رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

ثم شهد الحق في القرآن وعرّف بفضل هذه الأمة المحمدية على سائر الأمم فقال.

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) (١١٠)

إذا حملنا قوله تعالى (أُمَّةٍ) على أمة الدعوة لا أمة الإجابة ، كان المؤمن بإيمانه والكافر منهم بكفره هما خير من كل مؤمن من غير هذه الأمة وكافر ، أي مؤمن هذه الأمة خير من مؤمن غيرها من الأمم ، وكافر هذه الأمة خير من كافر غيرها من الأمم ـ الوجه الثاني ـ إذا حملت الأمة على أمة الإجابة كانت الأمة المحمدية المتأخرة المنعوتة بالخيرية على جميع الأمم السالفة مؤمنيهم وكافريهم ، فكافرهم شر من كافري الأمم ، ومؤمنهم خير من مؤمني الأمم ، فلهم التقدم ، كما ورد في الخبر في قريش [إنهم المقدّمون على جميع القبائل في الخير والشر] (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) لظهور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصورته فيها ، وكذلك القرن الذي ظهر فيهم خير القرون لظهوره فيه بنفسه ، وما كنا خير أمة أخرجت للناس ، إلا وكان نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيد ولد آدم من غير شك ولا التباس ، فهو بنا ونحن به ، وليس خيرا من كل أمة إلا نبيها ونحن خير الأمم ، فنحن والأنبياء في هذه الخيرية في سلك واحد منخرطين ، لأنه ما ثم مرتبة بين النبي وأمته ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خير من أمته كما كان كل نبي خيرا من أمته ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم خير الأنبياء ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم [ليتمنين اثنا عشر نبيا أن يكونوا من أمتي] تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله» وإن كانت كل أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ويؤمنون بالله ، فقد خصّت هذه الأمة المحمدية بأمور لم يخص بها أمة من الأمم ، ولها أجور على ما خصصت به من الأعمال مما لم يستعمل فيها غيرهم من الأمم ، فتميزوا بذلك يوم القيامة ، وظهر فضلهم ، والفضل الزيادة ، وبالزيادة كانت خير أمة أخرجت للناس أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عناية منه تعالى لحضوره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وظهوره فيها ، وإن كان العالم الإنساني والناري كله أمته ، فإنه المرسل إلى الناس كافة ، ولكن لهذه الأمة خصوص وصف ، فجعلهم تعالى خير أمة أخرجت للناس ؛ هذا الفضل أعطاه ظهوره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنشأتيه ، فكان من فضل هذه الأمة على الأمم أن أنزلها صلى‌الله‌عليه‌وسلم منزلة خلفائه الأنبياء في العالم قبل ظهوره ، إذ كان أعطاهم

٤٦١

التشريع ، فأعطى ، هذه الأمة الاجتهاد في نصب الأحكام ، وأمرهم أن يحكموا بما أداهم إليه اجتهادهم فأعطاهم التشريع ، فلحقوا بمقامات الأنبياء في ذلك ، وجعلهم ورثة لهم لتقدمهم عليهم ، فإن المتأخر يرث المتقدم بالضرورة ، وكل من دخل في زمان هذه الأمة بعد ظهور محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأنبياء والخلفاء الأول فإنهم لا يحكمون في العالم إلا بما شرع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الأمة وتميز في المجتهدين وصار في حزبهم مع إبقاء منزلة الخلافة الأولى عليه ، فله حكمان ، يظهر بذلك في القيامة ، ما له ظهور بذلك هنا ، وكل وارث علم في زمان إنما يرث من تقدمه من الأنبياء عليهم‌السلام لا من تأخّر عنه ، فوراثة عالم كل أمة كانت لنبي قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وراثة جزئية ، وهذه الأمة المحمدية لما كان نبيها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم آخر الأنبياء ، وكانت أمته خير الأمم ، صح للوارث منهم أن يرثه ، ويرث جميع الأنبياء عليهم‌السلام ولا يكون هذا أبدا في عالم أمة متقدمة قبل هذه الأمة فلهذا كانت أفضل أمة أخرجت للناس ، لأنها زادت على الوارثين بأمر لم ينله إلا هذه الأمة. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [العلماء ورثة الأنبياء] وقال : [نحن معاشر الأنبياء لا نرث ولا نورث ، ما تركناه صدقة] يعني الورث ، أي ما يورث من الميت من المال ، فلم يبق الميراث إلا في العلم والحال والعبارة وعما وجدوه من الله في كشفهم ، فكنّا للناس مثل النبي للناس ، قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) أي خيارا (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) فجعل حكمنا ومنزلتنا في غيرنا من الأمم منزلة الرسول منا ، فنحن في حقهم رسل ، ولهذا قال عليه‌السلام : [علماء هذه الأمة أنبياء سائر الأمم] في هذه المنزلة والمرتبة.

(لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢) لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣)

٤٦٢

يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) (١١٤)

لما كانت المغفرة لا تصح إلا بعد حصول فعل الخير الموجب لها ، قال تعالى (وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) فجعل المسابقة في الخيرات إلى المغفرة ، ولذلك قال في موطن آخر (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) والمسارعون في الخيرات هم المسارعون إلى إجابة الحق ، فينبغي للعاقل أن لا يستعجل في أمر له فيه أناة ، ولا يتأنى في أمر يكون الحق في المبادرة إليه والإسراع في تحصيله ، هذا فائدة العقل في العاقل :

[سورة آل عمران (٣) : آية ١١٥]

(وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) (١١٥)

في هذه الآية إضافة العمل من الله إلى العبد ، ولولا ذلك ما صح التكليف ، يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إنما هي أعمالكم ترد عليكم].

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١١٧)

الصر والصرير الصوت.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ

٤٦٣

كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٢٢)

التوكل اعتماد القلب على الله تعالى فيما يجريه أو وعد به ، مع عدم الاضطراب عند فقد الأسباب الموضوعة في العالم ، التي من شأن النفوس أن تركن إليها ، فإن اضطرب فليس بمتوكل ، وهو من صفات المؤمنين ، وإن كان التوكل لا يكون للعالم إلا من كونه مؤمنا كما قيده الله به ـ وما قيده سدى ـ فلو كان من صفات العلماء ويقتضيه العلم النظري ما قيده بالإيمان ، فلا يقع في التوكل بمشاركة من غير المؤمن بأي شريعة كان ، وسبب ذلك أن الله تعالى لا يجب عليه شيء عقلا إلا ما أوجبه على نفسه ، فيقبله بصفة الإيمان لا بصفة العلم ، فإنه فعال لما يريد ، فلما ضمن ما ضمن وأخبر بأنه يفعل أحد الممكنين ، اعتمدنا عليه في ذلك على التعيين وصدقناه ، وعدم اضطرابنا عند فقد الأسباب إنما هو من إيماننا بضمانه.

(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) (١٢٥)

٤٦٤

لما كان أهل بدر قليلين والمشركون كثيرين ، أنزل الله الملائكة مددا لنصر المؤمنين على الأعداء في القتال يوم بدر ، فنزل الملائكة مقاتلين خاصة. وكونهم مسومين أي أصحاب علامات يعرفون بها أنهم من الملائكة ، فبوجود المدد الملكي والأثر الفلكي كانت النصرة ، ورجعت على الأعداء الكرة ، أقدم حيزوم ، لنصرة دين الحي القيوم ، ولما فيه من تقوية القلوب ، عند أهل الإيمان بالغيوب ، وما كان عند أهل الغيب إيمانا ، كان لأهل الشرك عيانا ، وذلك الشهود خذلهم ، فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ، قتلهم بالملك ، للأمر الذي أوحاه في السماء وأودعه حركة الفلك ، فما انحجب عن المؤمن لإهانته ، كما أنه ما كشفه للمشرك لمكانته ، لكن ليثبت ارتياعه ، ويتحقق انصداعه واندفاعه ، فخذله الله بالكشف ، وهو من النصر الإلهي الصرف ، نصر به عباده المؤمنين على التعيين ، فإنه أوجب سبحانه على نفسه نصرتهم ، فرد عليهم لهم كرتهم ، فانهزموا أجمعين وكان حقّا علينا نصر المؤمنين ، والمؤمن الإله الحق ، وقد نصره الخلق.

(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (١٢٦)

(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ) فيحتمل لكونهم من الملائكة عامة ، أوهم الملائكة الذين قالوا في حق آدم (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) فأنزلهم الله في يوم بدر ، فسفكوا الدماء ، حيث عابوا آدم بسفك الدماء ، فلم يتخلفوا عن أمر الله ، فنصرونا على الأعداء بما عابوه علينا. (وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) أي من عادة البشرية أن تسكن إلى الكثرة ، إذ كان أهل بدر ثلاثمائة والمشركون ألفا ، فلما رأوا الملائكة خمسة آلاف ، اطمأنت قلوب المؤمنين بكثرة العدد مع وجود القتال منهم ، فما اطمأنوا به برؤيتهم وحصل لهم من الأمان في قلوبهم حتى غشيهم النعاس ، إذ كان الخائف لا ينام.

(لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) (١٢٨)

٤٦٥

يقول الحق تعالى لأكرم الناس عليه وأتمهم في الشهود وأعلاهم في الوجود (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) فإن الأمر يكون عنه التكوين ، والتكوين للحق لا له ، فما أراده كان ، فأفلسه الحق حتى لا يخرج عن حقيقته.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (١٣٣)

(وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) وهي العبادة ، فالمسارعة هي المبادرة إلى الصلاة مثلا بالتأهب المعتاد قبل دخول وقتها ، فيأتيها بسكينة ووقار ، فيجمع بين المسارعة والسكينة ، فمن سارع إليها فقد سارع إلى المغفرة ، وإنما أمر العبد بالمسارعة إلى الخيرات لتصرفه في المباحات لا غير ، فمن كانت حالته أن لا يتصرف في مباح ، فهو في خير على كل حال ـ تفسير من باب الإشارة ـ. (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) المسارعة في الخير وإليه ، والمغفرة لا ترد إلا على ذنب ، وإن كانت في وقت تستر العبد عن أن تصيبه الذنوب ، وهو المعصوم والمحفوظ ، فلها الحكمان في العبد ، محو الذنب بالستر عن العقوبة أو العصمة والحفظ ، ولا ترد على تائب ، فإن التائب لا ذنب له ، إذ التوبة أزالته ، فما ترد المغفرة إلا على المذنبين في حال كونهم مذنبين غير تائبين ، فهناك يظهر حكمها. وهذا ذوق لم يطرق قلبك مثله قبل هذا ، وهو من أسرار الله في عباده الخفية ، من حكم أسمائه الحسنى ، ومثل هذا يسمى التضمين ، فإنه أمر بالمسابقة إلى المغفرة ، وما أمر بالمسابقة إلى الذنب ، ولما كان العفو والغفران يطلب الذنب ، وهو مأمور بالمسابقة إلى المغفرة ، فهو مأمور بما له يكون ليظهر حكمها ، فما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب ، ولكن من حيث

٤٦٦

ما هو فعل لا من حيث ما هو حكم ، وإنما أخفى ذكره هنا وذكر المغفرة لقوله (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) والأمر من أقسام الكلام ، فما أمر بالذنوب وإنما أمر بالمسابقة والإسراع إلى الخير وفيه ، وإلى المغفرة ، جاء في الحديث [لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيغفر لهم] ولم يقل فيعاقبهم ، فغلب المغفرة وجعل لها الحكم. فأصل وجود الذنب بذاته لما يتضمنه من المغفرة والمؤاخذة ، فيطلب تأثير الأسماء ، وليس أحد الاسمين المتقابلين في الحكم أولى من الآخر ، لكن سبقت الرحمة الغضب في التجاري ، فلم تدع شيئا إلا وسعته رحمته (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) العرض ينحصر في السموات والأرض في سعة الجنة ، ولم يذكر لطولها حد ولا انتهاء ، فطولها روحاني معنوي ، وعرضها جسماني ، فطولها لا ينحصر ، وأما من جهة التحقيق ، فإن ذكر عرض الجنة فإن شكلها مستدير ، والطول لا يظهر إلا ببداية وغاية ، فعرض الجنة قطرها إذا قدرته ، وليس لها طول لكونها كريّة.

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (١٣٤)

(وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) لتعدي حدود الله ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه ملأه الله أمنا وإيمانا] فمن الإيمان كظم الغيظ. (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) فإن للخلق أجرا على الله لأعمال عملوها له ، ولأعمال عملوها للخلق رعاية للحق ، كالعفو من العافين عن الناس ؛ فإن الإنسان إذا رحم نفسه وزال الغضب بإطلاق الانتقام أعقبته الرحمة ، وهي الندم الذي يجده الإنسان إذا عاقب أحدا ، ويقول : لو شاء الله كان العفو عنه أحسن ، لا بد أن يقول ذلك ، إما دنيا وإما آخرة في انتقامه لنفسه ، لئلا يتخيل أن إقامة الحدود من هذا القبيل ، فإن إقامة الحدود شرع من عند الله ، ما للإنسان فيها تعمّل. (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) راجع الآية (١٤٨).

(وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (١٣٥)

٤٦٧

الإصرار من الأعمال المنهي عن عملها ، ولا يزيلها إلا التوبة ، فإن مات خيف عليه ولم يقطع ، وإذا زلّ العبد فقامت به الذلة والحياء والانكسار ، كان ذلك عين الترقي ، فإذا فقد الإنسان هذه الحالة في زلته ، ولم يندم ولا انكسر ولا ذلّ ولا خاف مقام ربه ، كان جليس إبليس ، بل إبليس أحسن حالا منه ، لأنه يقول لمن يطيعه في الكفر (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [الندم توبة].

(أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) (١٣٦)

(أَجْرُ الْعامِلِينَ) بأمره ، فإن الله تعالى أخبر أن أصحاب الأعمال الحافظين لحدود الله تعالى ، الموفين ما عاهدوا الله عليه ، المشتغلين بكل عمل توجه عليهم منه في أوقاتهم ، أن لهم الآخرة والأولى ، وأعطاهم ملك الدارين ، ونزههم في العالمين ، وذكرهم بلسان صدق فيمن عنده ، وفي كتابه العزيز منة منه وطولا ، والله ذو الفضل العظيم ، واعلم أن الله تعالى ما أثنى على أحد من عباده في كتابه العزيز ، ولا على لسان نبيه في حديثه ، إلا كان الثناء عملا من الأعمال ؛ ما مدحهم إلا بأعمالهم ، فأعمالهم هي التي ردها سبحانه عليهم ، مع توليه لهم فيها ، وهذا غاية الكرم والجود أن يمنحك ، ويعطيك ، ويثني عليك بعد ذلك بما ليس لك ، فإنه سبحانه آخذ بناصيتك ، قايدك إلى كل فعل أراده منك أن يوجده فيك أو على يديك ، فطائفة أثنى عليهم بالتقوى ، وطائفة بالإيمان ، وطائفة بالعلم وهو من جملة الأعمال ، فقال تعالى : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) ثم فصّل أعمالهم اعتناء بهم وشرفا وتعليما لنا وهداية وبيانا وموعظة ، فقال تعالى (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) الآيات ، وقال : (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) فما وصفهم لما وصفهم إلا بأعمالهم التي خلق لهم ، ثم أنه سبحانه ما نصّ على مقام يناله العبد عنده إلا قرنه بالعمل الصالح ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ ، لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) الآية ، وقال : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ

٤٦٨

مُقْتَدِرٍ) إلى أمثال هذه الآيات النيرات ، فقد شاء سبحانه وتعالى أن لا تنال المقامات على تفاصيلها بتفاضل بعضها على بعض إلا بعمل ، والصبر والرضى من جملة الأعمال والأحوال المشروعة لنا ، المأمور بها شرعا ، كما قال تعالى : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) ولا يكون الصبر إلا على بلاء ومشقة. وأصل السعادة الجامعة لها موافقتنا للحق تعالى فيما أمر به ونهى شرعا ، مع التوحيد في باطنه بنفي الأغيار ، وتلك الموافقة عناية من الله تعالى ببعض عباده ، ولكن ينبغي للعبد أن يعتقد أن أعماله لم توصله إلى نيل تلك المقامات ، وإنما أوصله إلى ذلك رحمة الله تعالى به الذي أعطاه التوفيق للعمل والقدرة عليه والثواب. فحصول السعادة أعني دخول دار الكرامة ابتداء إنما هو برحمة الله تعالى ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لا يدخل أحد الجنة بعمل ، قيل له : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته] فالدخول برحمة الله ، وقسمة الدرجات بالأعمال ، والخلود بالنيات ، وكذلك في دار الشقاوة ، دخول أهلها فيها بعدل الله ، وطبقات عذابهم بالأعمال. وخلودهم بالنيات. وأصل ما استوجبوا به العذاب المؤبد المخالفة ، كما كانت السعادة في الموافقة. وكذلك من دخل من العاصين النار ، لولا المخالفة ما عذبهم الله شرعا. وأول ما يجب عليك ، إن رزقت الموافقة والتوفيق ، العلم بالأمور التي مهدناها لك ، فإذا علمتها توجه عليك العمل بها ، وإن كان طالب العلم في عمل من حيث طلبه ، ولكن يعطيك العلم العمل بأمور أخر ، توجه عليك بها خطاب الشارع ، كما أن العلم لم يصح طلبه إلا بالعلم. فمن حصل له العلم بالأحكام التي يحتاج إليها في مقامه ، فلا يكثر مما لا يحتاج إليه ، فإن التكثير مما لا حاجة فيه سبب في تضييع الوقت عما هو أهم ، فيأخذ منها ما توجه عليه في الوقت من علم تكليف ذلك الوقت ، فإذا عرفت هذا ، ولازمت العمل ، فأنت الموفق السعيد. واعلم أن عدد الأعضاء المكلفة ثمانية : وهي العين والأذن واللسان واليد والبطن والفرج والرجل والقلب ، فعلى كل واحد من هذه الأعضاء تكليف ، يخصه من أنواع الأحكام الشرعية ، ثم تصرفها على الوجه الشرعي في محلين خاصة إما في ذاتك وإما في غير ذاتك. فالذي في ذاتك منه ما يلحقك عليه المذمة الشرعية والمحمدة عند الله تعالى ، فالمحمدة كالصوم والصلاة وما أشبه ذلك ، والمذمة كضربك نفسك بالسكين لتقتلها. ومنها ما لا يلحقك فيه مذمة ولا محمدة ، كصنف المباح ، ولا يجوز لك هذا الفعل إلا في ذاتك. وأما في غير ذاتك فلا إلا بشرط

٤٦٩

ما. والذين هم غيرك ثمانية أصناف خارجون عنك : الولد والوالدان والزوجة وملك اليمين والبهيمة والجار والأجير والأخ الإيماني والطيني. وكل فعل حسن للجوارح أسه انتباه القلب ، وهذه الأعمال كلها ليس لها زوال عن شخص حتى يموت ، فإن عدمها في أحواله وطريقه فهو مخدوع ، والواصل لا يتصور منه ترك لها أصلا ، وإن ادعى الوصول ، وفارق المعاملات استصحابا ، فدعواه كاذبة. ولو فتح له في علم الكونين وسر العالم فمكر واستدراج. فلا سبيل إلى الوصول إلى نهاية صحيحة عن الشوب الإبليسي ، خالصة عن الغرض النفسي ، ما لم يزل المريد أوّلا عن رعونة النفس وكدورة البشرية. ومن لم يتخلق لم يتحقق. وعلامة من صح وصوله الخروج عن الطبع والأدب مع الشرع واتباعه حيث سلك ، والشفاء الشافي والدواء الكافي لهذا الداء العضال العلم بشرط التوفيق ، فإذا اجتمعا فلا حايل بينك وبين التحقيق.

(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (١٣٨)

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [تركت فيكم واعظين ، صامت وناطق ، فالصامت الموت والناطق القرآن] ليست الموعظة من الشعر فترمز ، ولا من الخطابة فتلغز ، وإنما هي من النعم المبسوطة على الدوام ، على مر الليالي والأيام ، كما قال المهيمن العلام : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ).

