رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) (٢٩)

إن الذي قتل نفسه ، عظم جرمه لحق الجوار الأقرب ، وحال بذلك بينها وبين ملكها ، وما سوى نفسه فبعيد عن هذا القرب الخاص الذي لنفسه ، فمن قتل نفسه فما قتلها إلا لجهله بما لنفسه عليه من الحق ، والله يقول : إنا لا نصلح منك شيئا أفسدته من نفسك ، فالحقوق وإن عظمت فحق الله أحق ، ويليه حق نفسك ، وما خرج عن هذين الحقين فهيّن الخطب ، ومن قتل نفسه فإنه يصلّى عليه ، لأنه لما أذن الله عزوجل في الشفاعة بالصلاة على الميت ، علمنا أنه عزوجل قد ارتضى ذلك ، وأن السؤال فيه مقبول ، وأخبر أن الذي يقتل نفسه في النار خالدا مخلّدا فيها أبدا ، وأن الجنة عليه حرام ، وما ورد النهي عن الصلاة على من قتل نفسه ، فيحمل ذلك على من قتل نفسه ولم يصلّ عليه ، فيجب على المؤمنين الصلاة على من قتل نفسه لهذا الاحتمال فيقبل الله شفاعة المصلي عليه فيه ، ولا سيما والأخبار والصحاح والأصول تقضي بخروجه من النار ، ويخرج الخبر الوارد بتأبيد الخلود مخرج الزجر ، والحكمة المشار إليها في هذه المسئلة في قوله تعالى : [بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة] ففيه إشارة حقيقية ، فالإشارة يسارعون ، وسابقوا ، ومن تقرّب إليّ شبرا تقربت منه ذراعا ، والموت سبب لقاء الله ، فاستعجل اللقاء فبادر إليه قبل وصوله الحد ، وهو السبب الذي لا تعمل له في لقائه ، فإن كان عن شوق للقاء الحق فإنه يلقاه برفع الحجب ابتداء ، فإنه قال : [حرمت عليه الجنة] والجنة ستر ، أي منعت عنه أن يستر عني ، فإنه بادرني بنفسه ، ولم يقل ذلك على التفصيل ، فحمله على وجه الخير للمؤمن لما يعضده من الأصول أولى ، وأما قوله عليه‌السلام فيمن قتل نفسه بحديدة وبسم وبالتردي من الجبل ، فلم يقل في الحديث من المؤمنين ولا من غيرهم ، فتطرق الاحتمال ، وإذا دخل الاحتمال رجعنا إلى الأصول ، فرأينا أن الإيمان قوي السلطان ، لا يتمكن معه الخلود على التأبيد إلى غير نهاية في النار ، فنعلم قطعا أن الشارع أخبر بذلك عن المشركين في تعيين ما يعذبون به أبدا ؛ فقال : [من قتل نفسه بحديدة منهم فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا

٥٠١

مخلدا فيها أبدا] أي هذا الصنف من العذاب هو حكمه في النار ، وكذلك من شرب سما فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ، أي هذا النوع من العذاب يعذّب به هذا الكافر ، وقد ورد من قتل نفسه بشيء عذب به ، وأما المؤمن فحاشى الإيمان بتوحيد الله أن يقاومه شيء ، فتعين أن ذلك النص في المشرك وإن لم يخص الشارع في هذا الخبر صنفا بعينه ، فإن الأدلة الشرعية تؤخذ من جهات متعددة ، ويضم بعضها إلى بعض ليقوي بعضها بعضا ، وأهل الجنة إنما يرون ربهم رؤية نعيم بعد دخولهم الجنة ، كما ورد الخبر في الزيارة إذا أخذ الناس أماكنهم في الجنة ، فيدعون إلى الرؤية ، فيمكن أن الله قد خصّ هذا الذي بادره بنفسه فقتل نفسه أن يكون قوله حرمت عليه الجنة قبل لقائي ، فيتقدم للقاتل نفسه لقاء الله رؤية نعيم ، وحينئذ يدخل الجنة ، فإن القاتل نفسه يرى أن الله أرحم به مما هو فيه من الحال الموجبة له إلى هذه المبادرة ، فلولا ما توهم الراحة عند الله من العذاب الذي هو فيه لما بادر إليه ، والله يقول : [أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي خيرا] والقاتل نفسه إن كان مؤمنا فظنه بربه حسن ، فظنه بربه الحسن هو الذي جعله أن يقتل نفسه ، وهذا هو الأليق أن يحمل عليه لفظ الخبر الإلهي ، إذ لا نصّ بالتصريح على خلاف هذا التأويل ، وإن ظهر فيه بعد ، فلبعد الناظر في نظره من الأصول المقررة التي تناقض هذا التأويل بالشقاء المؤبد ، فإذا استحضرها ووزن ، عرف ما قلناه. وفي الأخبار الصحاح [أخرجوا من كان في قلبه أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان] فلم يبق إلا ما ذكرناه. فإن قلنا ولا بدّ بالعقوبة ، فتكون الجنة محرمة عليه أن يدخلها دون عقاب ، مثل أهل الكبائر ، فيكون نصا في القاتل نفسه ، وغيره من أهل الكبائر في حكم المشيئة ، فغايته إنفاذ الوعيد في القاتل نفسه قبل دخول الجنة وأنه لا يغفر له ، والله أكرم أن ينسب إليه إنفاذ الوعيد ، بل ينسب إليه المشيئة وترجيح الكرم.

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١) وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا

٥٠٢

اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) (٣٣)

فتحفّظ فإن الله هو الحفيظ على سمعك وبصرك ولسانك ويدك ورجلك وحياتك ، وحاسب نفسك.

(الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) (٣٤)

فالرجال قوامون على النساء فيما يحتجن إليه ، فالذي يجعل الله الرزق على يديه قائم على من يرزق بسببه.

(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً) (٣٥)

(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما) أي نزاعا ، وهو أن يقول كل واحد أو يعمل ما يشق على الآخر (فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها) الحكم هو القاضي في الأمور ، ومن أعجب ما في هذا نصب الحكمين في النازلة الواحدة ، فقد يتفقان في الحكم وقد يختلفان.

(وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى

٥٠٣

وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) (٣٦)

(وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ) الجار مشتق من جار إذا مال ، فإن الجور ميل ، فما سمي جارا لك إلا لميلك إليه بالإحسان ، وميله إليك لدفع الضرر ، ومن جعله مشتقا من الجور الذي هو الميل إلى الباطل والظلم في العرف ، فهو كمن يسمي اللديغ سليما في النقيض.

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩) إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) (٤٠)

العبد متنوع الأحوال ، والإنسان لا يحضر مع الله في كل حال ، لما جبل عليه من الغفلة والضيق ، وهو بكله لله ، فما كان منه لله لله ، فإن الله لا يظلم مثقال ذرة.

(فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً (٤٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما

٥٠٤

تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) (٤٣)

لمس النساء لا ينقض الوضوء ، والاحتياط أن يتوضأ للخلاف الذي في هذه المسئلة اللامس والملموس ، وقد تصدعنا في هذه المسئلة مع علماء الرسوم (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) شرع الله طهارة مائية وترابية ، فإن النشء الإنساني لم يكن إلا من تراب كآدم ، وماء كبني آدم ، فقال خلقكم من تراب ، ومن ماء ، ومن طين وهو خلط الماء بالتراب ، فجعل الطهارة بما منه خلقنا ، فطهارتنا منا من ماء وهو الوضوء ، وتراب وهو التيمم. فنحن نور على نور بحمد الله ، والتيمم القصد إلى الأرض الطيبة ، كان ذلك الأرض ما كان مما يسمى أرضا ، ترابا كان أو رملا أو حجرا أو زرنيخا ، فإن فارق الأرض شيء من هذا كله وأمثاله ، لم يجز التيمم بما فارق الأرض من ذلك إلا التراب خاصة ، لورود النص فيه ، وفي الأرض سواء فارق الأرض أو لم يفارق ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا] وفي خبر آخر [جعلت تربتها لنا طهورا] فعمّ في الأول ، وخرج التراب بالنص فيه في الثاني عن سائر ما يكون أرضا ، ويزول عنه الاسم بالمفارقة ، فجعل تربة هذه الأرض طهورا ، فكان لها حكم الماء في الطهارة إذا عدم الماء ، أو عدم الاقتدار على استعماله لسبب مانع من ذلك ، فأقام لنا تراب هذه الأرض والأرض طهورا ، فإذا فارق الأرض ما فارق منها ما عدا التراب فلا يتطهر به إلا التراب ، فإنه ما كان منها يسمى أرضا ما دام فيها ، من معدن ورخام وزرنيخ وغير ذلك ، فما دام في الأرض كان أرضا ، حقيقة ، لأن الأرض تعم هذا كله ، فإذا فارق الأرض انفرد باسم خاص له ، وزال عنه اسم الأرض فزال حكم الطهارة منه ، إلا التراب خاصة فسواء فارق الأرض أو لم يفارقها فإنه طهور ، لأنه منه خلق المتطهر به وهو الإنسان ، فيطهر بذاته تشريفا له ، فأبقى الله النص عليه بالحكم به في الطهارة دون غيره ممن له اسم غير اسم الأرض ، فإذا فارق التراب الأرض زال عنه اسم الأرض وبقي عليه اسم التراب ، كما زال عن الزرنيخ اسم الأرض لما فارق الأرض وبقي

٥٠٥

عليه اسم الزرنيخ ، فلم تجز الطهارة به بعد المفارقة ، لأن الله ما خلق الإنسان من زرنيخ وإنما خلقه من تراب ، فقال تعالى : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) أي اقصدوا التراب الذي ما فيه ما يمنع من استعماله في هذه العبادة من نجاسة ولم يقل ذلك في طهارة الماء ، فإنه أحال على الماء المطلق لا المضاف ، فإن الماء المضاف مقيّد بما أضيف إليه عند العرب. فإذا قلت للعربي أعطني ماء ، جاء إليك بالماء الذي هو غير مضاف ، ما يفهم العربي منه غير ذلك ، وما أرسل رسول ولا أنزل كتاب إلا بلسان قومه ، فلهذا لم يقل بالقصد في الماء ، فقال : اغسلوا ولم يقل : تيمموا ماء طيبا ، فهنا القصد للصعيد الطيب ، والعمل به تبع يحتاج إلى نية أخرى عند الشروع في الفعل ، كما يفتقر العمل بالماء في الوضوء والغسل وجميع الأعمال المشروعة إلى الإخلاص المأمور به وهو النية. والتيمم عندنا عبادة مستقلة وليست بدلا ، وإنما هي طهارة مشروعة مخصوصة بشروط اعتبرها الشرع. وإنما قلنا مشروعة ، لأنها ليست بطهارة لغوية ، والتيمم عندنا يجوز للمريض والمسافر إذا عدم الماء ، أو عدم استعمال الماء مع وجوده لمرض قام به يخاف أن يزيد به المرض أو يموت ، ولا إعادة عليه. ويجوز للحاضر يعدم الماء ، أن يتيمم ، والذي يجد الماء ويمنعه من الخروج إليه خوف عدو يجوز له التيمم ، والخائف من البرد في استعمال الماء يجوز له التيمم إذا غلب على ظنه أنه يمرض إن استعمل الماء ، وطهارة التيمم تحتاج إلى نية ، والتيمم عبادة ، والإخلاص عين النية ، ومن لم يجد الماء لا يشترط له الطلب. ويشترط دخول الوقت في هذه الطهارة ، وحدّ الأيدي هو أقل ما يسمى به يدا في لغة العرب هو الواجب ، وما زاد على أقل مسمى اليد إلى غايته فذلك له مستحب ، وضربة واحدة تجزي ، وحديث الضربة الواحدة أثبت. والظاهر إيصال التراب إلى أعضاء المتيمم ، وجميع ما يفعل بالوضوء يستباح بالتيمم ، والأولى أنه لا يستباح ، لأن التيمم ليس بدلا من الوضوء ، وإنما هو طهارة أخرى عينها الشارع بشرط خاص ، ويستباح بها أكثر من صلاة واحدة ، والأولى أن لا يستباح ، ويكون التيمم لكل فريضة ، فالدليل في وجوب ذلك أقوى من قياسه على الوضوء ، وإليه أذهب ؛ فإن نص القرآن في ذلك ، وناقض هذه الطهارة هو كل ما ينقض الوضوء والطهر.

