رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

صورة ، فما نزال في الصور ، في حال النفع والضرر ، فالجهاد صلاح وفساد ، لأن فيه حزّ الرؤوس ومفارقة الحس المحسوس ، فالشهيد يشبه الميت ، فيما اتصف به من الفوت ، ولذلك يورث ماله وينكح عياله ، فطلاق الشهيد يشبه تطليق الحاكم على الغائب ، وإن كان حيا إذا أبعد في المذاهب ، وقد ثبت عن سيد البشر لا ضرر ولا ضرار ، وقد علم أن الشهيد هو سعيد بدار الخلود ، وإن حصل تحت الصعيد ، ولا سبيل إلى رجعته ولا إنزاله من رفعته ، مع كونه حيا بفرح ويرزق ، وما هو عند أهله ولا طلّق ، وهذه حالة الأموات ، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون فرحين وهم عندنا رفات ، وما لنا إلا ما نراه ، ولكل امرئ ما نواه ، ولا نحكم إلا بما شهدناه ، فاستمع تنتفع.

(فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١٧٠)

فرحين ببيعهم لما رأوا فيه الربح ، حيث انتقلوا إلى الآخرة من غير موت (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أتى سبحانه بفعل الحال في قوله (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) فإن هذا الفعل يرفع الحزن في الحال والاستقبال ، بخلاف الفعل الماضي والمخلص للاستقبال بالسين أو سوف.

(يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (١٧٣)

(وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) أي في الله الكفاية (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ).

(فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو

٤٨١

فَضْلٍ عَظِيمٍ) (١٧٤)

فمن كان الله حسبه انقلب بنعمة من الله وفضل لم يمسسه سوء ، وجاء في ذلك بما يرضي الله (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) على من جعله حسبه ، والفضل الزيادة أي ما يعطيه على موازنة عمله بل أزيد من ذلك مما يعظم عنده إذا رآه ذوقا.

(إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٧٥)

الخوف من مقام الإيمان ، ولكل موطن خوف يخصه إذا حققت ، فما متعلق كل خوف إلا ما يكون من الله ، وهو محدث ، فما الخوف إلا من المحدثات ، والله يوجد في ذلك ، فتعلق خوفنا بالموجد لذلك ، وهذا قوله : (وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فجعل الخوف نتيجة الإيمان ، فإنه موقوف على العلم الإلهي الذي يأتي به الصادق من عند الله ، فإن العلم من غير إيمان لا يعطيه ، وحصل الخوف عند الرجال من الله لأنهم لا يعرفون مراد الله فيهم ، ولا إلى أين ينقلهم ، ولا في أي صفة وطبقة يميزهم ، فلما أبهم الأمر عليهم عظم خوفهم منه.

خف الله يا مسكين إن كنت مؤمنا

إذا جاء سلطان المنازع في الأمر

فإن جنحوا للسلم فاجنح لها تنل

بها رتب العلياء في عالم الأمر

وما قلته بل قاله الله معلما

كما جاء في القرآن في محكم الذكر

فخوف الله هو الخوف الأعظم ، فإنه هو المسلّط وبيده ملكوت كل شيء ، فأين الأمان؟ ومن خافه التحق بالملأ الأعلى فيما وصفهم الله به في قوله تعالى : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ).

(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا

٤٨٢

أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (١٧٨)

وهذا من مكر الله الخفي بإرداف النعم على المخالف ، فيطيل لهم ليزدادوا إثما ، والإملاء بسط في العمر والدنيا ، فيتصرفون فيهما بما يكون فيه شقاؤهم ، قال تعالى : (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) يقول يملي لهم مما هم فيه.

(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (١٧٩)

(فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) هذا الأمر من الحق تقرير لصحة ما نسب من الأفعال إلى العبد شرعا ، ولذلك قالوا : (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ) فأضافوا الإيمان إليهم إيجادا (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ). فاجعل أساس أمرك كله على الإيمان والتقوى حتى تبين لك الأمور ، فإنه ما ثمّ إلا الإيمان فلا تعدل عنه.