(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١٣٩)

فهم الأعلون بإعلاء كلمة الله على كلمة أعدائه.

(إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ

اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ

٤٧٠

اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) (١٤١)

وهذا كله ابتلاء من الله لعباده الذين ادعوا الإيمان به بألسنتهم.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (١٤٢)

فميّز بينهما ، فيجازي المجاهد بجزاء معين ، ويجازي الصابر عليه بجزاء معين.

(وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) (١٤٤)

ما بقي أحد يوم مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا ذهل في ذلك اليوم ، وخولط في عقله ، وتكلم بما ليس الأمر عليه ، إلا أبو بكر الصديق ، فما طرأ عليه من ذلك أمر ، بل رقي المنبر ، وخطب الناس ، وذكر موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : من كان منكم يعبد محمدا ، فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، ثم تلا (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ، وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) ـ الآية ، فسكن جأش الناس ، حتى قال عمر : والله ما كأني سمعت بهذه الآية إلا في ذلك اليوم ، فإنه ما بقي أحد حين مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا اضطرب وقال : ما لا يمكن أن يسمع ، وشهد على نفسه في ذلك اليوم بقصوره وعدم معرفته برسوله الذي اتبعه إلا أبا بكر ، فإنه ما تغير عليه الحال لعلمه بما ثم وما هو الأمر عليه ، فلما قرأ الآية تراجع من حكم عليه وهمه ، وعرف الناس حينئذ فضل أبي بكر على الجماعة ، فاستحق الإمامة والتقديم ، فما بايعه من بايعه سدى ، وما تخلّف عن بيعته إلا من جهل منه ، ما جهل أيضا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو من كان في محل نظر في ذلك ، أو متأولا ، فإنه قد شهد له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حياته بفضله على الجماعة بالسر الذي وقر في صدره ، فظهر حكم ذلك السر في ذلك اليوم ، وهو استيفاء مقام العبودة ، بحيث أنه لم يخل منه بشيء

٤٧١

في حقه وفي حق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعلم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أبا بكر الصديق مع من دعاه إليه ، وهو الله تعالى ، ليس معه إلا بحكم أنه يرى ما يخاطبه الحق سبحانه على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل خطاب يسمعه منه ، بل من جميع من يخاطبه ، وقد علّمه الحق في نفسه ميزان ما يقبل من خطابه وما يرد ، فكان أبو بكر رضي الله عنه أحكم أولياء الله في مقام الرضا والاستسلام والتفويض والصبر والاعتماد على الله ، فإنه رضي الله عنه ما ظهر قط عليه مما كان عليه في باطنه من المعرفة شيء لقوته إلا يوم مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذهلت الجماعة ، وقالوا ما حكي عنهم إلا الصديق ، فإن الله تعالى وفقه لإظهار القوة التي أعطاه ، لكون الله أهله دون الجماعة للإمامة والتقدم ، والإمام لا بد أن يكون صاحيا ، لا يكون سكرانا ، فقامت له تلك القوة في الدلالة على أن الله قد جعله مقدّم الجماعة في الخلافة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمته ، كالمعجزة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدلالة على نبوته ، فلم يتقدم ولا حصل الأمر له إلا عن طوع من جماعة وكره من آخرين ، وذلك ليس نقصا في إمامته ، ومن كره إمامته من الصحابة رضي الله عنهم ، ما كان عن هوى نفس ، نحاشيهم من ذلك على طريق حسن الظن بالجماعة ، ولكن كان لشبهة قامت عندهم ، رأى من رأى أنه أحق بها منه في رأيه ، وما أعطته شبهته لا في علم الله ، فإن الله قد سبق علمه بأن يجعله خليفة في الأرض ، وكذلك عمر وعثمان وعلي والحسن ، ولو تقدم غير أبي بكر لمات أبو بكر في خلافة من تقدمه ، ولا بد في علم الله أن يكون خليفة ، فتقدمهم بالزمان بأنه أولهم لحوقا بالآخرة ، فكان سبب هذا الترتيب في الخلافة ترتيب أعمارهم ، فلا بد أن يتأخر عنها من يتأخر مفارقته للدنيا ، ليلي الجميع ذلك المنصب ، فكل لها أهل في وقت أهلية الذي قبله ، ولا بد من ولاية كل واحد منهم ، وخلع المتأخر لو تقدم لا بد منه ، حتى يلي من لا بد له عند الله في سابق علمه من الولاية ، فرتب الله الخلافة ترتيب الزمان للأعمار ، حتى لا يقع خلع مع الاستحقاق في كل واحد من متقدم ومتأخر ، وما علم الصحابة ذلك إلا بالموت ، وفضل بعضهم على بعض مصروف إلى الله ، هو العالم بمنازلهم عنده ، فإن المخلوق ما يعلم ما في نفس الخالق إلا ما يعلمه به الخالق سبحانه ، وما أعلم بشيء من ذلك ، فلا يعلم ما في نفسه ، إلا إذا أوجد أمرا ، علمنا أنه لو لا سبق في علم الله كونه ما كان ، فالله يعصمنا من الفضول ، إنه ذو الفضل العظيم ، ومع هذا البيان الإلهي ، فبقي أهل الأهواء في خوضهم يلعبون مع