ـ إشارة واعتبار ـ الاغتسال هو تعميم طهارة النفس من كل ما أمرت بالطهارة منه وبه ، من الأعمال ظاهرا مما يتعلق بالأعضاء ، وباطنا مما يتعلق بالنفس من مصارف صفاتها ،

٥٠٦

لا من صفاتها ، وإنما قلنا من مصارف صفاتها ، فإن صفاتها لازمة لها في أصل خلقها لا تنفكّ عنها ، حتى إن كل وصف مذموم فمتعلق الذي أمرنا بالطهارة منه ما هو عين الصفة ، إنما هو عين المصرف ، كصرف الحرص إلى طلب العلم وتحصيل أسباب الخير والأعمال الصالحة ، فالحرص بهذا الوجه يكون سعادة الحريص ، وبوجهه المذموم يكون شقاوة الحريص ، فلهذا قلنا بالمصرف لا بعين الصفة ، وهكذا في جميع الصفات التي علق الذم بها ، ولا يعلم مصارف الصفات إلا من يعلم مكارم الأخلاق ، فيتطهر بها ، ويعلم سفساف الأخلاق فيتطهر منها ، وما خفي منها مما لا يدركه يتلقاه من الشارع ، وهو كل عمل يرضي الله ، فيتطهر به من كل عمل لا يرضيه فيتطهر منه ، ومن هذه الطهارة واجب مثل العلم والجهل ، والكفر والإيمان ، والشرك والتوحيد ، وهكذا في الأعمال كلها المشروعة ، يطهرها بالموافقة من المخالفة على حسب مرتبته من الوجوب أو الندب أو الإباحة ، مثل التطهير بإيتاء الزكاة مثلا فهو غسل واجب ، وكإعطائها للفقراء من ذوي الأرحام وهو مندوب إليه ، وكتخصيص أهل الدين منهم دون غيرهم من ذوي الأرحام وهو مستحب.

ـ إشارة واعتبار ـ نواقض الوضوء في المعرفة بالله هو كل ما يقدح في الأدلة العقلية من الشبه الواردة ، وكل ما يقدح في الأدلة الشرعية من ضعف الطريق الموصل إليها ، وهو عدم الثقة بالرواة وغريب المتون ، فكل ما يخرجك عن العلم بالله وبتوحيده وبأسمائه الحسنى ، وما يجب لله أن يكون عليه ، وما يجوز وما يستحيل عليه عقلا إلا أن يرد به خبر متواتر من كتاب أو سنّة ، فإن كل ذلك ناقض لطهارة القلب بمعرفة الله وتوحيده وأسمائه ، (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) فينظر في اللفظ الخارج من الإنسان ، وهو الذي يؤثر في طهارة إيمانه ، مثل أن يقول في يمينه : برئت من الإسلام إن كان كذا وكذا ، أو ما كان إلا كذا وكذا ، فإن هذا وإن صدق في يمينه وبرّ ولم يحنث لم يرجع إلى الإسلام سالما ، كذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومثل من يتكلم بالكلمة من سخط الله ليضحك بها الناس ، ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيهوي بها في النار سبعين خريفا ، أما الإشارة والاعتبار في قوله تعالى (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) : النساء كناية عن الشهوات ، فإذا لمست الشهوة القلب ولمسها ، والتبس بها والتبست به ، وحالت بينه وبين ما يجب عليه من مراقبة الله فيها ، فقد انتقض وضوءه ، وإن لم تحل بينه وبين مراقبة الله فهو على طهارته ، فإن طهارة القلب الحضور مع الله ، ولا

٥٠٧

يبالي في متعلق الشهوة من حرام أو حلال ، إذا اعتقد التحريم في الحرام والتحليل في الحلال ، فلا تؤثر في طهارته.

ـ إشارة واعتبار ـ الجنابة الغربة ، والغربة لا تكون إلا بمفارقة الوطن ، وموطن الإنسان عبوديته ، فإذا فارق موطنه ودخل في حدود الربوبية فاتصف بوصف من أوصاف السيادة على أبناء موطنه وأمثاله ، فهي غربة العبد عن موطن العبودية ، وكذا تغريب صفة ربانية عن موطنها ، فيتصف بها أو يصف بها ممكنا من الممكنات ، فيجب الطهر من هذا بلا خلاف ، والاغتسال هو الاعتراف بما قصّر به ، فإذا جاوز العبد حدّه ، ودخل في حدود الربوبية ، وأدخل ربه في الحد معه بما وصف به من صفات الممكنات ، فقد وجب عليه الطهر من ذلك ، فإن تنزيه العبد أن لا يخرج عن إمكانه ، ولا يدخل الواجب لنفسه في إمكانه ، فلا يقول يجوز أن يفعل الله كذا ، ويجوز أن لا يفعله ، فإن ذلك يطلب المرجح ، والحق له الوجوب على الإطلاق ، والطهر من هذا العلم بالعلم الذي لا يدخله تحت الجواز ، والفناء يؤدي إلى عموم الطهارة ، فالغسل طهر يعم من الجنابتين ، لغيبتك الكلية عن علم نكاح الصورتين ، المثلية العقلية ، والمثلية الشرعية ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) مثلية عقلية ، (خلق الله آدم على صورته) مثلية شرعية.

