رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

لولا الإله ولولا ما حباه به

من القوى لم يقم بالعقل تسريح

إن العقول قيود إن وثقت بها

خسرت فافهم فقولي فيه تلويح

ميزان شرعك لا تبرح تزين به

فإن رتبته عدل وتصحيح

إن التنافس في علم يقوم به

صدر بنور شهود الحق مشروح

هذا التنافس لا أبغي به بدلا

له من الذكر قدوس وسبوح

لمثل ذا يعمل العمال ليس لهم

في غير ذلك تحسين وتقبيح

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) (١٦٥)

(وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) أي أصدق حبا لله من حب المشركين لمن جعلوهم شركاء ، وسبب ذلك أنه إذا كشف الغطاء وتبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ، وقال الذين اتبعوا : (لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا) فزال حبهم إياهم في ذلك الموطن وبقي المؤمنون على حبهم لله ، فكانوا أشد حبا لله بما زادوا على أولئك في وقت رجوعهم عن حبهم آلهتهم حين لم تغن عنهم من الله شيئا. (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) فلا قوة لمخلوق ، فإن موطنه الضعف والعبودية (وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ).

____________________________________

المتقدمين ، وتبرز به على أقرانه ، ولولا أن هذا الكتاب يضيق عنه لسقناه كما ذكره ، فمن أراد أن يقف عليه فلينظره في كتاب [أبكار الأفكار] له في علم الكلام (١٦٦) (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً) يقول : ومن الناس من يتخذ من دون الله ، فكفى بهم جهلا أنهم اتخذوه ، والإله ما يكون بالاتخاذ ولا بجعل جاعل ، وإنما الإله الحق (أَنْداداً) أي شركاء ، وقد تقدم تفسير الند في أول السورة ، ثم قال (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) يقول : كحبهم لله ، ثم شهد للمؤمنين تزكية لهم فقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) فإنه لا شك أن من أفردك بالصفة الشريفة أعظم ممن جعل معك فيها شريكا ، فانقسمت محبة المشركين بين آلهتهم مع الحق ، فضعفت أن تبلغ في القوة مبلغ حب المؤمنين بأحدية الله (وَلَوْ تَرى) يا محمد (الَّذِينَ ظَلَمُوا) يعني

٢٤١

(إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) (١٦٦)

اعلم أنه ما من معبود إلا ويتبرأ من الذي يعبده هنا ، من حيث لا يسمع العابد إلا بخرق العوائد ، وفي الدار الآخرة على الكشف ، ففي موقف القيامة يقر كل أحد بالشهادة ولا ينكر ولا يدعي لنفسه ربوبية ، والتبرؤ يوم القيامة يقع من الطائفة التي ادعيت فيها الألوهية ولم تدعها لنفسها ، (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) وهم الذين اتخذوهم آلهة من دون الله ، ما لم يتوبوا قبل الموت ممن يقبل صفة التوبة وليس إلا الجن وهذا النوع الإنساني ، فإذا عذب الله غدا المشركين الذين ذكرهم الله أنه لا يغفر لهم ، فإنما يعذبهم من حيث أنهم ظلموا أنفسهم ووقعوا في خلق بكلام ودعوى ساءتهم ، وتوجهت منهم عليهم حقوق في أعراضهم يطلبونهم بها ـ الوجه الثاني ـ الذين قالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) يوم القيامة تهلكهم عاداتهم ولا تنفعهم عباداتهم ، ولا تغني عنهم من الله آلهتهم شيئا ، وتبرأ منهم عند اضطرارهم أئمتهم ، فلم تنفع البراءة تلك الأئمة ، وضوعف لهم العذاب خلف حجاب الظلمة ، فكانوا وأتباعهم عن سعاداتهم بمعزل ، وأنزلوا النار دار البوار.

____________________________________

المشركين أو الظالمين مطلقا ، والأول أوجه (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ) ينزل بهم يوم القيامة فإنهم يعلمون في ذلك الوقت (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) يعني القوة أجمعها التي كان المشركون قد فرقوها على الآلهة والأنداد الذين اتخذوها «و» يعلمون (أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) كما قال تعالى : (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) وقال : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) (١٦٧) (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) العامل في (إِذْ) أيضا (وَلَوْ تَرى) إذ تبرأ شركاؤهم وإن كانوا حجارة ، فإن الدار الآخرة هي الحيوان ينطق فيها كل شيء ، قال تعالى : (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) فعمّ ، وتبرأ منهم رؤساؤهم الذين أضلوهم ، وجعلوهم يشركون بالله من الذين اتبعوهم وهو قوله : (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) حتى تنظروا وتبحثوا على وجه الحق ، بل كنتم مجرمين ، أي مستحقين العذاب ، وقد يكون العامل في (إِذْ) (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ) إذ تبرأ ، أي في هذا الوقت ، (وَرَأَوُا الْعَذابَ) هذه الواو واو الحال يأتيهم (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) التي كانوا يظنون في الدنيا أنها توصلهم إلى سعادتهم ، وتشفع لهم عند الله كما كانوا يزعمون في قولهم (مَا

٢٤٢

(وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (١٦٧)

فقد تبرؤا في موطن ما فيه تكليف بالبراءة أنها نافعة صاحبها. (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) ما ورد من الشارع أن العالم الذي هو في جهنم الذين هم أهلها ولا يخرجون منها أن بقاءهم فيها لوجود العذاب ، فإنه يجوز أن يرتفع عن أهل النار وجود العذاب مع كونهم في النار ، فإن الله تعالى يقول (رحمتي سبقت غضبي) وليس بأيدينا من طريق العقل دليل على وجود العذاب دائما ولا غيره ، فليس إلا النصوص المتواترة وليس للعقل رده إذا ورد من الصادق النص الصريح.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (١٦٨)

هذا أمر بالورع في المطاعم وغيرها من المكاسب ، وأن يكون الناس على بينة من ربهم في مطاعمهم ومشاربهم ، فإن الورع في الكسب يؤدي إلى الأكل مما يعلم أن ذلك حلال

____________________________________

نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) وقولهم (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) (١٦٨) (وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) يعني رجوعا إلى الدنيا (فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا) تبرأنا منكم ومن عبادتكم والانقياد إليكم مثل ما تبرأتم اليوم منا في وقت حاجتنا وضرورتنا (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا) وأعمى الله أبصارهم ، فمن كتبه الله شقيا لا يسعد ، ومن كتبه سعيدا لا يشقى ، ولا يبعد (كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) يقال : حسرت عن الشيء إذا كشفت عنه ، كذلك أعمالهم حسرت عن العذاب إذ كانت أعمالهم في الدنيا سترا عليه (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) كما قال في أهل السعادة لما ذكر كونهم في الجنة قال : (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) فإن الله ما ذكر آية رحمة في القرآن إلا وإلى جانبها آية عذاب ، وإن أفردها فستجد أختها أيضا مفردة في موضع آخر من القرآن ، ومن تتبع القرآن وجده على ما قلناه ، وهذا نص في استمرار كونهم في النار إلى غير نهاية ، فالمشرك ليس بخارج من النار (١٦٩) (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ) مما يؤكل (حَلالاً)

