رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٢٨)

القرء من ألفاظ الأضداد ، ينطلق على الحيض والطهر ... (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) اعلم أن الإنسانية لما كانت حقيقة جامعة للرجل والمرأة ، لم يكن للرجال على النساء درجة

____________________________________

رفع الضرر عن المرأة ورعاية المصلحة لها ، فإن ورد حكم من الشارع يناقض هذه المصلحة في بعض ما في هذه المسألة من الأحكام وقفنا عنده في ذلك ، واعتبرنا المصلحة ورفع الضرر فيما عدا ذلك الوجه الذي ورد فيه الحكم ، ثم إن كان الإيلاء بيمين معتبرة في الشرع فسبيلها عندنا سبيل الأيمان ، فإن كان الإيلاء بيمين غير مشروعة ، فلا إيلاء فلا كفارة لو وقع الفيء منه ، وبقي الحكم ينسحب على العزم إلى آخر المدة ما لم يجامع ، فإذا انقضت المدة المشروعة وما فاء طلقت ولا عدة عليها إن كانت قد حاضت في تلك المدة ثلاث حيض ، وإن انتقص من ذلك شيء أتمته بعد الطلاق ، إذ كانت العدة مشروعة هنا لبراءة الرحم ، وهذه وجدت مع ما انضاف إلى ذلك من المصلحة المعتبرة في هذه المسألة ، فترجح هنا على من يرى أن العدة عبادة غير معللة ، فإن الإيلاء يشبه طلاق الرجعة ، والمدة في الإيلاء تشبه العدة في الطلاق الرجعي ، ويكون الطلاق بائنا بعد انقضاء المدة لما فيه من المصلحة للمرأة ، ووجود الضرر لو كان رجعيا ، لما يبقى له من الحكم عليها ، والعزم على الطلاق أن لا يفيء في تلك المدة ، فإن العازم على عدم الفيئة يحدث نفسه بالطلاق ، وإن أوقع الحديث فلا شك أن الله سميع حديثه في نفسه ، فهذا قوله : (وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع) بما يحدث به نفسه من ذلك (عَلِيمٌ) بما قصده ونواه من ذلك ، والحر والعبد في هذه المسألة في الحكم سواء ، وما من وجه ذهبنا إليه إلا وفيه خلاف بين العلماء ، والذي يتعلق بهذه الآية من الترجمة قوله : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ) أي يحلفون (مِنْ نِسائِهِمْ) من أجل نسائهم أن لا يجامعوهن (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) تنتظر به انقضاء هذه المدة (فَإِنْ فاؤُ) أي رجعوا إما في الأربعة أشهر أو عند انقضائها يحتمل فيه الوجهان (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي

٣٤١

من حيث الإنسانية ، ففضل الذكور على الإناث مفاضلة عرضية لا ذاتية ، وإنما كانت الدرجة هي أن حواء منفعلة عن آدم مستخرجة متكونة من الضلع القصير ، والمنفعل لا يقوى قوة الفاعل ، فقصرت بذلك أن تلحق بدرجة من انفعلت عنه ، فلا تعلم من مرتبة الرجل إلا حد ما خلقت منه وهو الضلع ، فقصر إدراكها عن حقيقة الرجل ، فبهذا القدر يمتاز الرجال عن النساء ، ولهذا كانت النساء ناقصات العقل عن الرجال ، لأنهن ما يعقلن

____________________________________

غفور لما وقع منهم من الإيلاء إذ كان مكروها ، فإنه مناقض لقوله تعالى : (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) فكأن المولي لما لم يعتبر العلة التي لها كان التزويج ، كره له ذلك ، وضرب له أجل ، وغفر الله له برجوعه عن ذلك ، فكان رحيما به من حيث أنه تعالى غفر له ، ورحيما بالمرأة حيث رد عليها زوجها بالعطف ، ولم يكن الإيلاء مكروها في حق النبي عليه‌السلام لأنه الأسوة ، فأجراه الله عليه لتبيين الحكم في ذلك ، وأنه لا يأتي مكروها يكرهه الله وإن كرّهه الناس (٢٢٨) (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) يقول : فإن رجح الطلاق على الفيئة (فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) يحتمل التلفظ بالطلاق أو حديث النفس به ، ولذلك اشترط بعضهم التلفظ بالطلاق وحينئذ يقع ، وأنه لا يقع بانقضاء المدة عنده ولا بالعزم ، فإن العزم غير مسموع ، لكن قوله : (عَلِيمٌ) قد يكون بما عزم عليه من الطلاق بترك الفيئة في هذه المدة ، فتطلق بالانقضاء ، ويكون سميع إن تكلم بالطلاق ، مع الخلاف الذي بين أهل النظر في معنى السميع ، فأتى سبحانه بالاسمين جميعا لوجود الحالتين ، قوله : (٢٢٩) (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) هذا عام في كل حرة مدخول بها مطلقة تحيض ، فتخرج من هذه الآية من المطلقات اليائسة ، والتي لم تبلغ المحيض ، والحامل ، والأمة ، وغير المدخول بها ، والمرتفعة الحيض في سن الحيض ، والمستحاضة ، والمرتابة بالحمل لحس تجده في بطنها ، وغير المرتابة وهي التي عرفت سبب انقطاع دمها من مرض أو جماع ، والمطلقة التي تتربص ثلاثة قروء هي ما ذكرنا ، ولكل جنس مما خرج عن هذا عدة من المطلقات ، وقوله : (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) يلبثن بغير نكاح ، أي لا يتزوجن (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) يعني هذه المدة ، واختلف الناس في القرء في هذه الآية ، فطائفة قالت أراد الأطهار ، وأخرى قالت الحيض ، والأظهر أنه الحيض لقوله عليه‌السلام : [دعي الصلوة أيام أقرائك] وقد روي عدة الأمة حيضتان ، والقرء في اللسان من الأضداد ، يقال للحيض والطهر ، ويقوي من يقول إنه الحيض قوله : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) فأقام الأشهر مقام الحيض ، وهذا ظاهر ليس بنص ، وأيضا فإن استبراء الرحم إنما يقع بالحيض ، والظاهر في العدة أنها لاستبراء الرحم وقد نقل عن

٣٤٢

إلا قدر ما أخذت المرأة من خلق الرجل في أصل النشأة ، وأما النقصان في الدين فيها فإن الجزاء على قدر العمل ، والعمل لا يكون إلا عن علم ، والعلم على قدر قبول العالم ، وقبول العالم على قدر استعداده في نشأته ، واستعدادها ينقص عن استعداد الرجل لأنها جزء منه ، فلا بد أن تتصف المرأة بنقصان الدين عن الرجل ، وقد تبلغ المرأة من الكمال درجة الرجل ، غير أن الغالب فضل عقل الرجل على عقل المرأة ، لأنه عقل عن الله قبل عقل المرأة لأنه تقدمها في الوجود ، والأمر الإلهي لا يتكرر ، فالمشهد الذي حصل للمتقدم لا سبيل أن يحصل للمتأخر ، فالمرأة أنقص درجة من الرجل ، وتلك درجة الإيجاد لأنها وجدت عنه ، فإن الله لما خلق آدم وكان قد سبق في علم الحق إيجاد التوالد والتناسل ـ والنكاح في هذه الدار إنما هو لبقاء النوع ـ استخرج من ضلع آدم من القصيرى حواء ، فقصرت بذلك عن درجة الرجل كما قال تعالى ، فما تلحق بالرجال أبدا ، فآدم أصل لحواء ، فصح للأب الأول الدرجة عليها لكونه أصلا لها ، فالدرجة درجة الانفعال فإنها لما انفعلت عنه كان له عليها درجة السبق ، وكل أنثى من سبق ماء المرأة ماء الرجل وعلوه على ماء الرجل ، هذا هو الثابت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاعلم ذلك ، فللرجال عليهن درجة فإن الحكم لكل أنثى بماء أمها ، وهنا سر عجيب دقيق روحاني من أجله كان النساء شقائق الرجال ، فخلقت المرأة من شق