ـ إشارة واعتبار ـ اعتبار دخول الجنب المسجد من قوله تعالى : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) : من أباح ذلك هو العارف الذي يرى العالم كله علوه وسفله لا تصح له الإقامة في حال ـ فإن الأرض كلها مسجد ـ فهو عابر أبدا مع الأنفاس ، فالعلماء بالله يشاهدون هذا العبور ، وغير العلماء بالله يتخيلون أنهم مقيمون ، والوجود على خلاف ذلك ، فإن الإله الموجد في كل نفس ، موجد بفعل ، فلا يعطل نفسا واحدا يتصف فيه بالإقامة ، ومن قال بالمنع فقد غلب عليه رؤية نفسه أنه ليس بمحل طاهر حيث لم يتخلق بالأسماء الإلهية.

ـ إشارة واعتبار ـ قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) ، إذا عدمت الماءين فاعمد إلى ما خلقت منه ولا تعدل عنه ، واعلم أن طهارة العبد إنما تكون باستيفاء ما يجب أن يكون العبد عليه من الذلة والافتقار ، والوقوف عند مراسيم سيده وحدوده وامتثال أوامره ، ولما كان التراب والأرض نشأة الإنسان ، وهو تحقيق عبوديته وذلته ، ثم

٥٠٨

عرض له عارض الدعوى ، بكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فيه : إنه مخلوق على الصورة ، وذلك عندنا لا ستعداده الذي خلقه الله عليه من قبوله للتخلق بالأسماء الإلهية على ما تعطيه حقيقته ، فإن في مفهوم الصورة والضمير ، خلافا ، فما هو نص ، فاعتز لهذه النسبة وعلا وتكبّر ، فأمر لطهارة نفسه من هذا التكبر بالأرض والترائب وهو حقيقة عبوديته ، بنظره في أصل خلقه مم خلق ، فوقوف العبد مع حقيقته من حيث نشأته طهوره من كل حدث يخرجه من هذا المقام ، وهذا لا يكون إلّا بعدم وجدان الماء ، والماء العلم ، فإن العلم حياة القلوب ، فكأن التيمم حالة المقلد في العلم بالله ، والمقلد عندنا في العلم بالله هو الذي قلّد عقله لنظره في معرفته بالله من حيث الفكر ، فكما أنه إذا وجد الماء أو قدر على استعماله بطل التيمم ، كذلك إذا جاء الشرع بأمر ما من العلم الإلهي بطل تقليد العقل لنظره في العلم بالله في تلك المسئلة ، ولا سيما إذا لم يوافقه في دليله ، كان الرجوع بدليل العقل إلى الشرع ، فهو ذو شرع وعقل معا في هذه المسئلة ، والإشارة بالوجه إلى ذات العبد ، والإشارة بالأيد إلى الاقتدار الظاهر من العبد ، وهو مجبول على العجز ، فإذا نظر في هذا الأصل زكت نفسه وتطهر من الدعوى ، وأما الإشارة بالسفر فإن صاحب النظر في الدليل مسافر بفكره في منازل مقدماته وطريق ترتيبها حتى ينتج له الحكم في المسألة المطلوبة ، والمريض هو الذي لا تعطي فطرته النظر في الأدلة ، لما يعلم من سوء فطرته وقصوره عن بلوغ المقصود من النظر ، بل الواجب أن يزجر عن النظر ويؤمر بالإيمان تقليدا ، وهو التيمم في حقهما.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً (٤٥) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦)

٥٠٩

يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٤٧) إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) (٤٨)

الانتقام والأخذ ما هو بأولى من المغفرة إلا ما عيّن الله من صفة خاصة ، يستحق من مات وهي به قائمة المؤاخذة ولا بد ، وليس إلا الشرك وما عدا الشرك فإن الله أدخله في المشيئة ، فقال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ). فهذه الآية ظاهرة في مؤاخذته تعالى أهل الشرك على القطع ، فهو ظاهر لقرينة الحال ، فجعل الله الشرك من الكبائر التي لا تغفر ، ولكن ما كل مشرك ، بل المشركون الذين بعثت إليهم الرسل أو لم يوفوا النظر حقه ولا اجتهدوا. فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أخبر أن المجتهد وإن أخطأ فإنه مأجور ، ولم يعيّن فرعا من أصل بل عمّ ، وصدق قوله : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) وأما قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) من طريق اللسان فهو الواقع ، فإن الله ما ستر الشرك على أهل الشرك بل ظهروا به ، فهو إخبار بما وقع في الوجود من ظهور الشرك ، وستر ما دون ذلك لمن يشاء أن يستر ، فإن ثم أمورا لم تظهر لعين ولا لعقل ، ولكن قرائن الأحوال تدلّ على القطع بمؤاخذة المشركين. ثم لم يذكر سبحانه ما هو الأمر عليه فيهم بعد المؤاخذة التي هي إقامة الحدّ عليهم في الآخرة يوم الدين الذي هو الجزاء ، فيدخلون النار مع بعض آلهتهم ليتحققوا مشاهدة أن تلك الآلهة لا تغني عنهم من الله شيئا ؛ لكونهم اتخذوها عن نظر لا عن وضع إلهي : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) فقد ظلم الشريك هذا الذي وضعه أو اتخذه إلها ، فلذلك قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) فإنها من حقوق الغير لا من حق الله. فإنه من كرم الله ما كان لله من حق على العبد وفرط فيه غفره الله له ، فإن الشرك من مظالم العباد ، فإن الشريك يأتي يوم القيامة من كوكب ونبات وحيوان وحجر وإنسان فيقول : يا رب سل هذا الذي جعلني إلها ووصفني بما لا

٥١٠

ينبغي لي ، خذ لي بمظلمتي منه ، فيأخذ الله له بمظلمته من المشرك ، فيخلده في النار مع شريكه إن كان حجرا أو نباتا أو حيوانا أو كوكبا ، إلا الإنسان الذي لم يرض بما نسب إليه ونهى عنه وكرهه ظاهرا وباطنا لا يكون معه في النار ، وإن كان هذا من قوله وعن أمره ، ومات غير موحد ولا تائب كان معه في النار ـ تحقيق ـ (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) لأنه لا يجده ، فلو وجد لصح ، وكان للمغفرة عين تتعلق بها ، فإن الشريك ليس ثمّ ؛ ولذلك لا يغفره الله لأن الغفر الستر ، ولا يستر إلا من له وجود ، والشريك عدم فلا يستر ، فالخطأ من إثبات الغير وهو القول بالشريك.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً) (٥٦)

