعلمه إلا الله ، والراسخون في العلم إن علموه بإعلام الله لا بفكرهم واجتهادهم ، فإن الأمر أعظم أن تستقل العقول بإدراكه من غير إخبار إلهي ، فالمتشابه إن علمت أنه متشابه ولم تتعدّ به حدّه ، ولا أخرجته بميلك إليه ونظرك فيه عن المتشابه فلا حرج عليك ، وإنما الخوف والحذر أن تلحقه بأحد الطرفين ، وما ذلك حقيقته ، وإنما حقيقته أن يكون له وجهان ؛ وجه إلى كل طرف ، وجه إلى الحل ووجه إلى الحرمة ، ويتعذر الفصل بين الوجهين وتخليصه إلى أحد الطرفين ، فإذا اتبعته اتباع من لا يزيله عن حقيقته فما ثم زيغ ، فالمحكم في المتشابه التشابه ، فمن تأوله فقد أزاله عن الاشتراك ، وهو مشترك ، فقد زاغ من تأوله عن طريق الحق ، ولذلك نهينا عن الخوض في الآيات المتشابهات ، ونسبنا إلى الزيغ في اتباعها ، فإن الزيغ ميل إلى أحد الشبهين ، وإذا أولت إلى أحد الشبهين فقد صيرتها محكمة وهي متشابهات ، فعدلت بها عن حقيقتها ، وكل من عدل بشيء عن حقيقته فما أعطاه حقه ، فالكيّس من يقف عندها ولا يحكم فيها بشيء ، فإن لها شبها بالطرفين ، ومن ذلك الشبهات ، وهو كل

٤١٢

معلوم يظهر فيه وجه للحق ووجه لغير الحق ، فمثلا يكون من الأرزاق ما هو حلال بيّن وحرام بيّن ، وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس ، فمن لاحت له وقف عندها حتى يتبين له أمرها ، فإما أن يلحقها بالحلال وإما أن يلحقها بالحرام ، فلا يقدم عليها ما دامت في حقه شبهة ، فإنها في نفس الأمر مخلصة لأحد الجانبين ، وإنما اشتبه على المكلف لتعارض الأدلة الشرعية عنده في ذلك. (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ، وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) مآل الشيء لا يصح أن يكون واقعا فيرى إلا إن مثّل للرائي ، فهو كأنه يراه ، فإن المآل يقابل الحال ، فالحال موجود والمآل ليس بموجود ، ولهذا سمي مآلا ، والتأويل هو ما يؤل إليه حكم هذا المتشابه ، فهو محكم غير متشابه عند من يعلم تأويله ، وليس إلا الله ، فما تشابه من القرآن لا يعلم تأويله إلا الله ، فهو من العلوم المستورة مضمن في صور كلمات ، وهو مستور أن يتعلق به معرفة عارف على القطع إلا بإخبار إلهي ، لهذا ترك التأويل من تركه من العلماء ولم يقل به ، واعتمد على الظاهر ، وترك ذلك لله ، فمن أعلمه الله بما أراده في قوله علمه بإعلام الله لا بنظره ، فما يعلم تأويله إلا الله ، أي ما يؤل إليه هذا اللفظ المنزل المرقوم ، وما أودع فيه (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) يعني في العلم بالله ، فهم الراسخون في العلم بشهادة توحيده ، يعلمهم الحق بذلك التأويل من غير فكر فيه ، إذ كان الفكر في نفسه غير معصوم من الغلط في حق كل أحد ، وذلك التعليم من طريق الوهب لا الكسب ، فالعالم هو الراسخ الثابت الذي لا تزيله الشبه ولا تزلزله الشكوك ، لتحققه بما شاهد من الحقائق بالعلم ، فالراسخ في العلم يقول (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) يعني متشابهه ومحكمه ، فإذا أشهده الله مآله فهو عنده محكم ، وزال عنه في حق هذا العالم التشابه ، فهو عنده كما هو عند الله من ذلك الوجه ، وهو عنده أيضا متشابه لصلاحيته إلى الطرفين من غير تخليص ، كما هو في نفس الأمر بحكم الوضع المصطلح عليه ، فهو وإن عرف تأويله فلم يزل عن حكمه متشابها ، فغاية علم العالم الذي أعلمه الله بما يؤل إليه ، علمه بالوجه الواحد لا بالوجهين ، فهو على الحقيقة ما زال عن كونه متشابها ، لأن الوجه الآخر يطلبه بما دل عليه ويتضمنه ، كما طلبه الوجه الذي أعلم الله به هذا الشخص ، فعلم الله على الحقيقة به أن يعلم تأويله ، أي ما يؤول إليه من الجانبين في حق كل واحد ، أو الجوانب إن كانوا كثيرين ، فيعلمه متشابها ، لأنه كذا هو ؛ إذ كل جانب

