رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

ما يظهر عن النظر بل عن استعداد القابل ، فلا يعلم الأمور على التفصيل إلا الله وحده ، فإن الله ستر العلوم والأسرار الراجعة إليه تعالى وإلى أسمائه وإلى العالم عن الخلق كلهم بالمجموع ، فلا يعلم المجموع ولا يعلم واحد من الخلق ، لكن له العلم بالآحاد ، فعند واحد ما ليس عند الآخر ، فهو بالمجموع حاصل لا حاصل ، فهو حاصل في المجموع غير حاصل عند واحد ، وهو قوله : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) فجاء بباء التبعيض ، فعند واحد من العلم ما ليس عند الآخر (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) قال بعض أهل المعاني يريد العلم ، ونقلوه لغة ، فإن الكرسي لغة عبارة عن العلم ، أي وسع علمه (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) إلا أنه في هذه الآية ليس إلا جسم محسوس ، هو في العرش كحلقة ملقاة في فلاة ، فهو مخلوق فوق السموات ودون العرش ، وهو محصور موجود متناهي الأجزاء ، وهو موضع القدمين الواردتين في الخبر كالعرش لاستواء الرحمن ، وله ملائكة قائمون به ، والمراد بالسموات والأرض من العلو والسفل (وَلا يَؤُدُهُ) يثقله (حِفْظُهُما) يعني السموات وهم العالم الأعلى ، والأرض وهم العالم الأسفل ، وما ثمّ إلا أعلى وأسفل ، فوصف الحق نفسه بأنه لكل شيء حفيظ ، لأنه حفظ ذاتي معنوي وإمداد غيبي ، وخلق دائم في سفل وعلو (وَهُوَ) ضمير غيب (الْعَلِيُّ) بغناه عن خلقه من ذاته ، فإن أعلى الموجودات وأعظمها من وجب له الوجود لنفسه استقلالا ، وكان له الغنى صفة ذاتية لم يفتقر إلى غيره ، وكان بالاسم (الْعَلِيُّ) أولى وأحق (الْعَظِيمُ) في قلوب العارفين بجلاله فله الهيبة فيها ، والعظمة حال المعظّم اسم فاعل ، لا حال المعظّم اسم مفعول ، إلا أن يكون الشيء يعظم عنده ذاته فعند ذلك تكون العظمة حال المعظم لأن المعظم اسم فاعل ما عظمت عنده إلا نفسه ، فهو من كونه معظما نفسه كانت الحال صفته ، وما عظم سوى نفسه ، فالعظمة حال نفسه ، وعظمة الحق في القلوب لا توجبها إلا المعرفة في قلوب المؤمنين ، وهي من آثار الأسماء الإلهية ، فإن الأمر يعظم بقدر ما ينسب إلى هذه الذات المعظمة من نفوذ الاقتدار ، وكونها تفعل ما تريد ، ولا راد لحكمها ، ولا يقف شيء لأمرها ، فبالضرورة تعظم في قلب العارف بهذه الأمور ، وهي العظمة الأولى الحاصلة لمن حصلت عنده من الإيمان ، والمرتبة الثانية من العظمة هو ما يعطيه التجلي في قلوب أهل الشهود ، بمجرد التجلي تحصل العظمة في نفس من يشاهده ، وهذه العظمة الذاتية ولا تحصل إلا لمن شاهده به لا بنفسه ، وهو الذي يكون الحق بصره ،

٣٨١

ولا أعظم من الحق عند نفسه ، فلا أعظم من الحق عند من يشهده في تجليه ببصر الحق لا ببصره ، فما أحسن ما جاء هذا الاسم ، حيث جاء في كلام الله ببنية فعيل فقال : «عظيم» وهي ببنية لها وجه إلى الفاعل ، ووجه إلى المفعول ، ولما كان الحق عظيما عند نفسه ، كان هو المعظم والمعظم ، فأتى بلفظ يجمع الوجهين.

علا الحق في الإدراك عن كل حادث

وهل يدرك التنزيه ما قيد الطبع

علاه بها عقلا وليس بذاته

وليس لمخلوق على حمله وسع

عظيم على من؟ أو جليل من أجل من؟

تعالى فلا فطر لديه ولا صدع

وآية الكرسي آية ذكر الله فيها ما بين اسم ظاهر ومضمر في ستة عشر موضعا ، لا تجد ذلك في غيرها من الآيات ، منها خمسة أسماء ظاهرة الله الحي القيوم العلي العظيم ، ومنها تسعة ضميرها ظاهر ، فهي مضمرة في الظاهر ، ومنها اثنان مضمران في الباطن لا عين لها في الظاهر ، وهما ضمير العلم والمشيئة ، وكذلك علمه ومشيئته لا يعلمها إلا هو ، فلا يعلم أحد ما في علمه ولا ما في مشيئته إلا بعد ظهور المعلوم بوقوع المراد لا غير ، فلذلك لم يظهر الضمير فيها ، ومعلوم عند الخاص والعام أن ثمّ اسما عاما يسمى الاسم الأعظم يعمل بالخاصية ، وهو في آية الكرسي وأول سورة آل عمران ، ومع علم النبي عليه‌السلام به ما دعا به تأدبا بالأدب الإلهي ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يعلم ما في نفس الله ، فلعل الذي يدعو فيه ما له فيه خيرة ، فعدل الأنبياء عليهم‌السلام إلى الدعاء فيما يريدون من الله بغير الاسم الخاص بذلك ، فإن كان لله في علمه فيه رضى وللداعي فيه خيرة أجاب في عين ما سئل فيه ، وإن لم يكن عوّض الداعي درجات أو تكفيرا في السيئات ، فلهذا ما دعا به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو دعا به أجابه الله في عين ما سأل فيه ، وعلم الله في الأشياء لا يبطل ، فلهذا أدب الله أهله ـ بحث في الكرسي ـ الكرسي على شكل العرش في التربيع لا في القوائم ، وهو في العرش كحلقة ملقاة ، ومقعره على الماء الجامد ، وفي جوف هذا الكرسي جميع المخلوقات من سماء وأركان ، هي فيه كهو في العرش سواء ، وله ملائكة من المقسمات ، والجسم المسمى الكرسي تدلت إليه القدمان فهو موضعهما ، وفيه انقسمت الكلمة الرحمانية الواحدة التي هي في العرش أحدية الكلمة ، إلى رحمة وغضب مشوب برحمة ، فإنه لما تدلت القدمان

