رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦٢)

يقال : صبا فلان إلى كذا إذا مال إليه.

____________________________________

بالإيمان ، وكله استبدال ، لا ينكر عليه في نفسه القذرة أن يستبدل المن والسلوى بالثوم والبصل ، فقال لهم الله (اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) لأنهم سألوا دنيّا ، فأهبطوا من عز رفعتهم بعناية الله بهم وما اختاره من الطعام الطيب ، وقوله (مِصْراً) منونا ، أي مصرا من الأمصار ، ومن لم ينوّن أراد البلدة المسماة بمصر ، فلما هبطوا وكفروا بآيات الله ، وقتلوا النبيين بغير الحق وعصوا واعتدوا (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) أي ألصقت بهم ، من ضربت الطين على الحائط إذا ألصقته ، يقول لزمتهم الذلة وهي الصغار ، والمسكنة الخضوع والسكون تحت صولة الإيمان ، فلم يرفع الله لهم علما ، ولا قام منهم ملك ، حيث كانوا في جميع الملل لا يزالون أذلاء صاغرين (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) أي استحقوا الغضب من الله ، يقال باء فلان بفلان إذا كان حقيقا أن يؤخذ به لمساواته إياه في الكفاءة في ذلك ، وقال عليه‌السلام : من قال لأخيه كافر فقد باء به أحدهما ، أي استحق ذلك الإطلاق أحد الرجلين ، إما المقول فيه إن كان كافرا ، وإما القائل إن كان المقول فيه مسلما ، لأنه سمى الإسلام كفرا ، ومن اعتقد بذلك فقد كفر ، ذهب إلى هذا بعض العلماء ، ثم قال (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) هذه باء السبب (كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) قد تقدم شرح الكافر في أول السورة ، وقوله (بِآياتِ اللهِ) يقول بما نصبه الحق من الدلالات على تصديق ما جاءت به رسله من كتاب وغيره (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) سبب آخر زائد على الكفر بالآيات ، يقول عنادا ، أي لم يقتلوهم بحق من عندهم فيما يرجع إلى دينهم ، فالألف واللام للحق المعهود عندهم ، لا للحق الذي جاءت به الأنبياء صلوات الله عليهم ، فإن ذلك معلوم بلا شك ، وإنما فائدة ذكر الحق فيما ترجمنا عنه (ذلِكَ بِما عَصَوْا) في ردهم الآيات (وَكانُوا يَعْتَدُونَ) يتجاوزون الحق الذي اتخذوه دينا ، ما وقفوا عنده ، بل تعدوه وجاوزوه بالمخالفة في قتلهم الأنبياء (٦٣) (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) الآية ، يقول : إن الذين آمنوا أي أقروا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم ، فيكون على هذا من آمن منهم بالله يعود الضمير عليهم ، وعلى الذين هادوا والنصارى والصابئين مخلصا من قلبه ، وقد يريد (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) خالصا من قلبه (وَالَّذِينَ هادُوا) يعني اليهود ، يقال هاد يهود وتهّود إذا دخل في دين اليهودية (وَالنَّصارى) جمع نصران (وَالصَّابِئِينَ)

١٤١

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (٦٥)

ظهر المسخ في بني إسرائيل بالصورة فمسخهم الله قردة وخنازير.

