رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

إلا الأماكن التي خصصها الدليل الشرعي في ذلك لا لأعيانها ، وإنما ذلك لوصف قام بها ، فيخرج بنصه ذلك القدر لذلك الوصف ، وقوله : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) أي إذا خرجت من الكعبة ، أو من غيرها ، وأردت الصلاة فول وجهك شطرها أي لا تستقبل بوجهك في صلاتك جهة أخرى لا تكون الكعبة فيها ، فقبلتك فيها ما استقبلت منها ، وكذلك إذا خرجت منها ما قبلتك إلا ما يواجهك منها سواء أبصرتها أوغابت عن بصرك ، وليس في وسعك أن تستقبل ذاتها كلها بذاتك ، لكبرها وصغر ذاتك ، فالصلاة في داخلها كالصلاة خارجا عنها ولا فرق ، فقد استقبلت منها وأنت في داخلها ما استقبلت ، ولا تتعرض بالوهم لما استدبرت منها إذا كنت فيها فإن الاستدبار في حكم الصلاة ما ورد وإنما ورد الاستقبال ، وما نحن مع المكلّف إلا بحسب ما نطق به من الحكم ، فلا يقتضي عندنا الأمر بالشيء النهي عن ضده فإنه ما تعرض في النطق لذلك ، فإذا تعرض ونطق به قبلناه ، ومن صلى فوق البيت لم يصل الصلاة المشروعة ، فإن شطر المسجد لا يواجهه وهو مأمور بالاستقبال إليه في الصلاة وهو في هذه الحالة لا فيه ولا مستقبله.

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٥٠)

ـ تفسير من باب الإشارة ـ (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) إلى الوجود أي من زمان خروجك من العدم إلى الوجود فارجع بالنظر والاستقبال مفتقرا مضطرا إلى ما منه خرجت ،

____________________________________

اشتراكه في الضمير مع أمته ، ولذا خصصه في الثالثة أيضا مع تشريكه في ضمير المخاطبين من المكلفين من أمته ، هذا وجه ، والوجه الآخر ، أن الأول قرن معه علم الذين أوتوا الكتاب أنه الحق من ربك ، وما قرن معه علمه به بأن أعلمه هو تعالى أنه الحق على الاختصاص لا بحكم التضمين كما أعلمهم ، وهو عليه‌السلام أولى بعلم الاختصاص من أن يعلم من أنهم علموا أنه للحق ، وكرره باللفظ الظاهر حتى يرتفع اللبس ، ولو كان مضمرا ربما وقع الخلاف في صاحب

٢٢١

فإنه لا أين لك غيره ، فانظر فيه تجده محيطا بك مع كونه مستقبلك (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ) من الأحوال (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) أي لا تعرضوا عنه ، ووجه الشيء حقيقته وذاته ، فإن الإعراض عن الحق وقوع في العدم ، وهو الشر الخالص ، كما أن الوجود هو الخير المحض الخالص ، والحق هو الوجود ، والخلق هو العدم ، قال لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل

____________________________________

الضمير من هو ، فقال تعالى : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) فأعلمه أنه الحق من ربه ، فساواهم في الطريق الموصلة إلى العلم به نصا ، ثم قال (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وعيد في كتمانهم الحق المتقدم الذكر ، ثم قال ثالثا : (١٥١) (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) فأتى به ظاهرا كما قلنا لارتفاع الاحتمالات التي تعرض للضمائر ، وهذا إنما ذكره ليبين ارتفاع الحجة عليكم من المنازعين لكم في ذلك ، فكان الأول لمعنى خاص ، والثاني لمعنى آخر ، والثالث لمعنى ليس هو الأول ولا الثاني ، والاختصاص لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالذكر تشريف ، قال : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) يعني أهل مكة القائلين لم ترك محمد قبلة أبيه إبراهيم ، وقد قال إنه قبل اتبع ملة إبراهيم ، وعدل إلى استقبال بيت المقدس ، فهذه هي الحجة التي أراد الله حسمها عن نبيه في تحويل القبلة ، ولا يلزم من رد حجة خصم في أمر ما أن يكون ذلك ردا أو حجة على خصم آخر بقول آخر ، واعتراض لذلك الآخر في مقابلة اعتراضه وحجته جواب آخر بدليل آخر إذا ذكر ذكر معه (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) يعني عاندوا فيقولون كما بدا له ورجع إلى قبلة آبائه بعد أن كان انصرف عنها ، لا نأمن عليه أن يرجع معنا إلى ديننا الذي نحن عليه ، وذلك أنه ما من حالة تكون إلا ويمكن أن يكون لها وجوه جمة من التأويلات ، فما يتخصص وجه منها دون غيره إلا بقرينة حال أو دليل واضح عند من يظهر عنده ذلك ، فما يعاند المعاند مع معرفته بصحة ما يعاند فيه إلا من أجل الاحتمالات التي تعطي تلك الحالة ، فيجد بذلك مساغا ومدخلا إلى المعاندة لا غير ، وحجة موضع الوقف والاستئناف تنبيه ، ثم قال : (فَلا تَخْشَوْهُمْ) الضمير يعود على الذين ظلموا ، يقول : لا تخافوا ما يقولون ولا ما يعاندون به ، واهملوهم واطردوهم من قلوبكم (وَاخْشَوْنِي) واشتغلوا بالخوف مني الذي بيدي الضر والنفع ، وهم لا يضرون ولا ينفعون (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) عطف على قوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ)(وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) الترجي منهم أن يكونوا من المهتدين ، وقد تقدم الكلام في (لَعَلَّكُمْ) في أول السورة ، وقد يكون (وَلِأُتِمَّ) معطوف على شيء مقدر ، يقول : واخشوني

٢٢٢

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا القول : إنه أصدق بيت قالته العرب. ولا شك أن الباطل عبارة عن العدم ؛ فلا تحجب بالجهة الكعبية ، عن الجهة الإلهية القلبية.

(كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (١٥٢)

أمر الله عباده المؤمنين بالذكر والشكر ، فعليك بذكر الله في السر والعلن وفي نفسك وفي الملأ ، فقد جعل الحق جواب الذكر من العبد الذكر من الله. فذكر الله جزاء وفاق على ذكر العبد ، وذكره تعالى في هذا الموطن هو المصلي عن سابق ذكر العبد ، قال تعالى :

____________________________________

لأنعم عليكم ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون إذا فعلتم هذه الخشية ، ثم قال : (١٥٢) (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ) الآية ، يقول : ولأتم نعمتي عليكم كما أرسلنا ، مثل ما أنعمت عليكم بقبول دعوة أبيكم إبراهيم حين قال هو وإسماعيل : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) فأرسلت فيكم منكم معشر العرب رسولا منكم (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا) يريد آيات القرآن (وَيُزَكِّيكُمْ) بأخذ الصدقة من أموالكم ، قال تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ) أي يبين لكم ما أنزل إليكم في القرآن ، قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) وقال تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَالْحِكْمَةَ) يقول : كيف تكونون حكماء (وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) يعني ما كنتم به جاهلين من يوم الجمعة وغيره ، مما يقربكم العلم به إلى سعادتكم ، إذ العلوم على قسمين : علم لا يتضمن عملا ، وعلم يتضمن عملا ، فأما العلم الذي يتضمن العمل فأفعال العبادات لا تعلم إلا من جهته ، وأما العلم الذي لا يتضمن عملا كالعلم بما ينسب إلى الحق مما لا يقتضي دليل نسبته إليه ، وكالعلم بالآخرة ومواطنها وما يكون فيها مما ينفع العالم العلم به ، وهذا كله لا يعلم إلا من طريق الشرع ، إذ العقل لا يستقل بإدراك شيء من هذا ، بل ربما يحيل العقل الضعيف بعض الإطلاقات الشرعية ويتكلف فيها التأويلات البعيدة ، فهذا معنى قوله : (وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) ، ثم قال : (١٥٣) (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ، وَاشْكُرُوا لِي