٤١٣

يطلبه بنصيبه ودلالته منه. فالمحكم محكم لا يزول ، والمتشابه متشابه لا يزول ، وإنما قلنا ذلك لئلا يتخيل أن علم العالم بما يؤل إليه ذلك اللفظ في حق كل من له فيه حكم ، أنه يخرجه عن كونه متشابها ليس الأمر كذلك ، بل هو متشابه على أصله مع العلم بما يؤل إليه في حق كل من له نصيب فيه ، واعلم أن الورع هو اجتناب المحرمات ، وكل ما فيه شبهة من جانب المحرم فيجتنب لذلك الشبه ، وهو المعبر عنه بالشبهات أي الشيء الذي له شبه بما جاء النص الصريح بتحريمه من كتاب أو سنة أو إجماع ، بالحال الذي يوجب له هذا الاسم. (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) وهم الغواصون الذين يستخرجون لب الأمور إلى الشهادة العينية ، بعد ما كان يستر ذلك اللب القشر الظاهر الذي كان به صونه ، فإن الراسخ في العلم جمع بين الإيمان الذي هو الدين الخالص ، وبين ما تستحقه مرتبته من التسليم لله في كل ما يخبر به عن نفسه ، وأما العقول التي أدركها الفضول فتأولت المتشابه من الأمور ، فنحن نسلم لهم حالهم ولا نشاركهم في ذلك التأويل ، فإنا لا ندري هل ذلك مراد الله بما قاله فنعتمد عليه أو ليس بمراده فنرده ، فلهذا التزمنا التسليم. فإذا سئلنا عن مثل هذا قلنا : إنّا مؤمنون بما جاء من عند الله على مراد الله به ، وإنّا مؤمنون بما جاء من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورسله عليهم‌السلام على مراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومراد رسله عليهم‌السلام ، ونكل العلم في كل ذلك إليه سبحانه وإليهم وقد تكون الرسل بالنسبة إلى الله في هذا الأمر مثلنا ، يرد عليها هذا الإخبار من الله فتسلمه إليه سبحانه وتعالى كما سلمناه ولا تعرف تأويله ، هذا لا يبعد ، وقد تكون تعرف تأويله بتعريف الله بأي وجه كان ، هذا أيضا لا يبعد ، وهذه كانت طريقة السلف جعلنا الله لهم خلفا بمنّه. فطوبى لمن راقب ربه وخاف ذنبه وعمر بذكر الله قلبه وأخلص لله حبه.

وفي هذا الزمان أمر عظيم خطبه ، وعمّ ضرره ، وهو ما تظاهر به بعض المبتدعة المنتسبين إلى الحديث والفقه ، وأشاعه في العامة والخاصة ، من اعتقاد ظواهر الآيات المتشابهة في أسمائه تعالى وصفاته ، من غير تعرض لصرفها عما يوهم التشبيه والتجسيم ، ويزعم أنه في ذلك متمسك بالكتاب وماش في طريقة السلف الصالح ، ويشنع على من تعرض إلى شيء منها بتأويل أو صرفه على ظاهره بدليل ، وينسبه في ذلك إلى مخالفة الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين ، لكونهم ما نقل عنهم التعرض لشيء من ذلك ، وقد ضلّ وأضلّ كثيرا ، وما يضلّ