____________________________________

من صبأ إذا مال من دينه إلى دين آخر ، يقول (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) صدق من هؤلاء المذكورين بقلبه «وآمن بالله» يقول بتوحيده ، أي بوحدانيته (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يقول بالبعث ، أي بوجود يوم القيامة (وَعَمِلَ صالِحاً) ولم يدخل في عمله خللا من شرك خفي ولا جلي (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) جزاء عملهم (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي عند سيدهم الذي استخدمهم وكلفهم بالأعمال ، وهو الله تعالى (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) زائد على الجزاء بما حصّلوا من النعيم في مقابلة ما فعلوا من الخير الذي له عين موجودة ، وما وصفوا به من نفي الخوف والحزن عنهم فيما تركوا مما أمروا بتركه ، فسلب لسلب ، وإثبات لإثبات (٦٤) (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) أما قوله (وَإِذْ أَخَذْنا) بنون الجمع لوساطة الرسل في ذلك ، فهم الذين أخذوا المواثيق لله على أممهم ، فأخذ الميثاق من الله ورسوله ، فلهذا كنّى سبحانه بالنون ، وليس لنا ذلك إلا بأمر منه سبحانه ، وقد قال عليه‌السلام لمن جمع بين الله ورسوله في الضمير في خطبته (بئس الخطيب أنت) ، فهذا ضمير المخاطبين يعود على كل من أخذ عليه الميثاق مطلقا ، من أخذ الذرية إلى نبوة محمد عليه‌السلام ، وهو الإقرار بالوحدانية وبما يجيء من عند الله في كتبه أو على ألسنة رسله مما يجب الإيمان به ، ثم خصص في الخطاب بعض من أخذ عليه الميثاق في قوله (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) أراد بني إسرائيل بهذا الخطاب خاصة ، وذلك لما امتنعوا من قبول كتابهم والحفظ له والعمل به لما فيه من التكاليف الشاقة عليهم ، فاقتلع الله الجبل ورفعه عليهم كالظلة ، إن لم يقبلوا الكتاب ويوفوا بعهد الله وميثاقه وإلا أوقع عليهم الجبل ، وقال لهم والجبل على رؤوسهم (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) أي اقبلوا ما أعطيناكم بجد وعزم على حفظه والعمل به ، وقد يكون العامل في الباء من بقوة (آتَيْناكُمْ) أي خذوا ما أعطيناكم تقوية على ما كلفتموه لما يتضمن من الوعد الجميل والثواب الجزيل لمن عمل فيه ، ولما يتضمن من الوعيد

١٤٢

(فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٦٧)

المناسبة بين البقر والإنسان قوية عظيمة السلطان ، وكما أن البقر برزخ بين الإبل والغنم

____________________________________

والتهديد لمن ترك العمل بما فيه ، فيكون وقوفكم عليه وقراءتكم له محرضا وتقوية على العمل به ، ويؤيد هذا قوله (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) ثم جاء بلفظة (اذْكُرُوا ما فِيهِ) مما تقدم من أخذ المواثيق في ذلكم عليكم ، ومما يتضمنه من نعم الله عليكم ، إذ أوجدكم واصطفاكم بما ذكره فيه زائدا على ما فيه مما شرع لكم (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) يقول لهم الرسول بأمر الله (لَعَلَّكُمْ) فيكون الترجي من الرسول أن تتقوا أو منهم أن يكونوا من المتقين ، وقد ذكرنا تفسير (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) والمتقي من هو في أول السورة ، ثم قال تعالى (٦٥) (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي أعرضتم لما رفعنا عنكم ما ظننتم أنه واقع بكم ، وهو الجبل وإليه الإشارة «بذلك» وهو قوله تعالى (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) بكم حيث لم يعاقبكم بسقوط الجبل عليكم فتموتون ناكثين ، فتكونون من الذين لم تربح تجارته وكنتم خاسرين (لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) قال لهم ذلك ليرجعوا عن توليهم وإعراضهم ونكثهم ، فإن احتجوا بالفاء في قوله (فَلَوْ لا) أنها للتعقيب ، قلنا : كذا وردت ، فإنه سبحانه لما رفع الجبل على رؤوسهم ، لولا فضله ورحمته أسقطه عليهم ، ولم ينتظر بهم أن يأخذوا الكتاب ، لا أنهم بعد التولي الثاني تفضل عليهم بالتوبة ، ثم قال تعالى (٦٦) (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ) خطابا لبني إسرائيل (الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ) بعّضهم ، أي جاوزوا ما حد لهم أن يفعلوه ويتركوه (فِي) يوم (السَّبْتِ) من ترك الصيد فيه والمثابرة على طاعته ، وهم الذين تولوا ونكثوا ، وما ذكر أنه تاب عليهم ، ثم قال (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا) هو قوله (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وقال عليه‌السلام وهو في غزوة تبوك وقد أبصر شخصا مقبلا على بعد وهو في أصحابه : كن أباذر ، فكان أبوذر ، فكان ، والكون حرف وجودي عند الجماعة ، وعندنا حرف ثبوتي ، فإنه يتوجه على الإيجاد والإعدام ، والعدم يثبت للمعدوم ولا يكون له ، وهذه مسئلة عظيمة القدر ، فإنه ليس في قوتهم أن يكوّنوا أنفسهم (قِرَدَةً) وإنما الله يكونهم أي يقلب صورهم قردة ، والحقائق لا تتبدل ، فمن المخاطب بأن يرجع قردا؟ فقد يصح هنا قول من يقول إن الجواهر متماثلة والصور أعراض فيها ، فسلخ الله