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١٨٠)

(سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وذلك في حق مانع الزكاة ، قال عليه‌السلام : [يمثل له ماله شجاعا أقرع ـ الحديث ـ] وفيه يقول : أنا كنزك ، فيطوق به (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) والله تعالى ما يرث الأرض إلا بعد موت الإنسان الكامل ، فإن بيننا وبين الحق نسبا ودينا ، فلا يقع الميرات إلا في مستحق له ، كما يرث السماء لما فيها من حكم

٤٨٣

أرواح الأنبياء عليهم‌السلام ، لا من كونها محلّا للملائكة ، فإذا صعقوا بالنفخة ورث الله السماء ، فإن قلت : كيف يرث الله السموات والأرض وهي ملكه؟ قلنا : يرثها الاسم الإلهي الوارث من الأسماء الإلهية التي لها التصرف فيها ، فإذا انقضت مدتها بالحكم فيها ما دامت على هذه الصورة والنظم الخاص وكانت المدبرة لها ، فلما زال تدبيرها وانقضى حكمها الخاص لانقضاء أمد مدة القبول لذلك ، سمى ذلك موتا ، وصارت السموات والأرض ورثا ، فتولاها الاسم الوارث «والله خبير بما تعملون».

(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (١٨١)

لما نزل الله تعالى من مقام غناه عن العالمين إلى طلب القرض من عباده بقوله تعالى : (وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) قالت اليهود : إن رب محمد يطلب منا القرض ، وقالت اليهود : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ) وهو الغني (وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) وهم الفقراء ، فانعكست عندهم القضية ، وهذا من المكر الإلهي الذي لا يشعر به ، فكفرت اليهود فإنهم ليسوا بأغنياء عن الله ولا عن إسباغ النعم عليهم فضلا من الله ومنّة ، فالحق غناه مطلق بالنظر إلى ذاته والخلق مفتقر على الإطلاق بالنظر أيضا إلى ذاته ، فتميز الحق من الخلق ، وهذا التمييز لا يرتفع أبدا لأنه تميز ذاتي في الموصوف به من حق وخلق ، فالحق منفرد بالغنى كما وصف نفسه ، فهو غني نفسه ، ونحن أغنياء به في عين افتقارنا فيما لا نستغني عنه ، فالفقر إلى الله تعالى الذي بيده ملكوت كل شيء ثابت وموجود ، بقوله : (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) أي سنوجب ما قالوه فيما يرجع ضرره عليهم ، أي سيعلمون أن الفقر نعت واجب ، لا يشكون فيه وجوبا ذاتيا من أجل قولهم : (وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) لأنهم انحجبوا عما هو الأمر عليه من فقرهم. (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) ولذلك كانوا كافرين ، فستروا ما هم به عالمون ذوقا من أنفسهم ، لا يقدرون على إنكاره ، ولو باهتوا فالحال يكذبهم في قولهم : (وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) وليسوا بأغنياء وقولهم : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ) وليس بفقير من حيث ذاته ، فإنه غني عن العالمين ، فألحقهم في العقاب بالكفار ، وهم الذين ستروا ما يجب للحق عليهم من التنزيه ، لذلك

٤٨٤

قال في تمام الآية (وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) عقوبة لقولهم وفعلهم ، فإن اليهود قالت : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) أي من أجل فقره طلب القرض منا ، فإن في القرض سد الخلة. وغابوا عن الذي أراده الحق تعالى من ذلك من غاية الوصلة بخلقه ، كما جاء في الصحيح [جعت فلم تطعمني] وهذه الآية تصديق لقوله تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) ـ نصيحة ـ الزم استحضار الفقر في كل نفس وعلى كل حال ، وعلق فقرك بالله مطلقا من غير تعيين ، فهو أولى بك ، وإن لم تقدر على تحصيل عدم التعيين فلا أقل أن تعلقه بالله تعالى مع التعيين ، أوحى الله تعالى إلى موسى : يا موسى لا تجعل غيري موضع حاجتك ، وسلني حتى الملح تلقيه في عجينك.

(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) (١٨٤)

الزبر معناه الكتابة.