٤١٤

به إلا من هو قاصر الفهم ضعيف النور ، ومن أجلّ منح الله تعالى على عبده ، طهارة قلبه وسلامة فطرته وقلة منطقه ، فإنه بذلك يلقن الحكمة ، ويسمع هواتف الحق في كل نفس من أنفاسه ، ويضيء له في ليل المتشابه مصباح المحكم ، فيرسخ قدم صدقه في معرفة ربه سبحانه ، ويحيى بلده الطيب بغيث الهدى والعلم ، فيخرج نباته بإذن ربه ، كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، ويسلك بنحل أفكاره سبل الاستقامة ، فيخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس ، وقد كان للصحابة رضوان الله عليهم من هذا المشرب أصفاه وأعذبه ، ومن العلم بالكتاب والسنة أزكاه وأطيبه ، وكيف لا يكونون كذلك وقد تليت عليهم آيات الله وفيهم رسوله ، ولهم بالاعتصام بالله ما ضمنت لهم به الهداية والاستقامة ، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم ، يعلمون الناسخ والمنسوخ بالمعاصرة ، وأسباب النزول بالوقايع ، ويفهمون ما أودع في مواقع التركيب وأساليب البيان بالطباع ، يردّون ما اختلفوا فيه إلى الله والرسول ، فيعلمه الذين يستنبطونه منهم ، وهم الراسخون في العلم وأولو الأمر ، يتدبرون القرآن ويردّون المتشابه إلى معنى المحكم ، ويقولون آمنا به كل من عند ربنا ، فلا اختلاف فيه ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ، ولأجل ذلك لم ينقل عنهم اعتناء بإيضاح آيات الأسماء والصفات ، ولا أكثروا السؤال عنها لعدم إشكالها بحسب لغتهم ، ولا تساع مجال إفهامهم في معانيها الصحيحة ، وكان من أدبهم رضي الله عنهم أن لا يثق أحدهم بفهمه في استيعاب المراد منها ، فسكتوا عنها مفوضين إلى كل فهم صحيح ، ما منحه الله تعالى من الاتساع الموافق للّغة والآيات المحكمة ، كما في صحيح البخاري وغيره عن أبي جحيفة ، قال : قلت لعلي كرم الله وجهه ، هل عندكم كتاب؟ قال : لا ، إلا كتاب الله ، أو فهما أعطيه رجل مسلم ، أو ما في هذه الصحيفة ، وفي بعض الروايات إلا ما يعطيه الله عبده فهما في القرآن ، فلما انقطع بموته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ظواهر الأسماع مدد روح الوحي ، وعفت عهود بانقراض علماء الصحابة رضي الله عنهم ، وضعف استنباط المتشابه من المحكم ـ بمخالطة النبط والعجم ـ المعنى الواضح بملابسة العجم ، وحصل التمرج في القلوب ، فزاغت وحجبت عن هواتف الغيب ، وكثر الكلام فيما لا يعني ، فقلّ إيتاء الحكمة ، هنالك ظهرت أرباب البدع وأشكل معنى المتشابه ، فاتبعه من في قلبه زيغ ، وكاد الأمر يلتبس لولا ما أيد الله تعالى به هذه الأمة