٢٤٣

لهم استعماله ، فالحلال عزيز المنال على جهد الورع قليل جدا ، ولا يحتمل الإسراف والتبذير ، بل إذا تورعت عما لزمه أهل الورع فبالحري أن يسلم لك قوتك على التقصير ، والنفس تورط صاحبها في الشبهات وهي تريد الحرام ، فإن الراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، وإياك والإسراف في النفقة وإن كانت حلالا صافيا ، فإنه مذموم وصاحبه مبذر ملوم ولذلك قال :

(إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (١٧٠)

وضرب الله تعالى مثلا لمن سمع كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكن لجهله بما سمع أنه حق في نفس الأمر وعدم تصديقه كان عنده كمثل الصوت من الإنسان عند البهائم التي لا تعقل معناه ، فقال تعالى :

____________________________________

مصدر من حل يحل حلالا ، أي أطلقت لكم الأكل مما في الأرض مما أحللته لكم ، وقوله (طَيِّباً) أي ليس في أكله تنغيص عليكم ، بل لذة ونعيم في الدنيا والآخرة ، قال تعالى : (وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) ولو كان مناقشة حساب لم تكن خالصة ، ولا وقعت للمؤمن بها لذة ، واعلم أن ذلك في مجرد الأكل الحلال ، والحساب إنما يقع والسؤال في كسبه والوصول إليه ، لا في أكله إذا كان حلالا ، فإنه يغمض هذا المعنى على أكثر الناس (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) يعني في كسب هذا المأكول وتحصيله ، فتأخذوه مما حرمت عليكم أخذه ، فنهانا أن نقتدي بالشيطان ونمشي على أثره ، فإن الله قد أعلمنا أنه لا يمشي في طاعة ، وأنه مخالف أوامر الله ، وأنه لنا عدو مبين ظاهر العداوة ، فقال : (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ، وقد بينا في أول السورة ما معنى عدو ، والخطوة بفتح الخاء الفعلة الواحدة ، وبضم الخاء ما بين قدمي الماشي ، في هذه الآية دليل على أن الكافرين مخاطبون بفروع الشريعة وأنهم داخلون في هذا العموم ، فخاطبهم بأن يأكلوا مما أحل لهم ولا يتبعون خطوات الشيطان ، ثم قال (١٧٠) (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أنزل الناس منزلة

٢٤٤

(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (١٧١)

فأصمهم الله وأعمى أبصارهم وختم على ألسنتهم ، فما تلفظوا بما دعاهم إليه أن يتلفظوا به ، فإنه لا فرق بين الصمم الذي لا يسمع كلام المخاطب ، وبين من يسمع ولا يفهم

____________________________________

الحاضرين وخاطبهم ، وفي الحقيقة إنهم مشاهدون له وحاضرون عنده ، فإنه قد أخبر بأخذ الميثاق عليهم ، وقد ورد في الصحيح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى أسودة عن يمين آدم وعن يساره ، وذكر أنها نسم بنيه ، فصح أن يقول لهم مخاطبا (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ) يعني الشيطان (بِالسُّوءِ) أي بما يسوءكم عاقبته في الدار الآخرة (وَالْفَحْشاءِ) أي بما يفحش ذكره ويقبح ، وهو العمل بمعاصي الله (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) من تشريعكم لأنفسكم ما لم يأذن به الله ، فتقولون هذا حلال وهذا حرام ، وتقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ، وتقولون على الله الكذب افتراء ، فجعل هذا كله من أمر الشيطان لهم في نفوسهم ، وهو لمته ووسوسته (١٧١) (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) الآية ، الضمير يعود على المقلدة لا على علماء الكفار (اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) بدلا من اتباعكم ما أمركم به الشيطان في قلوبكم (قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا) أي ما وجدنا (عَلَيْهِ آباءَنا) من الدين ، ولذا قلنا إن الضمير يعود على المقلدة ، وإن عاد على الجميع فيكون هذا القول من مقلديهم خاصة ، وفي هذا تحريض على النظر في الأدلة وذم التقليد في الأصول والفروع ، فإنه عمّ بقوله : (ما أَنْزَلَ اللهُ) فدخل تحته جميع الأحكام ، وهو الأوجه ، فإن الأصول تثبت بالأدلة العقلية ، ولا يحتاج فيها إلى إنزال وحي من الله ، بخلاف الفروع فإنها لا تعلم إلا بإنزال وحي من الله ، وهو قوله : (اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) فعمّ ، وحمله على ذم التقليد في الفروع أوجه وأولى ، فلا يبقى من التقليد إلا نقل الدليل من المفتي إلى السائل عن الله ، أو عن رسوله ، أو الإجماع في المسألة التي يسأل فيها ، فلو قال له المفتي هذا الحكم رأيي حرم عليه اتباعه والأخذ به ، فليس في الشرع من التقليد محمود غير هذا ، لأنه لا بد منه ، ثم قال : (أَوَلَوْ كانَ) فأتى بهمزة الرد والتعجب من فعلهم ذلك وتقليدهم إياهم ، والواو للحال ، أي تتبعون آباءكم ولا تعرفون هل كانوا على الصواب فيما دانوا أنفسهم به لله إن كان عن نظر في أدلة أو كانوا على خطأ في ذلك ، والآيات بين أيديكم والمعجزات ، فلم لا تنظرون فيها ، فقال : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) فهو توبيخ وتعجب من قلة استعمالهم لعقولهم فيما تكون فيه سعادتهم ، ثم شبههم وشبّه الرسول في دعائه إياهم ، فذكرهم دون الداعي لدلالة المعنى عليه ، فقال : (١٧٢) (وَمَثَلُ الَّذِينَ

٢٤٥

أو لا يجيب إذا اقتضى الإجابة فلا يعقل إلا من سمع (فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) عن الله ، فإن من عقل المطلوب منه فيما أسمعه أن يرجع ، فهم لا يرجعون إلى الله ، وو الله إن عيونهم لفي وجوههم ، وإن سمعهم لفي آذانهم ، وإن ألسنتهم لفي أفواههم فهم لا يعقلون ، والعقل من العقال ، أي لا يتقيدون بما أريد له المسموع ولا المبصر ولا المتكلم به ، فهم لا يعقلون أن ذلك المصوت به حق فيما يدعوه إليه ، فمن أعجب الأشياء وصف السامع بالصمم والبصير بالعمى والمتكلم بالبكم ، فما عقل ولا رجع وإن فهم.