٥١١

العمل لغير عبادة لا يقبل على كل حال من حيث القاصد لوقوعه الذي هو النفس المكلفة ، لكن من حيث أن العمل صدر من الجوارح أو جارحة مخصوصة ، فإنها تجزى به تلك الجارحة ، فيقبل العمل لمن ظهر منه ، ولا يعود منه على النفس الآمرة به للجوارح شيء ، إذا كان العمل خيرا بالصورة كصلاة المرائي والمنافق وجميع ما ظهر على جوارحه من أفعال الخير الذي لم تقصد به النفس عبادة. وأما أعمال الشرّ المنهي عنها فإن النفس تجزى بها للقصد ، والجوارح لا تجزى بها لأنه ليس في قوتها الامتناع عما تريد النفوس بها من الحركات ، فإنها مجبورة على السمع والطاعة لها ، فإن جارت النفس فعليها وللجوارح رفع الحرج ، بل لهم الخير الأتمّ ، وإن عدلت النفوس فلها وللجوارح ، فإن النفوس ولاة الحق على هذه الجوارح. والجوارح مأمورة مجبورة غير مختارة فيما تصرف فيه ، فهي مطيعة بكل وجه ، والنفوس ليست كذلك ، فهي التي تذوق العذاب ، ومن النفوس من لم يقم بما قصد له فكان عاصيا مخالفا أمر الله حين أمره بالأعمال والعبادة. فالطائع يقع منه العبادة في حالة الاضطرار والاختيار ، وإن لم يكن مطيعا من حيث الأمر بالعمل. فإن كان مطيعا طائعا ، فقد فاز بوقوع ما قصد له ، وأما العاصي فلا تقع منه العبادة إلا في حالة الاضطرار لا في حال الاختيار ، ويقع منه صورة العمل لا العمل المشروع له ، فهو مخالف أمر الله ، فلم يقم بما قصد له ، واعلم أن جسد الإنسان من حيث طبيعته لا من حيث لطيفته بما هي مدبرة لهذا الجسم ومتولدة عنه طائع لله مشفق ، وما من جارحة منه إذا أرسلها العبد جبرا في مخالفة أمر إلهي إلا وهي تناديه : لا تفعل ، لا ترسلني فيما حرم عليك إرسالي ، إني شاهدة عليك ، لا تتبع شهوتك ، وتبرأ إلى الله من فعله بها ، وكل قوة وجارحة فيه بهذه المثابة ، وهم مجبورون تحت قهر النفس المدبرة لهم وتسخيرها ، فينجيهم الله تعالى دونه من عذاب يوم أليم ، إذا آخذه الله يوم القيامة ، وجعله في النار. فأما المؤمنون الذين يخرجون إلى الجنة بعد هذا فيميتهم الله فيها إماتة كرامة للجوارح ، حيث كانت مجبورة فيما قادها إلى فعله ، فلا تحسّ بالألم ، وتعذب النفس وحدها في تلك الموتة ، كما يعذب النائم فيما يراه في نومه ، وجسده في سريره وفرشه على أحسن الحالات. وأما أهل النار الذين قيل فيهم : لا يموتون فيها ، ولا يحيون ، فإن جوارحهم أيضا بهذه المثابة ؛ ألا تراها تشهد عليهم يوم القيامة؟ فأنفسهم لا تموت في النار لتذوق العذاب ، وأجسامهم لا تحيا في النار حتى لا تذوق العذاب ، فعذابهم نفسي في صورة حسية من تبديل الجلود ، وما وصف الله من

٥١٢

عذابهم ، كل ذلك تقاسيه نفوسهم ، فإنه قد زالت الحياة من جوارحهم ، فهم ينضجون كما ينضج اللحم في القدر ؛ أتراه يحس بذلك؟ بل له نعيم به إذا كان ثمّ حياة يجعل الله في ذلك نعيما ، وإلا ما تحمله النفوس كشخص يرى بعينه نهب ماله وخراب ملكه وإهانته ؛ فالملك مستريح بيد من صار إليه ، والأمير يعذب بخرابه وإن كان بدنه سالما من العلل والأمراض الحسية. ولكن هو أشد الناس عذابا ، حتى إنه يتمنى الموت ولا يرى ما رآه ، فنضج الجلود سبب في عذاب النفس المكلفة ، والجلد متنعم في ذلك العذاب المحسوس ، لما كانت الجلود من الشهود العدول عند الله ، والتبديل لذوق العذاب كما تبدلت الأحوال عليهم في الدنيا بأنواع المخالفات ، فلكل نوع عذاب ولهم جلد خاص يحسّ بالألم كما كان هنا دائما في تجديد. فإذا انتهى زمان المخالفة المعينة ، انتهى نضج الجلد. فإن شرع عند انتهاء المخالفة في مخالفة أخرى ، أعقب النضج تبديلا آخر ليذوق العذاب كما ذاق اللذة بالمخالفة. وإن تصرف بين المخالفتين بمكارم خلق ، استراح بين النضج والتبديل بقدر ذلك ، فهم على طبقات في العذاب في جهنم. ومن أوصل المخالفات ومذام الأخلاق بعضها ببعض فهم الذين لا يفترّ عنهم العذاب ، فإن العذاب المستصحب أهون من العذاب المجدد. فيذوقون العذاب مستصحبا إلى أن تنضج الجلود ، وحينئذ يتجدد عليهم بالتبديل عذاب جديد ، فرحمهم‌الله باستصحاب العذاب إلى حين تبديل الجلود من حيث لا يشعرون ، فإن العذاب لو كان مجددا باستمرار لكان أشد في عذابهم ، فلما انتهى بهم العمر إلى الأجل المسمى انتهت المخالفة فتنتهي العقوبة فيهم إلى ذلك الحد ، وتكتنفهم الرحمة التي وسعت كل شيء ، ولا تشعر بذلك جهنم ولا وزعتها (إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً).