٢٢٣

هو الذي يصلي عليكم أي : يؤخر ذكره عن ذكركم ، فلا يذكركم حتى تذكروه ، كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حال الضراء يقول : الحمد لله على كل حال ، وفي حال السراء : الحمد لله المنعم المفضل ، وأي ضراء على العبد أضر من الذنب ، فإنك إذا أشعرت قلبك ذكر الله دائما في كل حال لا بد أن يستنير قلبك بنور الذكر ، والله يقول في الخبر المأثور الصحيح عنه الحديث وفيه : «وأنا معه» يعني مع العبد «حين يذكرني ، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم». وقال تعالى : (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) وأكبر الذكر ذكر الله على كل حال ، والشكر من المقامات المشروطة بالنعماء والمحبة ، ليس للبلاء في الشكر دخول ، ولا للصبر في النعم دخول ، ولما كانت الصلاة مناجاة بين الله وبين عبده فإذا ناجى العبد ربه فأولى ما يناجيه به من الكلام كلامه ، الذي شرع له أن يناجيه به ، وهو قراءة القرآن في أحوال الصلاة ، من قيام وهو قراءة الفاتحة ، وما تيسر معها من كلامه ، ومن ركوع وهو قوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) فهو ذاكر ربه في صلاته بكلامه المنزل ، وكذلك في سجوده يقول : «سبحان ربي الأعلى» فأمرنا الله بذكره وشكره ، والفاتحة تجمع الذكر والشكر ، وهي التي يقرأها المصلي في قيامه ، فالشكر فيها قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وهو عين الذكر بالشكر إلى كل ذكر فيها وفي سائر الصلاة ، فذكر الله في حال الصلاة وشكره ، أعظم وأفضل من ذكره سبحانه وشكره في غير الصلاة ، فإن الصلاة خير موضوع العبادات ، وقد أثرت هذه الصلاة في الذكر هذا الفضل وهو يعود على الذاكر ، وينبغي لكل من أراد أن يذكر

____________________________________

وَلا تَكْفُرُونِ) يقول سبحانه : (فَاذْكُرُونِي) بهذه النعم التي قررتكم عليها وأتممتها عليكم التي لا تحصى كثرة ، سرا في نفوسكم وعلانية في ملّأ من عبادي ، تعلمون به الجاهل ، وتذكرون به الناسي والغافل (أَذْكُرْكُمْ) جزاء لذكركم إياي ، فمن ذكرني منكم في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه يعني الملائكة ، قال : واشكروا نعمتي ، وقرنها بقوله تعالى : (لِي) فقال : (وَاشْكُرُوا لِي) وهذا شكر خاص ، وهو أعلى الشكر ، وحق الشكر وهو أن ترى جميع النعم منه حين تقف الناس مع الأسباب التي يرسل الله النعم عند وجودها ، فلذلك قال : (وَاشْكُرُوا لِي) وقد وعد بالزيادة للشاكرين ، قال : (وَلا تَكْفُرُونِ) أي ولا تستروا نعمتي ، فإنه يقول لنبيه لما قال : (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ

٢٢٤

الله تعالى ويشكره باللسان والعمل أن يكون مصليا ، وذاكرا بكل ذكر نزل في القرآن لا في غيره ، وينوي بذلك الذكر والدعاء الذي في القرآن ليخرج من العهدة ، فإنه من ذكره بكلامه فقد خرج عن العهدة فيما ينسب في ذلك الذكر إلى الله ، وليكون في حال ذكره تاليا لكلامه ، فيقول في التسبيحات ما في القرآن ، ومن التحميدات ما في القرآن ، ومن الأدعية ما في القرآن ، فتقع المطابقة بين ذكر العبد بالقرآن لأنه كلام الله ، وبين ذكر الله إياه في قوله : (أَذْكُرْكُمْ) فيذكر الله الذاكر له وذكره كلامه فتكون المناسبة بين الذكرين ، فإذا ذكره بذكر يخترعه لم تكن تلك المناسبة بين كلام الله في ذكره للعبد وبين ذكر العبد ، فإن العبد هنا ما ذكره بما جاء في القرآن ولا نواه ، وإن صادفه باللفظ ولكن هو غير مقصود (وَاشْكُرُوا لِي) يقال شكرته وشكرت له ، فشكرته نص في أنه المشكور عينه ، وقوله شكرت له فيه وجهان ، الوجه الواحد يكون مثل شكرته ، والوجه الثاني يكون أن يكون الشكر من أجله ، فإذا كان الشكر من أجله يقول له سبحانه : اشكر من أولاك نعمة من عبادي من أجلي ، ليكون شكره للسبب عين شكره لله ، فإنه شكره عن أمره وجعل المنعم هنا نائبا عن ربه ، فلهذا قال سبحانه : (وَاشْكُرُوا لِي) ولم يقل واشكروني ليعم الحالتين ، فإنكم لا تذكرونه حتى يوفقكم ويلهمكم ولذلك قال : (وَلا تَكْفُرُونِ).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (١٥٣)

لما أمر الله عباده المؤمنين بالذكر والشكر أمرهم أن يستعينوا على ذلك بالصبر والصلاة ،

____________________________________

فَحَدِّثْ) ومن حدث بها فما سترها ، وقال عليه‌السلام : [التحدث بالنعم شكر] ، وكفران النعم على وجهين ، كفر بمعنى الجحد والستر لها لجهله بالمنعم الحق سبحانه ، وهم الذين يعتقدون أن الله لا يعلم الجزئيات ، والوجه الآخر من كفرها وقوف العبد مع الأسباب التي حصلت النعم عليه عندها لغفلته ، وهذه حالة أكثر المؤمنين ، وكأنه يقول في هذه الآية : (وَلا تَكْفُرُونِ) كما كفر أهل الكتاب بما أنعمت عليهم فيما قد أخبرتكم في قولي : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا) (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا) في غير ما موضع من كتابي وأبنت لكم عن كفرهم بنعمي ، فلا تكفرون أنتم كما كفروا ، ثم أيّه سبحانه بالمؤمنين من عباده فقال : (١٥٤) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ

٢٢٥

وأخبرهم بأن الله مع الصابرين عليها وعلى كل مشقة ترضي الله مما كلف عباده بها ، لأن الصبر من المقامات المشروطة بالمشقات والمكاره والشدائد المعنوية والحسية ، فجعل الصبر هنا للتطابق في قوله : (وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) فالصلاة هنا والصبر عليها وهو الدوام والثبات وحبس النفس عليها مؤثرة في الذكر والشكر ، فالصبر هنا هو قوله : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) فلذلك ذكر الصبر مع الصلاة ، فكما يؤثر الصبر على الذكر والشكر في الذكر والشكر ، كذلك يؤثر في الصلاة سواء ، وتؤثر الصلاة من حيث الصبر عليها في الذكر والشكر ، ومن حيث هي صلاة ، فإن الله أمرنا بذكره وشكره ، والفاتحة تجمع الذكر والشكر ، وهي التي يقرأها المصلي في قيامه والتسبيح في ركوعه وسجوده ، وقال الله تعالى : (اسْتَعِينُوا) على ذكري وشكري (بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) فلولا ما علم الحق بأن الصلاة معينة للعبد لما أمره بها ، فإنه أنزلها منزلة نفسه ، فإن الله قال للعبد : قل : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) يعني في عبادتك ، فجعل للعبد أن يستعين بربه ، وأمره أن يستعين في ذكره وشكره بالصلاة ، فناهيك يا ولي من حالة وصفة وحركات وفعل أنزله الحق في أعظم الأشياء وهو ذكر الله منزلة نفسه ، فكأنه من دخل في الصلاة قد التبس بالحق ، والحق هو النور ولهذا قال : [الصلاة نور] فأنزلها منزلة نفسه ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [وجعلت قرة عيني في الصلاة] وقرة عيني ما تسر به عند الرؤية والمشاهدة ، وقد أقام الحق الصبر والصلاة مقام نفسه في المعونة ، والمصلي يناجي ربه ويشاهده في قلبه ، ففي حال المناجاة والشهود لا يجرأ أحد من المخلوقات يقرب من عبد تكون حالته هذه خوفا من الله ، وهذا المصلي قليل ، ولكن نرجو أن يشفع ظاهر العبد في باطنه ، والقدر من الحضور المرعي شرعا هو من الباطن يتأيد مع الفعل الظاهر ، فيقوي على ما يقع للمصلي من الوسوسة في الصلاة ، فلا يكون لها تأثير في نقص نشأة الصلاة عناية من الله.

____________________________________

وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) لما تقدم مقالات أهل الكتاب وغيرهم مما آذوا به الله ورسوله والمؤمنين ، قال الله للمؤمنين : (اسْتَعِينُوا) على ما تجدونه في أنفسكم من الآلام لذلك وطلب الانتقام منهم ومؤاخذتهم (بِالصَّبْرِ) أي بحبس نفوسكم عن الاشتغال بهم إن الله صبور مع الصابرين ، فتخلقوا بأخلاقه مع كونه قادرا على أخذهم ، ويسمع أذاهم ويعلم في ذلك سرهم ونجواهم ، وأنتم إنما تسمعون ذلك منهم في أوقات متفرقة ، واستعينوا أيضا بالصلوة ، أي اشتغلوا

٢٢٦

(وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) (١٥٤)

لما تقرب الشهداء بأنفسهم إلى الله في قتال أعداء الله كانت لهم الحياة الدائمة والرزق الدائم والفرح بما أعطاهم الله ، فلا يقال في الشهداء أموات لنهي الله عن ذلك ، لأن الله أخذ بأبصار الخلق عن إدراك حياتهم ، كما أخذ بأبصارهم عن إدراك الملائكة والجن مع معرفتنا أنهم معنا حضور ، ولا نعتقد أيضا في الشهداء أنهم أموات بقوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ) وخبر الله صدق ، فثبتت لهم الحياة لما قصدوا القربة إلى الله بنفوسهم ، فما مات من قتله أعداء الله في سبيل الله ، فجمع الله لهم بين الحياتين ، فالمقتول في سبيل الله في معترك حرب الكفار حي يرزق ، ولذلك لا يغسل ، وإنما أمرنا بغسل الميت ، وهذا الشهيد الخاص

____________________________________

بمناجاتي والحديث معي عن ذلك ، وقصد إلى الصلاة دون سائر العبادات من الفرائض والنوافل لوجهين : الواحد أنه ما ثم عبادة تتضمن مناجاة الحق والحديث معه وأن يقول معه ، ويقول له إلا الصلاة ، فهي مشغلة للعبد عن ما سواها ، فقيل استعن بالصلوة ، فإن الصوم ليس فيه شغل بحديث مع الله ولا غيره ، ثم إن فرضه شهر في السنة ، والزكوة كذلك ، والحج مرة في العمر ، والجهاد متى ما حضر عدو ، ونوافل هذه العبادات كذلك ، إنما تكون في أزمان بعيدة ، والصلاة مستصحبة ليلا ونهارا ، فرضها ونافلتها ، وأوقات النهي إذا كان على طهارة ينتظر الصلوة فهو في صلوة ، فما أمرهم الحق إلا بما يكون لهم معونة بلا شك على ذلك ، ووجه آخر أن الصبر هنا في هذه الآية هو جهادهم وقتالهم ، أي احبسوا نفوسكم على قتالهم والفتك فيهم ، فإن الله معكم مؤيد وناصر ، وهو الأظهر ، فإنه سبحانه أردف هذه الوصية بقوله : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ) وهو الأوجه في تفسير الصبر هنا على الجهاد ، ولما كان القتال مشغلا عن الصلاة ، أوصى بالصلاة ، أي أنّ الاشتغال بها أمام العدو مع احتداد القتال على معاينة منهم لذلك ، إرهاب في قلوبهم ، ليعلموا أن في مقابلتهم رجالا لا يشغلهم خوف هجوم عدوهم عليهم في حال صلاتهم عن صلاتهم ، وأيضا يقول لهم الله : لما أمرتكم بالصبر الذي هو حبس النفس على قتال الأعداء عن الصلوة إذا حضر وقتها لا يشغلكم ذلك ، فإن في حضوركم معي فيها تقوية لكم ومعونة ، فإنها مذكرة لكم أنكم بعيني وأني معكم ، ومن قتل منكم فإنه لا يموت ، بل هو حي عندي ، فقال تعالى : (١٥٥) (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ) لا يلزم من

٢٢٧

لا يقال فيه إنه ميت ولا يحسب أنه ميت ، بل هو حي بالخبر الإلهي الصدق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ولكن الله أخذ بأبصارنا عن إدراك الحياة القائمة به كما أخذ بأبصارنا عن إدراك أشياء كثيرة ، كما أخذ أيضا بأسماعنا عن إدراك تسبيح النبات والحيوان والجماد وكل شيء ، ولذلك قال تعالى : (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) بحياتهم ، كما يحيي الميت عند السؤال ونحن نراه من حيث لا نشعر ، ونعلم قطعا أنه يسأل ، ولا يسأل إلا من يعقل ، ولا يعقل إلا من هو موصوف بالحياة ، فنهينا أن نقول فيهم أموات ، وأخبرنا أنهم أحياء ولكن لا نشعر.

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (١٥٥)

الجوع بئس الضجيع ، وهذه كلها أسباب بلاء يبتلي الله به عباده حتى يعلم الصابرين منهم ، وهو العالم بالصابر منهم وغير الصابر ثم قال : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) على ما ابتليتهم به من ذلك ، فحبسوا نفوسهم عند الحدود ولم يتعدوها مطلقا.