____________________________________

العرب أقرأت المرأة إذا حاضت ، وامرأة مقرئ ، وقوله : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) أي لاستقبال عدتهن ، والطلاق المشروع لا يكون إلا في طهر لم تجامع فيه ، فإذا طلق فيه كانت الأطهار غير كاملة ، ولا بد أن تكون الثلاثة قروء كاملة ، فيتقوى من هذا المجموع أنها الحيض ، فإن قيل : يقال ثلاثة قروء تجوّزا وإن لم تكمل ، قلنا : لا نرجع من الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل ، وهم بلا شك يعتدون بالطهر الذي يطلق فيه ، ولقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا بمكة في المنام سنة تسع وتسعين وخمسمائة ، وهو عليه‌السلام في الحرم ، فكنت أقول : يا رسول الله إن الله يقول : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) وهو من الأضداد ، وأنت أعلم بما أراد الله بالقرء في هذه الآية ، إذ أنت أعلم بما أنزل الله عليك ، فقال : إذ فرغ قرؤها فأفرغوا عليها الماء وكلوا مما رزقكم الله ، فكنت أقول له : يا رسول الله إذن هو الحيض ، فتبسم وقال : إذا فرغ قرؤها فأفرغوا عليها الماء وكلوا مما رزقكم الله ، قلت : فإذن هو الحيض يا رسول الله ، فتبسم وقال : إذا فرغ قرؤها فأفرغوا عليها الماء وكلوا مما رزقكم الله ، فقلت له : فإذن هو الحيض يا رسول الله ، فتبسم وما زاد على ذلك ، وكنت أفهم منه في ذلك الوقت أنه يريد بقوله إذا فرغ قرؤها إذا انقطع عنها الدم فأفرغوا

٣٤٣

الرجل ، فهو أصلها ، فله عليها درجة السببية لأنها عنه تولدت ، فلم تزل الدرجة تصحبه عليها في الذكورة على الأنوثة ، وإن كانت الأم سببا في وجود الابن فابنها يزيد عليها بدرجة الذكورة لأنه أشبه أباه من جميع الوجود ، فلا تقل هذا مخصوص بحواء ، فكل أنثى كما أخبرتك من مائها أي من سبق مائها وعلوه على ماء الرجل ، وكل ذكر من سبق ماء الرجل وعلوه على ماء الأنثى ، فليست المرأة بكفؤ للرجل ، فإن المنفعل ما هو كفؤ لفاعله ، وحواء منفعلة عن آدم فله عليها درجة الفاعلية ، فليست له بكفؤ من هذا الوجه ، ولقوله تعالى : (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) ولم يجعل عيسى عليه‌السلام منفعلا عن مريم حتى لا يكون الرجل منفعلا عن المرأة كما كانت حواء عن آدم ، فتمثل لها جبريل أو الملك بشرا سويا ، وقال لها : (أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) فوهبها عيسى عليه‌السلام ، فكان انفعال عيسى عن الملك الممثل في صورة الرجل ، وإن كان لمريم درجة فعلى عيسى لا على الرجال ، فالدرجة لم تزل باقية ، وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كمل من الرجال كثيرون ومن النساء مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون ، فاجتمع الرجال والنساء في درجة الكمال ، فاعلم أن فضل الرجال بالأكملية لا الكمالية ، فإن كملا بالنبوة فقد فضل الرجال بالرسالة

____________________________________

عليها الماء ، أي مروها بالغسل ، وكلوا مما رزقكم الله كناية عن الجماع ، بيّن في هذا الحديث صحة مذهب من يقول إن الحائض إذا طهرت لا يقربها زوجها إلا بعد استعمال الماء ، ويرجحه قول المخالف ، ويريد به الاغتسال المشروع بقوله عليها ، ولا خلاف أنه الأولى عند الكل ، وبالجملة إن الآية مجملة لا يظهر فيها ترجيح ، وإنما يطلب الدليل من جهة أخرى ، قال أحمد بن حنبل : الأكابر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون الأقراء هي الحيض ، ومما يؤيد عندي أنها الحيض قوله تعالى في هذه الآية : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ) فإن الذي خلق الله في أرحامهن إنما هو الدم ، والطهر عبارة عن عدم الدم ، ولا يقال خلق الله العدم ، لأن العدم لا شيء ، وهذا من بعض وجوه ما يحتمله لفظ الآية ، فكأنه يريد إذا طلقن حرم الله عليهن أن يكتمن أزواجهن الحيض ويقلن قد طهرت استعجالا للطلاق لما له عليها من حكم الرجعة في زمان العدة ، وهذا التأويل في الآية ظاهر ، ويريد أيضا كتمان الولد ، تكتم حملها لئلا يضن بالطلاق ، وهذا الوجه أيضا سائغ في الآية ، ثم قال : (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يقول : لا يفعلن ذلك إن كن يؤمن بالله ، أي يصدقن بأن الله يؤاخذهن على ذلك ويعاقبهن في الدار الآخرة ، فإنه من صّدق باليوم الآخر وأن الله له فيه حكم على عباده وأنه مسؤول ، لا يقدم

٣٤٤

والبعثة ، ولم يكن للمرأة درجة البعثة والرسالة ، فالمرأة ناقصة عن الرجل بالدرجة التي بينهما ، وإن كملت المرأة فما كمالها كمال الرجل لأجل تلك الدرجة ، فمن جعل الدرجة كون حواء وجدت من آدم فلم يكن لها ظهور إلا به فله عليها درجة السببية فلا تلحقه فيها أبدا ، وهذه قضية في عين ، ونقابلها بمريم في وجود عيسى ، فإذا الدرجة ما هي سبب ظهورها عنه وإنما المرأة محل الانفعال والرجل ليس كذلك ، ومحل الانفعال لا يكون له رتبة أن يفعل ، فلها النقص (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) يضع الأمور مواضعها وينزلها منازلها ـ إشارة ـ لا تسبقك الإناث إلى الحق ، فينلن ذكوريتك وتنال أنوثتهن.