____________________________________

كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) يحتمل هذا المثل وجهين : الوجه الواحد أنه ضربه مثلا للرسول الذي يدعوهم إلى الحق ولهم ، والوجه الآخر أنه ضربه مثلا للكافرين ولمن اتخذوه إلها من دون الله ، وهل الضمير في كفروا يعود على الناس الكافرين كلهم من أهل الملل ، أو يعود على كفار اليهود خاصة ، فنقول : إن كان المثل للرسول ولهم فيكون معناه : ومثل الذين كفروا ومثل دعاء الرسول لهم كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ، فعند غير أهل طريقنا خرج عباد الأصنام والأوثان من هذا المثل ، وعندنا لم يخرج منهم أحد عن هذا المثل ، فإن الأصنام عندنا تسمع وتشهد على متبعيها ، كما ورد في أنه يشهد للمؤذن مدى صوته من رطب ويابس ، وتسبيح الحصى في كف النبي عليه‌السلام ، فخرق العادة عندنا لم يكن في تسبيح الحصى ، وإنما كان في إدراكنا ما لم نكن قبل ندركه ، قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) فجرى المثل على كل من عبد غير الله ممن هو بهذه الصفة ، وليس التشبيه هنا براعي الغنم والإبل ، فإنها تفهم عن الراعي إذا نعق بها ما يريد بذلك ، من مشي وورود ماء ونهي عن أكل ، وإنما الأوجه نداء الشخص بالوحوش الشاردة ، فإذا سمعت نداء تخيلت أنه الصائد فندت وشردت عن ندائه ، كذلك الرسول يريد أن يوقعهم في حبالة الإيمان ويقيدهم عن مسارحهم التي كانوا فيها ، فيشردون عند دعائه خوفا من ذلك ، ويكون التشبيه مطابقا ، والوجه الآخر أن شبههم في دعائهم آلهتهم إذا لجأوا إليها في أوقات ضروراتهم ، فلا يجيبونهم ، كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ، وهم كما قلنا الوحوش الشاردة ، فإذا سمعت آلهتهم أصواتهم بنسبة الألوهية لهم فرقوا من ذلك ، وتبرؤا إلى الله من مقالتهم ، وهم لا يشعرون ، فإنهم لا يحسون بذلك منهم ، وقد ختم الله عليهم ، فلا يجيبونهم إلا بأمر الله ، وقوله : (إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) كلام صحيح ، فإن السمع إنما متعلقه الصوت ، والفهم من قوة أخرى وهو العقل ، فذكر إدراك النداء والدعاء ، وما ذكر إدراك المعنى المقصود من ذلك الدعاء ، وقوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) تقدم الكلام في تفسيره ، وقوله : (فَهُمْ

٢٤٦

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٧٣)

ما به حياتك ذلك رزقك ولا بد ، ولا يصح فيه تحجير ، سواء كان في ملك الغير أو لم يكن ، فإن المضطر لا حجر عليه ، وما عدا المضطر فما تناول الرزق لبقاء الحياة عليه وإنما تناوله للنعيم به ، وليس الرزق إلا ما تبقى به حياته عليه ، قال تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) بعد التحجير وقال (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) وذلك هو الرزق.

____________________________________

لا يَعْقِلُونَ) وقال فيمن تقدم : (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) فأولئك عرفوا الحق وما رجعوا ، وهؤلاء سمعوا وما فهموا ، لأنه جاءهم بما يخالف ما كان عليه آباؤهم ، فلم يعلموا ذلك ولا استعملوا عقولهم في النظر فيه (١٧٣) قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) الآية ، خطاب للمؤمنين بالأكل (مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) فإن كانت من للتبيين فهم منه أن مسمى الرزق يكون حراما وحلالا ، فأمرنا أن نأكل من حلاله ، ونعمل في الحرام ما أمرنا بالعمل فيه في مواضع كثيرة ، فما أمرنا قط في مثل هذا ولا نهينا إلا عن الأكل ، ومن جعل من للتبعيض حمل الرزق على الحلال ، ولكن التبعيض يضعف فإنه معلوم ضرورة ، فإنه لا يخلو الطيب من الرزق الذي يملكه إما أن يكون أكثر من حاجته في الوقت ، والتبعيض لا بد منه ، وإما أن يكون مقدار الحاجة أو دون الحاجة ، فيبطل معنى التبعيض ، فالتبيين أولى منه ، ثم قال : (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) تقدم القول عليه في قوله : (وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) ثم قال : (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) فامتثلوا أمره فيما أمركم به من أكل الطيب الذي هو الحلال المستلذ ومن الشكر عليه ، قوله : (١٧٤) (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لما كان من قولهم على الله ما لا يعلمون تحريم أمور لم يحرمها الله واتخذوها شرعا ما أنزل الله به من سلطان ، عرّفنا الله سبحانه في هذه الآية بما حرّمه على كافة عباده ، إذ كانت رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم عامة لجميع الناس ، فقال تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ) فالألف واللام للتعريف ، أي الذي يسميها العرب ميتة في عرفها ، والحيوان قسمان : بري وبحري ، واتفق العلماء على تحريم ميتة البر ، واختلفوا في ميتة البحر على ثلاثة مذاهب ، فطائفة

٢٤٧

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٧٤)

(وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أي بكتمانه ، لما حصلوه من المال والرياسة بذلك (أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) يفيد أنه من سئل عن علم تعين عليه الجواب عنه وهو يعلمه ، فإن كتمه وهو مما أنزله الله ألجمه الله بلجام من نار.

____________________________________

قالوا : هي حلال مطلقا ، وهو مذهب مالك وغيره ، وذهب آخرون إلى تحريمها مطلقا ، وفرق آخرون فقالوا : ما جزر عنه البحر فهو حلال وما طفا من السمك فهو حرام ، ولكل فريق حجة موضعها كتب الأحكام ، واختلفوا في ميتة الجراد لأنهم اختلفوا فيه ، هل هو بري أو بحري؟ فمن قال إنه بري وغلب عليه حكم البر ألحقه بميتة البر ، ومن غلب عليه حكم البحر لحديث الترمذي أنه نثرة حوت ألحقه بميتة البحر ، وأما الدم فمن جعل الألف واللام للجنس عمّ ، ومن جعله للتعريف حمله على الدم المسفوح في قوله تعالى : (أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) فقيده ، فاتفق العلماء على تحريم الدم المسفوح من الحيوان المذكى ، واختلفوا في غير المسفوح منه ، والسفح الذي يشترط إنما هو الدم السائل من التذكية في الحيوان الحلال الأكل ، إذ الدم السائل من الحي فهو حرام بلا خلاف ، قليله وكثيره ، وكذلك ما سال من دم الحيوان المحرم الأكل ، وإن ذكي فقليله وكثيره حرام بغير خلاف ، وأما اختلافهم في دم الحوت فمن حرمه فبعموم اللفظ ، ومن أحله فليس له دليل ، إلا أنه رأى أن الدم تابع في الحرمة والحل لميتة الحيوان ، فمن كان ميتته حراما فدمه حرام ، ومن كان ميتته حلالا فدمه حلال ، وأما لحم الخنزير فاتفقوا على تحريم لحمه وشحمه وجلده ما لم يدبغ جلده ، وأما الشحم وإن فارق اللحم بالاسم ، فإن اللحم يوصف به ، فيقال لحم شحيم ، أي سمين ، فكأن جنسا من اللحم يسمى شحما ، وقوله : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) الإهلال رفع الصوت ، والمراد هنا ما ذبح لغير الله ، أي سمي عليه غير الله على جهة القربة والعبادة لمن ذبح له ، وهو قوله : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) ويتفرع هنا مسائل ليس هذا موضعها ، وقوله : (فَمَنِ

٢٤٨

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) (١٧٥)

يدل ذلك على أنهم عرفوا الحق وجحدوا مع اليقين ، وأي آية كانت للعرب معجزة مثل القرآن ، فتعجب الله من صبرهم على النار.