٤١٥

من العلماء الوارثين ، والسلف الصالح ، فنهضوا لمناظرة أرباب البدع وتخطئتهم ، وحل شبههم ، ونهوا الناس عن اتباعهم وعن الإصغاء إليهم ، وعن التعرض بالآراء المتشابهة ، وحسموا مادة الجدال فيه والسؤال عنه ، سدا للذريعة واستغناء عنه بالمحكم ، وأمروا بالإيمان وبإمراره كما جاء من غير تعطيل ولا تشبيه ، وكان ذلك في عصرهم مغنيا ، لولا أن المبتدعة دونوا بدعهم ، ونصبوا عليها أشراك الشبه والأهواء المضلة ، فوفّق الله سبحانه الراسخين من علماء السنة ، فدونوا في الرد عليهم الكتب الكلامية ، وأيدوها بالحجج العقلية والبراهين المقيدة من الكتاب والسنة ، إلى أن أظهر الله الحق على ألسنتهم ، وقمع أهل الباطل والزيغ وأطفأ نار البدع والأهواء ، فجزاهم الله تعالى عن نصيحة هذه الأمة أفضل الجزاء ، ونقول ، اعلم هداني الله تعالى وإياك لما اختلف فيه من الحق بإذنه ، أن ربنا سبحانه وتعالى ، متكلم عالم مريد قدير ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، احدي فلا أين ولا تركيب لذاته ، أزلي فلا كيف ولا ترتيب لصفاته ، أبدي فلا تناهي لجلاله وإكرامه ، تنزه في سمعه وبصره وإدراكه وبطشه عن الجوارح ، وعزّ في قدرته عن الشريك والمعين ، وجل في إرادته عن الأغراض ، وتفرّد في كلامه عن الحروف والأصوات ، وتعالى في استوائه عن التشبيه والكون ، وتقدس في علوه وفوقيته عن الجهات ، ينزل سبحانه بلا نقلة ، ويجيء ويأتي بلا حركة ، وتراه أبصار المؤمنين بلا إدراك ولا إحاطة ، لا حد لقربه ، ولا مثل لحبه ، ولا ثورة لغضبه ، ولا كيف له في رضاه وضحكه ، ولا شفعية إلا بمعيته ، ولا وترية إلا بظهور قهره وأحديته ، ولا بقاء إلا لأهل عنديته ، نفسه تعالى ذاته أو أم كتابه ، ووجه نور توحيده عند إقباله ، وصورته تعالى مظاهر تعرفاته ، وظلل غمامه ويده ويداه وأيديه أسماء حقائق يتصرف بها في مخلوقاته ، وأعينه وعينه آياته المبصرة القائمة بالحفظ والرعاية للمخصوصين من عباده ، وقدمه قدم الصدق الذي بشر به المؤمنين ، وجنبه صحبته وكلاءته للذاكرين من أتباع النبيين ، وهو الأول والآخر ، فما من عرض ولا جوهر إلا وهو مبدوء بأوليته ، مختوم بآخريته ، وهو الظاهر بحكمه في محكمه ، الباطن بعلمه في متشابه آياته ، وحكمه ظهر بمعيته في باطن وتريته ، فنشأت أعداد مصنوعاته ، وبطن بقدم أحديته في أسماء الحوادث ، فرجعت بحقائق هوياته إليه (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) لا شريك له في ملكه ، وهو يؤتي الملك من يشاء ، ولا مثل له في كنهه ، وله المثل الأعلى ، تقدّس عن النظير في الدنيا والآخرة. (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ

٤١٦

إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) وتنزه عن الجهات وهو الله في السموات ، وتعالى عن التشبيه وله الآيات المتشابهات ، يجتني معانيها أهل قربه في ريان جنان ذكره ، كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا : هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ، ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون ، فيقول الراسخون في العلم.

(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (٨)

(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) يعني بالفكر فيما أنزلته (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) إلى الأخذ منك علم ما أنزلته إلينا ، فأوقفتنا على مرادك من تلك الألفاظ التي حواها الكتاب ، والتعريف من المعاني المخلصة عن المواد ، فأعطاهم الله العلم غير مشوب. (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) الوهب العطاء من الواهب على جهة الإنعام ، لا يخطر له خاطر الجزاء عليه من شكر ولا غيره ، فأم الأعطيات الإلهية هو الوهب ، وهو الإعطاء لينعم لا لأمر آخر ، فهو الوهاب على الحقيقة في جميع أنواع عطائه ، وكل عطاء خارج عن الجزاء الوفاق فذلك من الاسم الواهب والوهاب ، فسأله الراسخون في العلم من جهة الوهب لا من جهة الكسب ، فإنه ما يعلم مراد الله فيما أنزله على التعيين إلا بطريق الوهب ، وهو الإخبار الإلهي الذي يخاطب به الحق قلب العبد في سرّه بينه وبينه ، فأشرف العلوم ما ناله العبد من طريق الوهب ، وإن كان الوهب يستدعيه استعداد الموهوب إليه بما اتصف به من الأعمال الزكية المشروعة ، ولكنه لما لم يكن ذلك شرطا في حصول هذا العلم ، لذلك تعالى هذا العلم عن الكسب ، فإن بعض الأنبياء تحصل لهم النبوة من غير أن يكونوا على عمل مشروع يستعدون به إلى قبولها ، وبعضهم قد يكون على عمل مشروع فيكون ذلك عين الاستعداد ، فربما يتخيل من لا معرفة له ، أن ذلك الاستعداد لولاه ما حصلت النبوة ، فتخيل أنها اكتساب ، والنبوة في نفسها اختصاص إلهي يعطيه لمن يشاء من عباده وما عنده خبر بشرع ولا غيره.

(رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ

٤١٧

هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) (١٣)

لعبرة أي تعجبا ، فإن في إسبال الستور الجهل بالأمور ، والأبصار تخترق الأستار ، لهذا شرع الاعتبار (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) والستر مسدل ، والباب مقفل ، والعطاء مسبل ، فما نفع الحجاب ، ولا منع باب ، بصر الاعتبار لا يقف له شيء من الأسكار ، وهو النظر في الأشياء بحكم الاعتبار ، وجعل الله العبرة للأبصار ، والاعتبار إنما هو للبصائر ، فذكر الأبصار لأنها الأسباب المؤدية إلى الباطن ما يعتبر فيه عين البصيرة ، فاعلم أن الله خاطب الإنسان بجملته ، وما خصّ ظاهره من باطنه ، ولا باطنه من ظاهره ، فتوفرت دواعي الناس أكثرهم إلى معرفة أحكام الشرع في ظواهرهم ، وغفلوا عن الأحكام المشروعة في بواطنهم ، إلا القليل ، فإنهم بحثوا في ذلك ظاهرا وباطنا ، فما من حكم قرروه شرعا في ظواهرهم إلا ورأوا أن ذلك الحكم له نسبة إلى بواطنهم ، أخذوا على ذلك جميع أحكام الشرع ، فعبدوا الله بما شرع لهم ظاهرا وباطنا ، ففازوا حين خسر الأكثرون ، ونبغت طائفة ضلّت وأضلّت ، فأخذت الأحكام الشرعية وصرفتها في بواطنهم ، وما تركت من حكم الشريعة في الظواهر شيئا ، تسمى الباطنية ، وهم في ذلك على مذاهب مختلفة ، وقد ذكر الإمام أبو حامد في كتابه المستظهر له في الرد عليهم شيئا من مذاهبهم ، وبيّن خطأهم فيها ، والسعادة إنما هي مع أهل الظاهر ، وهم في الطرف والنقيض من أهل الباطن ، والسعادة كل السعادة مع الطائفة التي جمعت بين الظاهر والباطن ، وهم العلماء بالله وبأحكامه. فما من حكم من أحكام فرائض الشريعة وسننها واستحباباتها إلا وله في الباطن

٤١٨

حكم أو أزيد ، على قدر ما يفتح للعبد في ذلك ، فرضا كان أو سنة أو مستحبا ، لا بدّ من ذلك ، وحدّ ذلك في سائر العبادات المشروعة كلها ، وبهذا يتميز حكم الظاهر من الباطن ، فإن الظاهر يسري في الباطن ، وليس في الباطن أمر مشروع ، يسري في الظاهر ، بل هو عليه مقصور ، فإن الباطن معان كلها ، والظاهر أفعال محسوسة ، فينتقل من المحسوس إلى المعنى ولا ينتقل من المعنى إلى الحسّ ، لهذا جاء الاعتبار في الشرع ، فإن خطاب الشرع إذا تعلق بالظاهر كان اعتباره في الباطن ، وإذا تعلق خطاب الشرع بالباطن كان اعتباره في الظاهر ، فالعالم لا يزال ناظرا إلى الشرع بمن علق الحكم فيما جاء به في هذه المسئلة الخاصة ، هل بالظاهر مثل الحركات؟ أو بالباطن مثل النية والحسد والغل وتمني الخير للمؤمنين والظن الحسن والظن القبيح؟ فحيث ما علق الشارع خطاب اللسان الظاهر به كان الاعتبار في مقابله ، أو في مقابلة الحكم ، كالظن الحسن يقابله الظن القبيح ، ويقابله الفعل الحسن في الظاهر ، هذه مقابلة المواطن ، فنجمع بين الظاهر والباطن لكمال النشأة ، فإنه ما يظهر في العالم صورة من أحد من خلق الله بأي سبب ظهرت من أشكال وغيرها ، إلا ولتلك العين الحادثة في الحس روح ، تصحب تلك الصورة في الشكل الذي ظهر ، فإن الله هو الموجد على الحقيقة لتلك الصورة بنيابة كون من أكوانه ، من ملك أو جن أو إنس أو حيوان أو نبات أو جماد ، وهذه الأسباب كلها لوجود تلك الصورة في الحسّ. فلما علمنا أن الله قد ربط بكل صورة حسية روحا معنويا بتوجه إلهي عن حكم اسم رباني ، لهذا اعتبرنا خطاب الشرع في الباطن على حكم ما هو في الظاهر ، قدما بقدم ، لأن الظاهر منه هو صورته الحسية ، والروح الإلهي المعنوي في تلك الصورة هو الذي نسميه الاعتبار في الباطن ، من عبرت الوادي إذا جزته ، وهو قوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) وقال (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) أي جوزوا مما رأيتموه من الصور بأبصاركم ، إلى ما تعطيه تلك الصور من المعاني والأرواح في بواطنكم ، فتدركونها ببصائركم ، وأمر وحث على الاعتبار ، وهذا باب أغفله العلماء ولا سيما أهل الجمود على الظاهر ، فليس عندهم من الاعتبار إلا التعجب ، فلا فرق بين عقولهم وعقول الصبيان الصغار ، فهؤلاء ما عبروا قط من تلك الصورة الظاهرة كما أمرهم الله.