____________________________________

على مثل هذا ، وهذه الآية من أصعب شيء على من يرى أن الإيمان هو التصديق فقط ، فإن الشرط إذا انتفى انتفى المشروط ، والإقرار بما في أرحامهن شرط في وجود الإيمان ، وقد انتفى بالكتمان فينتفي الإيمان ، ثم قال : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) الظاهر من هذا الكلام أن للمرأة حقا في الرجعة ، فإذا أبت الرجعة وهي في العدة رجح الشارع إرادة زوجها رجعتها على إبائتها في ذلك ، أي في زمان العدة ، وقوله : (إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) يعني البعولة إن أراد الزوج بالرجعة إصلاحا ، فإن أراد ضرارا بها فهو آثم عند الله ، كما أنها إن كتمت ما خلق الله في رحمها لأن تضر زوجها بقطع ما له من الحق في ذلك ، فهي تأثم في ذلك ، فهذا في مقابلة ذلك ، وإرادته الإصلاح أو غير الإصلاح شيء في نفس الزوج لا يعلمه إلا الله ، فيحكم له بالمراجعة ظاهرا كما يحكم لها إن كتمت بعدم المراجعة ظاهرا ، والله يتولى السرائر ، البعل زوج المرأة ويجمع على بعول وبعولة وقوله : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) يقول : ولهن من الحقوق الواجبة على أزواجهن بالشرع مثل الذي لأزواجهن عليهن من الحقوق الواجبة ، والمثلية في الوجوب لا فيما يجب من الأفعال ، وقوله : (بِالْمَعْرُوفِ) أي بما لا ينكره الشرع ، فلا تكلفه ما لم يجوز لها الشرع تكليفه ، ولا يكلفها الزوج ما لم يجوز له الشرع أن يكلفها ، وقوله : (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) وهي كون أمرها بيده وحكمه عليها بما ألقى الله بيده من ذلك (وَاللهُ عَزِيزٌ) أي غالب لمن نازعه فيما أمر به وتعدى حدوده ، المرأة بالكتمان والرجل بالإضرار ، وقوله : (حَكِيمٌ) أي عليم بتعيين ما ينبغي أن يعاقب به من يفعل هذا الفعل المعين ، يقول : (٢٣٠) (الطَّلاقُ) الذي يملك الرجل به الرجعة (مَرَّتانِ) لأن الثالثة لا يملك رجعتها فيه ولا بعده إلا حتى تنكح زوجا غيره ، وترضى برجوعها إليه (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) في نفس الطلاق الرجعي لأن أمرها بيده ، متى شاء راجعها ، فله أن يعاشرها ويعاملها في ذلك الحال بالمعروف ، لا بما

٣٤٥

(الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢٢٩)

من قال بالرجعة بعد ما طلق فما طلق ، وكان صاحب شبهة فيما نطق أنه به تحقق ، وإن لم يكن كذلك فهو أخرق ، الطلاق الرجعي رحمة بالجاهل الغبي ، ولو قلنا في الرجال

____________________________________

لا يجيز له الشرع أن يعاملها به وينكر عليه ، وقوله : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) وهي الطلقة الثالثة ، يقول : وإن عجز عن المعروف في الإمساك لأسباب يعرفها من جهته فليسرحها بإحسان ، فمن الإحسان أن لا يخالعها بشيء يأخذه منها ، ويستحي من الله تعالى في تسريحها فلا يرزأها في شيء من نفسها بضرب وغيره وعرضها بكلام قبيح يسمعها ، ومال بشيء يأخذه منها مما وهبها إياه أو استحقته عليه ، وقال عليه‌السلام : [الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه] فلهذا فسرناه هنا بالحياء من الله (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) ومن إحسانه إليها في هذا التسريح أن يترك لها حقا يستوجبه عليها ، أو يدفع لها شيئا من عنده تستعين به في زمان عدتها فضلا منه ، وكل ذلك من مكارم الأخلاق الذي بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليتمها ، أو يريد بقوله : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) أي بعد أن يراجعها (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) في وقوع الطلاق بعد المراجعة ، وإنما جعلنا هذا التفسير في الثالثة من أجل فاء التعقيب من قوله : (فَإِمْساكٌ) بعد قوله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) وإنما من حيث المعاملة ، فهذا يلزمه شرعا في الطلقة الأولى ، وقوله : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) يقول : وحرمت عليكم ، إذ كان ضد الحل الحرمة ، لا من أجل قوله : «لا» وإنما ذلك من أجل الفعل الذي دخل عليه النهي وقوله : (أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) يقول : وهبتموهن شيئا ، فإن العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه ، وأما الصداق وما ألزمه الشرع من الكسوة والنفقة فذلك حق لها ، وقد نال منها العوض لذلك ، فإذا حرم عليه أن يأخذ ما وهبها منها مع أنه يمكن أن يعود في هبته لقلة مروءته وخساسة نفسه وأن له في ذلك حقا ما لم تكافيه على ذلك بقيمته ، فمن باب الأحرى والأولى أن يحرم عليه ولا يحل له أن يأخذ مما أعطاها من صداق وإنفاق يلزمه

٣٤٦

بالرجعة في الطلاق ، خرقنا في ذلك ما جاء به أهل الله من الاتفاق ، فإنه نكاح جديد ولذلك يحتاج إلى شهود أو ما يقوم مقام الشهود ، من حركة لا تصح إلا من مالك غير مطلق ، وكذا هو عند كل محقق ... (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ـ إشارة ـ من يتعدى حدود الله فقد ظلم نفسه ، لأن لنفسه حدا تقف عنده ، وهي

____________________________________

لقبوله العوض ، فكان كالبيع ، والعوض لا يمكن رده لأنه الاستمتاع بوطئها ، فأخذ ذلك منها من أكل المال بالباطل إلا أن تطيب له نفسا بشيء منه ، قال تعالى : (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) وذاك الإفضاء لا يصح فيه الرجوع فلا يصح أيضا في المعوّض منه ، ومع هذه الوجوه يسوغ أن يريد بقوله : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) أي كل ما وصل إليها منه من صداق وغيره ، وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) يقول : إلا أن يخاف كل واحد منهما أن يتعدى حدود الله في معاشرة صاحبه ، المرأة تخاف من النشوز وما في ضمنه ، والرجل يخاف أن يتعدى فيها حد الله الذي أمره بالوقوف عنده ، وبالمجموع يجوز الاختلاع بما آتاها (فَإِنْ خِفْتُمْ) الضمير يعود على الحكام أو الذين يفتون في الدين من العلماء ، لئلا يحجروا عليهما ذلك ، وإن لم يكن لهم ذكر ولكن يعرف بقرينة الحال يقول : فإن خفتم (أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) بالمعاشرة (فَلا جُناحَ) أي لا إثم ولا حرج (عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) أن تعطيه وأن يأخذ منها ، فإن خافت هي ولم يخف الرجل ذلك فلا حرج عليها في البذل ، ويبقى الرجل فإن نوى بذلك الإحسان إليها في أخذه ذلك ليعصمها مما يخاف من الوقوع فيه من فساد آخرتها ، جاز له أخذه ولا جناح عليه ، وإن طلقها لا إلى عوض فهو أولى به ، وأبرأ لذمته وأرفع للحرج عنه ، وكذلك في الجانب الآخر مثله سواء ، وهذا النوع من فراق يسمى الخلع ، وهو بذل المرأة للرجل العوض على طلاقها ، فإن بذلت كل ما أعطاها عوضا كان خلعا ، وإن كان بعضه كان صلحا ، وإن كان أكثره كان فدية ، وإن كان إسقاطه عنه كان مباداة ، هذا اصطلاح الفقهاء ، وحكم الكل حكم الخلع ، وهل هذا النوع من فراق يسمى طلاقا فيعتد به في الثالثة؟ أو يكون فسخا فلا يعتد به وتجوز له المراجعة من غير أن تنكح زوجا غيره؟ وهل تلزمها العدة أم لا؟ والظاهر أن العدة تلزمها فإن العدة من حكم النكاح لا من حكم الطلاق ، وفي ذلك خلاف بين العلماء ، وإنما رجحنا كون العدة من حكم النكاح لأن غير المدخول بها إذا طلقت لا عدة عليها ، ولو كانت العدة من حكم الطلاق أوجب الله العدة عليها ، لأن الطلاق موجود والنكاح غير موجود ، وهذا النوع من الفراق بائن ولا بد ، سواء كان فسخا أو طلاقا ، من أجل ما افتدت به ، وأنه لو ملك رجعتها مع أخذ مالها ارتفعت الفائدة في حقها ، فلا بد أن

٣٤٧

عليه في نفسها ، وذلك الحد هو عين عبوديتها ، وحدّ الله هو الذي يكون له ، فإذا دخل العبد في نعت الربوبية وهو الله فقد تعدى حدود الله ، ومن يتعدّ حدود الله فأولئك هم الظالمون ، لأن حد الشيء يمنع ما هو منه أن يخرج منه وما ليس منه أن يدخل فيه.

