رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

يقبل التسمية بجميع الأسماء الإلهية إلا الإنسان ، وقد ندب إلى التخلق بها ولهذا أعطي الخلافة والنيابة وعلم الأسماء كلها ، وكان آخر نشأة في العالم جامعة لحقائق العالم ، مما اختص الله بها ملكه كله وصورته ، ولما كان للإنسان الكامل هذا المنصب العالي ، كان العين المقصودة من العالم وحده ، وظهر هذا الكمال في آدم عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) ـ الخليفة واحد :

جمع الأنام على إمام واحد

عين الدليل على الإله الواحد

قال الله عزوجل : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) وقال تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) وقال سبحانه : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [الخلفاء من قريش] والتقريش التقبض والاجتماع ، كذلك الإمام إن لم يكن متصفا بأخلاق من استخلفه جامعا لها مما يحتاج من استخلف عليهم وإلا فلا تصح خلافته ، فهو الواحد المجموع ـ تتابع الخلفاء في الأرض : اعلم أن الله تعالى لما شاء أن يجعل في أرضه خلفاء على من يعمرها من الإنس والجان وجميع الحيوانات ، وقدمهم ورشحهم للإمامة دون غيرهم من جنسهم جعل بينه وبينهم سفيرا وهو الروح الأمين ، وسخر لهم ما في السموات من ملك وكوكب سابح في فلك ، وما في الأرض وما بينهما من الخلق جميعا منه ، وأباح لهم جميع ما في الأرض أن يتصرفوا فيه ، وأيد هؤلاء الخلفاء بالآيات البينات ليعلم المرسلون إليهم أن هؤلاء خلفاء الله عليهم ، ومكنهم من الحكم في رعيتهم بالأسماء الإلهية على وجه يسمى التعلق ، وشرع لهم في نفوسهم شرائع ، وحد لهم حدودا ، ورسم لهم مراسم ، يقفون عندها يختصون بها ، لا يجوز لأحد من رعاياهم أن يتخذوها لأنفسهم شرائع ، ولا يقتدون بهم فيها ، ثم نصب لهم شرائع يعملون بها هم ورعيتهم وكتب لهم كتبا بذلك نزلت بها السفراء عليهم ، ليسمعوها رعيتهم فيعلموا حدود ما أنزل الله الذي استخلف عليهم فيقفوا عندها ، ويعملوا بها سرا وجهرا ، فمنها ما كتبه

____________________________________

نفوسهم تحدثا وثناء على الله بما أنعم عليهم ، فقالوا (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) أي من أجلك (قالَ) الله تعالى (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) من قولكم فيكم وفيمن يخلفكم ، وذلك أن قولهم (نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) فأضاف وأخر التعريف ، ولم يقولوا بالحمد الذي لك ، فالمفهوم منه تعميم

١٠١

بيده تعالى وهو التوراة ، ومنها ما نزل به الروح الأمين عليهم من الكتاب المكنون الذي نزل من الله من عرشه المنقول من الدفتر الأعظم ، وهو الإمام المبين فهو معه على عرشه ، ونقل منه في اللوح المحفوظ قدر ما يقع به التصريف في الدنيا إلى يوم القيامة ، ويتضمن ما في العالم من حركة وسكون ، واجتماع وافتراق ، ورزق وأجل وعمل ، ثم أنزل ذلك كله في كتاب مكنون إلى السماء الدنيا ، وجعله بأيدي سفرة ، كرام بررة ، مطهرين أرواح قدس ، صحفا مكرمة ، مرفوعة مطهرة فيها توقيعات إلهية بما وعد الله المؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاءت به رسله من اليوم الآخر والبعث الآخر وما يكون في ذلك اليوم من حكم الله في خلقه ، وتولى الله ذلك كله بنفسه على صورة الحق الذي بعث به رسله ، ليصدقهم عند عبيده ، فعلا بحكمه ذلك فيهم ، كما صدقهم في حال احتجابه بما أيدهم به من الآيات ، فآمن من آمن ، وكفر من كفر ، ثم إنه أنزل في الكتب والصحف على ألسنة الخلفاء صلوات الله عليهم وسلامة من الوعيد والتهديد ، وأخذ من كفر بالله ونافق أو آمن ببعض وكفر ببعض مما أنزله الله ، وجحد وأشرك ، وكذب وظلم ، واعتدى وأساء ، وخالف وعصى ، وأعرض وفسق ، وتولى وأدبر ، وأخبر في التوقيع أنه من كان بهذه المثابة وقامت به هذه الصفات في الحياة الدنيا أو بعضها ثم تاب إلى الله منها ، ومات على توبة من ذلك كله ، فإنه يلقى ربه وهو راض عنه ، فإن فسح له وأنسأ الله في أجله بعد توبته فعمل عملا صالحا بدّل الله سيئاته حسنات ، وغفر له جميع ما كان وقع منه قبل ذلك ، ولم يؤاخذه بشيء منه ، وما زالت التوقيعات الإلهية تنزل من الله على خلفائه بما يعدهم الله به من آمن بالله ورسله من الخير ، وما توعد به لمن كفر به من الشر ، مدة إقامة ذلك الخليفة المنزل عليه وهو الرسول إلى حين موته ، فمن زمان خلافته إلى انتهاء مدة عمره لا تزال التوقيعات الإلهية تنزل عليه ، فإذا مات واستخلف من شاء بوحي من الله له في ذلك ، أو ترك الأمر شورى بين أصحابه ، فيولون من يجمعون عليه ، إلى أن يبعث الله من عنده رسولا ، فيقيم فيهم خليفة آخر ، إلا إذا كان خاتم الخلفاء فإن الله يقيم نوابا عنه ، فيكونون خلفاء الخليفة من عند الله ، لا أنهم

____________________________________

الحمد الذي يليق بالله ، فإن التنكير أعم ، أي أبين في العموم من الألف واللام ، وإن كان يقتضي استغراق أجناس الثناء ، فيقتضي أيضا التعريف والعهد ، فلا يختص بأحد الوجهين إلا بدليل ، ومن جملة ما يثنى عليه سبحانه به معرفة أسماء الثناء ، فإن الثناء لا يقع إلا بعد معرفة الأسماء ،