٤١٩

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (١٤)

لما قبلت الحضرة الخيالية المعاني صورا قال الله فيها (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) فصوّر الحب صورة ، زينها لمن شاء من عباده ، فأحبها بنفسها ما أحبها بغيرها ، لأنه تعالى ما زيّن له إلا حب الشهوة فيما ذكره ، فالحب المطلق زين له ، ثم علقه بالشهوة فيما ذكره ، وعلقه لمن شاء في الشهوة أيضا في أمر آخر ، وإنما ذكر الشهوة لأنها صورة طبيعية ، فإنّ الخيال حضرته الطبيعة ، ثم يحكم عليها الخيال فيجسدها إذا شاء ، والشهوة هي آلة النفس تعلو بعلو المشتهى وتسفل باستفال المشتهى ، والشهوة إرادة الالتذاذ بما ينبغي أن يلتذ به ، ولا يلتذ إلا بالمناسب ، والتذاذ الإنسان بكماله أشد الالتذاذ ، برهان ذلك أن الإنسان لا يسري في كله الالتذاذ ، ولا يفنى في مشاهدة شيء بكليته ، ولا تسري المحبة والعشق في طبيعة روحانيته إلا إذا عشق جارية أو غلاما ، وسبب ذلك أنه يقابله بكليته لأنه على صورته ، وكل شيء من العالم جزء منه ، فلا يقابله إلا بذلك الجزء المناسب ، فلذلك لا يفنى في شيء يعشقه إلا في مثله ، ولذلك بدأ بالنساء فقال (مِنَ النِّساءِ) أي في النساء ، فحنين الرجل إليهن حنين الكل إلى جزئه ، كاستيحاش المنازل لساكنيها التي بهم حياتها ، ولأن المكان الذي في الرجل الذي استخرجت منه المرأة عمره الله بالميل إليها ، فحنينه إلى المرأة حنين الكبير ، وحنوه على الصغير ، وكذلك كما كان الإنسان محلّ التكوين ، وكان الإنسان بالصورة يقتضي أن يكون فعالا ، ولا بدّ له من محل يفعل فيه ، ويريد لكماله أن لا يصدر عنه إلا الكمال ، ولا أكمل من وجود الإنسان ، ولا يكون ذلك إلا في النساء اللاتي جعلهن الله محلا ، والمرأة جزء من الرجل بالانفعال الذي انفعلت عنه ، حبب إلى الكامل النساء ، ولما كانت المرأة عين ضلع الرجل ، فما كان محل تكوين ما كون فيها إلا نفسه ، فما ظهر عنه مثله إلا في عينه ونفسه ، ثم ذكر فتنة الولد والمال ، وهذه الفتن تضم الأمهات الثلاث للبلاء والاختبار : وهي فتنة النساء والولد والمال ، وأما فتنة الولد فلكونه سر أبيه وقطعة من كبده ، وألصق الأشياء به ، فحبه

٤٢٠