١٤٣

في الحيوان المذكى ، فالإنسان برزخ بين الملك والحيوان ، ثم إن البقرة التي ظهر الإحياء بموتها والضرب بها برزخية أيضا في سنها ولونها ، فهي لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك ، فهذا مقام برزخي ، وهي لا بيضاء ولا سوداء بل صفراء ، والصفرة لون برزخي بين البياض والسواد ، فقويت المناسبة بين البقر والنفوس الإنسانية (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) لأن الجهل صفة مذمومة منهي عنها بقوله تعالى : «فلا تك من الجاهلين» مستعاذ بالله منها.

____________________________________

الصورة الإنسانية من الجوهر وكساه صورة القرد ، فإن الحرارة لا ترجع برودة ، لكن الحار بقبوله للحرارة إذا زالت عنه زال عنه اسم الحار وقبل البرودة ، فصح عليه اسم البارد ، وما ثبت عندنا من طريق صحيحة أن ظواهرهم رجعت في صورة القردة ، والقدرة صالحة ، فقد يحتمل أن يكون مسخ بواطنهم قردة مع بقاء الصورة الإنسانية ، ويحتمل أن يكون مسخ ظواهرهم قردة مع بقاء علمهم بأنهم ذلك ، ليذوقوا العذاب ، فيكون قردا في الظاهر إنسانا في الباطن ، والله على كل شيء قدير ، وما يقع التوقف إلا من عدم صحة النقل لا من حيث الإمكان ، وقوله (خاسِئِينَ) أي مبعودين مطرودين من رحمة الله ، ، وقوله (٦٧) (فَجَعَلْناها) يعني هذه الكائنة (نَكالاً) قيدا وحدا يوقف عنده إذ كان النكل القيد يقف عنده الماضي والآتي معتبرا ، وقد يكون قيدا أي ثباتا للممسوخين على هذه الصورة «ل» لأجل «ما (بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَ) جعلناها (مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) للذين يخافون مثل هذه الأشياء ، وقد يكون نكالا من النكول وهو العدول ، عدل بهم عن رحمة الله لما عدلوا عن طاعته والوفاء بعهده وميثاقه ، وجعلناها بمعنى صيّرناها في عينها للحاضرين الذين يشاهدونها ، وفي الذكر بالخبر عنها لمن يأتي بعدهم ، وذلك أن الله لما خلق الإنسان خلقه مستقبلا الآخرة ، فهو يطلبها في سيره ، ومدة ذلك عمره ، وأول منزل يلقاه منها القبر ، وأول حالة تدركه منها الموت ، والساعة أيضا تستقبله ولذا سميت ساعة أي تسعى إليه ، فعند الموت يكون اللقاء بين الإنسان والقيامة ، قال عليه‌السلام (من مات فقد قامت قيامته) ولا يزال في منازلها يتقلب ويقطعها إلى يوم البعث ، ثم يقطع منازل ذلك اليوم إلى أن يصل إلى الجنة أو إلى النار ، فلهذا ثبت له الأمام لما يستقبله ، والخلف لما يأتي بعده (٦٨) (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) القصة : كان سبب هذا أن رجلا قتل عمه وجعله في أرض قوم ليأخذ ديته ، ثم استعدى على أهل تلك الأرض ، وتدافعوا معه بالخصومة فارتفعوا إلى موسى عليه‌السلام وسألوه أن يبين لهم عن الأمر ، فسأل ربه ، فأمره أن يأمرهم أن يذبحوا بقرة ، فيضرب الميت ببعضها ، فيحييه الله ، ليريهم كيف يحيي الله الموتى ، ولتبرأ ذمة البريء مما نسب إليه من ذلك ،

١٤٤

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (٧٢)

(فَادَّارَأْتُمْ فِيها) أي تدافعتم فيها (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ).