____________________________________

كون الإنسان حيا كونه مجتمع الأجزاء على هيئة مخصوصة ، أو ذا دم سائل أو ذا نفس ، وإنما يلزمه قيام الحياة به مجتمع الأجزاء كان أو مفرق الأجزاء وغير ذلك ، ولا يلزم لروحه أن لا تدبر هذه الأجزاء إلا على هذه الهيئة المخصوصة ، بل يجوز أن تدبرها على غير هذه الهيئة ، ولا يلزم من قيام الحياة به أن ندرك كونه حيا ، فإن الحياة ليست من إدراك الحواس ، وإذا تقرر هذا ، فقد يكون الشهيد في سبيل الله حيا ولا نشعر بذلك ، لوقوفنا مع العادة في عدم الحركة والتنفس من المقتول ، فقال تعالى في حق الشهداء في سبيل الله : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) أي لا تعلمون بحياتهم على العادة التي عهدتموها ، يقوي بذلك نفوس المؤمنين الذين قال لهم : (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ) فإن قتلتم فإلينا تنقلبون أحياء لا تموتون ، إذ كان الخوف من الموت عند اليأس أشد الخوف ، فأمنهم الله من ذلك ، ولما قال قائل ، إنما نهينا أن نقول خاصة ، قلنا في قوله : (بَلْ أَحْياءٌ) جوابك ، ثم زاد الله في بيان ذلك قوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) أي كما قلت لك لا تقل إنهم أموات ، لا تعتقد أيضا أنهم أموات ، والعلم ليس محله اللسان مثل قوله ، فنهينا عن الأمرين عن القول والاعتقاد ، ثم قال : (١٥٦) (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ) الآية ، وذلك أنه سبحانه لما أمر المؤمنين بالصبر على أذى نفسي

٢٢٨

(الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) (١٥٦)

ثم من فضله ورحمته نعت لنا الصابرين لنسلك طريقهم ، ونتصف بصفاتهم عند حلول الرزايا والمصائب التي ابتلى الله بها عباده ، فقال في نعت الصابرين : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) يريد في رفعها عنهم ، وقولهم : (إِنَّا لِلَّهِ) فهم لله في حالهم (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) عند مفارقة الحال ، فالرجوع فيها إلى الله ليزول عنه ألمها ، فأثنى الله على من يقول إذا أصابته مصيبة (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) وأخبر بما يكون منه لمن هذه صفته وبما لهم منه تعالى في ذلك فقال :

____________________________________

غير محسوس ، وهو ما يجدونه في أنفسهم من قول الكفار ، قد يمكن أن يكون منهم دعوى في الصبر ، فقال لهم الله : إني ابتليتكم بأمور محسوسة تتألم النفوس لأجلها ، فإن صبرتم عندها واحتسبتم ولم يشغلكم ذلك عن عبادتي ورجعتم إليّ في ذلك كله ، فسأبشركم بما لكم عندي لذلك ، فقال تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ) أي بقليل (مِنَ الْخَوْفِ) أي من الأسباب المخيفة ، من جمع عدو لكم لا طاقة لكم بدفعه ، حتى أرى هل تخافون غيري ، أو ترجعون في دفع ذلك إليّ لعلمكم بأن ذلك من تسليطي ، ثم قال : (وَالْجُوعِ) أي وقلة الرزق وعدمه حتى يمسكم الجوع ، فنرى هل ترجعون في دفع ألم الجوع إليّ أو إلى الرزق ، ثم قال : (وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ) موت الإبل والغنم ، فإنها أموالهم قد خصوها بهذا الاسم ، وقلوبهم منوطة بها (وَالْأَنْفُسِ) بطاعون يسلطه عليهم (وَالثَّمَراتِ) بالجوائح ، فإن احتسبوا ذلك وصبروا على ما كلفهم الله من عبادته في كل ما ابتلاهم به ولم يشغلهم ذلك صدقوا في صبرهم ، فبشرهم الله فقال : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) ثم نعت الصابر ليعلم من هو الصابر عنده سبحانه الذي يصح له البشرى من الله ، لأن ذلك لا يدرك إلا بإعلامه ، فقال في نعت الصابرين : (١٥٧) (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) نالتهم مصيبة ، أي نزلت بهم رزية في أموالهم وأنفسهم ، أية مصيبة كانت مشتق من صاب المطر إذا نزل (قالُوا إِنَّا لِلَّهِ) أي إنا خلقنا لله لا لأنفسنا ، أي لنعبده ، لأنه يقول : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ما خلقنا لرزق ولا لنعيم ولا بؤس ، فما كان من الله إلينا من خير فمن فضله ومنته ، وما كان من غير ذلك فمن حكمه وقضائه ، فالواجب علينا القيام بوظيفتنا من عبادتنا في هذه الأحوال المختلفة من النعيم والبؤس (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) فيها على حسب ما كلفنا ، فإن كلفنا بالسؤال له في دفعها رجعنا إليه سائلين متضرعين داعين في دفع ذلك عنا من حيث ما أمرنا ،

٢٢٩

(أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (١٥٧)

(أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ) يقول إن الله يشكرهم على ذلك (وَرَحْمَةٌ) والرحمة لا يكون معها ألم ، فرحمته بإزالة المصيبة عنهم (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) الذين بانت لهم الأمور على ما هو الأمر عليه في نفسه ، فإن كل ما حصل عنده أمانة إلى وقتها ، فسميت مصيبة في حقه لنزولها به ، وكانت تنبيها من الحق له ليرجع إليه ، ولا يرجع إلا من خرج.

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) (١٥٨)

الحج هو تكرار القصد ، فيتكرر القصد من الناس والجن والملائكة للكعبة في كل سنة للحج الواجب والنفل ، وفي غير زمان الحج وحاله يسمى زيارة لا حجا وهو العمرة ، والعمرة الزيارة ، وتسمى حجا أصغر لما فيها من الإحرام والطواف والسعي وأخذ الشعر أو منه والإحلال ، ولم تعم جميع المناسك فسميت حجا أصغر بالنظر إلى الحج الأكبر الذي يعم استيفاء جميع المناسك ، ولهذا يجزئ القارن بينهما طواف واحد وسعي واحد لمسمى

____________________________________

لتكون عبادة ، لا من حيث دفعها عنا من حيث ما هو دفع ورفع ، فإذا فعلوا ذلك كانت البشرى لهم ، قوله : (١٥٨) (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ) يريد كثرة الرحمة ، فجمعها لأنه نكر المصيبة ، وهي تقتضي عموم المصائب ، فجعل الجزاء مطابقا في التعميم والتنكير ، أي تنزل عليهم الصلوات والرحمة كما نزلت بهم المصيبة ، نزول بنزول ، وقال : (مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) فإن الربوبية تقتضي صلاح الأمور (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) أي هم الذين أبان الله لهم أنهم ما خلقهم إلا ليعبدوه ، فاهتدوا بأن لزموا ما خلقوا له ، (١٥٩) (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) الآية ، الصفا والمروة موضعان مرتفعان بمكة معروفان ، كان على عهد المشركين على الصفا صنم من حجر اسمه أساف ، وعلى المروة آخر يسمى نائلة ، كان المشركون إذا سعوا بين الصفا والمروة يتمسحون بهما تبركا ، والحج القصد إلى الشيء على التكرار ، والاعتمار الزيارة ، والتطوع نوافل العبادات ، والجناح الإثم ، والشعائر الأعلام ، والبيت هنا الكعبة ، والتطواف التردد على الشيء مرارا ، فقال تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ) أي هذين الموضعين (مِنْ شَعائِرِ اللهِ) أي من المناسك التي جعل الله الوقوف