٣٨٢

استقرت كل قدم في مكان ليس هو المكان الذي استقرت فيه الأخرى ، وهو منتهى استقرارها ، فسمي المكان الواحد جهنما والآخر جنة ، وليس بعدهما مكان تنتقل إليه هاتان القدمان ، وهاتان القدمان لا يستمدان إلا من الأصل الذي منه ظهرت وهو الرحمان ، فلا يعطيان إلا الرحمة ، فإن النهاية ترجع إلى الأصل بالحكم ، غير أنه بين البدء والنهاية طريق ، ميز ذلك الطريق بين البداية والغاية ، ولولا تلك الطريق ما كان بدء ولا غاية ، ألا ترى إلى صدق ما قلناه أن النار لا تزال متألمة لما فيها من النقص وعدم الامتلاء ، حتى يضع الجبار فيها قدمه ، وهي إحدى تينك القدمين المذكورتين في الكرسي ، والقدم الأخرى التي مستقرها الجنة قوله : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) فالاسم الرب مع هؤلاء والجبار مع الآخرين ، لأنها دار جلال وجبروت وهيبة ، والجنة دار جمال وأنس وتنزل إلهي لطيف ، فقدم الصدق إحدى قدمي الكرسي ، وهما قبضتان الواحدة للنار ولا يبالي والأخرى للجنة ولا يبالي ، لأنهما في المآل إلى الرحمة ، فلذلك لا يبالي فيهما ، ولو كان الأمر كما يتوهمه من لا علم له من عدم المبالاة ، ما وقع الأخذ بالجرائم ولا وصف الله نفسه بالغضب ولا كان البطش الشديد ، فهذا كله من المبالاة والتهمم بالمأخوذ ، إذ لو لم يكن له قدر ما عذب ولا استعد له ، وقد قيل في أهل التقوى إن الجنة أعدت للمتقين ، وقيل في أهل الشقاء (أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) فلولا المبالاة ما ظهر هذا الحكم ، والقدمان عبارة عن تقابل الأسماء الإلهية ، فبالقدمين أغنى وأفقر ، وبهما أمات وأحيا ، وبهما أهل وأقفر ، وبهما خلق الزوجين الذكر والأنثى ، وبهما أذل وأعز ، وأعطى ومنع ، وأضر ونفع ، ولولاهما ما وقع شيء في العالم مما وقع ، فالقدمان في الأسماء الإلهية مثل الأول والآخر والظاهر والباطن ، ومثل ذلك ظهر عنها في العالم الغيب والشهادة والجلال والجمال ، والقرب والبعد ، والهيبة والأنس ، والدنيا والآخرة ، والجنة والنار.

من لا تنام له عين وليس له

قلب ينام فذاك الواحد الأحد

مقامه الحفظ والأعيان تعبده

ولا يقيده طبع ولا جسد

هو الإمام وما تسري إمامته

في العالمين فلم يظفر به أحد

كرسيه تخزن الأكوان فيه ولا

يؤده حفظ شيء ضمه عدد

٣٨٣

فالحمد لله الذي وسع كرسيه السموات والأرض ، ووضع فيه ميزان الرفع والخفض ، ودلى إليه قدمي النهي والأمر ، وصيره طريق روحانيات التدبير في السر والجهر.

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٥٦)

وهؤلاء هم السعداء الذين حق على الله نصرهم بقوله تعالى : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).

(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٥٧)

(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) نسب الله لنفسه الولاية بتعلق خاص للمؤمنين خاصة ، وذلك من اسمه المؤمن ، والمؤمن من يعطي الأمان في نفوس العالم بإيصال حقوقهم إليهم ، فهم في أمان منه من تعديه فيها ، ومتى لم يكن كذا فليس بمؤمن ، والمؤمن من أعطى الأمان في الحق إن أمنه ، فلا يضيف إليه ما لا يستحق جلاله أن يوصف به مما ذكر تعالى أن ذلك ليس له بصفة ، كالذلة والافتقار ، وهذه أرفع الدرجات أن نصف العبد بأنه مؤمن ، فالمؤمن اسم لله تعالى والمؤمن اسم للإنسان ، وقد عم في الولاية بين المؤمنين ، فهو ولي الذين آمنوا بإخراجه إياهم من الظلمات إلى النور ، وليس إلا إخراجهم من العلم بهم إلى العلم به ، فإنه يقول : من عرف نفسه عرف ربه ، فيعلم أنه الحق ، فيخرج العارف المؤمن الحق بولايته التي أعطاه الله من ظلمة الغيب إلى نور الشهود ، فهو نور العيان وهو عين اليقين ، فيشهد ما كان غيبا له ، فيعطيه كونه مشهودا ، ولم يكن له هذا الحكم من هذا الشخص قبل هذا ،