____________________________________

فـ (قالُوا) لموسى (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) أي تسخر بنا (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) فإن الجاهل هو الذي يسخر بعباد الله (٦٩) (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ) أي لا هرمة (وَلا بِكْرٌ) وهي التي ولد لها ولد واحد (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) والعوان التي ولد ولدها ، قد يفهم من هذا ما يخرج في الصدقة من الماشية ، حتى لا يعتدي فيها من الطرفين ، من رب المال يأخذ الأنفس ، ومن جهة المتصدق عليه من أخذ الأخس (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) (٧٠) (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) أي بالغ في الصفرة حسنا وجمالا ، يقال أصفر فاقع ، وأسود حالك ، وأبيض يقق ، وأحمر ناصع ، وقال (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) أي يستحسنها من نظر إليها (٧١) (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) أي هذا الجنس كثير ويشتبه علينا فزدنا بيانا (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) فلما تأدبوا مع الله في الاستثناء رزقهم الهداية إلى ما سألوه من ذلك ، فلم يسألوا بعد ذلك ، (٧٢) (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ) أي صعبة القياد (تُثِيرُ الْأَرْضَ) أي لا تنقاد للحرث ، يقول : ما هي ذلول تثير الأرض ، أي يحرث بها (وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) ولا

١٤٥

(فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٧٣)

ولذلك فإن بين البقر والنفس نسبة ، إذ الغنم تناسب الأرواح ، والبدن أي الإبل تناسب الأجسام ، والبقر تناسب الأنفس ، لذلك قال تعالى : (اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) فتحيا بإذن الله تلك النفس المقتولة للمناسبة ، فإنه لما كانت المناسبة بين البقر والإنسان قوية عظيمة السلطان ، لذلك حي بها الميت لما ضرب ببعض البقر ، فجاء بالضرب إشارة إلى الصفة القهرية لما شمخت النفس الإنسانية أن تكون سبب حياته بقرة ، ولا سيما وقد ذبحت وزالت حياتها ، فحيي بحياتها هذا الإنسان المضروب ببعضها ، وكان قد أبى لما عرضت عليه فضرب ببعضها فحيي بصفة قهرية ، للأنفة التي جبل الله الإنسان عليها ، وفعل الله ذلك ليعرفه أن الاشتراك بينه وبين الحيوان في الحيوانية محقق بالحد والحقيقة ، ولهذا هو كل حيوان جسم متغذ حساس ، فالإنسان وغيره ، من الحيوان. وانفصل كل نوع من الحيوان عن غيره بفصله المقوم لذاته الذي به سمي هذا إنسانا ، وهذا بقرا ، وهذا غنما ، وغير ذلك من الأنواع ، وما أبى الإنسان إلا من حيث فصله المقوم ، وتخيل أن حيوانيته مثل فصله

____________________________________

يسقى بها الحرث ، أي تدور بالسانية لصعوبتها (مُسَلَّمَةٌ) صحيحة (لا شِيَةَ فِيها) أي لا لون فيها من عير لونها (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) المطلوب لنا ، أي استوفيت الصفة (فَذَبَحُوها) ومن كثرة تفتيشهم على صفتها كادوا لا يجدونها فلا يفعلون ، فهو قوله (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) (٧٣) (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها ، وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (٧٤) (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها ، كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ ، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)(فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) واختلف الناس في ذلك البعض ما هو؟ فمن جملة ما قالوه فخذها ، ولسانها ، وفيه مناسبة ، فإن اللسان محل الكلام ، والمراد من الميت النطق ليعرفوا الأمر ، وأما الفخذ خاصته فقد ورد أنه لا تقوم الساعة حتى تكلم الرجل فخذه بما فعل أهله بعده ، فخص الفخذ بذلك في الدنيا دون غيره من الأعضاء ، وهذا الإحياء إنما وقع في الدنيا ، وأما في الآخرة فتنطق الجلود والأيدي والأرجل والألسنة قال تعالى (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) يعني في قيام الميت حيا من قبره ، أي تظهر يوم القيامة حياته القائمة بجسمه ، التي نحن اليوم محجوبون عن إدراكها ، السارية في كل موجود من جماد ونبات وحيوان ، التي أدركها النبيون وأهل الكشف ، قال تعالى (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ

١٤٦

المقوم ، فأعلمه الله بما وقع أن الحيوانية في الحيوان كله حقيقة واحدة ، فأفاده ما لم يكن عنده ، وكذلك ذلك الميت ما حيي إلا بحياة حيوانية لا بحياة إنسانية من حيث إنه ناطق ، وكان كلام ذلك الميت مثل كلام البقرة في بني إسرائيل. قال الصحابة تعجبا : بقرة تكلم؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : آمنت بهذا ، وما رأوا أن الله قد قال ما هو أعجب من هذا أن الجلود قالت : أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ، فهذه الحياة التي تظهر لأعين الخلق عند خرق العوائد في إحياء الموتى هي الحياة الذاتية للأشياء ـ إشارة ـ لا يقوم تركيب إلا بحل تركيب ، انظر سره لما ذبحت البقرة قام الميت بحياتها من قبره ، والبقرة من عالم الوسط كالبرزخ بين الدنيا والآخرة ، فهي فوق الكبش ودون البدنة في الأجر ، فبذبحها سرّحت في الحضرة البرزخية ، فكان سببا في نقل حياتها إلى حياة البرزخ ، وهو إحياء هذا الميت ، فإن الميت في عالم البرزخ ، فوقعت المناسبة.

ـ إشارة ـ من الحياة بالضرب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فضرب بيده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي ، فعلمت علم الأولين والآخرين» فأضاف العلم إلى الضرب باليد الإلهية ، وهي الحياة المعنوية.

____________________________________

بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ) لا تعلمون تسبيحهم (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً) فلم يؤاخذكم عاجلا بإنكاركم ذلك (غفورا) بما ستر من إدراك حياتها لأبصاركم ، ولنا حياة منسوبة إلى ارتباط الروح الناطق بهذا الجسم ، وهو الذي يظهر حياته في الجسم ، وافتراقه من الجسم يسمى الموت ، ولنا حياة أخرى نشرك بها جميع الأجسام ، وهي التي أخذ الله بأبصارنا عنها ، فقد يمكن أن يكون حياة صاحب البقرة ظهور تلك الحياة ، ثم قال (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) أي دلالاته على أنه على كل شيء قدير (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي تمسكون على ذلك ، مأخوذ من العقال ، وتثبتون عليه من غير شبهة تزلزلكم عنه ، وقوله (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) وهو ما أظهر من كذب ولي المقتول ، وفيه تنبيه على إظهار ما استتر عن عيوننا من حياة الأجسام ، وهو ما نبّهنا عليه آنفا ، ونسب الكتمان إليهم لأن الأمر مستور فيهم ، وقوله (بَقَرَةً) بلفظ التنكير حتى لو أخذوا أية بقرة كانت ، وقع الغرض ، ذلك محتمل بالنظر إلينا ، وأما في علم الله فبقرة مخصوصة بهذا الوصف ، ولو فهموا منه بقرة على الإطلاق لبادروا إليها ، فإن النفوس قد طبعت على طلب التيسير ، وقوله (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) من أول سؤال سألوه يؤذن بالزجر عن السؤال وكثرته ، قال عليه‌السلام (إنما أهلك

١٤٧

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٧٤)

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) وإنما كانت أشد قسوة لأن من الحجارة ما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله ، وأنتم ما عندكم في قلوبكم من هذا شيء ، يذمهم بذلك ـ تحقيق ـ اعلم أن الحجارة عبيد محققون ، ما خرجوا عن أصولهم في نشأتهم ، فالحجر يهرب من مزاحمة الربوبية في العلو ، فيهبط من خشية الله ، ومن خشي فقد علم من يخشى. ثم إن الله جعل هذه الأحجار محلا لإظهار المياه التي هي أصل حياة كل حي في العالم الطبيعي ، وهي معادن الحياة وبالعلم يحيا الإنسان الميت بالجهل ، فجمعت الأحجار بالخشية وتفجر الأنهار ، بين العلم والحياة ، قال تعالى : «وإن منها لما يتفجر منه الأنهار» مع اتصافها بالقساوة ، وذلك لقوتها في مقام العبودية ، فلا تتزلزل عن ذاتها ، لأنها لا تحب مفارقة موطنها ، لما لها فيه من