(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٣١)

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) ومن ظلم نفسه كان لغيره أظلم ... (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ

____________________________________

يكون بائنا ، ثم قال : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها) يريد بحدود الله ما نصبها من الأحكام (فَلا تَعْتَدُوها) أي لا يحلل ما حرم الله ولا يحرم ما أحل الله ، ثم قال : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) على قدر ما تعدى منها ، فإن تعدى منها ما يرجع لنفسه كان ظالما لنفسه ، وإن تعدى منها ما يرجع إلى غيره كان ظالما لغيره ولنفسه ، ثم قال : (٢٣١) (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) يحتمل أن يريد بقوله : (فَإِنْ طَلَّقَها) يقول : فإن وقع ما ذكرناه من الفداء فقد طلقت بعد طلقتين ، فلا تحل له حتى تعقد على زوج آخر غيره ، ويحتمل أن لا يعتبر الخلع ولا يجعله طلاقا وأنه يجوز له مراجعتها إذا خالعها بعد التطليقتين ، ويعتبر صريح الطلاق ، يقول : فإن طلقها قبل أن يراجعها برضاها أو بعد مراجعته إياها برضاها ، فإنها بائن بالفداء ، فإنها تقع ثالثة إذ كانت بعد تطليقتين ولكن إذا تلفظ في الخلع بالطلاق أو ينويه طلاقا ويجعله مثل الكنايات فلا تحل له ، أي هي حرام عليه حتى تتزوج بغيره ، فهل تحل بمجرد العقد على الزوج الآخر للأول أم لا؟ فظاهر الآية جواز ذلك ، فإن العقد نكاح ، وبه قال ابن المسيب ،

٣٤٨

بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيعمل بعلمه ، فما علم أنه يكون كونه ، وما علم أنه لا يكون لم يكونه ، فكان عمله بعلمه.

____________________________________

والذي يشترط الوطأ في ذلك يفتقر إلى نص من الشرع ، وقد ورد في ذلك حديث ولكن فيه نظر من حيث أنه قضية في عين ، وتتضمن هذه الآية صحة نكاح المحلل ، فإنه أرسله مطلقا من غير تقييد ، ويخرج قول النبي عليه‌السلام : [لعن الله المحلل والمحلل له] مخرج اللغو في الأيمان ، إذ كانت اللعنة بمعنى البعد ، فكأنه قال : لعن الله ، أي أبعد الله ، المحلل والمحلل له ، لما في ذلك من عدم الغيرة وقلة المروءة ، فلا يريد به الجزم بالدعاء عليهما ، ولا الإخبار عن الله أنه أبعدهما من رحمته ، والأظهر أنه بعد من المروءة والغيرة المستحسنة في الرجال ، ولهذا جوز نكاحه من جوزه ، وهو الأوجه في المسألة ، إذ كانت لعنة المؤمن حرام ، والنبي أبعد من كل ما ينهى عنه ، فإنه اتقى لله ، وقد روينا عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه قال لامرأة مطلقة بالثلاث : يا فلانة وهل تستحلي بأحد أفضل مني ، فتبسمت ، فلو فهم من لعنة النبي عليه‌السلام ما فهم من لم يجوز ذلك لكان الحسن أبعد منه رضي الله عنه ، قال تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) وهو من أهل البيت بلا شك ، وقد أخبر الله أنه طهرهم وأذهب عنهم الرجس ، وخبره صدق ، وهذا يدل على عصمة أهل البيت في حركاتهم وحفظ الله لهم في ذلك وليس ذلك لغيرهم ، فقد رأى الحسن نكاح التحليل (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا) يقول : فإن طلقها الزوج الذي وقع بنكاحه الإحلال ، فللزوج الأول أن يراجعها ولها أن تراجعه (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) أي إن غلب على ظنهما أن كل واحد منهما يقوم بحق الله فيما أوجبه الله عليه في معاشرة صاحبه ، إذ كان سبب الخلع الخوف من ذلك قال : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يعني مواقع الكلام والبيان ، ثم قال : (٢٣٢) (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) يقول : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) فإن أراد الطلقة التي يملك فيها الرجعة إلا أنه لم يراجعها حتى انقضت عدتها على اختلاف أحوال النساء في العدة ، مثل اليائسة والحائض والتي لم تحض بعد وغيرهن ، وقد يريد في الطلاق البائن الذي لا يراجعها إلا برضاها أو المحلّلة إذا انقضت عدتها من الثاني ، كل ذلك سائغ في تأويل هذه الآية ، وفي الكلام حذف ، وهو فراجعتموهن بعد فراغ الأجل (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي بما أمر الله أن تمسك به ، وإن لم تطق على ذلك فقد جعل لك سراحها فقال : (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي لا تسرحوهن بما لم يأمر به الله فهو قوله : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) ثم قال : (وَلا تُمْسِكُوهُنَ

٣٤٩

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢) وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٢٣٣)

(لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) النفس هنا عبارة عن إكمال الحس ، لأن النفس المعنوية

____________________________________

ضِراراً لِتَعْتَدُوا) نهى الله الرجل أن يمسك المرأة ويضاررها في ذلك ليعتدي عليها ، إما مناكدة منه ورغبة في أذاها ، فقد تعدى فيها حد الله ، وإما يقصد بإضرارها لتختلع ويأخذ بذلك طائفة من مالها ، فقد تعدى حد الله في ذلك ، فإنه حرام عليه أخذه ، وإنما يحل من ذلك ما تعطيه على الخوف من جهتها أن تتعدى في زوجها حد الله ، قال : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) يعني الإمساك على الإضرار (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) بما تأخذ المرأة من حسنات الرجل لذلك ، أو يحمل نفسه من أوزارها ، وعلى الوجهين فهو ظالم نفسه ، ثم قال : (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) أي ما نصب لكم فيما أنزل عليكم من الدلالات على مؤاخذته إياكم على مثل هذا الفعل (هُزُواً) يعني لا تبالون به وتتأولونه على غير وجهه ، وأما الاستهزاء على غير وجه التأويل فهو كفر يناقض الإيمان واستخفاف بحق الله نعوذ بالله من ذلك ، ثم قال : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) فيما أحله لكم من نيل شهواتكم واستمتاعكم بطيبات رزق الله الذي رزقكم ، واذكروا أيضا (وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ

٣٥٠

لا كلفة عليها إلا إذا كانت صاحبة غرض ، فكلفت بما لا غرض لها فيه ، ولهذا لم يعذر

____________________________________

مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ) على جهة الوعظ لكم لتزدجروا وتنتهوا وتقفوا عند حدوده ، ثم قال : (وَاتَّقُوا اللهَ) في ذلك أي في كل ما ذكرناه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ) تعملونه وتضمرونه في قلوبكم من خير وشر (عَلِيمٌ) وعيد من الله وتعليم وتنبيه وتذكرة ، ثم قال : (٢٣٣) (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) يقول : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) بانقضاء العدة على كل وجه كما تقدم (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) يخاطب من يخاطب المرأة من عائلته من أوليائها ، يقول : لا تمنعوهن (أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ) أن ترجع إلى زوجها إذا تراضيا على ذلك بالمعروف ، فهو أحق بها من غيره ، وفي هذه الآية دليل على أن تنكح المرأة نفسها ، وقوله : (بِالْمَعْرُوفِ) يعني : (إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ) بما تجيزه الشريعة من ذلك ، أي على الوجه المشروع ، ثم قال : (ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الإشارة بذلك لقوله : (تَعْضُلُوهُنَّ) ولقوله : (بِالْمَعْرُوفِ) في هذه الآية ، العضل في اللسان الأمر الذي لا يطاق لشدته على النفوس ، ومنه الداء العضال وهو الذي لا يطاق علاجه ، يقال عضل الفضاء بالجيش أي ضاق عنه لكثرته فلا يسعه ، وعضلت المرأة إذا نشب الولد في رحمها لضيق المخرج ، وأعضل الأمر إذا اشتد ، يقول : وهذا الوعظ المنزل من الله لا يقبله إلا من كان منكم يؤمن بالله ، أي يصدق بالله ، إنه عليم بما يكون منكم وقادر على مؤاخذتكم على ذلك (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يقول : ويصدق بأن ثمّ يوما بعد انقضاء الدنيا ، يأخذ الله فيه من الظالم للمظلوم ، وقوله : (ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ) أي لا تعضلوهن ، وفي حق الزوجين أزكى وأطهر إن تراضيا بالمعروف (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي والله يعلم ما ينفعكم عنده فيأمركم به ، وما يضركم عنده فينهاكم عنه (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك ، ففي هذا رد على الفلاسفة حيث يزعمون أنهم عالمون بذلك من غير ورود وحي من الله ، وأن ذلك من مدارك العقول ، وعند المعتزلة أن بعض ذلك من مدارك العقول ، وبعضه لا يدرك إلا بإعلامه لاشتباهه علينا ، فنفى الحق ذلك بقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) نزلت هذه الآية في معقل ابن يسار حين عضل أخته ، وقيل في جابر بن عبد الله حين عضل بنت عمه (٢٣٤) (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) أمر خرج مخرج الخبر ، يقول : حق على الوالدة رضاع ولدها ، والذي يقول إنه لا يجب عليها ذلك لقوله تعالى : (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) وأنه إنما يجب على المولود له وهو الأب ، يقول : بإيجابه إذا لم يقبل غير ثدي أمه ، أو يكون الوالد معسرا ، فالقرآن أوجب الرضاعة على الأم وأوجب على الأب نفقة

٣٥١

الإنسان من حيث نفسه ، ويعذر من حيث حسه ، لخروج ذلك عن طاقته في المعهود.

____________________________________

الأم وكسوتها ما دامت ترضعه ، وذلك بالمعروف ، وهو أن لا تكلفه إلا على قدر ما يجده ، ولا تضاره ولا يضارها في الولد ، بأن تكلفه من أجل ولدها فوق استطاعته أو ترميه له ، ويضارها الأب بأن يأخذه منها بعد تألفه بها لتسقط عنه بذلك النفقة وما يجب لها ، وكل ضرر يتعلق بسبب الولد من كل واحد منهما بصاحبه ، وقوله : (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) يقول : سنتين ، وقوله : (كامِلَيْنِ) رفعا للتجوز الذي يدخل الكلام في ذلك ، تقول في بعض اليوم الثاني ما رأيت فلانا منذ يومين من قبل أن ينقضي اليوم الثاني ، فإذا قال : (كامِلَيْنِ) رفع هذا الالتباس ، ولذلك قال : (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) والعامل في قوله : (لِمَنْ) يرضعن فما أوجب سبحانه إتمام الرضاعة له ، ثم قال : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) يريد الأب دون الأم ، فإن الولد للأب ، ويقوي هذا قول من يقول من العلماء بهذا الشأن من الحكماء ، إن ماء المرأة لا يتكون منه ولد وإنما ذلك من ماء الرجل ، والتكوين للمولود من ماء الرجل ، وكون المولود ذكرا أو أنثى أو خنثى إنما ذلك راجع إلى سبق أحد الماءين بحيث يعلو أحدهما الآخر ، فإن علا ماء الرجل أذكر ، وإن علا ماء المرأة أنث ، وإن تساويا كان الخنثى ، وتساويهما أن يحصلا معا في الرحم من غير سبق واحد منهما ، فكان هذا المقدار مؤثرا في الذكورية والأنوثة ، وهما عرضان لا في عين التكوين ، فلهذا أضيف إلى الأب ، وإذا أضيف الولد إلى أمه فمن كونه يكون في رحمها ، وكان غذاؤه منها في مدة كونه في بطنها ، وإنما أمهات الناس أوعية ومستودعات ، وللأبناء آباء ، (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها ، لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها ، وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) وقوله : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) أحسن التأويلات فيه أن يكون المعنى بالوارث الولد إذا مات أبوه ، أنفق عليه مما يرثه من أبيه من ماله ، وقوله : (مِثْلُ ذلِكَ) أي مثل ما كان يجب على الأب من النفقة والكسوة لمن يرضعه ، وقوله : (فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) يقول : فإن أراد والداه بعد أن عرفا التحديد على أكمل الوجوه بذكر الحولين لمن أراد تتميم الرضاعة ، يقول : فإن تراضيا وتشاورا على فصاله ، أي فطامه من الرضاعة ، فلا جناح عليهما ، وسبب ذلك أن الأم أعلم بمصالح الطفل الصغير وتربيته ، فينبغي أن لا يكون الفصال إلا بعد مشورتها ومشورة الأب ورضاه لما يلزمه على ذلك ، فإذا رأيا الزيادة أصلح بالطفل زادا ، أو النقص من الحولين اتفقا على ذلك ، للحق الذي لكل واحد منها في الولد ، قال تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) على أقل ما يولد من زمن الحمل ويعيش وهو ستة أشهر حملا ، وسنتان رضاعا على التمام ، وإن أتم الحمل المعتاد في الغالب وهو تسعة أشهر ، كانت مدة الرضاعة حولين

٣٥٢

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤) وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (٢٣٥)

... (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) عبر عن النكاح بالسر في اللسان لما فيه من الأسرار المكتومة المستورة (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) العقد عبارة عما يقع عليه رضا الزوجين .... (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) الحق له الاقتدار التام ، لكن من نعوته الإمهال والحلم والتراخي بالمؤاخذة لا الإهمال ، فإذا أخذ لم يفلت ، وزمان عمر