٣٨٤

فكون الشخص مؤمنا سبب إخراجه من الظلمات إلى النور ، ولولا أنهم كانوا في ظلمة بالطبع ما امتن عليهم بإخراجهم منها إلى ما أدخل عليهم من نور اليقين ، وكذلك جاء الخبر أن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره ، فمن أصابه اهتدى ومن أخطأه ضل ، واعلم أن أشد الظلمات ظلمة الإمكان ، فإنها عين الجهل المحض ، فإذا تولى الله عبده أخرجه من ظلمة الجهل الذي هو الإمكان ، وليس إلا نظره لنفسه معرى عن نظره للذي تولاه ، فيخرجه بهذا التولي من ظلمة إمكانه إلى نور وجوب وجوده به ـ إشارة ـ هل تعرف من هم أصحاب الظلم ، الناظرون في العلم بالله بالدليل النظري ، والمهواة الشبهة ، فما يحركهم مع هذا إلا نعمة الإيمان ، فانتقلوا إلى التقليد ، فتحركوا بنور الشرع المطهر ، فأبصروا محجة بيضاء ، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، ولا تخاف فيها دركا ولا تخشى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) وما أفرد الله الطاغوت في قوله : (يُخْرِجُونَهُمْ) لأن الأهواء مختلفة ، وأفرد نفسه لأنه واحد ، والطاغوت من طغى ، إذا ارتفع ، فهم يعتقدون في الطاغوت الألوهية ، فلذلك رفعوه.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٢٥٨)

لما كان القوم يرجعون في عبادتهم لما نحتوه آلهة لا إلى نمروذ بن كنعان ، فإن الأنوار التي أشار إليها إبراهيم لم تكن آلهتهم ، ولا كان النمروذ إلها لهم ، لذلك قال إبراهيم عليه‌السلام : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) لم يجرأ نمروذ أن ينسب الإحياء والإماتة لآلهتهم التي وضعها لهم لئلا يفتضح ، فقال : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) فعدل إلى نفسه تنزيها لآلهتهم عندهم ، حتى لا يتزلزل الحاضرون ، فإنه يقال فيمن أبقى حياة الشخص عليه إذا استحق قتله ، أن يقال أحياه ، ولم يكن مراد الخليل إلا ما فهمه نمروذ ، ولما علم إبراهيم عليه‌السلام قصور أفهام الحاضرين عما جاء به لو فصله ، وطال المجلس ، فعدل إلى الأقرب في أفهامهم وهو

٣٨٥

أخفى في نفس الأمر وأبعد ، وهو أوضح عند الحاضرين ، فقال : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) وهو أمر إمكاني فابتلى الله نمروذ لما ادعى ما ليس له من الألوهية بهذا الأمر الإمكاني ، فاختبره (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) والباهت مقطوع الحجة دارس المحجة ، فقامت الحجة عليه وافتضح كذبه في المسئلة الأولى ، وهو قوله يحيي ويميت ، فإن البهت عجز ، ومن عجز فقد وقف على حقيقته ، وهو بالبهت ليس بكافر لأنه علم الحق ، ولولا شروق الشمس ما كان الشرق مشرقا ، فلو أتى بها ، أي لو شرقت من المغرب لكان مشرقا ، فما شرقت إلا من المشرق ، فبهت الكافر وهو موضع البهت ، لأنه علم أنه حيث كان الشروق لها اتبعه اسم المشرق ، فليس للمغرب سبيل في نفس الأمر ، فما بهت الكافر إلا من عجزه كيف يوصل إلى أفهام الحاضرين ـ مع قصورهم ـ موضع العلم فيما جاء به إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، فأظلم عليه الأمر وتخبط في نفسه ، فبهت الذي كفر في أمر إبراهيم ، كيف عدل إلى ما هو أخفى في نفس الأمر وأبعد لإقامة الحجة ، وقامت له الحجة عليه عند قومه ، فكان بهته في هذا الأمر المعجز الذي أعمى بصائر الحاضرين عن معرفة عدوله من الأوضح إلى الأخفى ، فحصل من تعجبه وبهته في نفوس الحاضرين عجزه ، وهو كان المراد ، فظهرت حجة إبراهيم الخليل عليه‌السلام على نمروذ أمام الحاضرين ، ولم يقدر نمروذ على إزالة ذلك مع ما حصل في قلوب العارفين الحاضرين من ذلك ، فعلم صدقه ، وإنما نسب الكفر إليه بالمسئلة الأولى ، فإنه علم ما أراده الخليل بقوله : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) فستره فسمي كافرا ، فلما ارتفع الستر كان تجلي الأمر على ما هو عليه فأعطي العلم ، فبهت الذي ستر عنه الأمر قبل تجليه ، فآمن به في نفسه ولا بد ، وإن لم يتلفظ به ، وكيف يتلفظ به وقد غاب عن الإحساس بعين ما هو به محس ، ولكن الله ما هداه ، أي ما وفقه للإيمان (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) أي لا يبين لهم في حال سترهم وحجابهم ، فإن الإبانة بالعلم ترفع ستور الجهل بذلك المعلوم ، والإعجاز من الله كون النمروذ بهت فيما له فيه ، مقال وإن كان فاسدا ، لأنه لو قاله قيل له فقد كانت الشمس طالعة من المشرق وأنت لم تكن ، وأكذبه من تقدمه بالسن على البديهة ، أما المقال الفاسد فقد كان يقول ما نفعل الأمر بحكمك ولا نبطل الحكمة لأجلك ، فكان بهت النمروذ إعجازا من الله سبحانه حتى علم الحاضرون أن إبراهيم عليه‌السلام على الحق ، ولم يكن لنمروذ أن يدعي الألوهية.