____________________________________

اضْطُرَّ) فيه وجهان : المكره ومن مسته مجاعة يتوقع منهما تلف الروح (غَيْرَ باغٍ) أي طالب من غير إكراه ولا مجاعة (وَلا عادٍ) أي ولا يتعدى عند الأخذ قدر الحاجة لذي المجاعة ، وقدر ما يكره عليه من ذلك للمكره ، يقول : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي لا حرج عليه في ذلك من ذلك ، وقوله : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) والمغفرة تستدعي ذنبا أو شبهة ذنب ، والذنب الحاصل هنا إنما هو شبهة الذنب ، فتتعلق بذلك المغفرة من الله ، وهو يرجع إلى الآكل في جهله قدر الحاجة ، لأنه عسير جدا ، فقد يزيد من حيث ما يرى أنه محتاج على الحاجة التي تكون بها حياته ، وقد ترجع المغفرة للعلماء المجتهدين الذين ذكرناهم في إطلاق التحريم وإطلاق التحليل ، والقول بالتفرقة في ذلك ، ولا بد أن يكون في أحد هذه الأقوال إصابة وخطأ كما نص عليه الشارع ، فالخطأ متحقق في بعض هذه الأقوال من غير تعيين ، فأخبر الله تعالى أنه غفور لذلك ، وقد يمكن أن يكون راجعا لمن لم يوف حق الاجتهاد المطلوب منه ، لما غاب عنه في ذلك من معرفة ماهية الاجتهاد ، وقوله : (رَحِيمٌ) بما رخصه من ذلك (١٧٥) (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) الآية ، دخل في هذا التعريف أهل الكتاب وغيرهم ، وقد بيّنا ما كتم أهل التوراة والإنجيل ، ويدخل في هذا التعريف الحاكم يحكم بخلاف علمه المشروع له الحكم به لرغبة في اقتناء مال أو جاه سلطان ، وهو الثمن القليل ، فإنه منقطع ويبقى الوبال عليه ، فقد يعتقد الحاكم أن الحكم الصحيح عنده الذي يدين الله به هو أمر ما عنده ، فإذا عرف من السلطان أنه يسره الحكم بخلاف ذلك لغرض له فيه ، فيقضي الحاكم بما يوافق هواه مما لا يعتقده حقا ، ولا ينجيه من هذه الخطية أن يكون ذلك الحكم الذي رجع إليه مذهب بعض الأئمة ، فإن ذلك القول عنده خطأ لا يدين الله به ، ولولا السلطان ورغبته في أخذ المنزلة عنده بذلك ما حكم به ، فنسأل الله العافية والعصمة من ذلك ، وهو أحد القاضيين اللذين في النار ، وقوله : (أُولئِكَ) إشارة إلى الذين يكتمون (ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) هذا موجود في كلام العرب معروف ، يقال أكل فلان سرجه وثوبه ، أي باعه وأكل بثمنه ما يؤكل ، فكنّى عما يحصل له من الجاه والمتاع بالأكل (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) لما كان تكليم الله عباده

٢٤٩

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (١٧٧)

(وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) سمي المال مالا لأنه يميل بصاحبه ولا بد ، إما إلى خير وإما إلى شر لا يتركه في حال الاعتدال ... (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) عهدا مشروعا ، فهم قوم تولاهم الله بالوفاء ، لا يغدرون إذا عاهدوا ، والوفاء من شيم خاصة الله ، فمن أتى في

____________________________________

شرفا لذلك نفاه عنهم ، وقوله : (اخْسَؤُا فِيها) على هذا يكون كلام الملك عن الله قال تعالى : (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) ، وقوله : (وَلا يُزَكِّيهِمْ) أي لا يطهرهم ولا ينمي خيرهم (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) موجع ، وقوله : (١٧٦) (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) فأما في حق الكفار فقد بيناه في أول السورة ، وأما ما يختص بالحاكم من هذا ، فهو أن الحق الذي كتمه ولم يحكم به هو الذي اشترى بكتمانه إياه الثمن القليل ، أو الضلالة التي حكم بها ، ولو أراد الشراء بالذي حكم به لم يقل بالهدى ، لأنه ليس عنده هدى ، وإنما هو ضلالة ، وما ذكر أنه اشترى بالضلالة (وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ) لما كان الهدى مكتوما في هذه القضية جعل المغفرة التي هي الستر ، [للهدى] وجعل العذاب للضلالة ، وقوله : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) تعجبا يدل على أنهم عارفون بالحق ، وأنهم مؤاخذون من عند الله ، فقام لهم هذا العلم مقام من هو في النار ، وقوله : (١٧٧) (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) يقول : وما عملوا ، ومن ذلك أنه تعبده بما يغلب على ظنه أنه الحق فلم يحكم به ، (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ) ليسوا المؤمنين ولا علماء أهل الكتاب فإنهم عالمون به ، وإنما هذا في الطائفة التي قالت في الكتاب إنه شعر وسحر وغير

٢٥٠

أموره التي كلفه الله أن يأتي بها على التمام وكثر ذلك في حالاته كلها فهو وفّي وقد وفّى ، قال تعالى : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) يقال وفى الشيء وفيا على فعول بضم فاء الفعل إذا تم وكثر (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) من كان حاله التقوى والاتقاء كيف يفرح ويلتذ ، من يتقي ، فإن تقواه وحذره وخوفه أن لا يوفي مقام التكليف حقه ، وعلمه بأنه مسؤول عنه لا يتركه يفرح ولا يسر ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أنا أتقاكم لله وأنا أعلمكم بما أتقي]. إشارة ـ (أُولِي الْقُرْبى) أقرب أهل الشخص إليه نفسه فهي أولى بما يتصدق به من غيرها ، ولكل متصدّق عليه صدقة تليق به من المخلوقين ، ثم جوارحه ، ثم الأقرب إليه بعد ذلك ، وهو الأهل ثم الولد ثم الخادم ثم الرحم ثم الجار ، كما يتصدق على تلميذه وطالب الفائدة منه ، وإذا تحقق العارف بربه حتى كان كله نورا ، وكان الحق سمعه وبصره وجميع قواه ، كان حقا كله ، فمن كان من أهل الله فهم أهل هذا العارف الذي ذكرناه ، فإنه حق كله ، فإذا تصدق على أهل الله فهو المتصدق على أهله ، إذا كان المتصدق بهذه المثابة ، ومن تصدق على نفسه بما فيه حياتها كانت له صدقة وصلة بالله ، الذي الرحمن من نعوته ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الرحم شجنة من الرحمن من وصلها وصله الله ـ والمال في الاعتبار العلم وزكاة العلم تعليمه.