١٠٢

في منزلة الرسل خلفاء من عند الله ، وهم الأقطاب وأمراء المؤمنين إلى يوم القيامة ، فمن هؤلاء النواب من يكشف الله عنه الغطاء فيكون من أهل العين والشهود ، فيدعو إلى الله على بصيرة ، كما دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولولا أن الزمان اقتضى أن لا يكون مشرع بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكان هؤلاء مشرعين ، وإن لم يأتوا إلا بشرع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنهم كانوا يكونون فيه كما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شرع من قبله إذا حكم به في أمته ، فهو بمنزلة الأول الذي كان قبله ، لا خليفة عنه في ذلك وإن قرره ، فلما منع الله ذلك في هذه الأمة ، علمنا أنهم خلفاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن دعوا إلى الله على بصيرة ، كما دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما ورد في القرآن العزيز عنه في قوله : (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) فالعبد إذا أقيم في خروجه من حضرة الحق إلى الخلق بطريق التحكم فيهم من حيث لا يشعرون ، وقد يشعرون في حق بعض الأشخاص من هذا النوع كالرسل عليهم‌السلام ، الذين جعلهم الله خلائف في الأرض ، يبلغون إليهم حكم الله فيهم ، وأخفى ذلك في الورثة فهم خلفاء من حيث لا يشعر بهم ، ولا يتمكن لهذا الخليفة المشعور به وغير المشعور به أن يقوم في الخلافة إلا بعد أن يحصل معاني حروف أوائل السور سور القرآن المعجمة ، مثل «ألف لا م ميم» وغيرها الواردة في أوائل بعض سور القرآن ، فإذا أوقفه الله على حقائقها ومعانيها تعينت له الخلافة ، وكان أهلا للنيابة ، هذا في علمه بظاهر هذه الحروف ، وأما علمه بباطنها فعلى تلك المدرجة يرجع إلى الحق فيها ، فيقف على أسرارها ومعانيها من الاسم الباطن إلى أن يصل إلى غايتها ، فيحجب الحق ظهوره بطريق الخدمة في نفس الأمر ، فيرى مع هذا القرب الإلهي خلقا بلاحق ، كما يرى العامة بعضهم بعضا ، ولا يكون في الزمان إلا واحدا يسمى الغوث والقطب ، وهو الذي ينفرد الحق ويخلو به دون خلقه ، فإذا فارق هيكله المنور انفرد بشخص آخر لا ينفرد بشخصين في زمان واحد ، وذلك العبد عين الله في كل زمان ، لا ينظر الحق في زمانه إلا إليه ـ لم كان الخليفة في الأرض؟ : لما كان الاختصاص الإلهي الكامل في الجمع بين السعادة والصورة ، كان الكمال للمؤمن بالخلافة في المكان الذي من شأنه أن يظهر فيه كمال الصورة ، من نفوذ الاقتدار عند الإغضاب ، وليست الجنة بمحل لهذه الصفة

____________________________________

فإنها تدل على المسميات ، سواء كانوا حاضرين أو غير حاضرين ، فإن كانوا حاضرين فيغني الثناء بالإشارة ، وإن كانوا غير حاضرين ولا علم لهم بأسماء من غاب ويريدون الثناء على الله بهم ،

١٠٣

فليست بدار خلافة بل هي دار ولاية ، ونشأة الدنيا على مزاج يقبل الغضب ولهذا قال : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ولم يقل في العالم ـ الوجه الثاني في قوله تعالى (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ورد في الخبر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : [أنا سيد ولد آدم ولا فخر] وفي صحيح مسلم [أنا سيد الناس يوم القيامة] فثبتت له السيادة والشرف على أبناء جنسه من البشر ، وقال عليه‌السلام : «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» يريد على علم بذلك ، فأخبره الله تعالى بمرتبته وهو روح قبل إيجاده الأجسام الإنسانية ، كما أخذ الميثاق على بني آدم قبل إيجاد أجسامهم ، فكانت الأنبياء في العالم نوابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من آدم إلى آخر الرسل عليهم‌السلام ، وقد أبان صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذا المقام بأمور : منها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والله لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني» ، وقوله في نزول عيسى ابن مريم في آخر الزمان إنه يؤمنا بسنة نبينا عليه‌السلام ، ولو كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد بعث في زمان آدم لكانت الأنبياء وجميع الناس تحت شريعته إلى يوم القيامة حسا ، ولهذا لم يبعث عامة إلا هو خاصة ، فهو الملك والسيد وكل رسول سواه بعث إلى قوم مخصوصين ، فمن زمان آدم عليه‌السلام إلى زمان بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يوم القيامة ملكه ، وتقدمه في الآخرة على جميع الرسل وسيادته فمنصوص على ذلك في الصحيح عنه ، فروحانيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم موجودة وروحانية كل نبي ورسول ، فكان الإمداد يأتي إليهم من تلك الروح الطاهرة بما يظهرون به من الشرائع والعلوم في زمان وجودهم رسلا ، فنسب كل شرع إلى من بعث به ، وهو في الحقيقة شرع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كان مفقود العين من حيث لا يعلم ذلك ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحاكم غيبا وشهادة ، فبنو آدم سوقة وملك لهذا السيد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو المقصود فهو ملك وسيد على جميع بني آدم ، وجميع من تقدمه كان ملكا له وتبعا ، والحاكمون فيه نوّاب عنه ، والملك عبارة عما مهد الله من آدم إلى زمان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الترتيبات في هذه النشأة الإنسانية بما ظهر من الأحكام الإلهية فيها ، فكانوا خلفاء الخليفة السيد ، وأول موجود ظهر من الأجسام الإنسانية كان آدم عليه‌السلام ، فكان آدم عليه‌السلام أول خليفة ونائب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد ورد في الحديث

____________________________________

لا يتمكن لهم ذلك لعدم معرفتهم بأسمائهم ، فقد نقص من عموم ذلك الحمد ما ادعوه ، فقال (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) والثناء كلام ، والكلام إنما هو بالأسماء والمسميات ، وقولهم (وَنُقَدِّسُ

١٠٤

المروي أن الله يقول : (لولاك يا محمد ما خلقت سماء ولا أرضا ، ولا جنة ولا نارا) فكان آدم أول خليفة عنه ثم ولد واتصل النسل ، وعين في كل زمان خلفاء ، إلى أن وصل زمان نشأة الجسم الطاهر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فظهر مثل الشمس الباهرة ، فاندرج كل نور في نوره الساطع ، وغاب كل حكم في حكمه ، وانقادت جميع الشرائع إليه ، وظهرت سيادته التي كانت باطنة ، فإن الإنسان آخر موجود من أجناس العالم ، فإنه ما ثم إلا ستة أجناس وكل جنس تحته أنواع وتحت الأنواع أنواع ، فالجنس الأول الملك ، والثاني الجان ، والثالث المعدن ، والرابع النبات ، والخامس الحيوان ، وانتهى الملك واستوى ، وكان الجنس السادس جنس الإنسان وهو الخليفة ، وإنما وجد آخرا ليكون إماما بالفعل حقيقة ، لا بالصلاحية والقوة ، فعند ما وجد عينه لم يوجد إلا واليا سلطانا ملحوظا ، فجعل الحق للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم نوابا ، حين تأخرت نشأة جسده ، فكان آدم عليه‌السلام أول نائب عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) يحتمل أن يكون المراد بالخلافة أن يخلف من كان قبله فيها لما فقد ، فإن الله لما نفخ في آدم من روحه ، وأمر الملائكة بالسجود له ، فوقعت ساجدة عن الأمر الإلهي بذلك ، فجعله قبلة للملائكة ، وذلك قوله تعالى : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ، فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ، فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) ثم عرفهم بخلافته في الأرض فلم يعرفوا عمن هو خليفة ، فربما ظنوا أنه خليفة في عمارتها عمن سلف ، ويحتمل أن تكون الخلافة أي النيابة عن الحق في أرضه ، وعليه الكلام وكان المقصود بقوله خليفة أي نائب الحق الظاهر بصورته ، لقول الملائكة : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) وهذا لا يقع إلا ممن له حكم ، ولا حكم إلا لمن له مرتبة التقدم وإنفاذ الأمر ، فخلقه على صورته قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله خلق آدم على صورته ، ولما كان عالم الخلق والتركيب يقتضي الشر لذاته ، لهذا قال عالم الأمر ـ الذي هو الخير الذي لا شر فيه ـ حين رأى خلق الإنسان وتركيبه من الطبائع المتنافرة ، والتنافر هو عين التنازع ، والنزاع أمر مؤد إلى الفساد قالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ)