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ) (١٨٥)

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) وهو عزلها عن تدبير هذا الهيكل الطبيعي الذي كانت تدبره في الدنيا في حال إقامتها فيها (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ) الجنة فيها معنى الستر وبذلك سميت جنة ، لأنها ستر عن النار لمن دخل فيها ، (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ).

٤٨٥

ألا إلى الله تصير الأمور

ما أنت يا دنياي إلا غرور

أهل التقى لم يأمنوا مكرها

مع التلقي فكيف أهل الفجور

لها صفات الحق في مكرها

وما لنا في مكره من شعور

لو أنها تنصف في حالها

كانت لهم نعم البشير النذير

من صدقها في حالها أنها

أرت رحى الموت علينا تدور

وكان لي فيها وما عندها

موعظة مذكرة للخبير

بها ينال العبد في كونها

كمال نعت الحق يوم النشور

وهي على النص إذا ما مضى

عنها ومن يجحد هذا يجور

ميزانها قام بها والذي

يعلمه هو العليم القدير

فالموت للمؤمن تحفة ، والنعش له محفة ، ينقله من العدوة الدنيا إلى العدوة القصوى ، حيث لا فتنة ولا بلوى.

(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) (١٨٧)

(فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) فلم يتذكروه لعدم شهودهم إياه ، وليس أولئك إلا الأئمة الضلال المضلّون ، الذين ضلوا وأضلوا.

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ

٤٨٦

وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) (١٩٠)

وهم الذين يعقلون معانيها بما ركب فيهم سبحانه من القوة العقلية ، فهذه آيات دلالتها مشروطة بأولي الألباب ، وهم العقلاء الناظرون في لب الأمور لا في قشورها ، فهم الباحثون عن المعاني ، وإن كانت الألباب والنهى العقول ، فلم يكتف سبحانه بلفظة العقل حتى ذكر الآيات لأولي الألباب ، فما كل عاقل ينظر في لبّ الأمور وبواطنها ، فإن أهل النظر لهم عقول بلا شك ، وليسوا بأولي الألباب ، ولا شك أن العصاة لهم عقول ولكن ليسوا بأولي نهى.

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) (١٩١)

الذاكرون ثلاثة : ذاكر قائم ، وهو الذي له مشاهدة قيومية الحق ، فيراه قائما على كل نفس بما كسبت ، فلا يشهده إلا هكذا في ذكره ، وذاكر قاعد ، وهو الذي يشهد من الحق استواءه على العرش ، وذاكر على الجنوب ، وهو يقرب من الغيوب ، لأنها حالة النائم أو المريض ، وهو قريب من حضرة الخيال وهي محل الغيوب ، وإنما قلنا ذلك لأن العالم مرآة الحق ، والحق مرآة الرجل الكامل ، وينعكس النظر في المرآة ، فيظهر في المرآة ما هو في المرآة الأخرى ، لا يعرف ذلك إلا من رأى ذلك (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) التفكر بمعنى الاعتبار لا يكون في أحد من المخلوقين سوى هذا الصنف البشري ، وهو لأهل العبر الناظرين في الموجودات من حيث ما هي دلالات ، لا من حيث أعيانها ولا من حيث ما تعطي حقائقها ، لذلك قال تعالى : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإذا تفكروا أفادهم ذلك التفكر علما لم يكن عندهم ، فهم أصحاب البصر الذي يعتبر ، وصاحب الأذن التي تعي وصاحب القلب الذي يعقل ، فيعطيهم التفكر مما سمعوا وأبصروا وتقليب الأحوال عليهم أن يقولوا (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ) فسبحوه ، أي جعلوه منزها عن إيجاب العلة عليه في خلقه ، لأنه إذا خلقها لحكمة فكأن تلك الحكمة أوجبت الخلق عليه ، وما ثم موجب عليه إلا ما يوجبه بنفسه على نفسه لخلقه امتنانا منه لصدق وعده لا غير ،