____________________________________

ذلك ، وقوله : (لَفِي شِقاقٍ) يوم القيامة في عذاب يشق عليهم حمله (بَعِيدٍ) زواله عنهم ، وقد يكون عبارة عن منازعتهم فيه ومشاققتهم بعضهم مع بعض ، ويكون قوله : (بَعِيدٍ) يعني عن إصابتهم الحق في ذلك (١٧٨) (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) الآية ، يخاطب اليهود والنصارى لما كثرت قالتهم في تحويل القبلة ، وكل طائفة منهم تحب أن تستقبل قبلتها ، فأنزل تعالى (لَيْسَ الْبِرَّ) ما أنتم عليه من تولية وجوهكم في صلاتكم (قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ) أي الإحسان المقرب إلى الله (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) أي بر من آمن بالله ، والوجه عندي في ذلك لما كانت الآية تقتضي المدح والثناء بقيام هذه الأوصاف التي عددها ذكر من قامت به تهمما به ، إذ كانت الصفة إذا تحقق بها الموصوف هي والموصوف كالشيء الواحد ، فأقام من الذي هو الموصوف مقام الإيمان الذي هو الصفة ، وهو مبالغة في الثناء ، فالمعنى : ولكن البر الإيمان بالله أي وجود الله وتوحيده ، وفي هذا رد على المعطل والمشرك (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) خلافا لمنكري البعث الجسماني (وَالْمَلائِكَةِ) خلافا لمن يجعلها قوى (وَالْكِتابِ) يريد الكتب المنزلة من عند الله ، والألف واللام للجنس ، خلافا لمنكريها أنها من عند الله من أهل النظر (وَالنَّبِيِّينَ) خلافا للبراهمة

٢٥١

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٧٨)

... (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) من ولي الدم (وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) من القاتل إلى ولي الدم ... (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) أي إن قتله بعد ذلك غدرا وقد رضي بالدية وبما عفا عنه منها (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) فهذه وصية لولي الدم أن يعفو ويخلي بين القاتل والمقتول يوم القيامة ، وأخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن حكم القاتل قودا حكم القاتل اعتداء ، وهو قوله : (جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) ، فقال في صاحب التسعة : [أما إن قتله كان مثله] فتركه ولم يقتله.

____________________________________

ومنكري الرسل (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) يقول : وأعطى المال حبا لله ، وقد يعود الضمير على المال ، أي يعطيه على حبه فيه ، أي على أنه يحبه ، قال تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) فكان ابن عمر يشتري السكر ويتصدق به ، ويقول : إني أحبه ، ويتلو هذه الآية ، وهو الأوجه في التأويل ، ويعني بهذا الإعطاء صدقة التطوع والتضييف والهدية والهبة ، وقوله : (ذَوِي الْقُرْبى) يريد صلة الرحم (وَالْيَتامى) من لا مال له منهم (وَالْمَساكِينَ) الذين يسكنون إلى الناس ليعطوهم وإن لم يسألوا بلسانهم (وَابْنَ السَّبِيلِ) ضيافة المسافر (وَالسَّائِلِينَ) الملتمسين العطاء من المحتاجين وغيرهم (وَفِي الرِّقابِ) معونة المكاتبين في كتابتهم (وَأَقامَ الصَّلاةَ) بحدودها ولوازمها (وَآتَى الزَّكاةَ) المفروضة (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) مع الله ومع غير الله على الوجه المشروع الذي أباح لهم الشرع أن يعاهدوا عليه ، ومنه الوفاء بالنذر (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ) في حال الشدائد (وَالضَّرَّاءِ) فيما يتضررون به مما فيه قربة إلى الله (وَحِينَ الْبَأْسِ) المجاهدين في سبيل الله (أُولئِكَ) إشارة إلى القائمين بهذه العبادات (الَّذِينَ صَدَقُوا) أي أخذوها بقوة وصلابة في الدين ، لأن الصدق الصلابة في الدين ، يقال رمح صدق أي صلب ، يقول صدقوا مع الله في ذلك (وَأُولئِكَ هُمُ) الذين سميناهم بأنهم (الْمُتَّقُونَ) من عبادي الذين كتبت لهم رحمتي ، وقد تقدم المتقي من هو ، وأن ما ذكره في هذه الآية صفة المتقي (١٧٩) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) يقول : فرض

٢٥٢

(وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٧٩)

(وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) لما في ذلك من مصالح الحياة الدنيا (يا أُولِي الْأَلْبابِ) وهم الناظرون في اللب مع قوله : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) فعلموا أن القصاص إنما شرع لأن الجاهل لا يردعه مثل العفو ، فيؤديه احتمال الكامل مع جهله إلى إهلاك أولي الألباب ، فإذا علم أن النفس بالنفس ولا بد ارتدع ، فقتل الجاهل كقطع عضو لسعته الحية من الجسد إبقاء على باقي الجسد ، فهو ينقصه إلا أن فيه مصلحته. (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وهذا إثبات للأسباب الإلهية المقررة في العالم فعلل ، ولام العلة في القرآن كثير.