٢٣٠

الحج لها ، وهكذا فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قرانه في حجة وداعه التي قال فيها : [خذوا عني مناسككم] فالحج الأكبر له زمان خاص ، والعمرة لا تختص بزمان دون زمان ، فحكمها أنفذ في الزمان من الحج الأكبر ، وحكم الحج الأكبر أنفذ في استيفاء المناسك من الحج الأصغر ، ليكون كل واحد منهما فاضلا مفضولا (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) طافت هاجر أم اسماعيل عليه‌السلام بين الصفا والمروة ، وهرولت في بطن الوادي سبع مرات تنظر إلى من يقبل من أجل الماء لعطش قام بابنها إسماعيل ، فخافت عليه من الهلاك ، والحديث مشهور ، فجعل الله فعل هاجر من السعي بين الصفا والمروة وقرره شرعا ، وإنما يبدأ بالصفا لأن الله تهمم بها في الذكر فبدأ بها ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما جاء في حجة وداعه إلى السعي بين الصفا والمروة : [أبدأ بما بدأ الله به] فبدأ بالصفا واقترأ الآية ، فمن أراد أن يحصل علم الله في خلقه فليقف عند ترتيب حكمته في الأشياء ، فيقدم ما قدمه الله ويؤخر ما أخره الله ، فإن من أسمائه المقدم والمؤخر ، فإن أخرت ما قدمه أو قدمت ما أخره فهو نزاع خفي يورث حرمانا ، فقفوا على مشاعر الله التي بيّنها لكم ولا تتعدوا ما رسم لكم ، وما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك إلا تعليما لنا ولزوم الأدب مع الله ، ولولا أنه جائز له أن يبدأ بالمروة في سعيه لما قال هذا ، ورجح ما بدأ الله به على ما في المسألة من التخيير من أجل الواو ، فإنه ما بدأ الله به إلا لسر يعلمه ، فمن لم يبدأ به حرم فائدته ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [خذوا عني مناسككم] ، وتقديم الصفا في السعي من المناسك ، وهكذا فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال الله : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) وقال : (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) ، وقال : [من رغب عن سنتي فليس مني] فأبان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مراد الله منّا في هذه العبادة ، فالأولى ألا نتصرف بالاختيار لما تقدم من بيان الشارع الذي هو العبد المحقق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يقدم السعي على الطواف ولا المروة على الصفا في السعي ، ولما رقي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الصفا حتى رأى البيت استقبل القبلة فوحد الله وكبره ، وقال : لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ،

____________________________________

عليهما والسعي بينهما لمن حج أو اعتمر قربة إليه سبحانه ، وعلما من أعلام القرب في الحج إلى الله (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ) الألف واللام للتعريف والعهد ، يقول فمن قصد البيت حاجا (أَوِ اعْتَمَرَ) أو معتمرا (فَلا جُناحَ) أي فلا إثم «عليه عند الله»

٢٣١

ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ثم دعا بين ذلك ، قال مثل هذا ثلاث مرات ثم نزل إلى المروة ، حتى إذا انتصبت قدماه في بطن الوادي أسرع حتى إذا صعد مشى حتى أتى المروة ، ففعل على المروة كما فعل على الصفا ثم فعل مثل ذلك حتى بلغ سبع أشواط وختم بالمروة ، واتفق العلماء أن من شرط السعي الطهارة من الحيض وليس من شرطه الطهارة من الحدث ، والطهارة أولى ، والسعي سنة فإن خرج عن مكة ولم يسع فليس عليه أن يعود وعليه دم ، واتفق العلماء أن السعي ما يكون إلا بعد الطواف بالبيت ، وأنه من سعى قبل الطواف يرجع فيطوف (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) ما سمى الحق نفسه بالاسم الشاكر والشكور إلا لنزيد في العمل الذي شرع لنا أن نعمل به ، كما يزيد الحق النعم بالشكر منا ، فإن الشكر يقتضي الزيادة لذاته من المشكور مما شكر من أجله ، فإذا علم ذلك علم أن الحق تعالى يطلب الزيادة من عباده في دار التكليف مما كلفهم فيها من الأعمال ، فهو يشكر عباده طلبا للزيادة منهم مما شكرهم عليه مثل ما قال لعباده (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) فطلب سبحانه من عباده بشكره أن يزيدوه فزادوه من العمل ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أفلا أكون عبدا شكورا] فزاد في العبادة لشكر الله له شكرا ، فزاد الحق في الهداية والتوفيق في موطن الأعمال حتى إلى الآخرة حيث لا عمل ولا ألم على السعداء ، وأردف سبحانه وصف نفسه بالشكر وصفه بالعلم ، لأن مرتبة العلم تعطي أن وقوع خلاف المعلوم محال ، والشكور من أسماء الله تعالى ، هو ببنية المبالغة ، وهذا الاسم مختص في حق من أعطاه من العمل ما تعين على جميع أعضائه وقواه الظاهرة والباطنة في كل حال بما يليق به ، وفي كل زمان بما يليق به ، فيشكره الحق على ذلك بالاسم الشكور ، وأما العامة فدون هذه الرتبة في أعمال الحال والزمان ، فإذا أتوا بالعمل على هذا الحد من النقص تلقاهم الاسم الشاكر

____________________________________

(أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) أي إذا طاف بينهما ، فإن المؤمنين خافوا أن يكون عليهم إثم في الطواف بينهما من أجل الصنمين اللذين كانا عليهما ، فلم يريدوا التأسي بالمشركين ، فأخبر الله المؤمنين أنه لا إثم عليهم في ذلك لكون الحق جعل ذلك مشروعا للمؤمنين (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) فمن فعل من أفعال الخير ما ندب إليه ولم يجب عليه (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ) يشكره على ذلك (عَلِيمٌ) أي يعلم أن العبد إذا تقرب إلى الله بما لا يجب عليه أن ذلك من تعظيم الله في نفسه ، قال الأعرابي للنبي عليه‌السلام حين ذكر له فرض الحج : هل عليّ غيره؟ قال : لا إلا أن تطوع ، فجعل فعل ما لا يجب تطوعا ،

٢٣٢

لا الشكور ، فهم على كل حال مشكورون ـ إشارة في العمرة ـ زيارة أهل السعادات لله في الدنيا بالقلوب والأعمال ، وفي الآخرة بالذوات والأعيان ، والعمرة من حيث هي عمرة لا تصح إلا بمكة ، ولما فيها من الشهود الذي يكون به عمارة القلوب تسمى عمرة. إشارة ـ كان على الصفا أساف وعلى المروة نائلة ، فلا يغفل الساعي بين الصفا والمروة ذلك ، فعند ما يرقى في الصفا يعتبر اسمه من الأسف ، وهو حزنه على ما فاته من تضييع حقوق الله تعالى عليه ، ولهذا يستقبل البيت بالدعاء والذكر ، ليذكره ذلك فيظهر عليه الحزن ، فإذا وصل إلى المروة وهو موضع نائلة ، يأخذه من النيل وهو العطية ، فيحصّل نائلة الأسف أي أجره ، ويفعل ذلك في السبعة الأشواط ، لأن الله امتن عليه بسبع صفات ليتصرف بها ويصرّفها في أداء حقوق الله ، لا يضيع منها شيئا ، فيأسف على ذلك ، فيجعل الله له أجره في اعتبار نائلة بالمروة ، إلى أن يفرغ ، أما الرمل بين الميلين ، فلأنه بطن الوادي ، وبطون الأودية مساكن الشياطين ، فيرمل في بطن الوادي ليخلص معجلا من الصفة الشيطانية ، والتخلص من صحبته فيها إذ كانت مقره ، ثم إن السعي في هذا الموضع جمع الثلاثة الأحوال ، وهو الانحدار والترقي والاستواء ، وما ثم رابع ، فحاز درجة الكمال في هذه العبادة ، أعطى