٣٨٦

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٥٩)

يقال إن هذه القرية وادي القرى ، صبّح الله عروشها خاوية حين لم يغير الناس بها المنكر ، وعم بلاء الله سكانها فأهلك المقبل والمدبر ، ويقال إن الذي سأل هذا السؤال هو العزير عليه‌السلام ، وكان العزير رسول الله عليه‌السلام كثير السؤال عن القدر ، إلى أن قال له الحق تعالى : يا عزير لئن سألت عنه لأمحون اسمك من ديوان النبوة ، لأن علم القدر له نسبة إلى ذات الحق ونسبة إلى المقادير ، والنسب معقولة غير موجودة ولا معلومة ، لذلك امتنع العلم به أو تصوره ، فلا ينال أبدا ، وكان مما انفرد الله بعلمه ، فمن علم الله علم القدر ، ومن جهل الله جهل القدر ، والله سبحانه مجهول فالقدر مجهول ، فمن المحال أن يعرف المألوه الله ، وما من وجه من المعلومات إلا وللقدر فيه حكم لا يعلمه إلا الله ، لأن القدر لو علم علمت أحكامه ، ولو علمت أحكامه لاستقل العبد في العلم بكل شيء ، وما احتاج إلى الحق في شيء ، وكان الغنى له على الإطلاق ، فلمّا كان الأمر بعلم القدر يؤدي إلى هذا ، طواه الله عن عباده فلا يعلم.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٦٠)

٣٨٧

يجب تنزيه الأنبياء مما نسب إليهم المفسرون من الطامات مما لم يجئ في كتاب الله ، وهم يزعمون أنهم قد فسروا كلام الله فيما أخبر به عنهم ، نسأل الله العصمة في القول والعمل ، فلقد جاؤوا في ذلك بأكبر الكبائر ، وكل ذلك نقل عن اليهود واستحلوا أعراض الأنبياء والملائكة بما ذكرته اليهود ، الذين جرحهم الله وملؤوا كتبهم في تفسير القرآن العزيز بذلك ، وما في ذلك نص في كتاب ولا سنة ، فالله يعصمنا وإياكم من غلطات الأفكار والأقوال والأفعال ، آمين بعزته وقوته ، مثال ذلك في تفسير هذه الآية ما نسبوا إلى إبراهيم الخليل عليه‌السلام من الشك ، وما نظروا في قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نحن أولى بالشك من إبراهيم ، فإن إبراهيم عليه‌السلام ما شك في إحياء الموتى ، ولكن لما علم أن لإحياء الموتى وجوها متعددة مختلفة ، لم يدر بأي وجه منها يكون يحيي الله به الموتى ، وهو مجبول على طلب العلم ، فكان طلب رؤية الإحياء مع ثبوت الإيمان ليجمع بين العلم والعيان فعيّن الله له وجها من تلك الوجوه حتى سكن إليه قلبه ، فعلم كيف يحيي الله الموتى ، وكذلك قصة يوسف ولوط وموسى وداود ومحمد عليهم‌السلام ، وكذلك ما نسبوه في قصة سليمان إلى الملكين يقول تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) فطلب إبراهيم عليه‌السلام كيفية إحياء الموتى لاختلاف الوجوه في ذلك لا إنكار إحياء الموتى (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى) يقول بلى آمنت ولكن وجوه الإحياء كثيرة كما كان وجود الخلق ، فمن الخلق ما أوجدته عن كن ، ومنهم من أوجدته بيدك ، ومنهم من أوجدته بيديك ، ومنهم من أوجدته ابتداء ، ومنهم من أوجدته عن خلق آخر ، فتنوع وجود الخلق ، وإحياء الخلق بعد الموت إنما هو وجود آخر في الآخرة ، فقد يتنوع وقد يتوحد ، فطلب العلم بكيفية الأمر هل هو متنوع أو واحد؟ فإن كان واحدا ، فأي واحد من هذه الأنواع ، لذلك قال : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) أي يسكن ، فإذا أعلمتني به اطمأن قلبي وسكن بحصول ذلك الوجه ، والزيادة من العلم مما أمرت به ، والطمأنينة بدء السكينة التي هي مطالعة الأمر بطريق الإحاطة من كل وجه ، فإن وجوه الإحياء كانت تجاذبه من كل ناحية ، والسكون صفة مطلوبة للأكابر ، لذلك قال إبراهيم عليه‌السلام : (بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) أي يسكن إلى الوجه الذي يحيي به الموتى ويتعين لي إذ الوجوه لذلك كثيرة ومعلوم أن اليقين كان عنده ، والطمأنينة كانت المطلوبة ، التي تعطيها العين ، فإن السكون أمر زائد على اليقين ، فجاز أن يطلب ،

٣٨٨

فأحاله الله على الكيفية بالطيور الأربعة ، التي هي مثال الطبائع الأربع فقال : (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) إخبارا بأن وجود الآخرة طبيعي ، يعني حشر الأجساد الطبيعية ، إذ كان ثمّ من يقول لا تحشر الأجسام وإنما تحشر النفوس بالموت إلى النفس الكلية مجردة عن الهياكل الطبيعية ، فأخبر الله إبراهيم أن الأمر ليس كما زعم هؤلاء ، فأحال على أمر موجود عنده تصرف فيه ، إعلاما أن الطبائع لو لم تكن مشهودة معلومة مميزة عند الله لم تتميز ، فما أوجد العالم الطبيعي إلا من شيء معلوم عنده مشهود له ، نافذ التصرف فيه ، فجمع بعضها إلى بعض ، فأظهر الجسم على هذا الشكل الخاص ، فأبان لإبراهيم بإحالته على الأطيار الأربعة وجود الأمر الذي فعله الحق في إيجاد الأجسام الطبيعية والعنصرية ، إذ ما ثمّ جسم إلا طبيعي أو عنصري ، فأجسام النشأة الآخرة في حق السعداء طبيعية ، وأجسام أهل النار عنصرية ، فالأربعة الطبيعية الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، والأربعة العنصرية هي النار والهواء والماء والتراب ، وأما حشر الأرواح التي يريد أن يعقلها إبراهيم من هذه الدلالة التي أحالها الحق عليها في الطيور الأربعة ، فهي في الإلهيات كون العالم يفتقر في ظهوره إلى إله قادر على إيجاده ، عالم بتفاصيل أمره ، مريد إظهار عينه ، حي لثبوت هذه النسب التي لا تكون إلا لحي ، فهذه أربعة لا بد في الإلهيات منها ، فإن العالم لا يظهر إلا ممن له هذه الأربعة ، فهذه دلالة الطيور له عليه‌السلام في الإلهيات في العقول والأرواح وما ليس بجسم طبيعي ، كما هي دلالة على تربيع الطبيعة لإيجاد الأجسام الطبيعية والعنصرية (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) أي ضمهن ، والضم جمع عن تفرقة ، وبضم بعضها إلى بعض ظهرت الأجسام (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) وهو ما ذكرناه من الصفات الأربع الإلهيات ، وهي أجبل لشموخها وثبوتها (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً) وما كان أذهب منهن شيئا إلا فساد عين التركيب ، وأما الأجزاء فهي باقية بأعيانها ، ولا يدعى إلا من يسمع وله عين ثابتة ، فأقام له الدعاء بها مقام قوله كن من قوله : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فلما أشهد الله خليله إبراهيم عليه‌السلام الكيفية سكن عما كان يجده من القلق لتلك الجذبات التي للوجوه المختلفة ، وسكن سكونا لا يشوبه تحير ولا تشويش في معرفة الكيفية ، وزاد يقينه طمأنينة بعلمه بالوجه الخاص من الوجوه الإمكانية ، وهنا دقيقة ، وهي أن تعلق القدرة الأزلية بالإيجاد حارت فيها المشاهد والعقول ، وقد قال تعالى لإبراهيم عليه‌السلام حين قال :