____________________________________

عليكم القصاص في القتلى إن قتل حر حرا قتل به ، وإن قتل عبد عبدا قتل به ، وإن قتلت أنثى أنثى قتلت بها ، لا يقتل حر بعبد لم يقتله ، ولا رجل بامرأة لم يقتلها ، وما تعرض في الآية إلى حكم الحر بالعبد ، ولا الذكر بالأنثى ، حتى يدّعى في هذه الآية النسخ ، فإذا ورد حكم آخر في الكتاب أو السنة عمل به وكان زيادة حكم ، وإنما تكون هذه الآية منسوخة لو لم يقتل حر بحر ولا عبد بعبد ولا أنثى بأنثى ، وما قال في الآية ولا يجوز غير هذا ، ولو قال ذلك لكان النسخ يرد على قوله حكما ، ولا يجوز غير هذا لثبوت الحكم فيما ذكره ، ولا خلاف في أن هذا الحكم في قتل العمد ، وأما شبه العمد أو الخطأ فله حكم آخر إذا ورد يرد الكلام عليه ، والشرط الذي يجب به القصاص في المقتول هو أن يكون دم المقتول مكافئا لدم القاتل ، والذي به تختلف النفوس هو الإسلام والكفر ، والحرية والعبودية ، والذكورية والأنوثية ، والواحد والكثير ، ولا خلاف بين العلماء أن المقتول إذا كان مكافئا للقاتل في هذه الأربعة أنه يجب القصاص ، فثبت بهذا الاتفاق أن هذه الآية ليس بمنسوخة ، وأن النبي عليه‌السلام إنما كان حكمه بين الحيين في السبب الموجب لنزول هذه الآية أن لا يقتل بالمقتول غير قاتله كما ذكرناه ، ثم قال : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) فيه وجوه ، منها إذا عفا ولي المقتول عن القود وقبل الدية فيطلبها من القاتل بمعروف ، أي برفق على وجه مشروع ، ولا يشطط في الدية بأن يطلب الغاية القصوى في سمنها وحسنها ، وليطلب بحكم التوسط في ذلك ، وليؤدي القاتل إليه ذلك بإحسان ، أي بحيث يطيب قلبه ، ووجه آخر وهو (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ) أي من بقيت له من دية أخيه بقية فليطلبها كما ذكرناه ، سواء كثرت أو قلت ، وقد يكون للدم أولياء فيعفو بعضهم فيسقط القود وتتعين

٢٥٣

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (١٨٠)

الأقربون هم الذين لا حظ لهم في الميراث ، والوصية في الثلث مما له التصرف فيه من ماله ، فلا يتجاوز ثلث ماله.

____________________________________

الدية ، فيطلبونها بالمعروف ، أي بالعدل كما ذكرناه (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) من الذي كان مكتوبا في ذلك على أهل الكتابين ، فكتب على اليهود القتل وليس لهم أن يعفوا ولا أن يأخذوا الدية ، وعلى أهل الإنجيل العفو ليس لهم قتل ولا أخذ دية ، فوسع الله علينا وعليهم فخفف بأن خيرنا في إحدى ثلاث قودا وعفوا ودية ، فالرحمة بأولياء المقتول إن أخذوا الدية انتفعوا بها ، وإن قتلوا شفوا صدورهم ، وكان ذلك كفارة للقاتل ورحمة في حق القاتل ، إن قتل فكفارة ، وإن عفي عنه أو أخذوا الدية فقد أبقيت عليه حياته ليتوب ويرجع (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي من اعتدى على القاتل فقتله بعد أخذ الدية أو العفو ، أو اعتدى في القود إذا تولى قتله أن يمثل به ، يقول بعد فرض الحكم الذي شرعه الله على حد ما شرعه في القصاص أن يقتل بمثل ما قتل به ، وهو قول جماعة ، أو يقتل بالسيف وهو قول جماعة أخرى ، ولكل فريق حجة ليس هذا موضعها (١٨٠) (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) يقول : لا يقتل بالمقتول سوى قاتله ، لأن العرب كانت تقتل الجماعة بالواحد ، وقد يريد بالقصاص أخذ الدية فتبقى حياة القاتل عليه ، وقد يكون القصاص ردعا وزجرا فيقل القتل خوفا من القصاص ، وقد يكون جميع هذه الوجوه مقصودة بالقصاص ، وفي هذه الآية شرف للعقول وأنه ما خاطب بالحكم إلا العقلاء ، وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) تقدّم تفسيره في أول السورة (١٨١) (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) يقول : فرض عليكم إذا حضر أحدكم الموت ، يعني إذا جاء أجله ، إن ترك خيرا أي مالا فله أن يوصي لوالديه بماله الذي يملكه ، والذي يملكه من حضره الموت من ماله ، إنما هو الثلث لا غير ، فللإنسان أن يهب ماله كله الذي ملكه الشرع صحيحا أو مريضا ، لأن التمليك للشارع ، وتلك الوصية حقا لله عليه في ماله إن اتقى الله ، وذهب بعضهم إلى أنه يعصي من لا يفعل ذلك ، والأقربون هنا من لا يرث كالخالة والخال ، وقد جاء النص في بر الخالة والوصية عليها ، وقد جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [لا وصية لوارث] فأما الأقربون فيسوغ فيهم ما ذهبوا إليه ، وأما الوالدان

٢٥٤

(فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٨٢)

الجنف حيف في الكم والكيف.

____________________________________

فيتعينون وقد قال : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) فما المانع أن يجمع الله لهم بين الوصية والميراث ، إذ كان حقهم أعظم الحقوق وأوجبها ، والقرآن نص مقطوع به ، وقد اتفقوا على أنه لا تجوز الوصية لوارث ، فإذا وقعت فأجمعوا على أنه لا تجوز إذا لم تجزها الورثة ، واختلفوا إذا أجازتها الورثة ، فقال الأكثرون تجوز ، وقال أهل الظاهر لا تجوز وإن أجازتها الورثة ، وحكي ذلك عن المزني ، والذي يقتضيه النظر أنّ تنفيذها من كونها وصية لا تجوز ، وقد رفع الشارع حكمها أن تكون وصية ، إذا فليست بوصية شرعا ، وإذا لم تكن وصية وقد تعين القدر الذي ذكره الميت ، فيقسم على القرابة بأسرهم ما لم يعين قرابة مخصوصين ، فإن عيّن فالأولى بالورثة إذا سمحوا بإعطاء هذا المال صدقة منهم عن الميت أن يوصلوه لمن عيّنه على حكم ما عيّنه ، وهي عندنا عبادة غير معللة ، وقوله : (بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) يؤيد أنها غير منسوخة وأنها غير مخالفة لآية المواريث ، فيكون المعنى : كتب عليكم ما أوصى به الله من توريث الوالدين والأقربين في قوله تعالى : (يوصيكم في أولادكم) الآيات كلها ، فاعملوا فيها بالمعروف وأعطوا كل ذي حق حقه كما أوصى الله (بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا) واجبا على القاسم لها أن يتقي الله فيها ، على أنه قد روي عن بعض أهل العلم أنه يجمع للوالدين بين الوصية والميراث ، ومن قال بالتأويل الأول حمل المعروف أن لا يتجاوز الموصي الثلث ، ويعمل بالعدل في ذلك (١٨٢) (فَمَنْ بَدَّلَهُ) أي غيّر ما وقعت به الوصية (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) من الموصي (فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) فإن إثم التبديل على من بدله (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) ما أوصى به الميت (عَلِيمٌ) به ، وفيه وعيد للمبدّل (١٨٣) (فَمَنْ خافَ) أي توقع (مِنْ مُوصٍ جَنَفاً) ميلا عن الحق وهو لا يدري (أَوْ إِثْماً) متعمدا لذلك ، فتنازع الموصى لهم في ذلك (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) وإن أخطأ في القسمة أو في رد ذلك إلى الوجه المشروع في اجتهاده (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) في حق المصلح ، والميت الذي ما تعمد الخطأ (رَحِيمٌ)

