رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

السفر يؤثر في الصلاة القصر باتفاق ، إلا عائشة رضي الله عنها قالت : لا يجوز القصر إلا للخائف لقوله عزوجل (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا). والذي أقول به إن القصر للمسافر فرض متعين في كل سفر ، قريبا كان أو بعيدا. فالمعتبر فيه اللسان ، قربة كان أو مباحا أو معصية. ومدة القصر الأولى عندي فيها أن ينظر في مدة إقامة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة إلى أن رجع إلى المدينة ، فإنه كان يقصر في تلك المدة. واتفق العلماء كلهم على الجمع بين الظهر والعصر في أول الظهر يوم عرفة ، وعلى الجمع بين المغرب والعشاء بتأخير المغرب إلى وقت العشاء بالمزدلفة ، فلا يصح الجمع بين الصلاتين إلا فيما ذكرناه من عرفة وجمع ـ إشارة ـ السفر حال لازم لكل ما سوى الله في الحقائق الإلهية ، بل لكل من يتصف بالوجود ، وهو سفر الأكابر من الرجال ، فهو سفر بالعلم والتحقق ، وسفر في الأسماء الإلهية بالتخلق ، وهو سفر حاله نازل عن الحال الأول ، وسفر ثالث في الأكوان بالاعتبار ، وهو حال دون الحالين ، وسفر جامع لهذه الأسفار كلها في أحوالها ، وهو أعظم أسفار الكون ، والأول أعظم الأسفار وأجلها ، والقصر في الخوف ، فإن العبد مطلوب في كل نفس بمراقبة الحق في حكمه تعالى في ذلك النفس بما شرع له تعالى فيه خاصة ، وما كل أحد يقدر على مراعاة هذا المقام مع الحق ، فلا يزال في خوف دائما ، فالعارف إذا حصل فيه وخاف أن يلتبس عليه مناجاة الحق في الأنفاس ، اقتصر من المناجاة على ما يختص بذلك النفس ، فكان الخوف سببا للقصر.

(وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) (١٠٢)

٥٤١

وأما صلاة الخوف فالذي أذهب إليه أن الإمام مخيّر في الصورة التي ثبتت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبأي صورة صلاها أجزأته صلاته وصحت صلاة الجماعة ، إلا الرواية التي فيها الانتظار بالسلام ، فإن عندي فيها نظر ، لكون الإمام يصير فيها تبعا تابعا ، وقد نصبه الله متبوعا ، وسبب توقفي في ذلك دون جزم من طريق المعنى ؛ فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر الإمام أن يصلي بصلاة المريض وأضعف الجماعة ، والخلاف في صورة صلاة الخوف مسطور في كتب الحديث. وأما الصلاة عند المسايفة فالذي أذهب إليه أن العبد مأمور في ذلك الوقت بالصلاة على قدر ما يمكنه أن يفعله منها.

(فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) (١٠٣)

(كِتاباً مَوْقُوتاً) أي مفروضة في وقت معيّن ، سواء كان موسعا أو مضيقا ، فإنه معيّن ولا بد ، بقوله موقوتا. فمن أخرج صلاة مفروضة عن وقتها المعيّن له ، كان ما كان ، من ناس أو متذكر ، فإنه لا يقضيها أبدا ولا تبرأ ذمته ، فإنه ما صلى الصلاة المشروعة ، إذ كان الوقت من شروط صحة الصلاة. فليكثر النوافل بعد التوبة ، ولا قضاء عليه عندنا لخروج وقتها الذي هو شرط في صحتها. ووقت الناسي والنائم وقت تذكره واستيقاظه من نومه ، وهو مؤد ولا بدّ ، ولا يسمى قاضيا على الاعتبار الذي يراه الفقهاء ، لا على ما تعطيه اللغة ، فإن القاضي والمؤدي لا فرق بينهما في اللسان ، فكل مؤد للصلاة فقد قضى ما عليه ، فهو قاض بأدائه ما تعيّن عليه أداؤه من الله. واتفق علماء الشريعة أن وقت الظهر الذي لا تجوز قبله هو الزوال ؛ جاء في الحديث الثابت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لا يخرج وقت صلاة حتى يدخل وقت الأخرى] يعني في الأربع صلوات ، فإنه إذا خرج وقت الصبح لم يدخل وقت الظهر حتى تزول الشمس ، بخلاف الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، وجاء في الحديث الثابت في إمامة جبريل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه صلى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر في اليوم الأول ، وفي حديث ثابت آخر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : [آخر وقت الظهر ما لم يدخل وقت العصر] فحديث إمامة جبريل يعطي الاشتراك في الوقت ،