____________________________________

لَكَ) قولون ونقدس ذواتنا من أجلك ، فلا يقوم بنا جهل بك ، فيقال لهم : هل تعلمون أسماء هؤلاء؟ فيقولون لا ، فيقال لهم : فلم لم تقدسوا ذواتكم من جهلكم بما ينسب إلينا من هذه

١٠٥

فاعترضت الملائكة لنشأة آدم من الطبيعة ، لما تحمله الصورة من الأضداد ، ولا سيما وقد جعل آدم من العناصر ، فلم تشاهد الملائكة الأسماء الإلهية التي هي أحكام هذه الصورة ، وهي كون الحق سمعه وبصره وجميع قواه ، فلو شهدت ذلك ما اعترضت ، ولكنها اعترضت لما رأوا من تقابل طبائعه في نشأته ، فعلموا أن العجلة تسرع إليه ، وأن تقابل ما تركب منه جسده ينتج عنه نزاعا فيؤثر فسادا في الأرض وسفك دماء ، فقالت ما قالت ، من غير تعرض لمواقع الأحكام المشروعة ، وكذلك وقع مثل ما قالوه فإنهم رأوا الحق سبحانه يقول : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) وقال : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) فكرهوا ما كره الله ، وأحبوا ما أحب الله ، وجرى حكم الله في الخلق بما قدره العزيز العليم ، فما ظهر من عالم التركيب من الشرور فمن طبيعته التي ذكرتها الملائكة ، فإن الغالب على عالم الأرض سلطان الهوى ، وهو يورث الفساد ، فعلمت الملائكة ما يقع لعلمهم بالحقائق ، لأن المولد من الأضداد المتنافرة لا بد فيه من المنازعة ، ولا سيما المولد من الأركان ، وكذا وقع الأمر ، وإنما وقع الغلط عندهم في استعجالهم بهذا القول ، من قبل أن يعلموا حكمة الله في هذا الفعل ما هي ، وحملهم على ذلك الغيرة التي فطروا عليها في جناب الله. فما ذكرت الملائكة إلا مساوينا وما تعرضت للحسن من ذلك ، إلا لأن الملأ الأعلى تغلب عليه الغيرة على جناب الله أن يهتضم ، وعلمت من هذه النشأة العنصرية أنها لا بد أن تخالف ربها لما هي عليه من حقيقتها ، وذلك عندها بالذوق من ذاتها فإنها مخلوقة من عالم الطبيعة ، وإنما هي في نشأتنا أظهر ، فإن اعتراض الملائكة من حيث طبيعتهم وغيرتهم على الجناب الإلهي ، فبالذي وقع من الإنسان من الفساد وغيره مما يقتضيه عالم الطبع ، به بعينه وقع اعتراض الملائكة ، فرأوه في غيرهم ولم يروه في نفوسهم ، فإن الملائكة غلب عليها الطبع ، ولم ترد الخير إلا لنفسها ، وما وافقت الحق فيما أراد أن يظهره في الكون ، من جعل آدم خليفة في الأرض ، فعرفهم بذلك ، فلم يوافقوه ، لحكم الطبع في الطمع في أعلى المراتب ، وقامت لهم صورة الغيرة على جناب الحق ، والإيثار لعظمته ، وذهلوا عن تعظيمه ، إذ لو وقفوا مع ما ينبغي له من العظمة لوافقوه ؛ وما وافقوه ، وإن كانوا قصدوا الخير ، فقالوا : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ

____________________________________

الأسماء؟ فقالوا (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) فرجعوا إلى العجز وطلب العلم ، ولهذا

١٠٦

وَنُقَدِّسُ لَكَ) تعني ذواتها وقولها : (لَكَ) أي من أجلك ، وكونهم ذوات مقدسة لذاتها أنها لم تلتفت قط إلى غير الاسم الإلهي الذي عنه تكونت ، فلم يطرأ عليها حجاب يحجبها عن إلهها ، فتتصف لذلك الحجاب بأنها غير مقدسة ، ولذلك قال تعالى في الملائكة : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) ولا يكون ذلك إلا من ذاته مقدسة بالشهود الدائم ، فقولها يعني نحن أولى من هذا ، فرجحوا نظرهم على علم الله في خلقه ، لذلك قال لهم : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) فوصفهم بنفي العلم ، الذي علم الحق من هذا الخليفة مما لم يعلموا ، وأثنوا على أنفسهم ، فمسألتهم جمعت ذلك حيث أثنوا على أنفسهم ، وعدلوها ، وجرحوا غيرهم ، وما ردوا العلم في ذلك إلى الله ، وهذا يؤيد أن الملائكة تحت حكم الطبيعة ، وأن لها أثرا فيهم وفي ذلك نقول : ـ

فعجبت منهم كيف قال جميعهم

بفساد والدنا وسفك دماء!

إذ كان يحجبهم بظلمة طينه

عما حوته من سنا الأسماء

وبدا بنور ليس فيه غيره

لكنهم فيه من الشهداء

أن كان والدنا محلا جامعا

للأولياء معا وللأعداء

ورأى المويهة والنويرة جاءتا

كرها بغير هوى وغير صفاء

فبنفس ما قامت به أضداده

حكموا عليه بغلظة وبذاء

وأتى يقول أنا المسبح والذي

ما زال يحمدكم صباح مساء

وأنا المقدس ذات نور جلالكم

وأتوا في حق أبي بكل جفاء

لما رأوا جهة الشمال ولم يروا

منه يمين القبضة البيضاء

ورأوا نفوسهم عبيدا خشعا

ورأوه ربا طالب استيلاء

لحقيقة جمعت له أسماء من

خص الحبيب بليلة الإسراء

ورأوا منازعة اللعين بجنده

يرنو إليه بمقلة البغضاء

وبذات والدنا منافق ذاته

حظ العصاة وشهوتا حواء

علموا بأن الحرب حتما واقع

منه بغير تردد وإباء

فلذاك ما نطقوا بما نطقوا به

فاعذرهم فهمو من الصلحاء

____________________________________

صح قوله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم في عموم ما ينبغي لي من الثناء ، وفي تقديس ذواتكم