٤٨٧

وتمم بالتعريف بقوله : (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) وليست إلا الطبيعة في هذه الدار ، كما هي النار الحسية في الدار الآخرة ، فما عدلوا إلى الاستجارة به من عذاب النار ، إلا وقد أعطاهم الفكر في خلق السموات والأرض علما ، أشهدهم النار ذلك العلم ، فطلبوا من الله أن يحول بينهم وبين عذاب النار. وهكذا فائدة كل مفكّر فيه إذا أعطى للمفكّر علما ما يسأل الله منه بحسب ما يعطيه ـ نصيحة ـ (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وأمثال ذلك ، ها هنا ننظر امتثالا لهذا الأمر ، وإذا وفيت هذا الأمر حقه ، حينئذ تطلب من الحق الفائدة التي ينتجها الحق منه سبحانه لا من الفكر.

(رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) (١٩٣)

اعلم أنه لا يعتمد على سبب محدث عادي إلا بإعلام من الله أنه يثبت حكمه ، كالإيمان الذي ثبت معه السعادة فيعتمد عليه ، فالسعادة مرتبطة بالإيمان بالله وبما جاء من عنده لإعلام الحق بذلك ، وأما قولهم (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) الذين غمرتهم بإحسانك.

(رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) (١٩٥)

(فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ)

٤٨٨

كان العمل ما كان ، فإن كان خيرا فلا يضيع أجره ، وإن لم يكن خيرا فإن الله لا يضيعه ، لأنه لا بد أن يبدل الله سيئات التائب حسنات ، فإن لم يكن العمل غير مضيع وإلا ففي أي أمر يقع التبديل ، لأن الأعمال صور أنشأها العامل ، لا بل أنشأها الله ، فإنه العامل والعبد محل ظهور ذلك العمل ، فكيف يضيع عنه أو يضيعه ، وهو خلق خلقه يسبح بحمده.

(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (١٩٩)

الخشوع لا يكون حيث كان إلا عن تجل إلهي على القلوب ، ففي قلب المؤمن يكون عن تعظيم وإجلال ، فإذا وقع التجلي حصل الخشوع ، وأورث التجلي العلم ، والعلم يورث الخشية ، والخشية تعطي الخشوع ، والخشوع يعطي التصدع ، وهو انفعال الطبع للخشوع.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٢٠٠)

الرباط أن يلزم الانسان نفسه دائما من غير حد ينتهي إليه ، أو يجعله في نفسه ، فإذا ربط نفسه بهذا الأمر ، فهو مرابط ، والرباط ملازمة ، وهو من أفضل أحوال المؤمن ، فكل إنسان إذا مات يختم على عمله إلا المرابط ، فإنه ينمّى له إلى يوم القيامة ، ويأمن فتان القبر ، ثبت هذا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والرباط في الخير كله ، ما يختص به خير من خير ، فالكل

٤٨٩

سبيل الله ، فإن سبيل الله ما شرعه الله لعباده أن يعملوا به ، فما يختصّ بملازمة الثغور فقط ولا بالجهاد ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في انتظار الصلاة بعد الصلاة : إنه رباط. (وَاتَّقُوا اللهَ) يعني في ذلك كله ، أي اجعلوه وقاية تتقوا به هذه العزائم ، وذلك معونته في قوله (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (واستعينوا بالله) فهذا معنى قوله (اتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي تكون لكم النجاة من مشقة الصبر والرباط.

(٤) سورة النّساء مدنيّة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (١)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) يعني نفس آدم ، يخاطب ما تفرع منه ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إن ربكم واحد وإن أباكم واحد] يريد بالأب آدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه لما ظهر جسم آدم ، ولم تكن فيه شهوة نكاح ، وكان قد سبق في علم الحق إيجاد التوالد والتناسل ، والنكاح في هذه الدار ، إنما هو لبقاء النوع ، استخرج من ضلع آدم من القصيرى الأيسر صورة حواء ، فكان واحدا في عينه فصار زوجا بها ، وكانت من الضلع للانحناء الذي في الضلوع ، لتحنو بذلك على ولدها وزوجها. فحنو الرجل على المرأة حنوه على نفسه لأنها جزء منه ، وحنو المرأة على الرجل لكونها خلقت من الضلع والضلع فيه انحناء وانعطاف. وعمر الله الموضع من آدم الذي خرجت منه حواء بالشهوة إليها ، إذ لا يبقى في الوجود خلاء ، فحن إليها حنينه إلى نفسه لأنها جزء منه ،