٢٥٥

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٨٣)

الصوم هو الإمساك والرفعة يقال صام النهار إذا ارتفع ، ولما ارتفع الصوم عن سائر العبادات كلها في الدرجة سمي صوما ، ورفعه سبحانه بنفي المثلية عنه في العبادات وسلبه عن عباده مع تعبدهم به وأضافه إليه سبحانه ، أخرجه النسائي عن أبي أمامة قال : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : مرني بأمر آخذه عنك ، قال : عليك بالصوم فإنه لا مثل له ، وورد في الخبر أن الله تعالى يقول : الصوم لي وأنا أجزي به ، وخرج مسلم في الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [كل عمل ابن آدم له إلا الصيام ، فإنه لي وأنا أجزي به ، والصيام جنة ، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يسخب ، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم إني صائم ، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك ، وللصائم فرحتان يفرحهما ، إذا أفطر فرح بفطره ، وإذا لقي ربه عزوجل فرح بصومه] واعلم أن الصوم المشروع منه واجب ومنه مندوب إليه ، والواجب على ثلاثة أنواع : منه ما يجب بإيجاب الله تعالى ابتداء وهو صوم شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ، أي في صيامه أو عدة من أيام أخر ، في حق المسافر أفطر أو لم يفطر عندنا ، وفي حق المريض ، ومنه ما يجب لسبب موجب ، وهو صيام الكفارات ، ومنه ما يجب من الله بما أوجبه الإنسان على نفسه وهو غير مكروه ، وهو صوم النذر ، فإنه يستخرج به من البخيل ، وما ثم واجب غير ما ذكرنا ، والصوم عمل مستور عن كل ما سوى الله ، لا يعلمه من الإنسان إلا الله تعالى ، لأنه ترك وليس بعمل وجودي فيظهر للبصر أو يعمل بالجوارح ، فهو عمل مستور عن كل ما سوى الله ، لا يعلمه من الصائم إلا الله تعالى ، والصائم هو الذي سماه الشرع صائما لا الجائع ـ إشارة واعتبار ـ لو علم الإنسان من أي مقام ناداه الحق تعالى بالصيام في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وأنه المخاطب

____________________________________

بالكل (١٨٤) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) الآية ، يقول : فرض عليكم الصيام ، وهو الإمساك عن كل ما أمر الشرع أن يمسك عنه الصائم ، من طلوع الفجر المستطير إلى غروب

٢٥٦

في نفسه وحده بهذه الجمعية ، فإنه قال : [يصبح على كل سلامى منكم صدقة] فجعل التكليف عاما في الإنسان الواحد ، وإذا كان هذا في عروقه فأين أنت من جوارحه ، من سمعه وبصره ولسانه ويده وبطنه ورجله وفرجه وقلبه ، الذين هم رؤساء ظاهره ، واعلم أن الله ناداك من كونك مؤمنا من مقام الحكمة الجامعة ، لتقف بتفاصيل ما يخاطبك به على العلم بما أراده منك في هذه العبادة ، فقال : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) أي الإمساك عن كل ما حرم عليكم فعله أو تركه (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يعني الصوم من حيث ما هو صوم ، فإن كان أيضا يعني به صوم رمضان بعينه كما ذهب إليه بعضهم ، غير أن الذين قبلنا من أهل الكتاب زادوا فيه إلى أن بلغوا خمسين يوما وهو مما غيروه ، وقوله : (كَما كُتِبَ) أي فرض (عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وهم الذين هم لكم سلف في هذا الحكم وأنتم لهم خلف (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي تتخذوا الصوم وقاية ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبرنا أن الصوم جنة ، والجنة الوقاية ، ولا يتخذونه وقاية إلا إذا جعلوه عبادة ، فيكون الصوم للحق من وجه ما فيه من التنزيه ، ويكون من وجه ما هو عبادة في حق العبد جنة ووقاية من دعوى فيما هو لله لا له ، فإن الصوم لا مثل له ، فهو لمن لا مثل له ، فالصوم لله ليس لك ، قال تعالى : في الخبر المروي [الصوم لي] ثم قال : [سورة البقرة (٢) : آية ١٨٤]

(أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١٨٤)

(أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) العامل في الأيام كتب الأول بلا شك ، فإنه ما عندنا علم بما كتب

____________________________________

الشمس ، بنية القربة إلى الله تعالى عبادة (كَما كُتِبَ) أي مثل ما فرض (عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) من الأمم الخالية (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) الله فيما أمرتم به من الإمساك عنه من أكل وشرب ونكاح وغيبة زمان الإمساك ، ثم قال : (١٨٥) (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) فقللها لأن بنية أفعال لجمع القلة ، وكذلك أفعل وأفعلة وفعلة ، ونصبه بكتب الأول على المفعولية ، وكذلك أيام شهر رمضان

٢٥٧

على من قبلنا ، هل كتب عليهم يوم واحد وهو عاشوراء ، أو كتب عليهم أيام ، والذي كتب علينا إنما هو شهر ، والشهر إما تسعة وعشرون يوما وإما ثلاثون يوما ، بحسب ما نرى الهلال ، والأيام من ثلاثة إلى عشرة لا غير ، فطابق لفظ القرآن ما أعلمنا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عدد أيام الشهر ، فقال : [الشهر هكذا وأشار بيده عشرة أيام ، ثم قال : هكذا يعني عشرة أيام ، وهكذا ، وعقد إبهامه في الثالثة ، يعني تسعة أيام ، وفي المرة الأخرى لم يعقد الإبهام ، فأراد أيضا عشرة أيام] وذلك لما قال تعالى : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) عدد الشارع أيام الشهر بالعشرات حتى يصح ذكر الأيام موافقا لكلام الله ، فإنه لو قال ثلاثون يوما لكان كما قال في الإيلاء لعائشة ، قد يكون الشهر تسعة وعشرين يوما ، ولم يقل هكذا وهكذا كما قال في عدد شهر رمضان ، فعلمنا أنه أراد موافقة الحق تعالى فيما ذكر في كتابه ، ثم قال : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) فأتى بذكر الأيام أيضا وأشار إلى المخاطبين بقوله : (مِنْكُمْ) وهم الذين آمنوا ، والذي أذهب إليه أن المريض والمسافر إن صاما شهر رمضان فإن ذلك لا يجزيهما ، وأن الواجب عليهما عدة من أيام أخر ، غير أني أفرق بين المريض والمسافر إذا أوقعا الصوم في هذه الحالة في شهر رمضان ، فأما المريض فيكون الصوم له نفلا ، وهو عمل بر وليس بواجب عليه ، ولو أوجبه على نفسه فإنه لا يجب عليه ، وأما المسافر لا يكون صومه في السفر في شهر رمضان ولا في غيره من عمل بر ، وإذا لم يكن من عمل بر كان كمن لم يعمل شيئا ، وهو أدنى درجاته ، أو يكون على ضد البر ونقيضه وهو الفجور ، ولا أقول بذلك ، إلا أني أنفي عنه أن يكون في عمل بر في ذلك الفعل في تلك الحال ، وعلى المسافر أن يفطر في كل ما ينطلق عليه اسم السفر ، وكذلك المريض عليه أن يفطر في أقل ما ينطلق عليه اسم مرض ، والواجب عدة من أيام أخر في غير رمضان ، فهو واجب موسع الوقت من ثاني يوم شوال إلى آخر عمره ، وإذا كنا مسافرين فأفطرنا فنقضي أيام رمضان أو نؤديه في أيام غير معينة ، فإن الله تعالى نكّر