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً) (٥٧)

الظل الراحة ـ لا سيما في ظل الأشجار ـ والكنف ، فإنه من قعد في ظلك فهو في كنفك.

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ

٥١٣

تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً) (٥٨)

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) أي إيصال الحق إلى أهله. حين مسك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفتاح البيت الذي أخذه من بني شيبة ، أنزل الله تعالى (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) فتخيل الناس أن الأمانة سدانة البيت ، ولم تكن الأمانة إلا مفتاح البيت الذي هو ملك لبني شيبة ، فردّ إليهم مفتاحهم ، وأبقى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم ولاية السدانة ، ولو شاء جعل في تلك المرتبة غيرهم. وللإمام أن يفعل ذلك إذا رأى في فعله المصلحة. لكن الخلفاء لم يريدوا أن يؤخروا عن هذه المرتبة من قرره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها ، فهم مثل سائر ولاة المناصب ؛ إن أقاموا فيه بالحق فلهم ، وإن جاروا فعليهم ، وللإمام النظر ، وقد أبقى الله الحجر وهو من البيت ورفع التحجير فيه ، لا حكم لبني شيبة ولا لغيرهم فيه ، فمن دخله دخل البيت ، ومن صلى فيه صلى في البيت ، كذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، فلا يحتاج أحد لمنة بني شيبة ، فإن الله قد كفاه بما أخرج له من البيت في الحجر ، فجناب الله أوسع أن يكون عليه سدنة من خلقه ، ولا سيما من نفوس جبلت على الشح وحب الرياسة والتقدم. يقول علي بن الجهم.

وأبواب الملوك محجبات

وباب الله مبذول الفناء

واعلم أن أهل الأمانات الذين أمرنا الله أن نؤديها إليهم ليس المعتبر من أعطاها ولا بد ، وإنما أهلها من تؤدى إليه ، فإن كان الذي أعطاها بنية أن تؤدى إليه في وقت آخر فهو أهلها من حيث ما تؤدى إليه لا من حيث أنه أعطاها ، وإن أعطاها هذا الأمين المؤتمن إلى من أعطاه إياها ليحملها إلى غيره ، فذلك الغير هو أهلها لا من أعطى ، فقد أعلمك بالأهلية فيها ، فإن الحق إنما هو لمن يستحقه ، فاعلم ذلك واعمل عليه ، فإن حكم الأمانة إنما هي لمن توصل إليه لا لمن يحمّلك إياها (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) العدل هو ميل إلى أحد الجانبين الذي يطلبه الحكم الصحيح التابع للمحكوم عليه وله ، أو للإقرار أو الشهود ، غير ذلك لا يكون عدلا في الحكم ـ وجه آخر ، الحق في الاعتدال ، فمن جار أو عدل فقد مال ، فإن مال لك فقد أفضل وأتى في ذلك بالنعت الأنفس ، وإن مال عليك فقد

٥١٤

أبخس ، العدل في الأحكام ، لا يكون محمودا إلا من الحكام ، والعدل هنا من الاعتدال ، لا من الميل ، فإن ذلك إفضال ، ورد في الخبر عن سيد البشر فيمن انقطع أحد شراك نعليه ، أن ينزع الأخرى ليقيم التساوي بين قدميه ، وقال فيمن خصّ أحد أولاده دون الباقين بما خصّه به من المال ، لا أشهد على جور لعدم المساواة والاعتدال ، فسماه جورا ، وإن كان خيرا ، ثم قال : ألست تحبّ أن يكونوا لك في البر على السواء؟ فما لك تعدل عن محجة الاهتداء ، فاعدل بين أودلاك ، بطرفك وتلادك.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (٥٩)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ) أي فيما أمركم به على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما قال فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ الله يأمركم ، وهو كل أمر جاء في كتاب الله تعالى ، ثم قال : (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فميّز وعيّن وفرّق ، ففصل أمر طاعة الله من طاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلو كان يعني بذلك ما بلّغ إلينا من أمر الله تعالى لم تكن ثمّ فائدة زائدة ، فلا بد أن يوليه رتبة الأمر والنهي فيأمر وينهى. فنحن مأمورون بطاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الله بأمره. وقال تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) ، وطاعتنا له فيما أمر به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونهى عنه مما لم يقل هو من عند الله ، فيكون قرآنا. قال الله عزوجل (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) فأضاف النهي إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأتى بالألف واللام في الرسول يريد بهما التعريف والعهد ، أي الرسول الذي استخلفناه عنا ، فجعلنا له أن يأمر وينهى زائدا على تبليغ أمرنا ونهينا إلى عبادنا ، فإن الخليفة لا بد أن يظهر فيما استخلف عليه بصورة مستخلفه وإلا فليس بخليفة له فيهم ، فأعطاه الأمر والنهي وسماه بالخليفة ، وجعل البيعة له بالسمع والطاعة في المنشط والمكره والعسر واليسر ، وأمر الله سبحانه عباده بالطاعة لله ولرسوله والطاعة لأولي الأمر منهم ، فجمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الرسالة والخلافة. فما كلّ رسول خليفة ؛ فمن أمر ونهى وعاقب وعفا ، وأمر الله بطاعته ، وجمعت له هذه الصفات ، كان خليفة. ومن بلّغ أمر الله ونهيه