٤٧٢

إبانة الصبح لذي عينين ، بلسان وشفتين ، نسأل الله العصمة من الأهواء وأمراض التعصب وحمية الجاهلية. من هذا نعلم أنه إذا عرف التلميذ من الشيخ أنه محل لظهور آثار الربوبية ، وهو في نفسه على خلاف ما يظهر للعالم ، مشاهد عبودته ، فقد فتح الله على ذلك التلميذ بما فيه سعادته ، فإنه يتجرد إلى جانب الحق تجرد الشيخ ، فإنه عرف منه واتكل على الله لا عليه ، وبقي ناظرا في الشيخ ما يجري الله عليه من الحال في حق ذلك التلميذ ، من نطق بأمر يأمره به أو ينهاه ، أو بعلم يفيده ، فيأخذه التلميذ من الله على لسان هذا الشيخ ، ويعلم التلميذ في نفسه من الشيخ ما يعلمه الشيخ من نفسه ، أنه محل جريان أحكام الربوبية ، حتى لو فقد الشيخ لم يقم فقده عند ذلك التلميذ ذلك القيام ، لعلمه بحال شيخه ، كأبي بكر الصديق مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين مات. (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) لما أسداه من آلائه.

(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (١٤٦)

(فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا) عن حمل ما ابتلوا به ، لأنهم حملوه بالله ، وإن شق عليهم (وَمَا اسْتَكانُوا) لغير الله في إزالته ، ولجؤوا إلى الله في إزالته : (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) وهم الذين ابتلاهم الله ، فحبسوا نفوسهم عن الشكوى إلى غير الله الذي أنزل بهم هذا البلاء ، وما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله ، وما ضعفوا عن حمله ، فما ابتلى الله عباده إلا ليلجؤوا في رفع ذلك إليه ، ولا يلجؤوا في رفعه إلى غيره ، فإذا فعلوا ذلك كانوا من الصابرين ، وهو محبوب لله ، ومن أسمائه تعالى النعتية الصبور ، فما أحب إلا من رأى خلعته عليه. فعليك بمراقبة الله عزوجل فيما أخذ منك وفيما أعطاك ، فإنه تعالى ما أخذ منك إلا لتصبر فيحبك ، فإنه يحب الصابرين ، وإذا أحبك عاملك معاملة المحب محبوبه ،

٤٧٣

فكان لك حيث تريد إذا اقتضت إرادتك مصلحتك ، وإن لم تقتض إرادتك مصلحتك فعل بحبه إياك معك ما تقتضيه المصلحة في حقك ، وإن كنت تكره في الحال فعله معك ، فإنك تحمد بعد ذلك عاقبة أمرك ، فإن الله غير متهم في مصالح عبده إذا أحبه ، فميزانك في حبه إياك أن تنظر إلى ما رزقك من الصبر على ما أخذه منك ورزأك فيه ، من مال أو أهل أو ما كان مما يعز عليك فراقه ، فما من شيء يزول عنك من المألوفات إلا ولك عوض منه عند الله.

(وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (١٤٨)

سمي جزاء الخير ثوابا لثورانه وعجلته ، فيكون في نفس الخير المستحق له ، لأنه من ثاب إلى الشيء إذا ثار إليه بالعجلة والسرعة. (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) الإحسان صفة الله تعالى وهو المحسن ، فصفته أحب ، والإحسان الذي به يسمى العبد محسنا هو أن يعبد الله كأنه يراه ، أي يعبده على المشاهدة ، كما أن شهود الحق لكل شيء هو إحسانه ، فإنه بشهوده يحفظه من الهلاك. فكل حال ينتقل فيه العبد ، فهو من إحسان الله ، إذ هو الذي نقله تعالى ، ولهذا سمي الإنعام ، إحسانا ، فإنه لا ينعم عليك بالقصد إلا من يعلمك ، ومن كان علمه عين رؤيته ، فهو محسن على الدوام ، فإنه يراك على الدوام لأنه يعلمك دائما ، وليس الإحسان في الشرع إلا هذا ، وقد قال : فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، أي فإن لم تحسن فهو المحسن.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) (١٥٠)

(وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) أهل دينه على من ناواهم فيه ابتغاء منازعته.

٤٧٤

(سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) (١٥١)

نصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرعب بين يديه مسيرة شهر ، والشهر قدر قطع القمر درجات الفلك المحيط ، فهو أسرع قاطع ، والحساب به للعرب ، وهو عربي ، فإذا نصر بين يديه بالرعب مسيرة شهر بسير القمر ، لأنه ما ذكر السائر وذكر الشهر ، ولا يعين الشهر عند أصحاب هذا اللسان إلا سير القمر ، فقد عم نصره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرعب ما قطعه من المسافة هذا القمر في شهر ، فعمّ حكم كل درجة للفلك الأقصى ، لها أثر في عالم الكون والفساد ، بقطع القمر تلك المسافة ، فلا يقبل الرعب إلا عدو مقصود ، يعلم أنه مقصود ، فما قابله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحد في قتال إلا وفي قلبه رعب منه ، ولكنه يتجلد عليه بما أشقاه الله ، ليتميز السعيد من الشقي ، فيوهن ذلك الرعب من جلادة عدوه على قدر ما يريد الله ، فما نقص من جلادة ذلك العدو بما وجده من الرعب ، كان ذلك القدر نصرا من الله.