____________________________________

من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم) ، ولذلك جرى لهؤلاء لما كثر سؤالهم مضى (١) فيها من أموالهم كثير على ما حكي ، وأما قوله (وَإِذْ قَتَلْتُمْ) وما قتله إلا واحد ، فهو راجع إلى قول بعضهم لبعض : أنتم قتلتم هذا القتيل ، وتدافعهم في ذلك ، فكأنه يقول : وإذ يقول بعضكم لبعض قتلتم نفسا فادار أتم فيها ، وأما قوله (اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) لما كان الضرب يتضمن صفة القهر لذلك جاء به ، إذ إخراج الشيء من العدم إلى الوجود لا يكون إلا من قاهر ، كما جاء في قوله (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) ومن هذا الباب قوله تعالى (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فقرن الإيجاد بالأمر ، إذ في ضمن مخالفته الوعيد ، وهو من صفة القاهر ، ثم أخبر تعالى أنهم بعد ما عاينوا ذلك قست قلوبهم ، فقال تعالى (٧٥) (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد ما رأيتم الآيات ، فما وقع ما ترجاه موسى منكم من عقلها والثبات عليها (فَهِيَ) يعني قلوبكم (كَالْحِجارَةِ) في الصلابة والشدة ، (أَوْ

__________________

(١) ضاع.

١٤٨

العلم والحياة اللتين هما أشرف الصفات. أما وصفه تعالى لقلوب من كفر من بني إسرائيل بقوله : (أَشَدُّ قَسْوَةً) فإن الحجر لا يقدر أن يمتنع عن تأثيرك فيه ، والقلب يمتنع عن أثرك فيه بلا شك ، فإنه لا سلطان لك عليه ، فلهذا كان القلب أشد قسوة أي أعظم امتناعا وأحمى ، وإن أحسنت في ظاهره ، فلا يلزم أن يلين قلبه إليك فذلك إليه ، فالصعب قلوب أشد قساوة من الحجارة ، فإن الحجارة تكسرها وتكلسها النار ولا تلينها. وأما قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْها) يعني من الحجارة (لَما يَهْبِطُ) الهبوط سقوط بسرعة عن غير اختيار (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) فوصفها بالخشية وهذه الآية تدل على أن الله أخذ بأكثر أبصار جنس الإنس والجان عن إدراك النفوس المدبرة الناطقة التي تسمى جمادا ونباتا وحيوانا ، وكشف لبعض الناس عن ذلك ، فإن الخشية المنعوت بها الأحجار هي التي أدتها إلى الهبوط ، وهو التواضع من الرفعة التي أعطاها الله ، فإنه لما وصفها بالهبوط علمنا أن الأحجار التي في الجبال يريد ، والجبال والأوتاد التي سكن الله بها ميد الأرض ، فلما جعلها أوتادا أورثها ذلك فخرا لعلو منصبها ، فنزلت هذه الأحجار هابطة من خشية الله لما سمعت الله يقول : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) والإرادة من صفات القلوب ، فنزلت من علوها ، وإن كان بربها ، هابطة من خشية الله حذرا أن لا يكون لها حظ في الدار الآخرة التي تنتقل إليها ، وأعني بالدار الآخرة هنا دار سعادتها ، فإن في الآخرة منزل شقاوة ومنزل سعادة (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فإن الله ليس بغافل فإنه معنا في جميع المحافل ـ تفسير من باب الإشارة : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) والقسوة هو ما ينبغي أن تتطهر منها القلوب من النجاسات كانت ما كانت ، فإن منها المأخوذ بها والمعفو عنها (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) وهي من القلوب العلوم الغزيرة الواسعة ، وتفجرها خروجها على ألسنة العلماء للتعليم في الفنون المختلفة «وإن من الحجارة لما يشقق فيخرج منه الماء» ، وهي القلوب التي تغلب عليها الأحوال فتخرج في الظاهر على ألسنة أصحابها بقدر ما يشقق منها وبقدر العلم الذي فيها ، فينتفع بها الناس ،