٥١٥

ولم يكن له من نفسه إذن من الله تعالى أن يأمر وينهى ، فهو رسول مبلّغ رسالات ربه. وبهذا بان لك الفرقان بين الخليفة والرسول. ولهذا جاء بالألف واللام في قوله تعالى (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) ثم قال تعالى : (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) وهم الخلفاء ومن استخلفه الإمام من النواب ، فإن الله جعل خليفة عنه في أرضه ، وجعل له الحكم في خلقه ، وشرع له ما يحكم به ، وأعطاه الأحدية ، فشرع أنه من نازعه في رتبته قتل المنازع ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إذا بويع لخليفتين ، فاقتلوا الآخر منهما] وجعل بيده التصرف في بيت المال ، وصرف له النظر عموما ، وجعل الله للخليفة أن يستخلف كما استخلفه الله ، فبأيديهم العطاء والمنع والعقوبة والعفو ، كل ذلك على الميزان المشروع ، فلهم التولية والعزل. وأمرنا الحق بالطاعة له سواء جار علينا أو عدل فينا. والأئمة الذين استنابهم الله ، واستخلفهم على قسمين : قسم يعدلون بصورة حق ولا يتعدون ما شرع لهم ، والقسم الآخر قائلون بما شرع لهم غير أنهم لم يرجعوا ما دعوا إليه في المصارف التي دعاهم الحق إليها ، وجاروا عن الحق في ذلك ، وعلموا أنهم جائرون قاسطون ، فيمهلهم الله لعلهم يرجعون. وقد يقيم الحق منازعا في مقابلته يدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم ، فإن ظهر مثل هذا فقد أوجب الحق على عباده القتال معه والقيام في حقه ونصرته والأخذ على يد الجائر ، ولا يزال الأمر على ذلك حتى يأتي أمر الله وتنفذ كلمة الحق. ـ الوجه الثاني ـ (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) وهم العلماء منّا بما أمر الله به ونهى عنه ، وهم الذين قدمهم الله علينا وجعل زمامنا بأيديهم. ولم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقدم في السرايا وغيرها إلا من هو أعلمهم ، وما كان أعلمهم إلّا من كان أكثرهم قرآنا ، فكان يقدمه على الجيش ويجعله أميرا ؛ فقال تعالى : (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) أي إذا ولّي عليكم خليفة عن رسولي أو وليتموه من عندكم كما شرع لكم ، فاسمعوا له ، وأطيعوا ولو كان عبدا حبشيا مجدع الأطراف ، فإنّ في طاعتكم إياه طاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولهذا لم يستأنف في (أُولِي الْأَمْرِ) أطيعوا ، واكتفى بقوله (أَطِيعُوا الرَّسُولَ) ولم يكتف بقوله (أَطِيعُوا اللهَ) عن قوله (أَطِيعُوا الرَّسُولَ) ففصل لكونه تعالى ليس كمثله شيء ، واستأنف بقوله (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فهذا دليل على أنه قد شرع له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأمر وينهى ، وليس لأولي الأمر أن يشرّعوا شريعة ، إنما لهم الأمر والنهي فيما هو مباح لهم ولنا ، فإذا أمرونا بمباح أو نهونا عن مباح ، أوجب الله علينا طاعتهم فيما أمروا به ، وما لهم أمر

٥١٦

فينا إلا بما أبيح لنا ؛ فإن أطعناهم في ذلك أجرنا أجر من أطاع الله فيما أوجبه علينا من أمر ونهي ، فإنه ما بقي للأئمة إلا المباح ولا أجر فيه ولا وزر. فإذا أمرك الإمام المقدّم عليك الذي بايعته على السمع والطاعة بأمر من المباحات ، وجب عليك طاعته في ذلك ، وحرمت مخالفته ، وصار حكم ذلك الذي كان مباحا واجبا ؛ فنزل الإمام منزلة الشارع بأمر الشارع ؛ ومن أنزله الحق منزلته في الحكم تعيّن اتباعه. وعصيان أولي الأمر من معصية الله ، فإن في عصيانهم عصيان أمر الله ، وليس في عصيان الله عصيانهم إلا في الرسول خاصة ، فإن في عصيان الله عصيان رسول الله ، إذ متعلق المعصية الأمر والنهي ، ولا يعرف ذلك إلا بتبليغ الرسول وعلى لسانه. فطاعة السلطان واجبة ، فإن السلطان بمنزلة أمر الله المشروع ؛ من أطاعه نجا ، ومن عصاه هلك (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ) حكما (وَإِلَى الرَّسُولِ) عينا ، فننظر ما اختلفوا فيه وتنازعوا ، فإن كان لله أو لرسوله حكم فيه يعضد قول أحد المخالفين جعلنا الحق بيده ، فإنا أمرنا إن تنازعنا في شيء ، أن نرده إلى الله ورسوله ، إن كنا مؤمنين ، فإن كنا عالمين ممن يدعو إلى الله على بصيرة ، وعلى بينة من ربنا ، فنحكم في المسئلة بالعلم ، وهو رد إلى الله تعالى من غير طريق الإيمان ، وليس لنا العدول عنه البتة ـ إشارة ـ من اتبع الخليفة أمن من كل خيفة ، وصارت الأسرار به مطيفة ، وحصل بالرتبة المنيفة ـ يريد الاتباع الذي يورث العصمة ـ تفسير من باب الإشارة ـ (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) من كان الحق سمعه وبصره ويده ولسانه هم أصحاب الأمر على الحقيقة ، فهم الذين لا يقف لأمرهم شيء ، لأنهم بالله يأمرون كما به يسمعون كما به يبصرون ، فإذا قالوا لشيء : كن فإنه يكون ، لأنهم به يتكلمون ـ تحقيق ـ نحن اليوم أبعد في المعصية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أصحابه إلى من دونهم إلينا. فنحن ما عصينا إلا أولي أمرنا في وقتنا ، وهم العلماء منا بما أمر الله به ونهى عنه. فنحن أقل مؤاخذة وأعظم أجرا ، لأن للواحد منا أجر خمسين ممن يعمل بعمل الصحابة. يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [للواحد منهم أجر خمسين يعملون مثل عملكم] فاجعل بالك لكونه لم يقل منكم ، قال الله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) فذكر الله تعالى ، وذكر الرسول ، وذكرنا ، أعني أولي الأمر منا ، وهم الذين قدمهم الله علينا وجعل زمامنا بأيديهم.