٥٤٢

والحديثان الآخران يعطي الزمان الذي ينقسم ، فيرتفع الاشتراك. والقول هنا أقوى من الفعل ، لأن الفعل يعسر الوقوف على تحقيق الوقت به ، وهو قول الصاحب على ما أعطاه نظره. وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخالف ما قال الصاحب وحكم به على فعل صلاة جبريل عليه‌السلام بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فيكون كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفسرا للفعل الذي فسره الراوي. والأخذ بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي أمرنا الله أن نأخذ به ، فكان ينبغي في مسئلة آخر وقت الظهر وأول وقت العصر وأمثالها أن لا يتصور خلاف ، ولكن الله جعل هذا الخلاف رحمة لعباده واتساعا فيما كلفهم به من عبادته. وآخر وقت الظهر أن يكون ظل كل شيء مثله ، وهو أول وقت العصر. وآخر وقت العصر عندنا قبل أن تغرب الشمس بركعة. والمغرب وقته موسع وهو ما بين غروب الشمس إلى مغيب الشفق. وقد ورد في إمامة جبريل عليه‌السلام برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه صلى المغرب في اليومين في وقت واحد في أول فرض الصلوات ، والمغرب وتر صلاة النهار كما أخبرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك قبل أن يزيدنا الله وتر صلاة الليل [إن الله قد زادكم صلاة إلى صلاتكم] وذكر صلاة الوتر [فأوتروا يا أهل القرآن] فشبهها بالفرائض وأمر بها. ولما سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد إمامة جبريل عليه‌السلام به صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن وقت الصلاة ، صلى بالناس يومين ، صلى في اليوم الأول في أول الأوقات ، وصلى في اليوم الثاني في آخر الأوقات ، الصلوات الخمس كلها وفيها المغرب ، ثم قال للسائل [الوقت ما بين هذين] فجعل للمغرب وقتين كسائر الصلوات ، فوسع وقتها كسائر الصلوات ، وهو الذي ينبغي أن يعول عليه ، فإنه متأخر عن إمامة جبريل ، فوجب الأخذ به ، فإن الصحابة كانت تأخذ بالأحدث ، فالأحدث من فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يثابر على الصلاة في أول الأوقات فلا يدل ذلك على أن الصلاة ما لها وقتان ، وما بينهما ، فقد أبان عن ذلك وصرح به ، وما عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا البلاغ والبيان ، وقد فعل صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأول وقت العشاء مغيب حمرة الشفق ، وآخر وقتها طلوع الفجر. واتفق الجميع على أن أول وقت الصبح طلوع الفجر وآخره طلوع الشمس ، واختلفوا في الإسفار والتغليس بصلاة الصبح ، والتغليس بها أفضل عندنا. وقد كتب الله تعالى الصلاة على المؤمنين دون العالم لعموم الإيمان فإنه يشمل المقلد والعالم ، فلو كتبها الله على العلماء دون المؤمنين لما وجبت على المقلدين ، والعلماء لهم صفة الإيمان ، فكتب على الوصف العام.

٥٤٣

(وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) (١٠٥)

ما ثم شارع إلا الله تعالى قال تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) ولم يقل بما رأيت بل عتبه سبحانه وتعالى لما حرم على نفسه باليمين في قضية عائشة وحفصة ، فقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) فكان هذا مما أرته نفسه. فهذا يدلك أنّ قوله تعالى (بِما أَراكَ اللهُ) أنه ما يوحي به إليه لا ما يراه في رأيه. فلو كان الدين بالرأي ، لكان رأي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى من رأي كل ذي رأي فإذا كان هذا حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أرته نفسه فكيف رأي من ليس بمعصوم ومن الخطأ أقرب إليه من الإصابة. فدل أن الاجتهاد الذي ذكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إنما هو طلب الدليل على تعيين الحكم في المسئلة الواقعة لا في تشريع حكم في النازلة ، فإن ذلك شرع لم يأذن به الله. فالمؤمنون يؤمنون بأن رأيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم شرع ، وأن الله أراه ذلك ، فإنه لا ينطق عن الهوى ، فحكمه حكم الله ، وهو ناقل عن الله ومبلغ عنه بما أراه الله ، وهو سرّ السنة في إثبات الحكم.

(وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) (١٠٨)

ما أحسن ما قال تعالى (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ) فإنهم مجبولون على النسيان (وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ) الذي لا يضلّ ولا ينسى. وكان الأولى لو صح عكس القضية

٥٤٤

إلا أنه لا يصح أن يستخفي شيء عن الله ، والسبب الموجب للاستخفاء عن الناس هو حبّ الثناء وطلب المحمدة. فإذا أطلع الناس على العمل الذي يخفيه سقطت حرمة العامل من قلب الذي يراه وقام عليه لسان الذمّ منه وسبب ذلك الجنسية ، ولا يستخفي إلا مؤمن فإنه يكره فعل ما يستخفى منه بأن هذا لا يجوز عمله شرعا. (إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) وهو الجهر بالسوء من القول (وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً). ينبه أن هذا العمل قد أحاط الله به علما.

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) (١١٠)

الظالم نفسه طلب منه الاستغفار مع أنه يغفر له ، وإن لم يستغفر ، وإنما أمره الحق بالاستغفار ليقيمه إذا جنى ثمرة ذلك من مقام الإدلال لما له في ذلك من الكسب ؛ فإن الذي يأخذ من جهة الهبة قصير اليد ، والذي يأخذ من كسبه طويل اليد ، فإنه طالب حق ومستحقه.

(وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (١١٣)

وعلمك ما لم تكن تعلم به ، فعرفته في موطن الإنكار ولذلك عظّم الله هذا الفضل

٥٤٥

فقال (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) ثم نبه تعالى على طهارة الفم المعنوية بقوله :

(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (١١٤)

(لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) ولها مواطن مخصوصه ، وهو أن يأمره في السر لا في الجهر ، فإن الجهر علة لا يشعر بها. لأنه قد يعطيها لغير الله. ثم قال (أَوْ مَعْرُوفٍ) ، وقول المعروف هو القول في موطنه الذي عينه الله ، ويرجو حصول الفائدة به في حق السامع ، فهذا معنى (أَوْ مَعْرُوفٍ). فمن لم يفعل فهو جاهل وإن ادعى العلم. ثم قال (أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) ، فيعلم أنّ مراد الله التوادد والتحابب فيسعى في ذلك. وإن لم يجعل الكلام في موضعه أدى إلى التقاطع والتنافر والتدابر. ثم بعد هذا كله قال في حق المتكلم «ومن لم يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله» ولا يكون ذلك إلا ممن يعلم ما يرضي الله ، ولا يعلم ما يرضي الله إلا بالعلم بما شرع الله في كتابه وعلى لسان رسوله ، فيرى عندما يريد أن ينطق بالأمر هل نطقه به في ذلك الموطن يرضي الله من جميع الوجوه؟ فإن وجد وجها يقدح فيه ، فالكل غير مقبول وغير مرضي عند الله ، فإنه لا يحتمل التجزي ولا الانقسام. واعلم أن من شعب الإيمان قول الخير والصمت عن الشر ؛ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا أمر بمعروف أو نهي عن منكر. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من صمت نجا. فصمت اللسان مفردا للعامة يخفف الأوزار ، وصمت القلب مفردا ينتج النطق بالحكمة ، ومن صمت عن شر ، نطق بخير قطعا.

(وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥) إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) (١١٦)

إذا كان الحق حرّم على نفسه المغفرة للمشرك ، وجبت المؤاخذة في الشرك ولا بدّ.

٥٤٦

واعلم أن الله لم يغفر للمشركين ولا لأهل التبعات ، بل ضمن التباعات ، وجعل مغفرتهم موقوفة على رضا المظلومين ، فيصلح بينهم يوم القيامة. جاء في الخبر أن الله تعالى يقول يوم القيامة لأهل الحشر «يا عبادي ما كان بيني وبينكم فقد غفرته لكم فانظروا فيما بينكم فإنّه لا يجاوزني ظلم ظالم». ويظهر في الشرك أنه فيما بينه وبينهم فلماذا أخذ به ولم يغفره؟ فاعلم وفقك الله أن الشرك بالله باب من التباعات وظلم الغير ولهذا أخذ الله به ، فإن التباعات على ضروب في الدماء والأموال والأعراض ، والشرك من باب تباعات الأعراض ، وهو من باب الفرية ، وأن يقال في الشيء ما ليس فيه ، وهو البهتان. وليس الشرك من الأمور التي بين الله وبين العبد. وهو من أكبر الكبائر. فإذا كان يوم القيامة وحشر الناس في صعيد واحد وضج المظلومون عند معاينة ما لا طاقة لهم بحمله من الأهوال ؛ ضجت الأصناف الذين اتخذوا آلهة من دون الله من حجر وشجر وحيوان وإنسان وكوكب وروحاني وقالوا : يا ربنا خذ لنا حقنا ممن افترى علينا ، ونسب إلينا ما ليس فينا وقال : إنا آلهة فعبدونا ، ونحن لا نضر ولا ننفع ، وليس لنا من الأمر شيء ، فخذ لنا حقنا. وهنا يقع تفصيل ، فأمّا كل من عبد من دون الله من حجر وشجر وإنسان مشرك أشرك نفسه مع الله وحيوان وروحاني مشرك أيضا ، فإنهم يدخلون مع الذين عبدوهم في نار جهنم ليكون أنكى لهم إذا عاينوهم ؛ ومن كان ارتضى منهم ما ينسب إليه كفرعون وغيره ، فهو مشارك لهم في عذابهم. ومثل الأحجار والأشجار ، فلم تدخل للعذاب ، ولكن دخلت لنكايتهم أن تكون معهم آلهتهم كما قال الله تعالى (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ). ويقول المشركون هناك (لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ). وقال تعالى (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) وهم المشركون ، وهم الأصنام المعبودون من دون الله ، ونفى الأصناف الذين سبقت لهم الحسنى وكانوا عن النار مبعدين ، وهم الذين اتخذوا مثلة على صورتهم عبدوها كالصليب للنصارى والصور التي يصورونها للمشركين التي صنعوها على صورة هذا المعصوم السعيد كائنا من كان ؛ فتلك الأمثال تدخل معهم النار ، وهذا ينكيهم جدا. ووجه آخر من نكاية الله لهم : إن لأهل الجنة اطلاعا على أهل النار يعاين هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء ، فيزيد نعيم هؤلاء ويزيد عذاب هؤلاء ؛ يقول الله تعالى (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ)(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَ

٥٤٧

ضَلالاً بَعِيداً) لأنهم أوقعوا أنفسهم في الحيرة لكونهم عبدوا ما نحتوا بأيديهم وعلموا أنه لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم من الله شيئا ، فهي شهادة من الله بقصور نظرهم وعقولهم.

(إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً) (١١٧)

الشيطنة البعد يقال ركية شطون إذا كانت بعيدة القعر.

(لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً (١٢٢) لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) (١٢٥)

ما سمى إبراهيم عليه‌السلام بالخليل إلا بسلوكه سواء السبيل. نزل ضيف من غير ملة إبراهيم عليه‌السلام بإبراهيم عليه‌السلام ، فقال له إبراهيم عليه‌السلام : وحّد الله حتى أكرمك وأضيفك فقال يا إبراهيم من أجل لقمة أترك ديني ودين آبائي؟ فانصرف عنه. فأوحى

٥٤٨

الله إليه يا إبراهيم صدقك ؛ لي سبعون سنة أرزقه ، وهو يشرك بي فتريد أنت منه أن يترك دينه ودين آبائه لأجل لقمة؟ فلحقه إبراهيم عليه‌السلام ، وسأله الرجوع إليه ليقريه واعتذر إليه. فقال له المشرك يا إبراهيم ما بدا لك؟ فقال إن ربي عتبني فيك ، وقال لي : أنا أرزقه منذ سبعين سنة على كفره بي ، وأنت تريد منه أن يترك دينه ودين آبائه لأجل لقمة؟ فقال المشرك أو قد وقع هذا؟ مثل هذا ينبغي أن يعبد. فأسلم ورجع مع إبراهيم عليه‌السلام إلى منزله. ثم عمّت كرامته خلق الله من كل وارد ورد عليه ، فقيل له في ذلك فقال : تعلمت الكرم من ربي ، رأيته لا يضيع أعداءه فلا أضيعهم. فأوحى الله إليه : أنت خليلي حقّا. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : المرء على دين خليله ، فلينظر أحدكم من يخالل ـ الخلة ـ اعلم أن المخاللة لا تصحّ إلا بين الله وبين عبده ، ولا تصح المخاللة بين المخلوقين المؤمنين ، فإن شروط الخلة لا تصح بين المؤمنين ولا بين النبي وتابعيه ، فإذا لم تصح شروطها ، لا تصح هي في نفسها ، فإن النبي والمؤمن بحكم الله لا بحكم خليله ولا بحكم نفسه. ومن شروط الخلة أن يكون الخليل بحكم خليله ، وهذا لا يتصور مطلقا بين المؤمنين ولا بين الرسل وأتباعهم في الدار الدنيا. والمؤمن تصح الخلة بينه وبين الله ، ولا تصح بينه وبين الناس. فالنبي ليس له خليل ولا هو صاحب لأحد سوى نبوته ، وكذلك المؤمن ليس له خليل ولا صاحب سوى إيمانه. فمن لا يتصرف إلا عن أمر إلهي لا يكون خليلا لأحد ولا صاحبا أبدا. فمن اتخذ خليلا غير الله ، فقد جهل مقام الخلة ، فلا خليل إلا الله. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، لكن صاحبكم خليل الله. فإذا علمت أن الله لا يستحيل عليه خلة عباده ، فاجهد أن تكون أنت ذلك الخليل بأن تنظر إلى ما يؤدي إلى تحصيل هذه الخلة الشريفة ، فإنك لا تجد لها سببا إلا الموافقة ، ولا علم لنا بموافقتنا الحق إلا موافقتنا شرعه ؛ فما حرمّ حرّمناه ، وما أحلّ أحللناه ، وما أباحه أبحناه ، وما كرهه كرهناه ، وما ندب إليه ندبنا إليه ، وما أوجبه أوجبناه ، فإذا عمك هذا في نفسك ، وكانت هذه صفتك ، وقمت فيها مقام حق ، صحت لك الخلة لا بل المحبة التي هي أعظم وأخص من الخلة ، لأن الخليل يصحبك لك ، والمحب يصحبك لنفسه ، فشتان ما بين الخلة والمحبة. فالخليل يعتضد بخليله والحبيب يبطن في محبه فيقيه بنفسه. فالحق مجنّ المحبوب ، والخليل مجنّ خليله. فينبغي للإنسان الطالب مقام الخلة أن يحسن عامة لجميع خلق الله كافرهم ومؤمنهم طائعهم

٥٤٩

وعاصيهم ، وأن يقوم في العالم مع قوته مقام الحق فيهم مع شمول الرحمة وعموم لطائفه من حيث لا يشعرهم أن ذلك الإحسان منه ، ويوصل الإحسان إليهم من حيث لا يعلمون. فإذا كان العبد بهذه المثابة ، صحت له الخلة ، وإذا لم يستطع بالظاهر لعدم الموجود ، أمدهم بالباطن ، فدعا لهم في نفسه بينه وبين ربه ، هكذا تكون حالة الخليل فهو رحمة كله. فالخليل على عادة خليله وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : المرء على دين خليله أي على عادة خليله. فمن كانت عادته في خلق الله ما عودهم الله من لطائف مننه ، وأسبغ عليهم من جزيل نعمه ، وأعطف بعضهم على بعض ، فلم يظهر في العالم غضب لا تشويه رحمة ولا عداوة لا تتخللها مودة ، فذلك مستحق اسم الخلة لقيامه بحقها واستيفائه شروطها.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) (١٢٦)

أي له في كل شيء إحاطة ، بما هو ذلك المعلوم عليه ، ويريد هنا شيئية الوجود لا شيئية الثبوت ، فإن الأمر هناك لا يتصف بالإحاطة. فالوجود في نقطة دائرة هذا الاسم (اللهُ) ساكن وقد اشتمل عليه بحقيقته اشتمال الأماكن على المتمكن الساكن ، فليس لشيء خروج عنه تعالى ، فهو مستو على عرشه الأعلى ، ولو دليتم بحبل لهبط على الله. اجتمع أربعة من الأملاك على الكعبة : واحد نازل من السماء ، وآخر عرج من الأرض السفلى ، والثالث جاء من ناحية المشرق ، والرابع من ناحية المغرب ، فسأل كل واحد منهم صاحبه من أين جئت ، فكلهم قالوا : من عند الله. وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : إن الله في السماء كما هو في الأرض ، وإن الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم. فهو تعالى ـ جل جلاله عن التقييد ـ القبلة المعتبرة للقلوب. لا تقيده الجهات ولا تحصره الأينيات وهو بالعين في كلّ أين ، ليس ذلك لسواه ، ولا يوصف به موجود إلا إياه.