٤٩٠

وحنت إليه لكونه موطنها الذي نشأت فيه ، فحبّ حواء حبّ الموطن ، وحبّ آدم حبّ نفسه ، وصوّر الحق في ذلك الضلع جميع ما صوره وخلقه في جسم آدم ، ولما أقام الحق صورتها وسواها وعدلها نفخ فيها من روحه ، فقامت حية ناطقة ، أنثى ليجعلها محلا للزراعة والحرث لوجود الإنبات الذي هو التناسل ، فالمرأة منفصلة عن الرجل ليحن إليها حنين من ظهرت سيادته بها ، فهو يحبها محبة من أعطاه درجة السيادة وهي تحنّ إليه وتحبه حنين الجزء إلى الكل ، وهو حنين الوطن لأنه وطنها ، مع ما يضاف إلى ذلك من كون كل واحد موضعا لشهوته والتذاذه ، وسكن إليها وسكنت إليه ، وكانت لباسا له وكان لباسا لها ، وسرت الشهوة منه في جميع أجزائه فطلبها ، فلما تغشاها وألقى الماء في الرحم ودار بتلك النطفة من ماء إلى نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى عظم ، ثم كسا العظم لحما ، فلما أتم نشأته الحيوانية ، أنشأه خلقا آخر فنفخ فيه الروح الإنساني. واعلم أن آدم عليه‌السلام خلق من الفردانية ، وأما حواء عليها الصلاة والسلام فمن الوحدانية ، لأن الفرد لم يعلم حتى استيقظ ، وخلقت كاملة على صورتها من حيّ نائم ، كما خلق آدم عليه الصلاة والسلام على صورته من غير مزيد ، فعقل نفسه فيها ، وكانت الشهوة النكاحية في الموضع الذي عمرته حواء حين خرجت ، فإنه ليس في الوجود خلاء ، فأخلت الشهوة الموضع لنزول حواء فيه ، ونزلت بالموضع الذي خرجت منه حواء من آدم فعمر الموضع ، وخرجت الشهوة فيه أقوى مما جرت في حواء ، فإن حواء حكم عليها موضع الشهوة ، فالنساء أغلب على شهواتهن من الرجال ، فإن الشهوة في الرجل بذاتها وفي المرأة بما بقي من آثار رحمتها في موطنها الذي عمرته ، وكانت الشهوة كالثوب على حواء من أجل صورة الموضع ، وفشت الشهوة في آدم ، فعمّتهما جميعا ، لكن بهذا الحكم ، ولهذا تعم شهوة الجماع عند الإنزال جميع البدن ، ولهذا أمر بتطهير جميع البدن ، فإنه فني بكليته في تلك اللحظة ، فأمر بتطهير كليته من ذلك لأجل مناجاة الحق ، فآدم فرد وحواء واحد ، وواحد في الفرد مبطون فيه ، فقوة المرأة من أجل الوحدانية أقوى من قوة الفردانية ، ولهذا تكون المرأة أقوى في ستر المحبة من الرجل ، ولهذا هي أقرب إلى الإجابة وأصفى محلا ، كل ذلك من أجل الوحدانية ، فما نكح آدم سوى نفسه ، فمنه الصاحبة والولد ، والأمر واحد في العدد ، فتبارك الله أحسن الخالقين الذي قال : (وَبَثَّ مِنْهُما) من آدم وحواء (رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) على صورة الزوجين ، وجعلنا مختلفين في عقولنا