____________________________________

وكأن الحق في هذه الآية حيث ذكر اسم الشاكر أنه يحرض عبده ويطلب منه الزيادة من النوافل ، كما أنه سبحانه يزيد الشاكر النعم لشكره ، كما قال تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) وصف نفسه سبحانه بأنه يشكر عبده على ما تطوع به ليزيد في تطوعه ، فكان تنبيها ، واختلف الناس في السعي بين الصفا والمروة في الحج هل هو واجب أم لا؟ فإن النبي عليه‌السلام قال في حجة الوداع : [خذوا عني مناسككم] فأمر ، فمعناه عندي أن يؤخذ من المناسك ما بيّن أنه فرض على جهة الفرضية والوجوب ، وما بيّن أنه سنة أمر أن يؤخذ على أنه سنة لا على أنه فرض ، وكذلك التطوع ، فمتعلق الأمر إنما هو أخذ الحكم على الفعل بالوجوب وغيره ، فقال جماعة منهم مالك والشافعي وابن حنبل وابن راهويه إنه فرض واجب ، وحجتهم قول النبي عليه‌السلام حين سعى بين الصفا والمروة [اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي] وقد تكلم في هذا الحديث ، وهم يرون أن الأصل في أفعاله في هذه العبادة الوجوب إلا ما خرج بدليل ، وقد ذكرنا معنى قوله عليه‌السلام : [خذوا عني مناسككم] وخرج الخبر في الآية مخرج الأمر عندهم ، وقال الكوفيون : هو واجب ، وهو عندهم دون الفرض وفوق التطوع ، وعلى تاركه دم وليس بركن من أركان الحج ، وقال أنس وابن عباس وغيرهما هو تطوع ، واحتجوا بالآية (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما)

٢٣٣

ذلك الموضع ، وهو في كل حال سالك ، فانحداره إلى الله ، وصعوده إلى الله ، واستواؤه مع الله ، وهو في كل ذلك بالله عن أمر الله ، فهو في كل حال مع الله لله ، فمن سعى ووجد في حال سعيه ما تعطيه حقيقة الحجارة ـ ومنها الصفا والمروة ـ من الخشية والحياة والعلم بالله والثبات في مقامهم فقد سعى ، وحصل نتيجة سعيه ، فانصرف من مسعاه حي القلب بالله ، ذا خشية من الله ، عالما بقدره وبما له ولله ، وإن لم يكن كذلك فما سعى بين الصفا والمروة ، واعلم أنه لما كان الكمال غير محجور على النساء ، وإن كانت المرأة أنقص درجة من الرجل فتلك درجة الإيجاد لأنها وجدت عنه ، وذلك لا يقدح في الكمال ، لذلك جعل الله فعل هاجر من السعي بين الصفا والمروة ، وقرره شرعا في مناسك الحج ، فالخواطر النفسية إذا أثرت الشفقة والسعي في حق الغير أثر القبول في الجناب الإلهي.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢) وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) (١٦٣)

خاطب الله في هذه الآية المسلمين والذين عبدوا غير الله قربة إلى الله ، فما عبدوا إلا الله ، فلما قالوا (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) فأكدوا وذكروا العلة فقال الله لنا : إن إلهكم والإله الذي يطلب المشرك القربة إليه بعبادة هذا الذي أشرك به «واحد» ، كأنكم

____________________________________

كما قال : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) ومذهب عائشة الطواف بينهما على الوجوب (١٦٠) (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) في هذه الآية دليل على لحوق الإثم بمن سئل عن علم من علوم الدين فكتمه ، وأنه يجب عليه أن يفتيه إذا علم ذلك ولا يتوقف ، وقد ورد في الخبر [استوصوا بطالب العلم

٢٣٤

ما اختلفتم في أحديته فقال : (وَإِلهُكُمْ) فجمعنا وإياهم (إِلهٌ واحِدٌ) ، فما أشركوا إلا بسببه فيما أعطاهم نظرهم ، ومن قصد من أجل أمر ما فذلك الأمر على الحقيقة هو المقصود لا من ظهر أنه قصد ، ولهذا ذكر الله أنهم يتبرؤون منهم يوم القيامة ، وما أخذوا إلا من كونهم فعلوا ذلك من نفوسهم لا أنهم جهلوا قدر الله في ذلك ، ألا ترى الحق لما علم هذا منهم كيف قال (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ، ونبههم فقال (سَمُّوهُمْ) فيذكرونهم بأسمائهم المخالفة أسماء الله ، والأسماء الإلهية كلها للمرتبة أي لمرتبة الألوهية إلا الاسم الواحد خاصة ، فهو اسم خصيص بالذات المقدسة التي لها نعوت الكمال والتنزيه ، لا يشاركها في حقيقته من كل وجه أحد لا من الأسماء ولا من المراتب ولا من الممكنات ، واعلم أن العبد الحق لا ينبغي أن يضاف إليه شيء ، فهو المضاف ولا يضاف إليه ، فإذا أضاف السيد نفسه إليه فهو على جهة التشريف والتعريف ، مثل قوله (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ). ـ راجع سورة الأنبياء آية ١٠٨ ـ (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) هذا هو أول توحيد يذكر في القرآن من الستة

____________________________________

خيرا ، ومن سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار] وقد نهى الله نبيه عن انتهار سائل العلم تعليما لنا ، فقال : (وأما السائل فلا تنهر) لأنه قال له : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) أي حائرا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ، يقول : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) أي يخفون (ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ) يقول : من الأدلة على صدق ما جاء به (وَالْهُدى) في الكتاب المنزل عليهم (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ) من أجل الناس فيه ، فأخفوه عما لا يعرف الكتاب ، وهم المقلدة الأميون (أُولئِكَ) إشارة إلى الكاتمين ذلك (يَلْعَنُهُمُ اللهُ) يطردهم الله عن كل ما فيه راحة لهم وخير في الدار الآخرة ، فإن اللعن في اللسان الطرد واللعين المطرود (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) يحتمل وجهان : الوجه الواحد أن تكون لعنتهم إياهم قولهم : [لعنهم الله] على جهة الدعاء ، والوجه الآخر يوم القيامة حين تطردهم الملائكة عن الجنة إذا عاينوها في قوله : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) فذلك لعنة اللاعنين ، ثم استثنى منهم من رجع عن ذلك الكتمان (وَأَصْلَحَ) أي وعمل صالحا (وَآمَنَ) بالله ورسله صدقا من قلبه (وَبَيَّنُوا) وأعلموا من لا يعرف الكتاب من الأميين المقلدين ما أنزل الله وبيّنه في كتابه من الأدلة على صدق رسله ووعده ووعيده وأحكامه ، فقال : (١٦١) (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) أي أرجع عليهم برحمتي ، فأنعم عليهم بالخير الذي طردتهم عنه (وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) قد تقدم تفسيره ، ثم قال فيمن لم يتب ومات على كفره (١٦٢) (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) يقول : من استصحبه حال الكفر حتى مات