١٠٧

فطروا على الخير الأعم جبلة

لا يعرفون مواقع الشحناء

ومتى رأيت أبي وهم في مجلس

كان الإمام وهم من الخدماء

وأعاد قولهم عليهم ربنا

عدلا فأنزلهم إلى الأعداء

فحرابة الملأ الكريم عقوبة

لمقالهم في أول الآباء

أو ما ترى في يوم بدر حربهم

ونبينا في نعمة ورخاء

بعريشه متملقا متضرعا

لإلهه في نصرة الضعفاء

فالإنسان المخلوق في أحسن تقويم ، لما ظهرت للملأ الأعلى طينته ، جهلت قيمته ، ونظر إلى الأضداد فقال بالفساد ، وغاب عن القبضة البيضاء ، وحميد الثناء ، بما أعطي من علم الأسماء ، ولم يكن الملأ الأعلى سمع بالصورة ، التي أعطته السورة ، فحمل الخلافة على من تقدم من القطّان ، في تلك الأوطان ، فلو علم أنه خليفة الحق لأذعن وسلم ، وما اعترض ولا نطق ، ثم ظهر في بنيه ما قاله من المقالة. وآدم للعالم كالروح من الجسد ، فالإنسان روح العالم ، والعالم جسد ، فبالمجموع يكون العالم كله هو الإنسان الكبير والإنسان فيه ، وإذا نظرت العالم وحده دون الإنسان وجدته كالجسم المسوى بغير روح ، وكمال العالم بالإنسان مثل كمال الجسد بالروح والإنسان منفوخ في جسم العالم ، فهو المقصود من العالم ، والعالم كله تفصيل آدم ، وآدم هو الكتاب الجامع ، فأرى الحق الملائكة شرف آدم عليهم ، بما خصه من علم الأسماء الإلهية ، التي خلق المشار إليهم بها وجهلتها الملائكة ، فكأنه يقول سبحانه : «أجعل علمي حيث شئت من خلقي أكرمه بذلك» ـ إشارة واعتبار في قوله تعالى (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) : اعتباره في العالم الصغير ، استخلاف الروح في أرض البدن ، لما أوجد الحق هذا الخليفة على حسب ما أوجده قال له : أنت المرآة وبك ننظر إلى الموجودات ، وفيك ظهرت الأسماء والصفات ، أنت الدليل عليّ ، وجهتك خليفة في عالمك ، تظهر فيهم بما أعطيتك ، تمدهم بأنواري ، وتغذيهم بأسراري ، وأنت المطالب بجميع ما يطرأ في الملك ، ومركز هذا الخليفة من البدن أو الجسم الذي هو مملكته إنما هو القلب شرعا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخبرا عن ربه : ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي

____________________________________

من أجلي عن جهل بأمر ما ، في العلم به زيادة تعظيم في قلوبكم ، والدليل على ما ذهبنا إليه في

١٠٨

المؤمن ، وقال : إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم. وذلك أن المستخلف إنما نظره أبدا إلى خليفته ما يفعله فيما قلده ، والله سبحانه قد استخلف الأرواح على الأجسام.

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣١)

لما كان للإنسان المنصب العالي بالخلافة كان العين المقصودة من العالم وحده ، وظهر هذا الكمال في آدم عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) فأكدها بالكل وهي لفظة تقتضي الإحاطة والعموم ، فشهد له الحق بذلك ، كما ظهر هذا الكمال في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا بقوله «فعلمت علم الأولين والآخرين» ، فدخل علم آدم في علمه فإنه من الأولين وما جاء بالآخرين إلا لرفع الاحتمال عند السامع إذا لم يعرف ما أشرنا إليه ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أوتي جوامع الكلم بشهادته لنفسه ، وفي الأسماء التي علمها الله آدم عليه‌السلام وجوه ـ الأول ـ (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) فما بقي اسم في الحضرة الإلهية إلا ظهر له ، فعلم جميع أسماء خالقه ، وهي الأسماء التي ما أثنت الملائكة على الله بها ، ولم تعط بعد آدم عليه‌السلام إلا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو العلم الذي كنى عنه بأنه جوامع الكلم ، فكان آدم العابد بكل شرع ، والمسبح بكل لسان ، والقابل لكل تجلي. وأما الأسماء الخارجة عن الخلق والنسب فلا يعلمها إلا هو ، لأنه لا تعلق لها بالأكوان وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعائه «أو استأثرت به في علم غيبك» يعني من الأسماء الإلهية ، وإن كان معقول الأسماء ما يطلب الكون ، ولكن الكون لا نهاية لتكوينه ، فلا نهاية لأسمائه. فأعطى الحق آدم جميع الأسماء الإلهية كلها فسبحه بكل اسم إلهي له بالكون تعلق ، ومجده وعظمه ، لا اسم القصعة والقصيعة الذي ذهب إليه من لا علم له بشرف الأمور ، ولذلك قالت الملائكة : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ

____________________________________

هذا التفسير والترجمة عن هذا ، قوله تعالى بعد كلامهم (٣١) (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وما تقدم لهم في اللفظ ذكر

١٠٩

لَكَ) ولا يقدس ولا يسبح إلا بأسمائه ، فأعلمهم بأن لله أسماء في العالم ما سبحته الملائكة ولا قدسته بها وقد علمها آدم ، فلما أحضر ما أحضره من خلقه مما لا علم للملائكة به فقال : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) التي يسبحوني بها ويقدسوني (قالُوا لا عِلْمَ لَنا) فقال لآدم : (أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) فلما أنبأهم بأسمائهم ، علموا أن لله أسماء لم يكن لهم بها علم يسبحه بها هؤلاء الذين خلقهم ، وعلمها آدم فسبح الله بها ، كما قال للملائكة لما طافت به البيت : «ما كنتم تقولون»؟ قالت الملائكة : «كنا نقول في طوافنا به قبلك سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» فقال لهم آدم : «وأنا أزيدكم لا حول ولا قوة إلا بالله» أعطاه الله إياه من كنز من تحت العرش ، لم تكن الملائكة تعلم ذلك ، فلو أراد المفسر بالقصعة والقصيعة الاسم الإلهي المتوجه على الصغير والكبير ، فسبحه الصغير في تصغيره ، بما لا يسبحه به الكبير في تكبيره ، أصاب ، وإنما قصد لفظة القصعة والقصيعة ولا شرف في مثل هذا ، فإنه راجع إلى ما يصطلح عليه ، إذ لها في كل لسان اسم مركب من حروف لا يشبه الاسم الآخر ، فليس المراد إلا ما تقع به الفائدة ، التي يماثل بها قول الملائكة في فخرها على الإنسان أنها مسبحة ومقدسة ، فأراها الله تعالى شرف آدم من حيث دعواها ، وهو ما ذكرناه ليس غيره ، وما ثم في المخلوقات أشرف من الملك ، ومع هذا فقد فضل عليه الإنسان الكامل بعلم الأسماء ـ الوجه الثاني ـ اعلم أن الاسم لما كان يدل على المسمى بحكم المطابقة فلا يفهم منه غير مسماه ، كان عينه في صورة أخرى تسمى اسما ، فالاسم اسم له ولمسماه ، وأراد الله أن يعرف بالمعرفة الحادثة لتكمل مراتب المعرفة ، ويكمل الوجود بوجود المحدث ولا يمكن أن يعرف الشيء إلا نفسه أو مثله ، فلا بد أن يكون الموجود الحادث الذي يوجده الله للعلم به على صورة موجده حتى يكون كالمثل له ، فإن الإنسان الكامل حقيقة واحدة ، ولو كان بالشخص ما كان ، مما زاد على الواحد ، فهو عين واحدة ، فلما نصبه في الوجود مثلا ، تجارت إليه الأسماء الإلهية بحكم المطابقة من حيث ما هي الأسماء ذات صور وحروف لفظية ورقمية ، كما أن الإنسان ذو صورة جسمية. فكانت هذه الأسماء

____________________________________

بدعوى علم عام ، حتى يقال لهم هذا إلا على الوجه الذي ذكرناه ، وأما من جعل قوله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في قولهم (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) فلا خفاء على ذي بصيرة ما فيه من الخلل ، لوجود الفساد وسفك الدماء الذي وقع من بني آدم ، وإنما يمكن أن يكون جوابهم