____________________________________

إلا ربع حول وهي إحدى وعشرون شهرا ، ورفع الله الإثم عن الأبوين في الزيادة والنقص عن التحديد الذي حد الله من النقص والتمام (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) الآية ، يقول : إن امتنعت الأم عن رضاع ولدها إما إباية أو لعذر قام بها ، من انقطاع لبن أو فساده لمرض يخاف على الصبي إن شرب منه ، فأردتم أن تسترضعوا من يرضع أولادكم من النساء وهي الظئر ، فحذف أحد المفعولين (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) يقول : فلا حرج عليكم في ذلك (إِذا) شرط ، (سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ) والتسليم الإعطاء بسهولة والانقياد إلى ذلك ، ومنه (أسلمت وجهي إليك) يقول : إذا قبضتم الظئر ما آتيتم القدر الذي تعطونها من الأجرة على ذلك (بِالْمَعْرُوفِ) بالوجه المشروع من السماحة في العطاء والمبادرة إليه من غير نقص مما وقع عليه الاتفاق بينكم من غير مطل (وَاتَّقُوا اللهَ) فيما أمركم به ونهاكم عنه في كل ما تقدم ذكره (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ) من ذلك (بَصِيرٌ) أي عالم يراكم كما قال تعالى : (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ) وقال : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) ثم قال تعالى : (٢٣٥) (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ) الآية ،

٣٥٣

الحياة الدنيا زمان الصلح واستدراك الفائت والجبر بمن قام بمصالح الأمور المرضية عند الله تعالى المسماة خيرا الموافقة لما نزلت به الشرائع ، فهو حليم لا يعجل لعدم المؤاخذة مع الاقتدار ، فإمهاله العبد المستحق للأخذ إلى زمان الأخذ ، حبس عن إرسال الأخذ في زمان الاستحقاق ، فكل عبد استحق العقاب على مخالفته لما جاء الرسول إليه به فقد أمهله

____________________________________

يقول : والذين يموتون منكم ، خطابا للرجال ، ويتركون أزواجا في عصمة نكاحهم ، وهي المرأة الحرة التي عقد عليها ودخل ، ثم مات عنها وهي في نكاحه ، فأمرها الله أن تحبس نفسها عن النكاح وعن الزينة ، وهي الإحداد أربعة أشهر وعشرة أيام ، فقال تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) يقول : إذا انقضت عدتهن التي ذكرناها (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) يخاطب الحكام والمسلمين ، أي لا حرج فيما فعلن في أنفسهن من نكاح أو زينة (بِالْمَعْرُوفِ) على الحد المشروع ، وفي هذه الآية أيضا دليل على إنكاحها نفسها ، لأنه أضاف الفعل إليها ، ولم يقل فيما أمرن أن يفعلن في أنفسهن ، فيكون الخطاب للأولياء (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) من جميع أعمالكم ، تنبيه من الله أن لا يتصرفوا ولا يعملوا إلا على حد ما شرع لهم سبحانه ، وقوله : (وَعَشْراً) يريد الليالي ، فحذف الهاء وكانت الأيام تبعا ، فإن الليل في حساب العرب مقدم على النهار (٢٣٦) (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) يقول : ولا حرج عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء من غير تصريح بلفظ يدل على النكاح ، لا صريحا ولا كناية للمرأة التي في العدة ، ولكن يقول لها كلاما يفهم بقرينة الحال ـ لا من نفس ما تكلم به دون القرينة ـ أنه يريد نكاحها ، فتمسك نفسها عليه إن وقع لها في ذلك غرض ، وكذا فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذكر لأم سلمة وهي في عدتها مكانته من الله عزوجل وما شرفه الله على سائر خلقه ، فكان ذلك خطبة ، فلما انقضت عدتها تزوج بها ، وقوله : (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) يريد بذلك ما سترتم في نفوسكم من إرادتكم بذلك التعريض نكاح المرأة ، وحدثتم به أنفسكم ، لا إثم عليكم في ذلك (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ) يقول : إن الإنسان من جبلته أنه لا يخلو ولا ينفك أن يحدث نفسه في نفسه بما يشتهي ويريد فعله قبل أن يفعله ، فرفع الله عن عباده الإثم في ذلك ، ثم حذف (فاذكروهن) لدلالة الكلام عليه ، وجاء بحرف الاستدراك الدال على المحذوف ، فقال : (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) أي لا تذكروا لهن في التعريض لفظة جماع ولا نكاح ، ولا تكنوا عن ذلك وقد يحتمل أن يريد بالسر هنا ضد العلانية ، لأن التستر بالكلام في مثل هذا يدل على أنه ربما يقول ما يفحش سماعه ، ولذلك استثنى استثناء متصلا فقال : (إِلَّا أَنْ

٣٥٤

الله وما أخذه ، وهو تحت حكم سلطان الاسم الحليم ، فهو كالمهمل فلا يدري هل تسبق له العناية بالمغفرة والعفو قبل إقامة الحد الإلهي عليه بالحكم ، أو يؤخذ فيقام عليه حدود جناياته إلى أجل معلوم ، فإنه في علم الله السابق إما مغفور له وإما مؤاخذ بما جنى على نفسه ، فهو على خطر وعلى غير علم بما سبق له في الكتاب الماضي الحكم ، وكفى بالترقب للعارف العاصي الممهل الذي هو في صورة المهمل عذابا في حقه ، لأنه لا يدري ما عاقبة الأمر فيه.

(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٢٣٧)

الفضل في البذل ، والبذل في الفضل ، وفي الأصل من الفضل.

____________________________________

تَقُولُوا) سرا معها (قَوْلاً مَعْرُوفاً) يريد قولا غير منكور شرعا في هذا الموطن ، ثم قال : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) لما كان العزم على الشيء يؤذن بوقوع المعزوم عليه ، والنهي إنما ورد في وقوع عقد النكاح في العدة ، نهينا عن العزم الذي هو سبب ، فكان من باب الأحرى والأولى النهي عن وقوع المعزوم عليه ، وقوله : (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) وهو انقضاء العدة ، وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ) إذا أضمرتم فيها ما نهاكم الله عنه أن تضمروه ، وهو العزم هنا ليس في الآية غير ذلك ، قال تعالى : (فَاحْذَرُوهُ) أي خافوه واتقوه أن يؤاخذكم بذلك ، قال تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) ولست أعرف في القرآن ولا في السنة مؤاخذة على إرادة النفس إلا هذا وقوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) وهي أشد من هذا ، إذ كان العزم خصوص وصف في الإرادة ، ثم قال : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ) أي يستركم ويستر عليكم ، فلا يؤاخذكم بذلك عاجلا ، فتتخيلوا أنه يسامحكم فيما

٣٥٥

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) (٢٣٨)

جعل الله هذه الآية بين آيات نكاح وطلاق وعدة وفاة تتقدمها وتتأخر عنها وغير ذلك مما لا مناسبة في الظاهر بينهما وبين الصلاة ، وإن آية الصلاة لو زالت من هذا الموضع