(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ

٥٥٠

اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) (١٢٧)

(وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (١٢٨)

وأحضرت الأنفس الشح لأنها من الطبيعة ومن حكمها الشح والبخل فيمن تركب منها ، وسببه فينا أن الفقر والحاجة ذاتي لنا ولكل ممكن ، فالمكون عن الطبيعة شحيح بخيل بالذات كريم بالعرض.

(وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (١٢٩)

الأحكام للمواطن التي تملك ، وما لا يملك منها إذا وقع فيها الجور ، فإن صاحبه لا يهلك ، القسمة بين الأزواج ، في النفقة والنكاح على السواء ، وما يقع به الالتذاذ من طريق الأشباح ، والقسمة في الوداد ، خارجة عن مقدور العباد ، فلا حرج ولا جناح ، في جور الأرواح. الودّ للمناسبة ، فزالت فيه المعاتبة. لا يقال : لم لم تحبني؟ ويقال : لم لا تقربني؟ قربة الأجساد مقدور عليه في المعتاد وقرب الفؤاد لا يكون إلا بحكم الوداد.

(وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢)

٥٥١

إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً) (١٣٣)

يتضح من هذه الآية أن الاقتدار يأبى إلا الوجود ، وعلق الإرادة والمشيئة بالإعدام فقال (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) أي يردكم إلى الحالة التي كنتم موصوفين فيها بالعدم وعلق الاقتدار بإيجاد قوم آخرين فقال : «ويأت بقوم آخرين» (وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ) ولم يقل ذينك على التثنية ؛ فكانت الإشارة من حيث أحديتها للأقرب ، وهو الذي أتى به (قَدِيراً) ، فإن الله تعالى هو الوجود ، فلا يعطي إلا الوجود لأن الخير كله بيديه ، والوجود هو الخير كله ، والحقّ لا يعدم عدم العين ، ولكن يكون عنه العدم الإضافي وهو الذهاب والانتقال ، فينقلك أو يذهبك من حال إلى حال مع وجود عينك في الحالين ومن مكان إلى مكان مع وجود عينك في كل واحد منهما وبينهما ؛ فالإتيان بصفة القدرة والذهاب بالإرادة من حيث ما هو ذهاب خاصة ، فالحق مذهب الأشياء لا معدمها ، فهو وإن أذهب الأشياء من موطن كان لها وجود في موطن آخر. فالموت إذهاب لا إعدام ، فإنه انتقال من دنيا إلى آخرة ، التي أولها البرزخ. فلما كان الإذهاب من صفات الحق لا الإعدام ، قال تعالى (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) أيها الناس (وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) ولم يقل يعدمكم (وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً).

(مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ

٥٥٢

وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) (١٣٦)

ـ الوجه الأول ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) في الأخذ الميثاقي (آمَنُوا) لقول الرسول إليكم من عندنا ، فلولا أن الإيمان كان عندهم ما وصفوا به ، فما ثم إيمان محدث بل هو مكتوب في قلب كل مؤمن ، فإن زال في حقّ المريد الشقاء ، فإنما تزول وحدانية المعبود لا وجوده ، وبالتوحيد تتعلق السعادة ، وبنفيه يتعلق الشقاء المؤبد. فما في العالم إلا مؤمن ، لأن ما في العالم إلا من هو ساجد لله إلا بعض الثقلين من الجن والإنس ، فإن الإنسان الواحد منهم كثيرا ممن يسبح الله ويسجد لله وفيه من لا يسجد لله وهو الذي حق عليه العذاب. فقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فسماهم مؤمنين وأمرهم بالإيمان ؛ فالأول عموم الإيمان ، فإن الله قال في حق قوم والذين آمنوا بالباطل ، والثاني خصوص الإيمان وهو المأمور به ، والأول إقرار منهم من غير أن يقترن به تكليف ، بل ذلك عن علم ، وأيسره في بني آدم حين أشهدهم على أنفسهم فقال (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) ، فخاطبهم بالمؤمنين حين أيه بهم ، ثم أمرهم بالإيمان في هذه الحالة الأخرى. وقوله (آمِنُوا بِاللهِ) ولم يقل بتوحيد الله ، فمن آمن بوجود الله فقد آمن ، ومن آمن بتوحيده فما أشرك. فالإيمان إثبات ، والتوحيد نفي الشريك. ـ الوجه الثاني ـ تدل هذه الآية على إطلاق لفظة الإيمان من حيث الإطلاق وعدم التقييد على كل من آمن بالباطل فإنه قال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فأطلق الله الإيمان ولم يقيده ، فإنه قال في المشركين (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ) وقال (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) ، فسمى المشرك مؤمنا ، وما كانوا مؤمنين إلا بالباطل. فهؤلاء هم المؤمنون الذين أيه الله بهم في قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) فميزهم عن أهل الكتاب والكتب ، وما ثم مخبر جاء بخبر إلا الرسل ، فتعين أن المؤمنين الذين أمروا بالإيمان أنهم الذين آمنوا بالباطل وآمنوا بالشريك ، ودلّ على أنه ما خاطب أهل الكتاب فقط ، فإنه أمرهم بالإيمان بالكتاب الذي أنزل من قبل ، ولا شك أنهم به مؤمنون أعني علماء أهل الكتاب ، ثم قيد الكفر في هذه الآية ولم يقيد الإيمان فقال (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ) فقيد في الذكر ما أمر به عبده أن يؤمن به ، وما تعرض في الذكر للكفر المطلق ، كما أطلق الإيمان ونعتهم به في قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وما كانوا مؤمنين إلا بالباطل ، فإن