١١٠

الإلهية على هذا الإنسان الكامل أشد مطابقة منها على المسمى الله ، ولما كان المثل عن مثله متميزا بأمر لا يتمكن أن يكون ذلك الأمر إلا له ، ولا يكون لمثله كان الأمر في الأسماء التي يتميز المثل عن مثله به ولا يشاركه فيه من جانب الحق الاسم الله ، فعيّن ما اختص به المثل عن مثله ، وكان للمثل الآخر الاسم الإنسان الكامل الخليفة مما اختص به هذا المثل الكوني ، وأسماء الحق الباقية مركبة من روح وصورة ، فمن حيث صورتها تدل بحكم المطابقة على الإنسان ، ومن حيث روحها ومعناها تدل بحكم المطابقة على الله ، ولنا حالة وله حالة ، والأسماء تتبع الأحوال ، فالأمر بيننا وبينه على السواء ، مع الفرقان الموجود المحقق ، بأنه الخالق ونحن المخلوقون ، وهو الله وأنا الإنسان الخليفة ، فأعطى الله آدم كل الأسماء المتوجهة على إيجاد العالم ، وهي الأسماء الإلهية التي يطلبها العالم بذاته ، وإن كان وجوده عنها فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله خلق آدم على صورته» إذ كانت الأسماء له وعنها وجد العالم ، فأوجد الله العالم إنسانا كبيرا ، وجعل آدم وبنيه مختصر هذا العالم ، فبعنايته الأزلية بنا أعطانا الوجود على الصورة ، ولم يعطنا السورة التي هي منزلته ، فإن منزلته الربوبية ، ومنزلتنا المربوبية ـ الوجه الثالث ـ (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) كما سبق أن أوضحنا أن العالم كله تفصيل آدم ، وآدم هو الكتاب الجامع ، وما علمت الملائكة من آدم إلا ظاهر نشأته ، وجهلوا باطنه ، وهو حقيقة ما خلقه الله عليه من الصورة ، فلو علموا باطنه لرأوا الملائكة جزءا من خلقه ، فجهلوا أسماءه الإلهية التي نالها بهذه الجمعية لما كشف له عنه فأبصر ذاته ، فعلم مستنده في كل شيء ، ومن كل شيء ، وكل تقتضي الإحاطة وهي الأسماء التي لها تعلق وتوجه على إيجاد العالم العنصري وغيره ، الذي هو آدم جامع لفطرته فهي الأسماء الإلهية التي وجدت عنها الأكوان كلها ، ولها التأثير والخاصية ولم تعطها الملائكة ، فأعطاه علمها من حيث ما هي عليه من الخواص التي يكون عنها الانفعالات ، فيتصرف بها في العالم تصرفها ، فإن لكل اسم خاصة في الفعل في الكون ، يعلمها من يعلم علم الحروف وترتيبها ،

____________________________________

على الفساد وسفك الدماء أن لو لم يقع من بني آدم شيء من ذلك ، لا مشروع ولا غير مشروع ، فكان ما أردناه أظهر في الترجمة ، فأما قوله تعالى (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) يعني أسماء الأشياء ، (ثُمَّ عَرَضَهُمْ) يعني أعيان المسميات بتلك الأسماء ، في حضرة من الحضرات الوجودية ، ولكن

١١١

من حيث ما هي مرقومة ، ومن حيث ما هي متلفظ بها ، ومن حيث ما هي متوهمة في الخيال. (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) يعني : الأسماء الإلهية التي توجهت على إيجاد حقائق الأكوان ، ومن جملتها الأسماء الإلهية التي توجهت على الملائكة ، والملائكة لا تعرفها ، ثم أقام المسمين بهذه الأسماء وهي التجليات الإلهية التي هي للأسماء كالمواد الصورية للأرواح (فَقالَ) تعالى للملائكة : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) يعني الصور التي تجلى فيها الحق ، والأسماء هنا : هي الأسماء الإلهية التي توجهت على الأشياء المشار إليها بقوله (هؤُلاءِ) فالهاء للإشارة والتنبيه ، ولا تقع الإشارة إلا على حاضر ، فنقول إنه عاين المسميات لكن على صورة ما فأراد الحق بالأسماء هنا الأسماء الإلهية التي استند إليها المشار إليهم بهؤلاء في إيجادهم وأحكامهم ، والمسميات هي التي عرضها على الملائكة والمشار إليها بقوله (هؤُلاءِ) أي هل سبحتموني بها؟ وقدستموا لي؟ فإنكم زعمتم أنكم تسبحون بحمدي وتقدسون لي! إذ كان الإنباء بالأسماء عين الثناء على المسمى ، والناس يأخذون هذه الآية على أن الأسماء هي أسماء المشار إليهم من حيث دلالتها عليهم ، كدلالة زيد في علميته على شخص زيد ، وعمرو على شخص عمرو ، وأي فخر في ذلك على الموصوفين بالعلم وهم الملائكة ، وما تفطن الناس لقولهم : (نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) وقد فاتهم من أسماء الله تعالى ما توجهت على هؤلاء المشار إليهم ، ولذلك قال تعالى للملائكة : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في قولكم (نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) هل سبحتموني بهذه الأسماء التي تقتضيها هذه التجليات التي أتجلاها لعبادي؟ و (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في قولكم : (وَنُقَدِّسُ لَكَ) أي قدستموني بها أو (نُقَدِّسُ لَكَ) ذواتنا عن الجهل بك ، فهل قدستم ذواتكم لنا من جهلكم بهذه التجليات ، وما لها من الأسماء التي ينبغي أن تسبحوني بها؟ فكان ذلك توبيخا من الحق للملائكة ، وتقريرا ، فإنهم زكوا نفوسهم ، وجرحوا خليفة الله في أرضه ، ولم يكن ينبغي لهم ذلك. فقالت الملائكة ما ذكر الله.

____________________________________

لم يتبين لنا أية حضرة كانت ، لكنه أخبر أنه وقعت الإشارة عليهم للملائكة ، فدل على وجود أعيانهم للملائكة ، وهل كانوا موجودين لهم من حيث أعيانهم؟ لم يتعرض لتعريف ذلك في هذه الآية ، ولو قال عرضها لجاز يعني الأسماء ، فيسألهم عن مدلولاتها من هم؟ ولكن ما ذكر إلا

١١٢

(قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (٣٢)

(قالُوا) أي قالت الملائكة : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) فمن علمهم بالله أنهم ما أضافوا التعليم إلا إليه تعالى (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ) بما لا يعلم (الْحَكِيمُ) بترتيب الأشياء مراتبها ، فأعطيت هذا الخليفة ما لم تعطنا مما غاب عنا. والأسماء الإلهية منها ما كانت الملائكة تعلمه ، وما اختص آدم إلا بالكل ، وما عرض من المسميات إلا ما كانت الملائكة تجهله ، وما صحت الخلافة للعبد الإنسان الكامل إلا بقبوله لجميع الأسماء الإلهية التي بأيدينا ، وبها صحت الخلافة ، وفضل على الملائكة ، فالخليفة إن لم يظهر فيمن هو خليفة عليه بأحكام من استخلفه وصورته في التصرف فيه وإلا فما هو خليفة له ، واستخلاف الرب عبده خلافة مقيدة بحسب ما تعطيه ذاته ونشأته ، بعكس استخلاف العبد ربه لما اتخذه وكيلا ، فهي خلافة مطلقة ووكالة مفوضة.

(قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (٣٣)

اعلم أن للأسماء أنوارا تظهر مسمياتها حقا وخلقا ، وهذه الأنوار كانت لآدم عليه‌السلام

____________________________________

أن المعروض هو المسميات ، بقوله تعالى (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) (٣٣) (قالُوا) قالت الملائكة (سُبْحانَكَ) أي أنت المنزه أن تتصف بجهل شيء من المعلومات بمثل ما اتصفنا (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ) بكل شيء (الْحَكِيمُ) أي المرتب للأشياء على ما ينبغي لها أن تكون ، ومنها جعلك هذا الإنسان خليفة في الأرض ، ولولا قرائن الأحوال لكان قولهم (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) استعلاما من الحق عن ذلك لا على جهة الإنكار والاعتراض ، ولهذا عدلنا به إلى غلبة الغيرة عليهم ، بما علموه من مخالفتهم لأوامر الله ، وقد أرى الله الملائكة سفك الدماء في ذات الله ، والفساد في مرضاة الله ، وأنزلهم يوم بدر مقاتلين فقاتلوا ، فوقع منهم ما ذكروه مما يقع من الإنسان من سفك الدماء ، وفساد الأعيان عن ترتيب ما كانت عليه بطريق مقرب إلى الله تعالى ، فصدّقهم الله في الواقع لأنهم أهل علم وكشف ، وغيّب عنهم كون ذلك يقع قربة إلى الله (٣٤) (قالَ

١١٣

حين علم جميع الأسماء بالوضع الإلهي لا بالاصطلاح ، وفي ذلك تكون الفضيلة والاختصاص ، فإن لله أسماء أوجد بها الملائكة وجميع العالم ، ولله أسماء أوجد بها جامع حقائق الحضرة الإلهية وهو الإنسان الكامل ، ظهر ذلك بالنص في آدم ، وخفي في غيره فقال تعالى للملائكة في فضل آدم وفي فضل هذا المقام وقد أحضر الملائكة المسميات أعني أعيانهم : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي بالأسماء الإلهية التي صدروا عنها ، فلم يعلموا ذلك فقال الله : (يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) أي بأسماء هؤلاء الذين عرضناهم عليهم ، وهي الأسماء الإلهية التي أوجدتهم واستندوا إليها في إيجاد أعيانهم ، لا أسماء الاصطلاح الوضعي الكوني فإنه لا فائدة فيه ، فأنبأ آدم الملائكة بأسماء تلك التجليات فكان هؤلاء المسمون المعروضة على الملائكة تجليات إلهية في صورة ما في آدم من الحقائق ، وجعل الله تعالى آدم أستاذا للملائكة فعلمهم الأسماء كلها ، فلما علمهم آدم عليه‌السلام وهو قوله تعالى : (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) قالَ أي قال لهم الله (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ) وهو ما علا من علم الغيوب (وَالْأَرْضِ) وهو ما في الطبيعة من الأسرار (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) أي ما هو من الأمور ظاهر (وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) أي ما تخفونه على أنه باطن مستور. واعلم أنه مع أنه ليس فوق مرتبة الإنسان مرتبة إلا مرتبة الملك في المخلوقات ، وقد تلمذت الملائكة له حين علمهم الأسماء ، فلا يدل هذا على أنه خير من الملك ، ولكنه يدل على أنه أكمل نشأة من الملك

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) (٣٤)

ثم قال تعالى للملائكة بعد التعليم : (اسْجُدُوا لِآدَمَ) سجود المتعلمين للمعلم من أجل

____________________________________

يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ) يقول أعلمهم (بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ) أعلمهم بأسمائهم (قالَ) الله للملائكة (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لكلام قد تقدم له سبحانه مع ملائكته لم يذكره لنا ، ثم قال (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) يقول ما تظهرون (وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) يقول ما هو

١١٤

ما علمهم ، فلآدم هنا لام العلة والسبب أي من أجل آدم ، فالسجود لله من أجل آدم سجود شكر لما علمهم الله من العلم به ، وبما خلقه في آدم عليه‌السلام ، فعلموا ما لم يكونوا يعلمون فأمر الله سبحانه للملائكة بالسجود لمعلمهم سجود أمر ـ كسجود الناس إلى الكعبة ـ وتشريف ، لا سجود عبادة ، نعوذ بالله فيكون في هذا العالم الإنساني ثمرة السجود ، لا نفس السجود ، وإنما هو التواضع والخضوع والإقرار بالسبق والفخر والشرف والتقدم له ، كتواضع التلميذ لمعلمه. فنال آدم عليه‌السلام التقدمة عليهم بكونه علمهم ، فهو أستاذهم في هذه المسألة ، وبعده فما ظهرت هذه الحقيقة في أحد من البشر إلا في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال عن نفسه : إنه أوتي جوامع الكلم ، وهو قوله تعالى في حق آدم عليه‌السلام (الْأَسْماءَ كُلَّها) وكلها بمنزلة الجوامع ، والكلم بمنزلة الأسماء ، فنال التقدمة بها وبالصورة التي خلقه الله عليها ، عند ذلك علمت الملائكة أن آدم عليه‌السلام خليفة الله في أرضه ، لا خليفة عن سلف ، ثم ما زال يتلقاها كامل عن كامل حتى انتهت إلى السيد الأكبر المشهود له بالكمال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي عرف بنبوته وآدم بين الماء والطين ، وأوتي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جوامع الكلم ، كما أوتي آدم جميع الأسماء ، ثم علمه الله الأسماء التي علمها آدم ، فعلم علم الأولين والآخرين ، فكان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعظم خليفة وأكبر إمام. (فَسَجَدُوا) ولم يزل حكم السجود فيهم لآدم وللكامل من أبنائه أبدا دائما ، فإن الملأ الأعلى عنده ازدحام لرؤية الإنسان

____________________________________

مكتوم فيكم مما لا تعلمونه أنتم ، وما هو مكتوم عندكم بعضكم من بعض ، وهو قوله (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) فالسر ما بين العبد والحق ، والأخفى ما يعلمه سبحانه من العبد ولا يعلمه العبد من نفسه أنه يكون فيه ، ثم أعلم سبحانه نبيه فقال أيضا (٣٥) (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) الآية ، تقدم قبل هذا أن ضمير الجماعة في جانب الحق يعود على الأسماء من جهة ما تطلبه الحقائق في تلك القصة ، فقد أنعم على آدم بأشياء متعددة ، بإيجاد عينه ، وبما علّمه من العلم ، مع أنه لا يقوى في تصفية نشأته تصفية الملائكة ، فإنهم مخلوقون من نور ، وآدم مخلوق من حمأ مسنون ومن صلصال ، ثم نفخ فيه روحا ملكيا في مثل هذه النشأة الترابية ، وخلقها بيديه ، وهذه كلها أسباب أسماء مختلفة النسب ، فكل اسم له نسبة أثر في آدم ، له أن يقول أنا ، فإذا اجتمعت الأسماء صدق القائل أن يقول (قُلْنا) فقال (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) فأحدث لهم حرمة بالسجود لله سبحانه من أجل خلق آدم ، وما أنعم به عليه ، حيث أبدى لهم في وجوده من العلم

١١٥

الخليفة ، وأمروا بالسجود فطأطؤا عن أمر الله ، ناظرين إلى مكان هذا الخليفة حتى يكون السجود له ، لأن الله أمرهم بالسجود له ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أطت السماء بعمارها وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك ساجد لله ، واستصحاب سجود الملائكة للإمام دنيا وآخرة ونقول في الملائكة :