٣٨٩

(رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) لما أراه آثار القدرة لا تعلقها ، عرف كيفية الأشياء والتحام الأجزاء حتى قام شخصا سويا ، ولا رأى تعلق قدرة ولا تحققها ، قال له الخبير العليم : (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) لما تقدمه في صور الأطيار وتفريقه الأطوار.

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٢٦١)

إذا أدخل الحق صورة العمل الصالح الميزان ووزنه بصورة الجزاء رجحت عليه صورة الجزاء أضعافا مضاعفة وخرجت عن الحد والمقدار منة من الله وفضلا ، قال تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) وقال : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) بالزيادة من النعم ، فلم يجعل للتضعيف في الخير مقدارا يوقف عنده ، بل وصف نفسه بالسعة فقال : (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) فإن أسرار الله في الأشياء لا تنحصر ، ولهذا تقول الخواص ما ثمّ تكرار للاتساع الإلهي وإنما أمثال تحجب بصورها القلوب عن هذا الإدراك ، فتتخيل العامة التكرار ، والله واسع عليم ، فمن تحقق بوجود هذا الاسم الواسع ، لم يقل بالتكرار ، بل هم في لبس من خلق جديد.

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ

٣٩٠

مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٢٦٤)

احذر من المن في العطاء ، فإن المن في العطاء يؤذن بجهل المعطي من وجوه ، منها رؤيته نفسه بأنه رب النعمة التي أعطى ، والنعمة إنما هي لله خلقا وإيجادا ، والثاني نسيانه منة الله عليه فيما أعطاه وملكه من نعمه وأحوج هذا الآخر لما في يده ، والثالث نسيانه أن الصدقة التي أعطاها إنما تقع بيد الرحمن ، والآخر ما يعود عليه من الخير في ذلك ، فلنفسه أحسن ولنفسه سعى ، فكيف له بالمنة على ذلك ، إنه ما أوصل إليه إلا ما هو له ، إذ لو كان رزقه ما أوصله إليه ، فهو مؤد أمانة من حيث لا يشعر ، فجهله بهذه الأمور جعله يمتن بالعطاء على من أوصل إليه راحة ، وأبطل عمله ، والمنعم إذا أبطل نعمته بالمن والأذى لا يكون مشكورا عند الله على ذلك ، وإن شكره المنعم عليه لمعرفته بذلّه وفقره إليه ، فمن مكارم الأخلاق أن لا يمن المنعم بما أنعم عليه ولا سيما مع شكره على ذلك فمن أمراض الأقوال ، الامتنان والتحدث بما يفعله من الخير مع الشخص على طريق المن ، والمن الأذى ، دواؤه لما كان يسوءه ذلك ويحبط أجر رب النعمة ، فإن الله تعالى قد أبطل ذلك العمل بقوله : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) وأي أذى أعظم من المن ، فإنه أذى نفسي ، ودواؤه أنه لا يرى أوصل إليه مما كان في يديه إلا ما هو له في علم الله ، وأن ذلك الخير كان أمانة بيده ، ما كان له ، لكنه لم يكن يعرف صاحبها ، فلما أخرجها بالعطاء لمن عين الله في نفس الأمر ، حينئذ يعرف صاحب تلك الأمانة ، فشكر الله على أدائها ، ومن أعطي هذا النظر فلا تصح منه منة أصلا (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) أي لا يبين لهم في حال سترهم وحجابهم ، فإن الإبانة بالعلم ترفع ستور الجهل بذلك المعلوم.

(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٢٦٥)

الوابل المطر الغزير ، وفيه رائحة اشتقاق من الاستبلال ، والطل هو أول نشئ المطر ،

٣٩١

فهو ضعيف ، فما نزل بالنهار سمي شذا ، وما نزل من الطل بالليل سمي ندى.