٥٥٣

المؤمن بالله لا يقال له : آمن بالله فإنه به مؤمن ، وإن احتمل أن يؤمن به لقول هذا الرسول الخاص على طريق القربة ، ولكن التحقيق في ذلك ما ذهبنا إليه ولا سيما والحق قد أطلق اسم الإيمان على من آمن بالباطل ، واسم الكفر على من كفر بالطاغوت ـ الوجه الثالث ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يريد أهل الكتاب حيث قالوا ما قالوه لأمر نبيهم عيسى أو موسى أو من كان من أهل الإيمان بذلك من الكتب المتقدمة ، ولهذا قال لهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ثم قال لهم (آمَنُوا) بأنبيائي ، قولوا لا إله إلا الله لقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا لعلمكم بذلك ولا لإيمانكم بنبيكم الأول ، فتجمعوا بين الإيمانين فيكون لكم أجران. ومن هنا يعلم الفرق بين العلم بالشيء وبين الإيمان به ، وأنّ السعادة في الإيمان وهو أن تقول ما تعلمه ، وما قلته لقول رسولك الأول لقول هذا الرسول الثاني الذي هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا لعلمك ولا للقول الأول ، فحينئذ يشهد لك بالإيمان ومآلك السعادة ، وإذا قلت ذلك لا لقوله ، وأظهرت أنك قلت ذلك لقوله ، كنت منافقا ، فما اختبر الله العالم إلا ليعلم ما هو به عالم فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) : هذا ذلك من وجه ، فهذا مؤمن كلف أن يؤمن بما هو به مؤمن. لذلك قال (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) ، ولا يؤمن بالرسول إلا ما خاطبه الحق في سرّه ، وإن لم يشعر به المخاطب ولا يعرف ، ولكن يجد التصديق به في قلبه. فلولا تجلي الحق لقلب المؤمن وتعريفه إياه بغير واسطة ما آمن بالرسول ولا صدّق. وكذلك في إيمان المؤمن بما جاء به الرسول وهو قوله (وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ) ، لولا تجلي الرسول بقلبه وتعريفه إياه بغير واسطة ما آمن بما جاء به ولا صدق وإن لم يشعر المؤمن ولا يدري كيف آمن ، فما كل مؤمن يعرف من أين حصل له الإيمان ـ الوجه الرابع ـ لما كان التأيه والنداء مؤذنا بالبعد عن الحالة التي يدعو إليها من يناديه من أجلها فيقول (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) فلبعدهم مما أيه بهم أن يؤمنوا به ، لذلك أيه بهم ، فإن كانوا موصوفين في الحال بما دعاهم إليه فيتعلق البعد بالزمان المستقبل في حقهم ، أي اثبتوا على حالكم الذي ارتضاه الدين لكم في المستقبل كما قال يعقوب لبنيه (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) في حال حياته ، فأمرهم بالإسلام في المستقبل أي بالثبوت عليه ، والاستقبال بعيد عن زمان الحال ، فيكون التأيه أيضا بما هو موجود في الحال أن يكون باقيا في المستقبل. واعلم أن النداء الإلهي يعمّ المؤمن والكافر والطائع والعاصي والأرواح والروحانيين ، فمن أجاب سمي مطيعا وكان سعيدا ، وإن لم

٥٥٤

يجب سمي عاصيا وكان شقيا. ونداء الحق لا يكون إلا بما يكون في إجابته السعادة للعبد.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) (١٤٠)

من لم يحضر عند الكلام بسمعه لم يعرف هل كفر به أو لم يكفر؟ ولا يصدق في دعواه أنه سمع فإنه لا يغنيه سماع الأذن من الله تعالى شيئا ، فلا يعقل إلا من سمع ، ولا يسمع إلا من حضر. فلما أخبر سبحانه أن الذين يخوضون في آيات الله إذا قعد معهم سامع لهم أنه في مقامهم وأنه يجازى من حيث هم للاشتراك ، أوصانا وحذرنا بقوله تعالى (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) إذا أقمتم معهم وهم بهذه المثابة ، وإن لم نخض معهم فإنه لا يرضى بهذه المنزلة إلا منافق ، ولهذا قال تعالى (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) فالكافر الخايض والمنافق الجليس له والمستمع لخوضه ، فيخاض بهم حيث يكرهون كما خاضوا هنا حيث يكره الحق منهم.

(الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١)

٥٥٥

إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً) (١٤٢)

ما يخادع الله إلا جاهل بالله غاية الجهل. وقوله تعالى (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) أي خداعهم هو خداع الله بهم فهو خادعهم بعين اعتقادهم أنهم يخادعون الله. وقال تعالى (وَهُوَ خادِعُهُمْ) ولم يقل مخادعهم ، فإنه يخدعهم حقيقة ، وهم لا يقدرون أن يخدعوه. (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ) فهم في بواطنهم على خلاف ما يبدو للناس.

(مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) (١٤٥)

إذا كان يوم القيامة يحشر الله هذه الأمة وفيها منافقوها ، فإذا انبعثت كل أمة إلى ما كانت تعبد ، ودخلت الأمم النار ، ونصب الصراط على جسر جهنم ، أتي بالمنافقين الذين أظهروا الإيمان بألسنتهم وصلوا وصاموا ، وقاموا بفروع الشريعة في الصورة الظاهرة كما قام المؤمنون ، أتى بهم الله تعالى حتى انفهقت لهم الجنة بما تحويه من الخير والسرور ، فتنعموا برؤيتها وظنوا أنهم داخلوها ، فكانت تلك النظرة والفرح الذي قام لهم بالطمع بدخولها جزاء لما جاؤوا به من الأعمال الظاهرة ظاهرا بظاهر ، عدلا منه سبحانه. فإذا طابق الجزاء أعمالهم وأخذوا حقّهم ، وهم لا يعلمون أنهم يصرفون عنها ، ضرب الله بينهم وبين الجنة سورا ، باطنه الجنة ، وظاهره من قبله العذاب ، فيؤمر بهم إلى النار ، فهذا هو استهزاء الله بهم وسخرية الله بهم ، فجمع سبحانه في هذا الفعل الواحد بين العدل والاستهزاء كما جمعوا بين الإسلام

٥٥٦

والكفر. وليس للمنافقين من النار إلا الدرك الأسفل وهي النار التي تطلع على الأفئدة لما هم عليه من إصرار الكفر ، وليس لهم في أعلاها مكان إلا على قدر معاصيهم الظاهرة ولما أتوا به من الأعمال الظاهرة. والكافر يتعذب في النار علوا وسفلا بخلاف المنافق ، فما عنده من يعصمه من نار الله ولا من جهنم ، وكلهم في جهنم جميعا : ومن أعجب ما روينا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قاعدا مع أصحابه في المسجد فسمعوا هدة عظيمة فارتاعوا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتعرفون ما هذه الهدة؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال حجر ألقي من أعلى جهنم منذ سبعين سنة ، الآن وصل إلى قعرها. فكان وصوله إلى قعرها وسقوطه فيها هذه الهدة. فما فرغ من كلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا والصراخ في دار منافق من المنافقين ، قد مات وكان عمره سبعين سنة فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الله أكبر فعلم علماء الصحابة أن هذا الحجر هو ذاك المنافق وأنه منذ خلقه الله يهوي في نار جهنم وبلغ عمره سبعين سنة ، فلما مات حصل في قعرها ، فكان سماعهم تلك الهدة التي أسمعهم الله ليعتبروا. فانظر ما أعجب كلام النبوة ، وما ألطف تعريفه ، وما أحسن إشارته ، وما أعذب كلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. واعلم أن جهنم كلها مائة درك من أعلاها إلى أسفلها نظائر درج الجنة التي ينزل فيها السعداء ، فتساوى عدد الدرك والدرج. ويقع الامتياز بأن امتازت النار عن الجنة بأنه ليس في النار دركات اختصاص إلهي ولا عذاب اختصاص إلهي من الله ، فإن الله ما عرفنا قطّ أنه اختص بنقمته من يشاء كما أخبرنا أنه يختصّ برحمته من يشاء وبفضله ، فأهل النار معذبون بأعمالهم لا غير ، وأهل الجنة ينعمون بأعمالهم وبغير أعمالهم في جنات الاختصاص. ولما كان مذهبنا أن جميع الناس كافة من مؤمن وكافر ومنافق مكلفون مخاطبون بأصول الشريعة وفروعها وأنهم مؤاخذون يوم القيامة بالأصول والفروع ، لهذا كان المنافق في الدرك الأسفل من النار وهو باطن النار ، وأن المنافق معذب بالنار التي تطلع على الأفئدة ، إذ أتى في الدنيا بصورة ظاهر الحكم المشروع من التلفظ بالشهادة وإظهار تصديق الرسل والأعمال الظاهرة ، وما عندهم في بواطنهم من الإيمان مثقال ذرة. فبهذا القدر تميّزوا من الكفار وقيل فيهم : إنهم منافقون ، وقال تعالى : إن المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ، فذكر الدار. فالمنافقون يعذبون في أسفل جهنم ، والكافرون لهم عذاب الأعلى والأسفل.

(إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ

٥٥٧

الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦) ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً (١٤٧) لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً) (١٤٨)

ما علم الحكم بكون القول سوءا إلا من القول إذ لولا القول ما وصل علمه إلينا. فالقول بالسوء بطريق التعريف أنه سوء قول خير يجب الجهر به لأنه تعليم حتى لا يجهر به عند الاستعمال إذا قضى الله على المكلف استعمال هذا. فنفى المحبة أن يكون متعلقها الجهر بالسوء من القول ، والجهر بالسوء قد يكون قولا ، وقد يكون في الأفعال التي لا تكون قولا ، فيريد بالجهر فيها ظهور الفحشاء من العبد ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بلي منكم بهذه القاذورات فليستتر ؛ يعني لا يجهر بها. ولما وقع الاصطلاح في اللسان على السيء والحسن ، نزل الشرع من عند الله بحسب التواطؤ ، فهم سموه سوءا ، وقالوا : إن ثمّ سوءا فقال «إن الله (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) الذي سميتموه سوءا لكونه لا يوافق أغراضكم (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) والجهر بالسوء من القول وإن كان جزاء بقوله (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) ولكن السكوت عنه أفضل (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً).

(إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) (١٤٩)

اعلم أن كل مخالف أمر الحق فإنه يستدعي بهذه المخالفة من الحق مخالفة غرضه ، ولذلك لا يكون العفو والتجاوز والمغفرة من الحق جزاء لمخالفة العبد في بعض العبيد ، وإنما يكون ذلك امتنانا من الله عليه ، فإن كان جزاء فهو جزاء لمن عفا عن عبد مثله وتجاوز وغفر لمن أساء إليه في دنياه ، فقام له الحق في تلك الصفة من العفو والصفح والتجاوز والمغفرة مثلا بمثل يدا بيدها وها ، فما نهى الله عباده عن شيء إلا كان منه أبعد ، ولا أمرهم بكريم خلق إلا كان الحق به أحق.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ

٥٥٨

وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) (١٥٠)

لذلك قال لهم الحق تعالى (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) فإنهم قالوا (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ) وهو الحق (وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) وهو الباطل فخلطوا بينهما ويتخيلون أن الحق يختلط بالباطل وليس كذلك (وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) أي يحدثوا طريقا أخرى من عند أنفسهم. واعلم أن جماعة من العقلاء جعلوا الشريعة بمعزل فيما زعموا ؛ والشريعة أبدا لا تكون بمعزل ، فإنها تعم قول كل قائل واعتقاد كل معتقد ومدلول كل دليل ، لأنها عن الله المتكلم ، فيه قد نزلت. وإنما قلنا في هذه الطائفة المعينة أنها جعلت الشريعة بمعزل مع كونها قالت ببعض ما جاءت به الشريعة ؛ فما أخذت من الشريعة إلا ما وافق نظرها. وما عدا ذلك رمت به أو جعلته خطابا للعامة التي لا تفقه ، هذا إذا عرفت واعتقدت أن ذلك من عند الله لا من نفس الرسول ، فقال تعالى عنهم على طريق الذم (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً). وإن كان قد جاء الشرع بما هم عليه فما أخذوا ما أخذوا من كون الشرع جاء به وإنما قالوا به للموافقة احتجاجا. والطائفة السعيدة لا ترمي من الشريعة شيئا ، بل تترك نظرها وحكم عقلها بعد ثبوت الشرع لحكم ما يأتي به الشرع إليها ، ويقضي به ، فهم سادات العالم ، وأما تنزيه الحق عما تنزهه عباده مما سوى العبودية ، فلا علم لهم بما هو الأمر عليه ، فإنه يكذب ربه في كل حال يجعل الحق فيه نفسه مع عباده ، وهذا أعظم ما يكون من سوء الأدب مع الله أن ينزهه عما نسبه سبحانه إلى نفسه بما نسبه إلى نفسه ، فهو يؤمن ببعض وهو قوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ويكفر ببعض ، فأولئك هم الكافرون حقّا ، فجعل العبد نفسه أعلم منه بربه نفسه ، وأكثر من هذا الجهل فلا يكون. والعبد المؤمن ينبغي له أن ينسب إلى الحق ما نسبه الحق إلى نفسه على حد ما يعلمه الله من ذلك ، إذا لم يكن ممن كشف الله عن بصيرته ، حتى رأى الأمر على ما هو عليه. وهذا هو الشرك الخفي فإنه نزاع لله تعالى خفي في العبد ، لا يشعر به كل أحد ولا سيما الواقع فيه ، ويتخيل أنه في الحاصل ، وهو في الفائت. فهذا المنزه الجاهل ينزهه عن ذلك الوصف الذي وصف به الحق نفسه ، وأخذ يثني عليه بما يرى أنه ثناء على الله ، والله ما أمره أن ينزهه إلا بحمده أي بما أثنى على

٥٥٩

نفسه به في كتبه وعلى ألسنة رسله. فإذا أراد العبد نجاة نفسه وتحصيل أسباب سعادته ، فلا يحمد الله إلا بحمده كان ما كان ، على علم الله في ذلك من غير تعيين ، فإن قبضه الله تعالى على ذلك اطلع على الأمر على ما هو عليه ، إذا لم يكن من أهل الكشف في الحياة الدنيا ، وإن لم يفعل وتأول فهو لما تأوله ، وحرمه الله كل ما خرج عن تأويله ، فلم يره فيه ، وهذا أعظم الحرمان ، وعند الكشف الأخروي يرى ما كان عليه من سوء الأدب مع الله والجهل به ، كما ورد أن أهل هذا المقام ، إذا تجلى لهم الحق تعالى في الآخرة ينكرونه ولا يقرون به لأنهم ما عبدوا ربا إلا مقيدا بعلامة ، فإذا ظهر لهم بتلك العلامة أقروا له بالربوبية وهو عين ما أنكروه ، وأي جهل أعظم من أن يقر بما هو له منكر.

(أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) (١٥١)

فرجح جانب الكفر في الحكم على جانب الإيمان ، وإنما رجح حكم الكفر لأحدية المخبر وصدقه عنده فيما أخبر به مطلقا من غير تقييد لاستحالة الكذب عليه ، ولأن الإيمان في نفسه لا يتكثر وإنما كثرته ظهوره في المواطن ، فنفى عنهم الإيمان كله إذ نفوه من مرتبة واحدة ، فهم أولى باسم الكفر الذي هو الستر ، فإن الكافر الأصلي هو الذي استتر عنه الحق ، وهذا عرف الإيمان وستره ، فإنه قال نؤمن ببعض فهو أولى باسم الكفر من الذي لا يعرفه ، لذا قال (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا).

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢) يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ

٥٦٠