٥١٧

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (٦٤)

الظالم نفسه هو الذي يرجع إلى ربه ، فإذا جاء هذا الظالم نفسه إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قبره ولو بعد انتقاله ، واستغفر الله ولم يجد صورة الرسول تستغفر له ، إمّا في النوم أو في اليقظة ، كيف كان ، فيعلم عند ذلك أنّه ما استغفر الله ؛ فإن استغفاره الله في ذلك الموطن يذكّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستغفار لله في حقه فيجد الله عند ذلك توابا رحيما. ومن قصد الرسول عليه الصلاة والسلام في زيارته إياه عند قبره ، فعليه أن يتلو عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية الشريفة. وقد ظلمت نفسي وجئت إلى قبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتلوت عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية في زيارتي إياه عند قبره ، ولم يكن قصدي في ذلك المجيء إلى الرسول إلا هذه الآية ، فكان القبول ، وقضى الله حاجتي وانصرفت ، ورأيت الأمر على ما ذكرته ، وذلك في سنة إحدى وستمائة.

(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٦٥)

٥١٨

في قسم الله جل ثناؤه بالربوبية على صورة تحصيل الإيمان ، أقسم سبحانه على نفسه باسم الرب المضاف إلى نبيه محمد عليه‌السلام على أقصى غاية مراتب الإيمان ، فقال : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ...) الآية فمن شرط قوة الإيمان وتحصيله أن لا ننتظر حكم من آمنا به ، بل نحكمه علينا ابتداء منا ، تثبيتا لإيماننا ونرضى بقضائه فينا ، ولا نبالي بما حكم علينا بما يهون علينا حمله أو ما لا يهون ، فإذا قضى بما قضى به علينا مما تعظم مشقته ويصعب حمله ، طابت به نفوسنا ، وعظمت اللذة بذلك في قلوبنا ، وزال عن النفس ما كان شجر بينها وبين خصمها ، وانقادت بحكم الله علينا سهلة ذلولة. ومتى لم نجد ذلك في نفوسنا ، فليس عندنا رائحة من حقيقة الإيمان في جميع حكمه كله علينا ، بل عليه أن ينقاد بظاهره على الفور انقيادا كليا على الانقياد لما وقع به الحكم من الشرع ، ولهذا قال (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) فأكده بالمصدر للتفرغ في الانقياد إليه ، وعلى قدر ما يتوقف أو يجده في نفسه حرجا أو أمرا ينافي وجه اللذة والحب والعشق في ذلك الحكم ، ينتفي منك التصديق ضرورة ، ولما كان هذا المقام الشامخ عسيرا على النفوس نيله ، أقسم بنفسه جل وتعالى عليه. ولما لم يكن المحكوم عليهم يسمعون ذلك من الله ، وإنما حكم عليهم بذلك رسول الله الثابت صدقه ، النائب عن الله وخليفته في الأرض ، لذلك أضاف الاسم إليه عناية به وشرفا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال (فَلا وَرَبِّكَ) وجعله بحرف الخطاب إشارة إلى أنه حاضر معنا ، ولم يجعلها إضافة عينية.

وقوله تعالى (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) ، فإن من سلّم لم يطلب على العلة في كل ما جاء به النبي ، ولا في مسئلة من مسائله ، فإن جاء النبي بالعلة قبلها كما قبل المعلول ، وإن لم يجئ بها سلّم.

(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) (٦٦)

(وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ) على ألسنتهم وألسنة غيرهم (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً).

(وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (٦٨)

٥١٩

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (٦٩)

الأنبياء على نوعين : أنبياء تشريع وأنبياء لا تشريع لهم ، وأنبياء التشريع على قسمين : أنبياء تشريع في خاصتهم ، كقوله (إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) ، وأنبياء تشريع في غيرهم وهم الرسل عليهم‌السلام ، فالأنبياء صلوات الله عليهم تولاهم الله بالنبوة ، وهم رجال اصطنعهم لنفسه ، واختارهم لخدمته ، واختصهم من سائر العباد لحضرته ، شرع لهم ما تعبدهم به في ذواتهم ، ولم يأمر بعضهم بأن يعدي تلك العبادات إلى غيرهم بطريق الوجوب ، فهم على شرع من الله ، أحلّ لهم أمورا ، وحرم عليهم أمورا ، قصرها عليهم دون غيرهم ، إذ كانت الدار الدنيا تقتضي ذلك ، لأنها دار الموت والحياة. والرسل صلوات الله وسلامه عليهم تولاهم الله بالرسالة ، فهم النبيون المرسلون إلى طائفة من الناس ، أو يكون إرسالا عاما إلى الناس ، ولم يحصل ذلك إلا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبلّغ عن الله ما أمره الله بتبليغه في قوله (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ). فمقام التبليغ هو المعبر عنه بالرسالة لا غير ، واعلم أنه ليس من شرط كل مقام إذا دخله الإنسان ذوقا أن يحيط بجميع ما يتضمنه من جهة التفصيل ؛ فإنا نعلم أنا نجتمع مع الأنبياء عليهم‌السلام في مقامات ، وبيننا وبينهم في العلم بأسرارها بون بعيد ، يكون عندهم ما ليس عندنا ، وإن شملنا المقام. (وَالصِّدِّيقِينَ) الصديق من آمن بالله ورسوله عن قول المخبر ، لا عن دليل سوى النور الإيماني الذي يجده في قلبه ، المانع له من تردد أو شك يدخله في قول المخبر الرسول ، ومتعلقه على الحقيقة الإيمان بالرسول ، ويكون الإيمان بالله على جهة القربة لا على إثباته ، إذ كان بعض الصديقين قد ثبت عندهم وجود الحق ضرورة أو نظرا ، ولكن ما ثبت كونه قربة ، ثم إن الرسول إذا آمن به الصديق آمن بما جاء به ، ومما جاء به توحيد الإله وهو قوله (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) أو (واعلم أنه لا إله إلا الله) فعلم أنه واحد في ألوهيته من حيث قوله (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) فذلك يسمى إيمانا ، ويسمى المؤمن به على هذا الحدّ صديقا. فإن نظر في دليل يدل على صدق قوله (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) ، وعثر على توحيده بعد نظره فصدق الرسول في قوله وصدق الله في قوله (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) فليس بصديق ،

٥٢٠