قدّسهمو أن يجهلوا حق من

قد سخر الله له العالمين

كيف لهم وعلمهم أنني

ابن الذي قد خروا له ساجدين

واعترفوا بعد اعتراض علي

والدنا بكونهم جاهلين

وأبلس الشخص الذي قد أبى

وكان للفضل من الجاحدين

قدّسهمو قدّسهمو أنهم

قد عصموا من خطأ المخطئين

والسؤال هنا : كيف توجه الخطاب على إبليس وهو ليس من صنف الملائكة؟ فقال تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ). فنقول إن معنى الملائكة : الرسل وهو من المقلوب ، وأصله مألكة ، والألوكة الرسالة والمألكة الرسالة ، فما تختص بجنس دون جنس ، فالرسالة جنس حكم يعم الأرواح الكرام البررة السفرة ، والجن ، والإنس ، فمن كل صنف من أرسل ، ومنه من لم يرسل ، ولهذا دخل إبليس في الخطاب بالأمر بالسجود لما قال الله للملائكة : (اسْجُدُوا) لأنه ممن كان يستعمل في الرسالة ، فهو رسول ، فأمره الله فأبى واستكبر فكان ذلك سببا لبعده عن القرب الإلهي ، فصح الاستثناء وجعله منصوبا بالاستثناء المنقطع ، فقطعه عن الملائكة كما قطعه عنهم في خلقه من نار ، ولكنه تعالى شرّك بينهم في

____________________________________

بالأسماء ما لم يكونوا يعلمون ، والسجود لله ، وجرت العادة في الملوك إذا أنعموا على شخص بحضور خاصته ، أن يخدموه بما جرت العادة أن يخدموه به ، ولا سيما إذا عاد عليهم من ذلك الشخص منفعة من جانب الملك لهم بسببه ، فتكون تلك الخدمة من أجل ذلك الشخص للملك (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ) وأبى إبليس واستكبر حسدا وظلما وعلوا للجنسية ، فإنه رأى نفسه مخلوقا مثله من الطبائع الأربع ، ورأى أن العنصر الذي غلب عليه أشرف من العنصر الذي غلب على نشأة الإنسان ، فهذا استكباره ، وأما إبايته فقد نبهنا أن النارية تقتضي له ذلك ، ويكون الاستثناء متصلا بوجه ، ومنقطعا بوجه ، فمن راعى نشأته وجنسه ، قال : إنه استثناء منقطع ، ومن رأى أنه في الملائكة كالمستهلك فيهم لكثرتهم ، واتصاله بهم في جماعتهم في عباداتهم

١١٦

الرسالة ، فكأنه تعالى يقول : (إِلَّا إِبْلِيسَ) إلا من أبعده الله من المأمورين بالسجود (أَبى وَاسْتَكْبَرَ) وقال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) ثم قال تعالى : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) فطمع إبليس في الرحمة التي وسعت كل شيء ، وطمعه فيها من عين المنة لإطلاقها ، لأنه علم في نفسه أنه موحد ، وسماه الله كافرا فقال : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) ولم يقل من المشركين لأنه يخاف الله رب العالمين ويعلم أن الله واحد ، وقد علم مآل الموحدين إلى أين يصير ، سواء كان توحيدا عن إيمان أو عن نظر من غير إيمان ، وعلم أن جهنم لا تقبل خلود أهل التوحيد وإنما سماه الله كافرا لأنه يستر عن العباد طرق سعادتهم التي جاء بها الشرع في حق كل إنسان.

(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) (٣٥)

سمي آدم بآدم لحكم ظاهره عليه فإنه ما عرف منه سوى ظاهره ، فلا يعرف مخلوق من الإنسان سوى ظاهره ، وأما باطنه فمجهول. ومن هذه الآيات نعلم أن أول أمر ظهر في العالم الطبيعي هو قول الله تعالى لإبليس : اسجد لآدم ، فظهر الأمر فيه ، وأول نهي قوله تعالى لآدم وحواء : (لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) فظهر النهي فيهما ، وقوله تعالى : (هذِهِ

____________________________________

ومشاركته لهم فيها ، جعله استثناء متصلا ، ودل على أنه كان مأمورا بالسجود قوله تعالى (أَبى) ولا يقع الامتناع إلا بعد توجه تكليف ، وقد يجوز أن يكون السجود سجود تحية ، كسجود أبوي يوسف وإخوته له ، والأول أوجه ، يعضد ما قلناه الحديث الصحيح ، قال عليه‌السلام : لو أذن لأحد أن يسجد لأحد ، لأذنت للمرأة أن تسجد لزوجها ، وأما سجود التحية فغير منكور فيمن تقدم ، وهو من فعل الأعاجم ، وهو هذا الانحناء الذي يكون منهم عند التقاء بعضهم بعضا ، وكون السجود مكروها لغير الله أو محرما هو أمر مشروع ليس لذاته بخلاف العبودية فإنه ممتنع بذاته أن يكون عبدا لغير الله حقيقة (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) هنا أي من الفاسقين الخارجين عن أمر الله بدليل قوله (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) فسماه كافرا ، ثم قال (٣٦) (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ) الآية ، قال يا آدم اسكن (أَنْتَ وَزَوْجُكَ) يعني حواء ، (الْجَنَّةَ) أي اتخذها مسكنا

١١٧

الشَّجَرَةَ) بحرف الإشارة تعيين لشجرة معينة ، فتقدم الأمر لآدم عليه‌السلام بسكنى الجنة والأكل منها حيث شاء ، ثم نهاه عن قرب شجرة مشار إليها أن يقربها ، فوقع التحجير والنهي في قوله حيث شئتما لا في الأكل ، فما حجر عليه الأكل وإنما حجر عليه القرب منها الذي كان أطلقه في حيث شئتما ، فما أكلا منها حتى قربا ، فتناولا منها ، فأخذا بالقرب ، لا بالأكل ، فالتكليف مقسم بين : أمر ونهي ، وهما محمولان على الوجوب حتى تخرجهما عن مقام الوجوب قرينة حال ـ وإن كان مذهبنا فيهما التوقيف ـ فتعين امتثال الأمر والنهي فإن قلت : كيف اقتحم النهي على المعصية؟ قلنا : لظهور هذه الحكمة ، وهي الخلافة في الأرض وتمييز القبضتين ، لذلك لم يكن النجم ، وكان الشجر ، لوجود الخلاف الذي ظهر ، فالشجر من التشاجر والخلاف.

____________________________________

ومنزلا ، وعطف زوجك على أنت ، وإنما تعريف الجنة بالألف واللام فيمكن أن يريد جميع الجنات ، ويمكن أن يكون جنة معينة ، وعلى أي وجه كانت فهو يتبوأ منها حيث يشاء ، أي يسكن منها حيث شاء ، (وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما) وحيث شئتما معمول لاسكن ، يقول : اسكن أنت وزوجك الجنة حيث شئتما منها ، وكلا رغدا أي اتسعا في عيشكما ، لأن الرغد هو الاتساع في العيش ، وهذا أوجه من أن يكون العامل في الظرف (كُلا) ومنها قد يكون متعلقا بكلا ، وقد يكون بقوله اسكن ، وأما في الأعراف فقد بيّن هنالك أن قوله فكلا هو العامل في قوله (مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) والجمع بين الآيتين إن كانت القصة واحدة ، أن المعنى اسكن من الجنة حيث شئت ، وكلا من حيث شئتما من ثمرها ، وهو معنى قوله في الزمر (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) فرفع التحجير ، ثم قال (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) عيّنتها الإشارة ، والأظهر تعيين واحدة من الجنس ، ودون هذا تعيين الجنس ، وما ذكر الله تعالى أية شجرة هي ، ولا صحّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومثل هذا لا يدرك بالاجتهاد ، لكني أشير إلى اللفظ بهذا الاسم ، وذلك أن الشجرة مشتقة من التشاجر ، لتداخل أغصانها بعضها على بعض ، كالمتشاجرين يدخل كلام بعضهم في كلام بعضهم بالمخالفة والمنازعة ، وربما أنه ما في الجنة شجرة على هذه الصفة إلا هذه ، وسائر شجر الجنة لا تدخل أغصانها بعضها على بعض ، ولذلك ما ذكر الله تعالى في القرآن إلا ثمرات الجنة ، فإنه جعلها منزل موافقة ، فقد يكون أغصانها تخرج على الاعتدال والاستقامة ، وذكر ذلك في النار فقال (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) وقال (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ) فإن جهنم دار نزاع وتشاجر ، قال تعالى (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) فوصفهم بالمخاصمة وهي المشاجرة ، ومنها (قالت أولاهم