____________________________________

كان منكم من ذلك ، فذلك من مكره الخفي في عباده الذي لا يشعر به ، ولا يريد هنا غفران الذنب إزالة المؤاخذة في الدنيا والآخرة ، فإنه قال في إثره تأكيدا له : (حَلِيمٌ) والحليم هو الذي يمهل ويؤخر العقوبة ولا يهمل مع وجود القدرة على ذلك ، ولا يلزم من حلمه في الوقت التجاوز عن الذنب مطلقا وإن كان ، فنبهنا سبحانه بقوله : (حَلِيمٌ) ما أراد بالمغفرة هنا ، ثم قال : (٢٣٧) (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ) الآية ، يقول لا إثم عليكم في الطلاق قبل الدخول ، وكنى بقوله : (تَمَسُّوهُنَّ) عن الجماع (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) يقول : ولم تسمّوا لهن صداقا ، فأمرنا سبحانه وأوجب علينا إذا طلقنا المرأة على هذه الحال (وَمَتِّعُوهُنَّ) أن نمتعها بشيء ندفعه لها من ذهب أو ثياب أو شيء تنتفع به على قدر جدة الرجل وعدم جدته ، فقال : (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ) أي من وسع الله عليه رزقه (وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) هو الذي ضيق عليه رزقه (مَتاعاً) أي يمتعها بذلك ، وقوله : (بِالْمَعْرُوفِ) باء السبب ، أي بسبب أنه شرع لكم ، وقوله : (حَقًّا) أي واجبا (عَلَى الْمُحْسِنِينَ) أي على ما من اعتقد أن الله يراه ويعلم سره ونجواه ، ويظهر في هذه الآية أن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة ، فإنه ما أوجبه إلا على من يعتقد أن الله يراه ، ومن لا يعتقد ذلك فليس بمؤمن ، سأل جبريل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الإحسان ، فقال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، وهذا لا يقول به أهل الجاهلية الجهلاء من العرب ، ومن يقول من أهل النظر من الفلاسفة إن الله لا يعلم الجزئيات ، وكان هذا الذي فرض الله لغير المدخول بها من المتعة لمن لم يفرض لها صداقا ، ونصف المهر لمن فرض لها صداقا وطلقها قبل الدخول بها ، إنما ذلك في مقابلة ما نالها من الضرر زمان عقده عليها ، فمنع العقد بينها وبين أن تتصرف في نفسها ومنافعها بحكم التزويج ، فكانت تنال في تلك المدة راحة من غيره ، فجعل سبحانه هذا القدر عوضا من ذلك ، فقد روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل من واحد فلسا في المتعة ، وقال : إنما أردت بذلك إحياء سنة ، إذ كان قدر المنفعة بالفلس خسيس ، ولم يكن في وسع الزوج أكثر من ذلك ، ثم قال : (٢٣٨) (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) الآية ، يقول : وإن طلقتم النساء اللاتي عقدتم عليهن من قبل أن تمسوهن ، كناية عن الجماع ، أو كناية

٣٥٦

واتصلت الآية التى بعدها بالآيات التي قبلها لظهر التناسب لكل ذي عينين ، ففي ظاهر الأمر أن هذا ليس موضعها ، وما في الظاهر وجه مناسب للجمع بينها وبين ما ذكرناه ، وقد جعل الله ذلك موضعها لعلمه بما ينبغي في الأشياء ، فإن الحكيم من يعمل ما ينبغي لما ينبغي كما ينبغي ، وإن جهلنا نحن صورة ما ينبغي في ذلك فالمناسبة ثمّ ولكن في غاية الخفاء ، فإن أمعنت النظر وجدت أن هناك مناسبة بين الصلاة والنكاح ، فإن الصلاة تقع بين طرفي إحرام وتحليل ، وكذلك النكاح يقع بين طرفي تحليل وتحريم ، فكانت المناسبة بين الصلاة والنكاح كونهما بين طرفي تحريم وتحليل ، متقدم أو متأخر ، فكانت المناسبة بين هذه الآيات

____________________________________

عن الدخول بها وإن لم يقربها ، فالشرع يحكم بالصداق ، ولا يدينوه في ذلك لو أنكر المسيس ، فهذا شيء لا يعلمه إلا الزوج والزوجة ، ولا شك أن المسيس إنما يكنى به عن الجماع ، ولذلك قال الله : (وَأَنْ تَعْفُوا) عن أخذ نصف الصداق (أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) لأنه ما نال منها ما فرض الصداق من أجله ، فكأنه مال لا عن معاوضة ، وإن عفت المرأة عن ذلك ، فإن الرجل يتعين عليه أن يمتعها ويلحقها بمن لم يفرض لها صداق ، وإن كان لا يجب ذلك عليه ، ولكنه خير مندوب إليه ، إذ كانت الهبة على الإطلاق مشروعة ، فكيف إذا اقترن بذلك شبهة حق بدخوله بها وإن لم يمسها ، وتورعت المرأة في إسقاط ذلك الحق عنه ، وليس للذي بيده عقدة النكاح بعد الدخول بها أن يعفو عن ذلك إلا حتى يتيقن من ذلك ما تيقنت المرأة ، وهو عدم المنفعة والتلذذ بها من كل وجه ، من عناق وتقبيل وما في ضمن من ذلك ، فقال : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) أي تدخلوا بهن (وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) صداقا معينا (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) يجب عليكم إعطاؤه لها ، فإنه مثل المتعة في الوجوب ، غير أن المتعة على قدر حال الزوج من الجدة ، وفي هذا الموضع لما ألزم نفسه بتعيين الصداق ، ألزمه الحق مما ألزم نفسه نصف ذلك ، لكونه حجر عليها التصرف في نفسها ، وفرض لها النصف ولكونه ما نال منها شيئا أسقط عنه النصف ، فكان المهر لمنفعته بها وحجره عليها ، فلما سقط أحد الأمرين قسم الصداق على ذلك ، ولما كان المعتبر والركن الأعظم من النكاح الجماع ولم يقع ، رجح الله العفو عن أخذ ما عينه من نصف الصداق لها على أخذه ، من عفا الشيء إذا ذهب رسمه ، فهذا معنى قوله : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) وقوله : (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) يؤيد ما ذهبنا إليه أن يهبها الزوج شيئا إذا هي عفت عن أخذ النصف الذي أعطاها الله ، فيكافئها الزوج على ذلك بشيء سماه الله (الْفَضْلَ) فقال : ولا تتركوا (الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) أي كما تفضلت عليك بترك نصف الصداق الذي كان لها

٣٥٧

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) وليس سوى هذه الخمس الموقتة المعينة المكتوبة (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) ـ راجع إيجاز البيان ـ (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) القيام تعظيم لله ولقيوميته التي لا تنبغي إلا له امتثالا لأمره (قانِتِينَ) خاضعين طائعين ، فالقنوت لا يكون إلا لله ، أي من أجله لا من أجل أجر أو أمر آخر ، فإنه أعظم من الأجر ، لذلك لم يسم أجرا على