٤٩١

متفاوتين في نظرنا ، والأصل واحد ، ومنا الطيب والخبيث ، والأبيض والأسود ، وما بينهما ، والواسع الخلق والضيق الخلق الحرج ، فجميع الناس رحم ، فإنهم أبناء أب واحد وأم واحدة ـ الوجه الثاني ـ لما كان الهباء أصل الوجود ، وتجلّى له اسمه تعالى النور ، من حضرة الجود كان الظهور ، فقبلت صورته صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هذا الهباء فيض ذلك النور ، فظهرت صورة مثلية ، مشاهدها عينية ، ومشاربها غيبية ، وجنتها عدنية ، ومعارفها قلمية ، وعلومها يمينية ، وأسرارها مدادية ، وأرواحها لوحية ، وطينتها آدمية ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم أب لنا في الروحانية ، كما كان آدم صلى الله عليه أبا لنا في الجسمية ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث جابر رضي الله عنه [أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر] فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم النفس الواحدة التي خلق منها زوجها ، وبه وجد الوجود ، فآدم زوجها من وجه ، لأنه أكمل مخلوق مقابل لها في الوجود ، فهو بهذه النسبة أمّ ، ثم هو أب بالنسبة إلى ذريته وحواء أمّ ، فهي زوجة ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آدم أبوة النبوة ، كما أن آدم عليه‌السلام آدم أبوة الطين ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [كنت نبيا وآدم بين الماء والطين] فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم النفس الواحدة التي خلق منها زوجها ، فإنه ما من نبي ـ من آدم إلى عيسى ـ يأخذ إلا من مشكاته ، التي هي فلك الرحمة (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) فهو نازل من حيث روحانيته إلى كل نبي لما أنزل إليه إن فهمت وإن تأخرت طينته ، وذلك معنى قوله : [كنت نبيا وآدم بين الماء والطين] ولذلك تأخر وجود طينته إلى ختم النبوة ، فإن البداية هي النهاية ، وغيره ما كان نبيا إلا بعد استعداده لنزوله عليه ، فكان نبيا حين بعث بفيض الحياة من مشكاته ، ولم يتحقق بها كما تحقق بها صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد نبّه على ذلك بقوله : [مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى قصرا أحسن بنيانه ، وترك فيه موضع لبنة ، فطاف بها النظار يتعجّبون من حسن بنائه إلا موضع تلك اللبنة ، فكنت أنا سددت موضع تلك اللبنة ، ختم بي البنيان وختم بي الرسل] وفي رواية [فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين] ومما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أول شيء خلقه الله تعالى فقال : هو نور نبيك يا جابر ، خلقه الله تعالى ، ثم خلق فيه كل خير ، وخلق بعده كل شيء ـ الحديث بطوله. ـ إشارة ـ قوله تعالى (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) وقوله تعالى (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) دليل على أن الأجسام من جسم واحد والأرواح من روح واحدة ، تنبيه على أن العالم وجد من واحد ، لا إله

٤٩٢

إلا هو العليم القدير (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ)(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم [الرحم شجنة من الرحمن] وقال : [أنا من الله والمؤمنون مني] فالرحم رحمان : رحم طينية ، ورحم دينية ، قال تعالى في الرحم الطينية (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً.) وقال في الرحم الديني (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) وقال (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) فأعط الطين حقه ، وانفر إلى رحمك الديني الذي هو أولى بك من نفسك ، فإن صلة الرحم بتقوى الأرحام ، بتحكيم اللطيف على الكثيف ـ إشارة ـ هذه الآية تشير إلى وجوب الشفقة على خلق الله والرحمة بعباد الله ، فإن كان العبد كافرا فهو أخوه من حيث أنه وأباه من نفس واحدة ، وإن كان مؤمنا فهو أخوه أخوة اختصاص ديني سعادي ، فعلى كل حال وجبت الشفقة. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) رقيب على كل نفس بما كسبت ، فإن الله له مع كل واحد من المملكة أمر خاص في نفسه.