١١٨

(فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (٣٦)

أضيف الزلل إلى الشيطان ، وقد علم أنه ليس له على ذلك سلطان ، لأن الله جعله في الشاهد صفة نقص ، ودليل خسران ، تنزه الجناب العالي أن يضاف إليه ، أو إلى من شهد له بالكمال كالأنبياء صلوات الله عليهم. شرك الله بين إبليس وآدم وحواء من ضمير واحد ، وهو كان أشد العقوبة على آدم ، فقيل لهم : (اهْبِطُوا) بضمير الجماعة فكانت العقوبة في حق آدم في جمعه مع إبليس من الضمير ، حيث خاطبهم الحق بالهبوط ، بالكلام الذي يليق بجلاله ، ولكن لا بد أن يكون في الكلام الصفة التي يقتضيها لفظ الضمير ، فإن صورة اللفظ يطلب المعنى الخاص ، ولم يكن الهبوط عقوبة لآدم وحواء ، وإنما كان عقوبة لإبليس ، فإن آدم أهبط لصدق الوعد ، بأن يجعل في الأرض خليفة ، بعد ما تاب عليه واجتباه ، وتلقي الكلمات من ربه تصديقا لما قاله تعالى للملائكة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ، وأهبطت حواء للنسل ، وأهبط إبليس للإغواء ، ليحور عليه جميع ما يغوي به بني آدم.

____________________________________

لأخراهم) (وقالت أخراهم لأولاهم) (وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا) (وقال الذين استكبروا للذين استضعفوا) ولم يقل شيء من هذا في أهل الجنة ، فكأنه سبحانه أشار لهما بالشجرة النهي عن مخالفته فيما نهاهما عنه وموافقته ، تنبيها لهما على ذلك ، وأخبرهما أنهما إن خالفا أمره سبحانه كانا من الظالمين ، فقال (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) لأنفسهما حيث عرضا بأنفسهما للعقوبة ، وهذا يدلك على أن لنفسك عليك حقا ، وكذا قالا (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) وكان غرضنا أن نجمع في هذه السورة ذكر قصص آدم كلها في سائر السور ، وهكذا كل قصة تكرر ، ثم أني رأيت من الأدب أن الله فرّقها في السور لحكمة علمها ، فينبغي لنا أن نذكر الترجمة عنها في المواضع التي ذكرها الحق من سور القرآن ، حتى لا أحدث شيئا ، والاتباع أولى بأهل السعادة من الابتداع ، فنقول قال تعالى (٣٧) (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) الآية ، لما كان متعلق النهي القرب لا الأكل ، لذلك عدل إبليس إلى الأكل ، ولم يقل لهما اقربا منها ، فيتذكران نهي الله عن القرب ، وعلم أنهما لا يقطعان منها ثمرة حتى يقربا ، وهذا من علمه بمواقع

١١٩

وصية ـ قال الله تعالى لإبراهيم الخليل عليه‌السلام ، يا إبراهيم ما هذا الوجل الشديد الذي أراه منك؟ فقال له إبراهيم : يا رب كيف لا أوجل ولا أكون على وجل ، وآدم أبي كان محله من القرب منك ، خلقته بيديك ، ونفخت فيه من روحك ، وأمرت الملائكة بالسجود له ، فبمعصية واحدة أخرجته من جوارك ، فأوحى إليه : يا إبراهيم أما علمت أن معصية الحبيب على الحبيب شديدة؟

____________________________________

الشرور ، وكانت الشجرة المنهي قربها كان ذلك سببا لوسوسة إبليس ، فضمير (عَنْها) يعود على الشجرة ، أي عنها صدرت الوسوسة من إبليس لعنه الله ، كما سيأتي (أن حب الخير) لسليمان عن ذكر ربه ، أي صدر ذلك الحب من سليمان عن ذكر ربه ، ولذلك مسح بسوقها وأعناقها فرحا بها ، وسيأتي ذلك في سورة ص ، فقوله تعالى (فَأَزَلَّهُمَا) أي ذهب بهما ، وأزالهما انتزعهما ، والمعنى متقارب (فَأَخْرَجَهُما) يعني حواء وآدم (مِمَّا كانا فِيهِ) من النعيم والكرامة لسعادتهما وشقاوته (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) الضمير يعود على آدم وحواء وإبليس ، وجمع بينهم في ضمير واحد لاشتراكهم في المخالفة ، فإن إبليس خالف الأمر ، وآدم وحواء خالفا النهي ، وقد انحصر التكليف الذي يوجب الوعد والوعيد فعله أو تركه بينهما ، واشتركوا في الهبوط ، غير أن آدم هبط إلى الأرض للخلافة كما تقدم لا عقوبة ، فإن المؤاخذة وقعت بظهور السوآت لهما ، وهبطت حواء لأنها محل الولادة للتناسل ، وأهبط إبليس عقوبة ، لأنه لا يعود إليها وأن مصيره إلى دار الشقاء ، وإن اشتركوا في الهبوط ولكن المقاصد مختلفة ، وقوله (جَمِيعاً) تأكيد ، لم يتأخر بعضهم عن بعض ، ولم نستوف تمام القصة هنا لأن الله تعالى ما استوفاها هنا ، ويقع الاستيفاء لها بالوقوف على تكرار ذكرها في كل سورة إن شاء الله تعالى ، وقوله (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) أي يعدو بعضكم على بعض ، فيعدو الشيطان على بني آدم بتزيين مخالفة أوامر الله ونواهيه ، ويعدو بنو آدم على الشيطان بأن يردوا وسوسته في نحره وكلامه في وجهه ويمتثلون أمر الله (ويجتنبون) نواهيه ، فيغيظه ذلك ، فهذه عداوة بني آدم لإبليس ، وأما الذين يسمعون منه فهم أولياؤه وأحباؤه ورفقاؤه في النار ، فالمؤمنون كلهم أعداؤه ، وما عدا المؤمنين كلهم أولياؤه ، فالمخالفات الصادرة من المؤمنين غير مؤثرة في إيمانهم ، لأنهم ليسوا على يقين من مؤاخذة الله بها ، فإن الله قال (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) ولو دخل المؤمن النار في الآخرة فكما يمرض في الدنيا ويتألم حسا ومعنى ، ومقره ومآله السعادة الأبدية في النعيم الدائم ، وليس مقصود إبليس هذه المخالفات الواقعة من المؤمنين ، وإنما مقصوده الإشراك بالله ، وكل ما يؤديهم

١٢٠