____________________________________

أخذه فأحسن أنت إليها مكافأة على ذلك (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي يرى لكم ذلك ، ويتوجه في قوله : (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) يريد الزوج إذا أعطاها الصداق كله عند عقد النكاح عليها ثم طلقها ، فله أن يطالبها بنصف المهر ، فقال له الله : (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) عن مطالبتها بالنصف ، وقوله : (أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) من أنها استحقت ذلك بالعقد ، ووقع الطلاق من الزوج لا من جهتها ، فخفف الله عن الزوج ونبهه الله سبحانه على أن الإفضال ترك ما أباح له أخذه ، إذ كان له في ترك ذلك الأجر عند الله ، ويكون قوله : (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) ما كان من فضل الزوجة حيث رضيت به وأجابته إلى مراده إذ كان هو الطالب والخاطب لها ، فأسعفته في ذلك وقضت حاجته ، وأن الرجل بطلاقه إياها كسر قلبها وخجلها عند أهلها ، فرجح له ترك النصف الذي أباح له أخذه على أخذه ، فضلا منه عليها في مقابلة فضلها عليه في إجابتها ، فقال له : لا تنس ذلك الفضل واجعل الجزاء عليه ترك ما أبيح لك أخذه ، ثم قال تعالى : (٢٣٩) (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) المحافظة على الصلوة أن يؤتى بها في أوقاتها قال تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) وأن يؤتى بها أيضا على أكمل هيئاتها ، من إتمام الركوع والسجود والقيام والجلوس وما شرع الشارع من هيئاتها ، كما ورد في الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [صلوا كما رأيتموني أصلي] وتعليمه الصلاة للرجل الذي دخل عليه في المسجد فصلى ، فقال له عليه‌السلام : [ارجع فصل فإنك لم تصل] وفيه قال الرجل : [ما أحسن غير هذا] وفيه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما علمه الصلوة قال له : [كبر ثم اقرأ ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تستوي قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم اجلس ، فإذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك] ومن المحافظة على الفرائض ، منها أن يؤتى بها في المساجد في الجماعة ، ومن المحافظة عليها الاستكثار منها ، فإن النبي عليه‌السلام يقول أيضا في الصحيح : [أول ما ينظر فيه يوم القيامة من عمل العبد الصلوة ، فإن كانت تامة كتبت له تامة ، وإن كان انتقص منها شيئا قال : انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فإن كان له تطوع قال : أكملوا لعبدي فريضته من تطوعه] وقال تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) ومن المحافظة على الصلوة النافلة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى الركعتين اللتين كان يصليهما بعد الظهر بعد العصر وبيّن أنهما تلك الركعتان إذ كان الوفد شغله

٣٥٨

القنوت ، فالقيام لله ، نعت الحليم الأواه ، لولا قيامه ما رمي في النار ، ولا انخرقت العادة في الأبصار ، هي نار في أعين الأنام ، وهي على الخليل برد وسلام ، فهو عندهم في عذاب مقيم ، وهو في نفسه في جنة ونعيم ، لما هبت عليه الأنفاس ، كان كأنه في ديماس.

____________________________________

عنهما ، فأمرنا الله تعالى بالمحافظة على الصلوات وما خص فرضا من نفل ورغبنا فيها فقد يكون قوله : (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) الفريضة من هذه الصلوات ، فإن صلوة الفرض بلا خلاف أفضل من صلاة النافلة ، فأكد بذكرها المحافظة عليها ، لأن السؤال عنها يقع يوم القيامة ، وأمر بالمحافظة على النوافل في التكثير منها وحسن إقامتها ، لما كان يكمل الفرائض منها بما فيها من الفرائض والسنن ، وهذا غير بعيد في التأويل ، وقد يمكن أن يريد بالصلوة الوسطى صلاة واحدة مخصوصة من الفرائض كما قد ذكر الناس ، وما من صلوة من الخمس إلا وقد روي أنها الوسطى ، ولم يرد في ذلك نص يرفع الإشكال فيها ، وكذلك اختلفوا في الوسطى ، هل هو من الوسط الذي هو الشيء بين الشيئين أو هو من الفضل؟ فإن كان من الوسط ، فأحسن الوجوه فيها أنها المغرب ، فإن أول صلاة صلاها الظهر ، فيكون المغرب وسطا بلا شك ، وليس في الصلوات وتر إلا المغرب ، وقد ورد في الخبر الصحيح أن الله وتر يحب الوتر ، فهي وسط في الترتيب ، وهي أفضل من طريق الوترية ، وقد يتوجه على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أن تكون صلاة الوتر ، إذ كانت عنده واجبة ، فهي دون الفرض وفوق النفل ، فهي وسط بينهما ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : [إن الله قد زادكم صلاة إلى صلاتكم] وهي الوتر ، فأضافها إلى ما فرضه علينا من الصلاة ، وقال : [أوتروا يا أهل القرآن] وما نص على حفظ صلاة مما سوى الخمس ولا حافظ هو على ما نقل أكثر من الوصية وحفظه على صلوة الوتر ، وجعلها وتر صلاة الليل كما جعل المغرب وتر صلاة النهار ، وقد يتوجه في ذلك أن تكون صلاة الجمعة لما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الوعيد بالحرق بالنار في الدنيا على من تخلف عنها ، ومما يؤيد ما ذهبنا إليه من أنه تعالى يريد بالصلوة الوسطى صلاة الفرض ، قوله يوم الخندق : [شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر] وما شغلوه إلا عن صلاة العصر ، فذكر الصلاة المفروضة ، واتفق أن كانت صلوة العصر ، فتحقق النص في الفرض ، ولم يتحقق في تعيين العصر ، ولكنه محتمل ، وفي مصحف عائشة «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر» فهذا أيضا يقوي ما ذهبنا إليه ، فجعل المحافظة على الصلوات مطلقا نفلها وفرضها ، ثم قال : (وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) [فأكد المحافظة على صلاة الفرض خصوصا ، ثم قال : «وصلاة العصر»] (*) فأكد المحافظة على العصر

__________________

(*) هذه العبارة ساقطة في الأصل

٣٥٩

(فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٢٤٢)

فإن العاقل يستبرئ لنفسه ، فإن كان عالما حكم بما علم ، وإن لم يكن عالما بتلك الواقعة ما حكمها حكم عليه عقله أن يسأل من يدري الحكم الإلهي المشروع في تلك النازلة ، فإذا عرفه حكم فيها ، فهذا فائدة العقل ، فإن كثيرا ممن ينتمي إلى الدين والعلم الرسمي تحكم

____________________________________

من الفرائض ، إذ كان وقتها أخفى الأوقات كلها ، لأنه قال : [والشمس مرتفعة بيضاء نقية] قبل أن تدخلها الصفرة ، فما فوقها في البيان كوقت الصبح بطلوع الفجر ، وصلاة الظهر بزوال الشمس ، والمغرب بغروب الشمس ، والعتمة بمغيب الشفق ، فجميع الأوقات في غاية البيان ، فلهذا أكد بذكر صلاة العصر في مصحف عائشة ، وهو المحافظة على معرفة وقتها ، ثم قال تعالى : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) يعني فيها ، معناه ساكنين ، فإنهم كانوا يتكلمون في الصلاة حتى نزلت هذه الآية ، قال الراوي : فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام في الصلاة ، وإن كان القنوت الطاعة لله ، فقوله : (وَقُومُوا لِلَّهِ) بها على حد ما أمركم الله به وما علمكم ، أي من أجل الله ، ثم قال : (٢٤٠) (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) وهذا من المحافظة على الصلوات أن تقام على جميع الأحوال وعلى قدر الاستطاعة ، ولا سبيل إلى تركها ، ولو صلاها إيماء بعينيه ، فقال تعالى : فإن كنتم في حال خوف من عدو لا تستطيعون أن تؤدوها وأنتم قائمون على الأرض فلتصلّوها وأنتم تمشون إن كنتم رجالا ، أي على أرجلكم ، أو ركبانا ، يقول : على رواحلكم إذا لم تستطيعوا النزول على الأرض ، ثم قال : (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) يقول : فإذا ارتفع الخوف وكان الأمن فصلوا كما علمكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أعمال الصلاة من القيام على الأرض والركوع والسجود ، وليس في هذه الآية ما يدل على النقص من أعداد ركعات الصلوة

٣٦٠