(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ

٤٧٥

قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (١٥٤)

(قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) لا إيجاد لمخلوق في عقدنا ، بل الأمر كله لله ، فإنه هو الفاعل والموجد للعمل ، الذي له خلق الأعمال من الأحوال والقدرة عليها.

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (١٥٩)

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) أي إنما كان برحمة الله (لِنْتَ لَهُمْ) فإن النفوس مجبولة على حبّ من أحسن إليها ، فإياك أن تصلح رعيتك بالخوف الشديد فتزيدهم نفورا ، فإنه يأتي باللين

٤٧٦

ما يأتي بالقهر والفظاظة ، ولا يأتي بالقهر ما يأتي باللين ، فإن القهر لا يأتي بالرحمة والمودة في قلب المقهور ، وباللين ينقضي المطلوب وتأتي بالمودة ، فتلقيها في قلب من استملته باللين ، وصاحب اللين لا يقاوم ، فإنه لا يقاوم لما يعطيه اللين من الحكم ، فالرخاوة في الدين من الدين ، ولهذا امتن الله فجعل نبيه من أهل اللين فقال (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) وبهذا فضلهم ، واللين خفض الجناح والمداراة والسياسة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [مداراة الناس صدقة] والدعوة إلى الله تحتاج إلى علم السياسة ، فإن صورتها من الداعي تختلف باختلاف صورة المدعو ، فثم دعاء بصفة غلظة وقهر ، وثمّ دعاء بصفة لين وعطف (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) فلو كان فظا غليظا في فعله وقوله لانفضوا من حوله ، فهم مع العفو واللين لا يقبلون ، فكيف مع الشدة والفظاظة ، لن يزالوا مدبرين (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) ليس للرسول من حيث رسالته المشاورة ، فمشاورته لأصحابه في غير ما شرع له ، وذلك من مقام الخلافة لا الرسالة. فلما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الخلفاء قيل له (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) فأمر الحق نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمشاورة أصحابه في الأمر الذي يعنّ له إذا لم يوح إليه فيه شيء ، لأن للحق وجها خاصا في كل موجود ، لا يكون لغير ذلك الموجود. فقد يلقي إليه الحق سبحانه في أمر ما ما لا يلقيه لمن هو أعلى منه طبقة ، كعلم الأسماء لآدم مع كون الملأ الأعلى عند الله أشرف منه ، ومع هذا كان عند آدم ما لم يكن عندهم. والله تعالى يعطي بسبب ، وهو الذي كتبه القلم من علم الله في خلقه ، ويعطي بغير سبب ، وهو ما يعطيه من ذلك الوجه ، فلا تعرف به الأسباب ولا الخلق ، فوقعت المشورة ليظهر عنها أمر يمكن أن يكون من علم ذلك الوجه ، فيلقي إليه من شاوره في تدبيره علما قد حصل له من الله ، من حيث ذلك الوجه الذي لم يكتب علمه ولا حصل في خلقه ، ولهذا قال الله لرسوله (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) يعني على إمضاء ما اتفقتم عليه في المشورة ، أو ما انفردت به دونهم. وقوله تعالى : (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في مثل هذا ما لم يقع الفعل ، فإن العزم يتقدم الفعل ، فقيل له : توكل على الله ، فإنه ما يدري ما لم يقع الفعل ما يلقي الله في نفسك من ذلك الوجه الخاص الإلهي ، فلا يطلع على مراتب العقول إلا أصحاب المشاورة ، ولا سيما في المسامرة ، فإنها أجمع للهمّ والذكر ، وأقدح لزناد الفكر. فعرض الإنسان ما يريد فعله على الآراء دليل على عقله التام ، ليقف على تخالف الأهواء ، فيعلم

٤٧٧

مع أحدية مطلوبه أنه وإن تفرد فله وجوه متعددة. واعلم أن هذا موطن ، يجب أن تكون المعاملة فيه كما ذكر وأنه قال في موطن آخر (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) فإن للمواطن أحكاما ، فافعل بمقتضاها تكن حكيما ـ تحقيق ـ الفرق بين النية والإرادة والقصد والهمة والعزم والهاجس ، اعلم أن الله تعالى إذا أراد إيجاد فعل ما ، بمقارنة حركة شخص ما ، بعث إليه رسوله المعصوم ، وهو الخاطر الإلهي المعلوم ، ولقربه من حضرة الاصطفا ، هو في غاية الخفا ، فلا يشعر بنزوله في القلب إلا أهل الحضور والمراقبة في مرآة الصدق والصفا ، فينقر في القلب نقرة خفية ، تنبه لنزول نكتة غيبية ، فمن حكم به فقد أصاب في كل ما يفعله ، ونجح في كل ما يعمله ، وذلك هو السبب الأول عند الشخص الذي عليه يعول ، وهو نقر الخاطر عند أرباب الخواطر ، وهو الهاجس عند من هو للقلب سائس ، فإن رجع عليه مرة أخرى فهو الإرادة ، وقد قامت بصاحبه السعادة ، فإن عاد ثالثة فهو الهمّ ، ولا يعود إلا لأمر مهم ، فإن عاد رابعة فهو العزم ، ولا يعود إلا لنفوذ الأمر الجزم ، فإن عاد خامسة فهو النية ، وهو الذي يباشر الفعل الموجود عن هذه البنية ، وبين التوجه إلى الفعل وبين الفعل يظهر القصد ، وهو صفة مقدسة يتصف بها الرب والعبد.

(إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٦٠)

إن لم تنصروه يخذلكم ، وإن خذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده ، فنصرته من جملة ما أخذ عليكم من عهده.

(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١٦١)

ثم توفى كل نفس ما كسبت أي ما عملت وهم لا يظلمون.

(أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ

٤٧٨

(١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) (١٦٣)

(هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) ولم يقل تعالى : لهم درجات عند الله ، فجعلهم أعيان الدرجات ، لأنهم عين الكمال الذاتي ، وبالكمال العرضي لهم الدرجات الجنانية ، فيقع التفاضل في الكمال العرضي ، ولا يقع في الكمال الذاتي.

(لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤) أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) (١٦٧)

المنافقون هم أحد الطوائف الأربعة الذين هم أهل النار وما هم منها بمخرجين ، وهم الذين أظهروا الإسلام للقهر الذي حكم عليهم ، فخافوا على دمائهم وأموالهم وذراريهم ، وهم في نفوسهم على ما هم عليه من اعتقاد ، إما تكبر على الله ، أو يجعلون من الله إلها آخر ، أو يعطلون الألوهية ، فينفون الإله جملة واحدة ، فلم يثبتوا إلها للعالم.

(الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨) وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ

٤٧٩

رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (١٦٩)

النقلة من الدار الدنيا على ضربين ، فمن الناس من ينتقل بموت ، وهو مفارقة الحياة الدنيا ، فيحيى بحياة الآخرة ، ومن الناس من ينتقل بالحياة الدنيا من غير موت ، وهو الشهيد في سبيل الله خاصة ، فهو في نفس الأمر حي يرزق ويأكل ، يدركه المؤمن بإيمانه والمكاشف ببصره ، فهو منتقل عن هذه الدار ، وإن لم يتصف بالموت ، وقد نهانا الله أن نقول لمن يقتل في سبيل الله ، إنه ميت ، ولا نحسب أنه ميت ، بل هو حي عند ربه ، وفي إيماني يرزق ، فإن الله تعالى وصف القتلى في سبيل الله بأنهم أحياء يرزقون ، ونهى أن يقال فيهم أموات ، ونفى العلم عمن يلحقهم بالأموات للمشاركة في صورة مفارقة الإحساس وعدم وجود الأنفاس ، وما يقال فيه إنه أفضل من الميت ، إلا أنه أفضل من بعض الموتى ، وهذه الآية أدلّ دليل على إبطال القياس ، لأن المعتقدين موت المجاهدين المقتولين في سبيل الله إنما اعتقدوه قياسا على المقتول في غير سبيل الله ، بالعلة الجامعة في كونهم رأوا كل واحد من المقتولين على صورة واحدة ، من عدم الأنفاس والحركات الحيوانية ، وعدم الامتناع مما يراد من الفعل بهم ، من قطع الأعضاء ، وتمزيق الجلود ، وأكل سباع الطير والسباع ، واستحالة أجسامهم إلى الدود والبلى ، فقاسوا فأخطأوا القياس ، ولا قياس أوضح من هذا ، أولا أدل في وجود العلة منه ، ومع هذا أكذبهم الله وقال لهم : ما هو الأمر في المقتول في سبيلي كالمقتول في غير سبيلي ، ونفى عنهم العلم الذي أعطاهم القياس في قوله في الآية الثانية (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) فإنه لما كان التقرب بالنفس إلى الله أسنى القربات ، لذلك كان للشهداء لما تقربوا بأنفسهم إلى الله في قتال أعداء الله الحياة الدائمة ، والرزق الدائم والفرح بما أعطاهم الله فلا يقال في الشهداء أموات لنهي الله عن ذلك ، لأن الله أخذ بأبصار الخلق عن إدراك حياتهم ، كما أخذ بأبصارهم عن إدراك الملائكة والجن ، مع معرفتنا أنهم معنا حضور ، ولا نعتقد أيضا في الشهداء أنهم أموات بقوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ). وخبر الله صدق ، فثبت لهم الحياة لما قصدوا القربة إلى الله بنفوسهم ، والشهيد هو الحاضر عند الله ، ولهذا قال : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) فالشهيد حاضر عند ربه بمجرد الشهادة التي هي القتل في سبيل الله ، فلا يغسل وهو عند ربه ـ مسئلة ـ الشهيد بالنص حي فكيف يورث ماله وتنكح عياله؟ ـ الجواب ـ ما تفسد في الوجود صورة إلا وعين فسادها أيضا ظهور

٤٨٠