(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا) (٣)

(فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) اعلم أن مسمى النكاح قد يكون عقد الوطء ، وقد يكون عقدا ووطأ معا ، وقد يكون وطأ ، ويكون نفس الوطء عين العقد ، لأن الوطء لا يصح إلا بعقد الزوجين. (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ما في الخلق من يملك سوى الإنسان ، وما سوى الإنسان من ملك وغيره لا يملك شيئا ، وذلك من حكم الصورة التي خلق عليها الإنسان ، فقال تعالى في إثبات الملك للإنسان (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ). واعلم أن الكفاءة مشروعة لا معقولة ، والشرع

٤٩٣

إنما لزمها من الطرف الواحد لا من الطرفين ، فمنع المرأة أن تنكح ما ليس لها بكفؤ ، ولم يمنع الرجل أن ينكح ما ليس بكفؤ له ، ولهذا له أن ينكح أمته بملك اليمين ، وليس للمرأة أن ينكحها عبدها ـ إشارة ـ ملك اليمين ـ عبدك ليس هو عبدك ، وإنما هو قيمته ، فعامله معاملة مالك ، وأنزله مرتبته من حيث أنه إنسان.

(وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) (٤)

فلا يحل لك من مال امرأتك شيء إلا شيء تعطيك من غير أن تسألها.

(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) (٦)

(وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) وهو أحد الشرطين (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) فأمرنا في الأيتام في دفع أموالهم واستحقاقهم لها بإيناس الرشد منهم ، (فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) أي عليما ، والحسيب من أسماء الله تعالى ، والحسيب ذو الحسب الكريم والنسب الشريف ، ولا نسب أتم ولا أكمل في الشرف من شرف الشيء بذاته لذاته ، ولهذا لما قيل لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : انسب لنا ربك ، ما نسب الحق نفسه فيما أوحى به إليه إلا لنفسه ، وتبرأ أن يكون له نسب من غيره ، فأنزل عليه سورة الإخلاص.

٤٩٤

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠) يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) (١١)

(مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [حق الله أحق بالقضاء] يعني من حق المخلوق ، والله قدّم الوصية على الدّين ، والوصية حقّ الله لأنه الذي أوجبها علينا حين أوجبها الموصي في المال الذي له فيه تصرف ، وتقديم الوصية على الدّين حكم الله ، وهذا خلاف ما عليه اليوم الفقهاء في الوصية والدّين ، فإن الله تعالى قدّم الوصية على الدّين ، ويرجع عندي حق الغرماء ، إذا لم يف ما بقي لهم من مال هذا الميت في بيت المال ، يؤديه عنه السلطان من الصدقات ، فإنهم من الثمانية الأصناف ، فلصاحب الدّين أمر يرجع إليه في دينه ، وليس للوصية ذلك ، فوجب تقديمها بلا شك عند المنصف. والمحتضر ما

٤٩٥

يملك من المال إلا الثلث ، وأجاز له الشارع أن يتصرف بالثلث كله الذي يملكه ، وهو محمود في ذلك شرعا ، فكان أفضل ممن لم يتصدق بذلك الثلث الذي يملكه ، أو تصدق بأقل من الثلث ، وينوي بما يبقيه أنه صدقة على ورثته ، وما أبيح للمحتضر إلا الثلث ، وما فوق ذلك فلا يسمع له فيه كلام ، لأنه تكلم فيما لا يملك. (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) الحكيم مرتب الأمور مراتبها ومنزل الأشياء مقاديرها ـ إشارة ـ أشار الحق بقوة المرأة وضعف الرجل بصورة الميراث ، فأعطى الأكثر للأضعف كي يقوى من جهة الضعف.

(وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢) تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) (١٤)

اعلم أن عصيان الله عصيان رسول الله ، إذ متعلق المعصية الأمر الإلهي والنهي ، ولا يعرف ذلك إلا بتبليغ الرسول وعلى لسانه ، فإن الله لا يبلغ أمره إلا رسل الله ، وليس لغير الرسل من البشر هذا المقام ، ومع هذا فلله أمر يعصى فيه وللرسول أمر يعصى فيه ، وثم أمر يجمع فيه معصية الله ورسوله. فكل أمر يتعلق بجناب الله ليس لمخلوق فيه دخول فتلك

٤٩٦

معصية الله ، وكل أمر يتعلق بجناب المخلوق الذي هو رسول الله ، فتلك معصية الرسول ، وكل أمر يتضمن الجانبين ، فتلك معصية الله ورسوله ؛ قال الله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) ، وقال : (وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) فأفرده ، وقال : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ) فأفرد نفسه.

(وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (١٧)

هو سبحانه العليم بكل شيء بما كان ويكون ، الحكيم ، والحكمة تعطي وضع كل شيء في موضعه ، فما ثم شيء مطلق أصلا ، لأنه لا يقتضيه الإمكان ، فما من أمر إلا وله موطن يقبله وموطن يدفعه ولا يقبله ، لا بد من ذلك.

(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٨)

(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) فإن ذلك الجزء من الحياة الدنيا ليس منها وإنما هو من البرزخ. من الدار التي لا ينفع فيها ما عمل فيها ، (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا

٤٩٧

بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) (١٩)

أي صاحبوهن بما يعرف أنه يدوم بينكما الصحبة به ، والمعاشرة الصحبة ، (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً).

(وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (٢١)

فإنه لا يحل أن يأخذ مما أعطاها من صداق وإنفاق يلزمه لقبول العوض ، فكان كالبيع ، والعوض لا يمكن رده لأنه الاستمتاع بوطئها ، وذلك الإفضاء لا يصح فيه الرجوع ، فلا يصح أيضا في المعوض منه.

(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (٢٣)

٤٩٨

الدخول وطء لوجود لذة أو لإيجاد عين ، وهو بعقد ، وهو عبارة عما يقع عليه رضى الزوجين ، وبلا عقد للإماء.

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) (٢٤)

كل نكاح أي دخول بغير عقد أو للإماء الغير المملوكات ، فهو سفاح لا نكاح ، أي هو بمنزلة الشيء السائل الذي لا ثبات له ، لأنه لا عقد فيه ولا رباط ولا وثاق ، والصداق لا بد منه ، لأنه القيمة والثمن والعوض عن شراء استمتاع بعضو وبيعه ، لأن النكاح من باب الشراء والبيع ، لذلك نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أن تسم على سوم أخيك ولا تبع على بيعه ، كما نهيت أن تخطب على خطبته.

(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٥)

٤٩٩

لا ينكح الأمة إلا من لا يستطيع الطول.

(يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٢٦)

السنة الطريقة ، والسنن مثل الطرق ، طرق الاقتداء (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) بما يجريه ويثبته ، فلا ينازع الحق.

(وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) (٢٧)

الشهوة إرادة الملذوذات ، فهي لذة والتذاذ بلمذوذ عند المشتهي ، فإنه لا يلزم أن يكون ذلك ملذوذا عند غيره ، ولا أن يكون موافقا لمزاجه ولا ملائمة طبعه ، وذلك أن الشهوة شهوتان : شهوة عرضية ، وهي التي يمنع من اتباعها ، فإنها كاذبة وإن نفعت يوما ما ، فلا ينبغي للعاقل أن يتبعها لئلا يرجع ذلك له عادة ، فتؤثر فيه العوارض ، وشهوة ذاتية ، فواجب عليه اتباعها ، فإن فيها صلاح مزاجه لملاءمتها طبعه ، وفي صلاح مزاجه وفي صلاح دينه سعادته ، ولكن يتبعها بالميزان الإلهي الموضوع من الشارع ، وهو حكم الشرع المقرر فيها ، سواء كان من الرخص أو العزائم ، إذا كان متبعا للشرع لا يبالي ، فإنه طريق إلى الله مشروعة ، فإنه تعالى ما شرع إلا ما يوصل إليه بحكم السعادة. والشهوة لا تتعلق إلا بما للنفس في نيله لذة خاصة ، ومحل الشهوة النفس الحيوانية ، ومحل الإرادة النفس الناطقة ، والشهوة تتقدم اللذة بالمشتهى في الوجود ، ولها لذة متخيلة تتعلق بتصور وجود المشتهى وشهوة الدنيا لا تقع لها لذة إلا بالمحسوس الكائن.

(يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) (٢٨)

سمّى الله تعالى الإنسان إنسانا لأنه أنس الرتبة الكمالية ، فوقع بما رآه الأنس له ، فسماه إنسانا. فالألف والنون فيه زائدتان في اللسان العربي.

٥٠٠