(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٢٦٨)

اعلم أن النفس جبلت على الشح ، والإنسان ما دامت حياته مرتبطة بجسده فإن حاجته بين عينيه وفقره مشهود له ، وبه يأتيه اللعين في وعده ، فقال تعالى : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) فلا يغلب نفسه ولا الشيطان إلا الشديد بالتوفيق الإلهي ، فإنه يقاتل نفسه والشيطان المساعد لها عليه ، ولهذا سماها ، الشارع صدقة لأنها تخرج عن شدة وقوة ، يقال رمح صدق أي قوي شديد ، فلو لم يأمل البقاء وتيقن بالفراق هان عليه إعطاء المال ، لأنه مأخوذ عنه بالقهر شاء أم أبى ، ومن إسراف إبليس ، أنه يعدنا الفقر ويأمرنا بالفحشاء ، أي بإظهارها ، يعني بذلك وقوعها ، لما علم أن الإنسان قد رفع عنه الحق ما حدث به نفسه وما هم به من السوء إلا أن يظهر ذلك على جوارحه بالعمل ، وهو الفحشاء ، فقال تعالى : (وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً) فجعل الله ذلك للمؤمن إرغاما للشيطان الذي يزين للإنسان سوء عمله ، فجعل الله كل مخالفة تكون من الإنسان من إلقاء العدو ، وليحور على إبليس جميع ما يغوي به بني آدم ، ووعد الله بالمغفرة في مقابلة الفحشاء التي يأمر بها الشيطان إذا وقعت منا ، والمغفرة هي الستر الذي يجعله الله بين المؤمن العاصي وبين الكفر الذي يرديه عند وقوع

٣٩٢

المعصية ، فيعتقد أنها معصية ولا يبيح ما حرم الله ، وذلك من بركة ذلك الستر ، ثم ثمّ مغفرة أخرى وهو ستر خلف سترين ، ستر عليه في الدنيا ، لم يمض فيه حد الله المشروع في تلك المعصية ، وإن ستر عليه في الآخرة لم يعاقبه عليها ، فالستر الأول محقق في الوقت ، والثاني لطائفة لا تضرهم الذنوب التي وقعت منهم ، فلا تمسهم النار بما تاب الله عليهم ، واستغفار الملأ الأعلى لهم ، فقال تعالى : (وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ) لما وقع منكم من الفحشاء التي أمركم بها الشيطان (وَفَضْلاً) فجعل فضله في مقابلة ما وعد به الشيطان من الفقر الذي هو به مأمور في قوله تعالى : (وعدهم) فأراح الله المؤمن حيث ناب عنه الحق سبحانه في مدافعة ما أراد الشيطان إمضاءه في المؤمن ، فدفع الله عن عبده المؤمن وعدا إلهيا دفع به وعدا شيطانيا ، والله لا يقاوم ولا يغالب ، فالمغفرة متحققة والفضل متحقق ، وباء الشيطان بالخسران المبين ، ولهذه الحقيقة أمرنا الله أن نتخذه وكيلا في أمورنا ، فيكون الحق هو الذي يتولى بنفسه دفع مضار هذه الأمور عن المؤمنين ، وما غرض الشيطان المعصية لعينها ، وإنما غرضه أن يعتاد العبد طاعة الشيطان ، فيستدرجه حتى يأمره بالشرك الذي فيه شقاوة الأبد ، وهذه الآية أعظم آية وأشدها مرت على سمع إبليس ، فإنه علم أنه لا ينفعه إغواؤه ، ولهذا لا يحرص إلا على الشرك خاصة ، لكونه سمع الحق يقول : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) وتخيل أن العقوبة على الشرك لا ينتهي أمدها ، والله ما قال ذلك ، فلا بد من عقوبة المشرك ومن سكناه جهنم ، فإنه ليس بخارج من النار ، فهو مؤبد السكن ، ولم يتعرض لانتهاء مدة العذاب فيها بالشقاء ، وليس الخوف إلا من ذلك لا من كونها دار إقامة لمن يعمرها ، فصدق الله بكون المشرك مأخوذا بشركه ، فهو بمنزلة إقامة الحد على من تعين عليه ، سواء كان ذلك في الدنيا أو في الآخرة ، فهي حدود إلهية يقيمها الحق على عبده إذا لم يغفر له أسبابها ، وجهل إبليس انتهاء مدة عقوبة المشرك من أجل شركه ، لذلك قال تعالى : (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) فإن الأمر بالفحشاء من الفحشاء ، فدخل إبليس تحت وعد الحق بالمغفرة فزاده طمعا وإن كانت دار النار مسكنه ، ولا يعظم الفضل الإلهي إلا في المسرفين والمجرمين ، وأما المحسنين فما على المحسنين من سبيل ، فإن الفضل الإلهي جاءهم ابتداء ، وبه كانوا محسنين ، وما بقي الفضل الإلهي إلا في غير المحسنين.

٣٩٣

(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢٦٩)

الحكمة علم بمعلوم خاص ، وهي صفة تحكم ويحكم بها ولا يحكم عليها ، واسم الفاعل منها حكيم ، فلها الحكم ، واسم الفاعل من الحكم الذي هو أثرها حاكم وحكم ، وبهذا سمي الرسن الذي يحكم به الفرس حكمة ، فكل علم له هذا النعت فهو الحكمة ، وما يعلم الحكمة إلا من أوتيها ، فهي هبة من الله تعالى ، ولما كانت الحكمة إعطاء كل ذي حق حقه ، ولا يفعل صاحب الحكمة حتى يعلم ما يستحقه كل ذي حق من الحق ، وليس إلا بتبيين الحق ، لذلك أضافها الحق إليه ، فالعلم الإلهي هو الذي كان الله سبحانه معلمه بالإلهام والإلقاء وبإنزال الروح ، فهو سبحانه معلم الإنسان ، ولذلك جاء بمن وهي نكرة ، ردا على من اعتقد أن الله لا يعلّم من ليس بنبي ولا رسول ، فقال : (مَنْ يَشاءُ) فنكر الأمر ولم يعرفه ، فهو نكرة في معرفة يعلمها هو لا غيره ، لأن الأمور معينة عنده مفصلة ، ليس في حقه إجمال ولا يصح ، ولا مبهم في علمه بالمجمل في حق من يكون في حقه الأمر مجملا ومبهما ، والحكمة في الأشياء كلها والأمور أجمعها إنما هو للمراتب والأعيان ، وأعظم المراتب الألوهية ، وأنزل المراتب العبودية ، فما ثمّ إلا مرتبتان ، فما ثمّ إلا عبد ورب ، فمن يؤت الحكمة يعلم ترتيب الأشياء وإعطاء كل شيء حقه وإنزاله منزلته ، فالله سبحانه حكيم ، فما وضع شيئا إلا في موضعه ، ولا أنزله إلا منزلته ، والحكيم من العباد هو الذي ينزل كل شيء منزلته ولا يتعدى به قدره ومرتبته ، ويعطي كل ذي حق حقه ، لا يحكم في شيء بغرضه ولا هواه ، لا تؤثر فيه الأغراض ، وهو من حكمته الحكمة فصرّفته ، لا من حكم الحكمة ، فإن من حكم الحكمة له المشيئة فيها ، ومن حكمته الحكمة فهي المصرفة له ، وإذا قامت الصفة بالموصوف أعطته حكمها عطاء واجبا ، فالحكيم من قامت به الحكمة فكان الحكم لها به ، كما كان الحكم له بها ، فهو عينها وهي عينه ، فالحكمة عين الحاكم عين المحكوم به عين المحكوم عليه ، فينظر الحكيم إلى هذه الدار التي أسكنه الله فيها إلى أجل ، وينظر إلى ما شرع الله له من التصرف فيها من غير زيادة ولا نقصان ، فيجري على الأسلوب الذي قد أبين له ، ولا يضع من يده الميزان الذي قد وضع له في هذا الموطن ، فإنه إن وضعه