____________________________________

أَشَدُّ قَسْوَةً) يقول أقوى في الصلابة من الحجارة ، قال تعالى (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) وذلك لمعرفته بقدر ما أنزل عليه ، وما زالت بنو إسرائيل

١٤٩

(وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) وهبوط القلوب المشبهة بالحجارة في هبوطها هو نزولها من عزتها إلى عبوديتها ، ونظرها في عجزها وقصورها بالأصالة ، فالخشية من خصائص العلماء بالله.

(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٧٥)

هذه الآية تدل على أن التوراة ما تغيرت في نفسها ، وإنما كتابة اليهود إياها وتلفظهم بها لحقه التغيير ، فنسب ذلك إلى كلام الله فقال : (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أن كلام الله معقول عندهم ، وأبدوا في الترجمة عنه خلاف ما هو في صدورهم عندهم وفي مصحفهم المنزل عليهم ، فإنهم ما حرفوا إلا عند نسخهم من الأصل ، وأبقوا

____________________________________

مع كثرة الآيات والنعم تكثر منهم المخالفات وسوء الأدب مع الله ، فعقوبة القاتل إخراج مكتومه بإحياء الميت ، وعقوبة قومه على قولهم (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) لمثل موسى عليه‌السلام ما ابتلوا به من السؤال عن البقرة حتى رزئوا في أموالهم بما وزنوه من ثمنها ، وأما قوله (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ) وكل ما يقع منها مما ذكره (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أي من رجائهم وخوفهم ، لأن الخشية تتضمن الرجاء والخوف ، فأما وصفها بتفجير الأنهار فهو كثرة بكائها ، والماء الخارج من التشقق للبكاء الذي لم يبلغ في الكثرة مبلغ الأنهار ، ومنها بكاء فرح وبكاء حزن ، فبكاء الحزن من خوف التفريط فيما كلفته من التسبيح ، كالمياه الكبريتية الحارة المالحة ، وبكاء الفرح والسرور بما وفقت له من ذكر الله كالمياه الباردة العذبة ، وما بينهما من أصناف المياه كما بينهن من الأحوال في امتزاجاتها ، من خلط الحزن بالسرور والفرح على حسب ما يغلب عليها ، والمياه شبيه الدموع ، وذكر ما هبط منها في مقابلة ما تكبروا به على أمر الله ، ثم هددهم وأوعدهم مجملا فقال (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) بالتاء والياء على الغيبة والحضور ، فالحضور له سبحانه ، والغيبة خطاب لموسى ولمن عرفهم بذلك ، ثم قال لمحمد عليه‌السلام وأمته (٧٦) (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) الآية ، هذه مسئلة مشكلة وليس لها مخرج إلا ما روي عن عيسى عليه‌السلام لما لقيه إبليس وكان غرضه أن يطيعه ولو في الدلالة على الخير ، فقال له (يا عيسى قل لا إله إلا الله) فقال عيسى عليه‌السلام (أقولها لا لقولك لا إله

١٥٠

الأصل على ما هو عليه ليبقى لهم العلم ولعلمائهم ، فما هو عند علمائهم محرف ، وهم يحرفونه لأتباعهم فأضلهم الله على علم ، فالتوراة مع اختصاصها بأن الله كتبها بيده لم يحفظها من التبديل والتحريف الذي حرفه اليهود. وحفظ كلام الله ، وعصمته إنما يعصم لأنه حكم ، والحكم معصوم ومحله العلماء به ، وتولى الله فينا حفظ ذكره واستحفظ كتابه غير هذه الأمة فحرفوه وهم يعلمون بمخالفتهم (راجع المائدة ـ ١٤).