٢٣٥

والثلاثين توحيدا المذكورة في القرآن ، وهو توحيد الواحد بالاسم الرحمن الذي له النفس ، فبدأ به فنفى الألوهية عن كل أحد وحّده الحق تعالى إلا أحديته ، فأثبت الألوهية لها بالهوية التي أعادها على اسمه الواحد ، وأول نعت نعته به الرحمن لأنه صاحب النفس ، وسمي هذا الذكر تهليلا من الإهلال وهو رفع الصوت ، أي إذا ذكر بلا إله إلا الله ارتفع الصوت الذي هو النفس الخارج به على كل نفس ظهر فيه غير هذه الكلمة ، ولهذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله] وما قالها إلا نبي ، لأنه ما يخبر عن الحق إلا نبي ، فهو كلام الحق ، فأرفع الكلمات لا إله إلا الله ، وهذه الكلمة اثنا عشر حرفا ، فقد استوعبت في هذا العدد بسائط أسماء الأعداد وهي اثنا عشر ، ثلاث عقود (العشرات والمئين والآلاف) ، ومن الواحد إلى التسعة ، ثم بعد هذا يقع التركيب بما لا يخرج عن هذه الآحاد إلى ما يتناهى ، وهو هذه الاثنا عشر ما لا يتناهى ، وهو ما يتركب منها ، فلا إله إلا الله وإن انحصرت في هذا العدد في الوجود فحزاؤها لا يتناهى ، فبها وقع الحكم بما لا يتناهى ، فبقاء الوجود الذي لا يلحقه عدم بكلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله ، فهذا من عمل نفس الرحمن فيها ، ولهذا ابتدأ به في القرآن وجعله توحيد الأحد ، لأن عن الواحد الحق ظهر العالم.

____________________________________

عليه (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ) أي يستصحبهم الطرد من الله (وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) فعمّ الناس وهو قوله تعالى فيهم يوم القيامة (إنهم يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا) وما عداهم فهو مؤمن ، والمؤمن بلا شك يلعنه بلعنة الله مع الملائكة ، فلهذا عمّ بقوله الناس ، ثم أردفه بقوله : (١٦٣) (خالِدِينَ فِيها) يعني في اللعنة مقيمين (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) ما لهم وقت راحة منه (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) يؤخرون عن العذاب ، قال تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) أي يؤخر إلى أن يجد ما يؤدي به دينه ، ثم قال : (١٦٤) (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) الأظهر في هذه الآية وحدانيته في الألوهية ونفيها عمن سواه ، وليس في ظاهر الآية عند العرب نفي ما سوى الألوهية عنه ، وإن كان دليل العقل يعطي ويقضي بأن ذاته لا جنس لها ولا مثل ولا تنقسم ، ونحن إنما نريد تفسير الآية بمقتضى كلام العرب بالنظر إلى خصوص هذا اللفظ المعين في هذه الآية ، فليس إلا ما ذكرناه والحمد لله ، ولما نزلت هذه الآية في توحيده سبحانه أكثر المشركون من ذلك التعجب وقالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ)

٢٣٦

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (١٦٤)

الآيات المعتادة هي التي لا خبر لنفوس العامة بكونها حتى يفقدوها ، فإذا فقدوها عرفوا في ذلك الوقت موضع دلالتها وقدرها ، وأنهم كانوا في آية وهم لا يشعرون ، لذلك قال تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلى آخر الآية (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) حدث الليل والنهار بخلق الشمس في اليوم وقد كان اليوم موجودا ، فجعل النصف من هذا اليوم لأهل الأرض نهارا ، وهو من طلوع الشمس إلى غروبها ، وجعل النصف الآخر منه ليلا ، وهو من غروب الشمس إلى طلوعها ، واليوم عبارة عن المجموع ، فتكرار الملوان بالاسم لا بالعيان ، ودار الفلك فحدث الجديدان ، (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) ما وضع الله الأسباب سدى إلا لنقول بها ونعتمد عليها اعتمادا إلهيا ، أعطت الحكمة الإلهية ذلك ، فالحكيم الإلهي الأديب

____________________________________

وأكثروا الإنكار في ذلك وطالبوا النبي عليه‌السلام بالدليل على أحديته ، فأنزل الله تعالى (١٦٥) (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) فجعل وجود كل ما ذكره في هذه الآية دليلا على أحديته لمن يعقل موضع الدليل من الذي ذكره ، كما قال تعالى في التنبيه لهم على موضع الدلالة مما ذكره (لَوْ كانَ فِيهِما) يعني في السماء والأرض (آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) فإنه قد أجمعنا مع المشركين على ثبوته سبحانه ، وخالفونا في الأحدية فكان الدليل المنصوب لهم من عند الله على أحديته أنه لو كان له شريك في فعله يسمى إلها ، لكان لا يخلو إما أن يختلفا في كون الشيء أو يتفقا ، فإن اختلفا فالذي ينفذ اقتداره هو الإله ، والذي يعجز ليس بإله ، وإن

٢٣٧

من ينزل الأسباب حيث أنزلها الله ، فمن يشاهد الوجه الخاص في كل منفعل يقول إن الله يفعل عندها لا بها ، ومن لا يشاهد الوجه الخاص يقول : إن الله يفعل الأشياء بها ، فيجعل الأسباب كالآلة يثبتها ولا يضيف إليها ، كالنجار الذي لا يصل إلى عمل صورة تابوت أو كرسي إلا بآلة القدوم والمنشار وغيرهما من الآلات ، مما لا يتم فعله إلا بها لا عندها ، فيثبتها ولا يضيف صنعة التابوت إليها ، وإنما يثبت ذلك للنجار صاحب التدبير والعلم بما يظهر عنه ، (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) اعلم أن العرب لما أرادت تعريف الرياح حتى تجعل لها أسماء تذكرها بها لتعرف ، استقبلت مطلع الشمس ، فسمت كل ريح هبت عليها من جهة مطلع الشمس إذا استقبلته إذ كان وجهها إلى تلك الجهة فسمتها قبولا ، وهي ريح الصبا ، وما أتى إليها من الريح عن دبر في حال استقبالها ذلك سمته دبورا ، وهي الريح الغربية ، وما أتاها منها في هبوبها عن الجانب الأيمن سمتها جنوبا ، وعن جانب الشمال سمته شمالا ، وكل ريح بين جهتين من هذه الجهات سمتها نكباء ، من النكوب وهو العدول ، أي عدلت عن هذه الأربع الجهات ، والنسيم أول هبوب الريح الذي هو من راح يروح ، فالرياح تمر ولا تثبت ، والرائح ما هو مقيم ، ومن تصريف الرياح هبوبها ، فيحرك الهواء الأشجار لإزالة الأبخرة الفاسدة عنها ، لئلا تودع فيها ما يوجب العلل والأمراض في العالم إذا تغذت به تلك الأشجار ، فيأكلها الحيوان أو تفسد في نفسها بتغذيتها بذلك ، فكان هبوب الرياح لمصالح العالم ، حيث يطرد الوخم عنه ويصفي الجو فتكون الحياة طيبة. (وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) فإذا فقدوه حينئذ خرجوا للاستسقاء (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) وهذه الآيات أسباب مقصودة غير مؤثرة في مسببها ، وإنما الأثر في ذلك لناصب الأسباب وجاعلها حجابا عنه ، ليتبين الفضل بين الخلائق في المعرفة بالله ، ويتميز