٣٩٤

جهل المقادير ، فإما يخسر في وزنه ، أو يطفف ، وقد ذم الله الحالتين ، وجعل تعالى للتطفيف حالة تخصه يحمد فيها التطفيف ، فيطفف هناك على علم ، فإنه رجحان الميزان ويكون مشكورا عند الله ، فإذا علم هذا ولم يبرح الميزان من يديه لم يخط شيئا من حكمة الله في خلقه ، ويكون بذلك إمام وقته ، فمن الميزان مثلا أن لا يعرض الحكيم بذكر الله ولا بذكر رسوله ولا أحد ممن له قدر في الدين عند الله في الأماكن التي يعرفها هذا الحكيم إذا ذكر الله أو رسوله أو أحدا ممن اعتنى الله به كالصحابة عند الشيعة ، فإن ذلك داع إلى ثلب المذكور وشتمه وإدخال الأذى في حقه ، ففي مثل هذا الموطن لا يذكره (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) وما كثره الله لا تدخله قلة ، كما أن ما عظم الله ما يدخله احتقار (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) فإن الإنسان قد يغفل عن أشياء كان علمها من نفسه ثم يذكرها ، ولب الشيء سره وقلبه ، واللب نور في العقل كالدهن في اللوز والزيتون ، والتذكر لا يكون إلا عن علم منسي.

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (٢٧٠)

التطوع قد يكون واجبا بإيجاب الله إذا أوجبه العبد على نفسه كالنذر ، فإن الله أوجبه بإيجاب العبد.

(إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٢٧١)

الكامل يعلن في وقت في الموضع الذي يرى أن الحق رجح فيه الإعلان ، ويسر بها في وقت الموضع الذي يرى أن الحق يرجح فيه الإسرار وهذا هو الأولى بالكمل ، فيعطي بالحالتين ليجمع بين المقامين ، ويحصل النتيجتين ، وينظر بالعينين ، ويسلك النجدين ، ويعطي باليدين ، وأما من راعى صدقة السر فلأجل ثناء الحق على ذلك في الحديث الحسن الذي يتضمن قوله : «ما تدري شماله ما تنفق يمينه» ، وما جاء في صدقة السر أنها تطفئ

٣٩٥

غضب الرب ، واعتناء الله بذلك ، فيسر بها لعلم الله بما أنفق ، ومن راعى الإعلان يعلن بها للتأسي وراثة نبوية ، وإعلانا بالطاعة لله حتى تكون كلمة الله هي العليا ، كما يعلن أصحاب المعاصي بالمعاصي والمخالفات وإظهار المنكرات ولا يستحيون من الله ، ومعلوم أن هناك خلافا في الصدقة المكتوبة وصدقة التطوع.

(لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (٢٧٢)

(لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) فيما يجري منهم من خير وشر ، أي ليس عليك أن توفقهم لقبول ما أرسلتك به وأمرتك بتبيانه (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي) أي يوفق (مَنْ يَشاءُ) وهو أعلم بالمهتدين ، فالله سبحانه من حيث هو الهادي له الإبانة والتوفيق ، وليس للهادي الذي هو مخلوق إلا الإبانة خاصة (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) اعلم أن الله وصف نفسه بالغيرة ، وعلم من أكثر عباده أنهم يهبون جزيل المال وأنفسه في هوى نفوسهم وأغراضهم ، فإذا أعطى أكثرهم لله أعطى كسرة باردة ، وفلسا وثوبا خلقا ، وأمثال هذا ، هذا هو الكثير والأغلب ، فإذا كان يوم القيامة وأحضر الله ما أعطى العبد من أجله ، بينه وبين عبده حيث لا يراه أحد ، فأعطى ما أعطى لغير الله ، فيقول له : يا عبدي أليست هذه نعمتي التي أنعمت بها عليك؟ أين ما أعطيت لمن سألك بوجهي؟ فيعيّن ذلك الشيء التافه الحقير ، ويقول له : فأين ما أعطيت لهوى نفسك؟ فيعين جزيل المال من ماله ، فيقول : أما استحييت مني أن تقابلني بمثل هذا وأنت تعلم أنك ستقف بين يدي ، وسأقررك على ما كان منك؟ فما أعظمها من خجلة ، ثم يقول له : قد غفرت لك بدعوة ذلك السائل لفرحه بما أعطيته ، لكني قد ربيتها لك ، وقد محقت ما أعطيته لهوى نفسك ، فإن صدقتك أخذتها وربيتها لك ، فيحضرها أمام الأشهاد وقد رجع الفلس أعظم من جبل أحد ، وما أعطى لغير الله قد عاد هباء منثورا ، فالعارفون بالله لا يعطون لله إلا أنفس ما عندهم ، لا أحقر ما عندهم ، فكلهم لله ، وكل ما عندهم لله ، العبد وما يملكه لسيده ، فيعطون بيد الله ويشاهدون يد الله هي الآخذة ،

٣٩٦

وهم مبرؤون في العطاء والأخذ مع غاية الاستقامة والمشي على سنن الهدى والأدب المشروع ، فيكونون عند الحق بمنزلة ما هو الحق في قلوبهم.

(لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٧٥)

البيع شراء ومعاوضة ، ولا يعلم قدر ذلك إلا الله ، لذلك قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سعر لنا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله هو المسعر وأرجو أن ألقى الله وليس لأحد منكم علي طلبة ، فإن الوزن بين الشيئين بالقيمة مجهول لا يتحقق ، فما بقي إلا المراضاة بين البائع والمشتري ما لم يجهل أمر السوق بالوقت والزمان ، وأحوال الناس في ذلك ، فإن الأحكام والأسعار تختلف باختلاف الأوقات لما يختلف من الأحوال بسلطان الوقت ، فأخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الحق ألسنة العالم في أثمان الأشياء التي تدخل البيع والشراء ، فمن سام فليعرف من يسم ، ولا تسم على سوم أخيك ولا تبع على بيعه.

٣٩٧

(يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) (٢٧٦)

(وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) فتزكوا ، واختصت بهذا الاسم لوجود معناه فيها ، ففي الزكاة البركة في المال ، وطهارة النفس ، والصلابة في دين الله ، فالزكاة من حيث اسمها صدقة شديدة على النفس ، فإذا أخرج الإنسان الصدقة تضاعف له الأجر ، فإن له أجر المشقة وأجر الإخراج ، وإن أخرجها عن غير مشقة فهذا فوق تضاعف الأجر بما لا يقاس ولا يحد ، والزكاة بمعنى التطهير والتقديس ، لما أزال الله عن معطيها اسم البخل والشح عليه ، فلا حكم للبخل والشح فيه ، وبما في الزكاة من النمو والبركة سميت زكاة لأن الله يربيها ـ تراجع الآية ٢٤٥ ـ ومذهب الجماعة في الأدب من المتصدق أن يضع الصدقة في كف نفسه وينزل بها حتى تعلو يد السائل إذا أخذها على يد المعطي ، حتى تكون هي اليد العليا ، وهي خير من اليد السفلى ، واليد العليا هي المنفقة ، فيأخذها الرحمن لينفقها له تجارة حتى تعظم ، فيجدها يوم القيامة قد نمت وزادت ، وأما مذهبنا فليس كذلك ، إنما السائل إذا بسط يده لقبول الصدقة من المتصدق جعل الحق يده على يد السائل ، فإذا أعطى المتصدق الصدقة وقعت بيد الرحمن قبل أن تقع بيد السائل كرامة بالمتصدق ، ويخلق مثلها في يد السائل لينتفع بها السائل ، ويأخذ الحق عين تلك الصدقة فيربيها فتربو حتى تصير مثل جبل أحد في العظم ، وهذا من باب الغيرة الإلهية حيث كان العطاء من أجله ، لما يرى أن الإنسان يعطي من أجل هواه ما يعظم شأنه من الهبات ، ويعطي من أجل الله أحقر ما عنده ، هذا هو الغالب في الناس ، فيغار الله لجنابه أن لا يرى في مقام الاستهضام ، فيربي تلك الصدقة حتى تعظم ، فإذا جلاها في صورة تلك العظمة حصل المقصود ، فيد المعطي تعلو على يد الآخذ ، ولهذا قال : تقع ، والوقوع لا يكون إلا من أعلى ، فكما ينسب العلو إلى الله في الاستواء على العرش ، فهو في التحت أيضا ، كما هو بكل شيء محيط.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا

٣٩٨

اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢٨٠)

هذه الآية حث على إنظار المعسر إلى ميسرة ، وإن وضعت عنه فهو أعظم لأجرك ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله ، وإن الله يوم القيامة يتجاوز عمن يتجاوز عن عباده ، وقال : من سرّه أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر أو يضع عنه ، فقال تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) أي يؤخر إلى أن يجد ما يؤدي و (أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

(وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٢٨١)

(وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) لا يصح أن يرجع إلى الله إلا من جهل أن الله معه على كل حال ، وما خاطب الحق بقوله : (تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) إلا من غفل عن كون الله معه على كل حال ؛ كما قال : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) فالرجوع إلى الله في الحقيقة من حال أنت عليها لحال ما أنت عليها ، ولما كانت الأحوال كلها بيد الله أضيف الرجوع إلى الله على هذا الوجه ، أي بالبناء للمجهول (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) الأعمال مكاسب ، ولهذا أقيم الكسب مقام العمل ، والعمل مقام الكسب ، فجاء في آية (وتوفى كل نفس ما عملت) وفي آية (ما كَسَبَتْ) فسمي العمل كسبا ، وناب كل واحد منهما مناب صاحبه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ

٣٩٩

فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٨٢)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) العدل هو الميل ، يقال عدل عن الطريق إذا مال عنه ، وعدل إليه إذا مال إليه ، وسمي الميل إلى الحق عدلا ، كما سمي الميل عن الحق جورا (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ ، فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً ، فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ، وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ، فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ ، أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) المرأة أنسى من الرجل ولهذا قامت المرأتان في الشهادة مقام الرجل الواحد ، وذلك أن المرأة شق الرجل ، فالمرأتان شقان ، وشقان نشأة كاملة ، فامرأتان رجل واحد ، فهي ناقصة الخلق معوجة في النشء لأنها ضلع ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : النساء شقائق الرجال ـ ومن وجه آخر ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نسي آدم فنسيت ذريته ، فنسيان

٤٠٠