____________________________________

بالنسبة إلى أيام السنة قليلة ، ثم قال : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) يأتي تفسيره في الآية التي تلي هذه ، والذي يتعلق من ذلك بهذه الآية ، أنه من رجح الصوم على الإطعام لما كان مخيرا بينهما مع الطاقة ، كان حكمه إذا مرض أو سافر عدة من أيام أخر ، إذ قد انقضى زمان شهر رمضان بنية الصوم لو لا المرض أو السفر ، فلا يجوز له

٢٥٨

الأيام في قوله (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) فالذي يجب على المكلف في سفره عدة من أيام أخر ، له الاختيار في تعيينها ، وإذا قضيت أيام رمضان من مرض أو سفر فاقضه متتابعا كما أفطرته متتابعا ، تخرج بذلك من الخلاف (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) الآية عندي مخصصة غير منسوخة في حق الحامل والمرضع والشيخ والعجوز ، فالحامل والمرضع يطعمان ولا قضاء عليهما ، والشيخ والعجوز إذا لم يقدرا على الصوم يفطران ولا يطعمان ، فإن الإطعام شرع مع الطاقة على الصوم ، وأما من لا يطيقه فقد سقط عنه التكليف في ذلك ، وليس في الشرع إطعام من هذه صفته من عدم القدرة عليه ، فإن الله ما كلف نفسا إلا وسعها وما كلفها الإطعام ، فلو كلفها مع عدم القدرة لم نعدل عنه وقلنا به ، والإطعام مد عن كل يوم (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) فقد قال فيه إن الصوم لا مثل له ، فهو عبادة لا مثل لها في الخيرية (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) قد تكون إن هنا بمعنى ما يقول. ما كنتم تعلمون أن الصوم خير من الإطعام لولا ما أعلمتكم ، ويكون معناها أيضا (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الأفضل فيما خيرتكم فيه ، فقد أعلمتكم مرتبة الصوم ومرتبة الإطعام ـ تحقيق ـ اعلم أن الحق إذا خير العبد فقد حيره ، فإن حقيقته العبودية فلا يتصرف إلا بحكم الاضطرار والجبر ، والتخيير نعت السيد ما هو نعت العبد ، وقد أقام السيد عبده في التخيير اختبارا وابتلاء ، ليرى هل يقف مع عبوديته أو يختار فيجري في الأشياء مجرى سيده ، وهو في المعنى مجبور في اختياره مع كون ذلك عن أمر سيده ، فكان لا يزول عن عبوديته ولا يتشبه بربه فيما أوجب الله عليه التخيير ، ولما نبه تعالى عباده على أن الصوم خير لهم إذا اختاروه أبان لهم بذلك عن طريق الأفضلية ، ليرجحوا الصوم على الفطر ، فكان هذا من رفقه سبحانه بهم

____________________________________

في القضاء الإطعام كما جاز في زمان رمضان ، لأن الصوم قد ترتب في الذمة بالترجيح في زمان التخيير ، وانقضى الزمان على ذلك ، ثم قال : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) أي يصومونه طاقتهم (فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) لكل يوم إطعام مسكين ، واختلف الناس في قدر ذلك ، والأولى أن يكون الإطعام نصف صاع من طعام ، إذ قد نص الشارع عليه في بعض الكفارات ، فالرجوع إلى الرسول عليه الصلاة والسلام عند الخلاف أولى (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) أي زاد على الواجب من جنسه فأطعم أكثر من مسكين أو أكثر من نصف صاع (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) أي أعظم لأجره (وَأَنْ تَصُومُوا) بدلا من الإطعام (خَيْرٌ لَكُمْ) عند الله وأعظم أجرا (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن عملتم بما

٢٥٩

حيث أزال عنهم الحيرة في التخيير بهذا القدر من الترجيح ، ومع هذا فالابتلاء له مصاحب ، لأنه تعالى لم يوجب عليه فعل ما رجحه له ، بل أبقى له الاختيار على بابه ، أما في الكفارة فإن الترتيب أولى من التخيير ، فإن الحكمة تقتضي الترتيب ، والله حكيم والحكمة في بعض الأشياء أولى من الترتيب لما اقتضته الحكمة ، والعبد في الترتيب عبد اضطرار كعبودة الفرائض ، والعبد في التخيير عبد اختيار كعبودة النوافل ، وفيها رائحة من عبودية الاضطرار ، وبين عبادة النوافل وعبادة الفرائض في التقريب الإلهي بون بعيد في علو الرتبة ، فإن الله جعل القرب في الفرائض أعظم من القرب في النوافل ، وأن ذلك أحب إليه.

(شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٨٥)

(شَهْرُ رَمَضانَ) سمي الشهر شهرا من الشهرة لاشتهاره وتمييزه واعتناء المسلمين به وأصحاب تسيير الكواكب ، يقول : شهر هذا الاسم الإلهي ، فإن رمضان من الأسماء الإلهية ، فشارك شهر رمضان الحق في الاسم ، فتعينت له حرمة على ما هي لسائر شهور

____________________________________

أعلمتكم ، وهذه الآية مخصصة بالمرضع والشيخ والعجوز وإن كانوا قادرين على الصوم لكن ببذل المجهود من طاقتهم ، وخرج من هذه الآية غير هؤلاء بالآية الأخرى ، فارتفع الحكم بالتخيير إلى الحكم بوجوب الصوم في حق قوم موصوفين بصفة مخصوصة ، ولم يرتفع فيمن ذكرناهم ، إذ أحكام الشرع تتبع الأسماء والأحوال ، فلكل اسم وحال حكم ليس للآخر ، وهو أسدّ الوجوه المذكورة في هذا الفصل (١٨٦) (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) الآية ، نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقال رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى وقولوا شهر رمضان ، فيكون معناه شهر الله ، وإن كان رمضان اسما لهذا الشهر ، فأراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رفع اللبس ، فإذا أمنّا الالتباس فلنا أن نقول رمضان ، قال عليه‌السلام : [من قام رمضان إيمانا واحتسابا] وقال : [من صام

٢٦٠