____________________________________

اتفقا فيقدر الاختلاف ، فيلزم منه ذلك بعينه ، وتقدير الإمكان في المحال بالفرض كوقوع الكائن من أحد الإمكانين على السواء ، وهذا القدر كاف فيما تعطيه عقول الأعراب ، فإنه لا أجهل ممن اتخذ شريكا مع الله ، وأما قوله : (فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيحتمل أن يريد وجودها وأعيانها ، وقد يحتمل أن يريد إيجادها ، فإن الخلق قد يرد بمعنى الفعل ، وهو حال تعلق القدرة بالمقدور ، مثل قوله : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) وقد يرد بمعنى المخلوق بأظهر الوجوه كقوله : (هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) أي مخلوق

٢٣٨

من أشرك ممن وحد ، فالمشرك جاهل على الإطلاق. والعقل من عالم التقييد ولهذا سمي عقلا من العقال ، فإنه مأخوذ من عقال الدابة ، وعلى الحقيقة عقال الدابة مأخوذ من العقل ، فإن العقل متقدم على عقال الدابة ، فإنه لولا ما عقل أن هذا الحبل إذا شدت به الدابة قيدها عن السراح ما سماه عقالا ، فالعاقل هو من يعقل عن الله ما يريد الله منه في خطابه إياه في نفسه بما يلهمه ، أو على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيعقل عن الله أمره ونهيه وما يلقيه الله في سره ، ويفرق بين خواطر قلبه فيما هو من الله أو من نفسه أو من لمة الملك أو من لمة الشيطان ويعقل نفسه ، فبالعقل يسمع المكلف خطاب الحق ، لأنه إذا زال العقل سقط التكليف ولم يبق للشرع عليه سلطان ولا حجة ، والعامة ليست الآيات عندهم إلا التي هي عندهم غير معتادة ، فتلك تنبههم إلى تعظيم الله ، والله قد جعل الآيات المعتادة لأصناف مختلفين من عباده ، فمنها تلك الآيات المذكورة في هذه الآية للعقلاء ، فثم آيات للعقلاء كلها معتادة ، وآيات للموقنين ، وآيات لأولي الألباب ، وآيات لأولي النهى ، وآيات للسامعين ، وهم أهل الفهم عن الله ، وآيات للعالمين ، وآيات للعالمين ، وآيات للمؤمنين ، وآيات للمتفكرين ، وآيات لأهل الذكر ، فهؤلاء كلهم أصناف نعتهم الله بنعوت مختلفة وآيات مختلفة ، كلها ذكرها لنا في القرآن ، إذا بحثت عليها وتدبرتها علمت أنها آيات ودلالات على أمور مختلفة ترجع إلى عين واحدة ، غفل عن ذلك أكثر الناس ، ولهذا عدد الأصناف ، فإن من الآيات المذكورة المعتادة ما يدرك الناس دلالتها من كونهم ناسا وجنا وملائكة ، وهي التي وصف بإدراكها العالم بفتح اللام ، ومن الآيات ما تغمض بحيث لا يدركها إلا من له التفكر السليم ، ومن الآيات ما هي دلالتها مشروطة بأولي الألباب ، وهم العقلاء الناظرون في لب الأمور لا في قشورها ، فهم الباحثون عن المعاني ، وإن كانت الألباب والنهى

____________________________________

الله ، وبهذا ذمهم الله فقال : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) وقال : (فاتخذوا من دون الله أولياء لا يخلقون شيئا وهم يخلقون) وأما فيما ذكره في سائر من الآية من اختلاف الليل والنهار ، وإنزال الماء من السماء وإحياء الأرض بعد موتها بما أخرج فيها من النبات ، وجري الفلك في البحر بمنافع الناس ، وبث الدواب كلها من الحشرات وغيرها في الأرض ، وتصريف الرياح ، وتسخير السحاب بين السماء والأرض ، فما تعرض في الذكر لأعيانها كما تعرض للسماء والأرض ، إذ كان كل ما ذكره متولدا فيهما وبينهما ، فدخل ذلك كله في ذكر السموات والأرض ، فعدل

٢٣٩

العقول ، فلم يكتف الحق سبحانه بلفظة العقل حتى ذكر الآيات لأولي الألباب ، فما كل عاقل ينظر في لب الأمور وبواطنها ، فإن أهل الظاهر لهم عقول بلا شك وليسوا بأولي ألباب ، ولا شك أن العصاة لهم عقول ولكن ليسوا بأولي نهى ، فاختلفت صفاتهم إذ كانت كل صفة تعطي صنفا من العلم لا يحصل إلا لمن حاله تلك الصفة ، فما ذكرها الله سدى ، وكثر الله ذكر الآيات في القرآن العزيز ، ففي مواضع أردفها وتلا بعضها بعضا وأردف صفة العارفين بها ، وفي مواضع أفردها ، فمثل إرداف بعضها على بعض مساقها في سورة الروم ، فلا يزال يقول تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ) (وَمِنْ آياتِهِ) فيتلوها جميع الناس ولا يتنبه لها إلا الأصناف الذين ذكرهم في كل آية خاصة ، فكأن تلك الآيات في حق أولئك أنزلت ، وفي حق غيرهم لمجرد التلاوة ليؤجروا عليها ، فخرق العوائد تهول عند العامة ، وهي عند الخاصة عوائد ، فالعاقل يهوله المعتاد وغير المعتاد ، ولذلك قال في المعتاد : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). ومن نظر في كل ما في الكون أنه آية عليه ، فنظر إلى الأمور كلها معتادها وغير معتادها بعين الحق ، ما هاله ما يرى ولا ما بدا مع تعظيمه عنده ، فإنه من شعائر الله ، ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ـ شعر :

الشخص مستدرج والصدر مشروح

والكنز مستخرج والباب مفتوح

أين الأوائل لا كانوا ولا سلفوا

العقل يقبل ما تأتي به الروح

لكنهم حجبوا بالفكر فاعتمدوا

عليه والعلم موهوب وممنوح

ما فيه مكتسب إن كنت ذا نصف

فليس للعقل تعديل وتجريح

العدل والجرح شرع الله جاء به

ميزانه فبدا نقص وترجيح

العقل أفقر خلق الله فاعتبروا

فإنه خلف باب الفكر مطروح

____________________________________

لما يطرأ فيها من الأحوال العارضة دائما لها ، فما من حالة تطرأ إلا ويجوز خلافها ، فتفتقر إلى وجود مرجح مختار ، وأن يكون واحدا لما ذكرناه قبل ، وهذا بالنسبة إلى عقولهم أقرب دليل يوضع في الأحدية ، وهو الذي ارتضاه أكثر أئمة أهل الكلام وقالوا به وساقوه أحسن مساق ، ونحن أوردناه مختصرا لثقتنا بسرعة فهم السامع إلى المقصود من ذلك ، وقد وقفت للشيخ الإمام الأوحد السيد سيف الدين أبي الحسن علي بن أبي علي الآمدي أيده الله ، على دليل نصبه في أحدية الحق سبحانه ونفي إله آخر ، لم يسبق إليه في علمه ولا في علمنا ولا وجد في كتاب أحد من المتكلمين

٢٤٠