____________________________________

إلا الله) وهؤلاء المنافقون قد قالوا آمنا بألسنتهم وهم يعلمون أنه رسول الله حقا ، لا يشكون فيه كما لا يشكون في أبنائهم ، وهم مصدقون بقلوبهم لأنهم لا ينكرون علمهم ، وأقروا بألسنتهم للمؤمنين إذا لقوهم ، فلم يبق سلب الإيمان عنهم إلا كونهم لم يقولوا : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال تعالى (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) لا في قولهم ، فإنهم قالوا حقا ، ولا في بواطنهم ، فإنهم عالمون أنه رسول الله من كتابهم ، فلم يبق تكذيب الله لهم إلا أنهم أظهروا أنهم قالوها لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يكن كذلك ، فهذا معنى قوله لنبيه عليه‌السلام وأصحابه (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) فيكون سرهم وعلانيتهم أن قالوها لقولك سواء ، هذا لا يكون منهم ، بل يجرون على ما كان عليه بعض أسلافهم ، وهو قوله (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) فيحتمل إضافة سماع الكلام لهم وجهان ، الواحد أن يكون سماعهم من تلاوة موسى عليهم كتابهم ، مثل قوله تعالى (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) ويحتمل أنهم سمعوا كلام الله كما سمعه موسى حين كلمه ربه على الطور وقد ذكر ذلك ، ووقع الإشكال من قوله (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) ما ضبطوه ، فلو لم يذكر التحريف كان يتقوى أنهم سمعوا كلام الله حين كلم موسى ، وكان يتعين أنهم السبعون الذين اختارهم ، وقوله (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) يغيرونه إما بحذف بعض الكلام ليزول المعنى ، مثل قولهم [ومن يبتغ الإسلام دينا] فأزالوا غير ، وإما أن يزيدوا فيه كلاما حتى يتغير المعنى إلى ما يريدونه ، وقوله (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) يحتمل أن يكون الضمير يعود على قوم موسى أنهم عالمون بما حرفوا ، ويحتمل أن يعود على يهود المدينة (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنك رسول الله وأنك على الحق ، كما علم أسلافهم وغيّروا ، كذلك هؤلاء إذا فارقوكم يظهرون لإخوانهم أنهم بخلاف ما ظهروا لكم به من الإقرار والانقياد ، ثم قال تعالى (٧٧) (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) كان المنافقون إذا لقوا الذين آمنوا (قالُوا آمَنَّا) أي صدقنا (وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) كان المسلم إذا خلا بأحد من ذوي رحمه من المنافقين يقول له المسلم : إن رسول

١٥١

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) (٧٩)

(ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ) وهو ما توسوس به نفوسهم ، وما تسول لهم شياطينهم ، (لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) من الجاه والرياسة عليهم ، وما يحصلوه من المال.

____________________________________

الله يقول إن الله قد ذكر لكم في كتابكم نعته ، فيقول له المنافق : نعم إنه لكما قال وإنه لنبي حق ، فإذا بلغ ذلك إلى رؤسائهم مثل حيي بن أخطب ، وكعب بن الأشرف ، وغيرهم ، يعظم ذلك عليهم ، فإذا خلوا مع هؤلاء الذين تحدثوا مع المسلمين أن الله قد أخبر في التوراة بصدقه ، وأنه نبي ، يقولون لهم (قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) يعني من العلم به ويروا أن الشرف في العلم (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) ليحتجوا بكتابكم عليكم بإقراركم ، أي عند ذكركم أنه في كتاب ربكم ، ويحتمل أن يريدوا بذلك يوم القيامة ، قال تعالى (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) وهو الأوجه ، يقول (أَفَلا تَعْقِلُونَ) إنكار ، أي ليس لكم عقول تعرفون بها هذا القدر أنه حجة عليكم ، فأخبر الله نبيه بجهلهم بالله تعالى فقال (٧٨) (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) بعضهم لبعض فيخبرك به (وَما يُعْلِنُونَ) وما يظهرون به عندكم ، مما يكذبون فيه أنهم مصدقون لقولك ، ثم قال تعالى (٧٩) (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ) الأمي هو الذي لا يكتب ولا يقرأ المكتوب ولا يحسب (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ) فيعلمهم علماؤهم وأحبارهم بما يشتهون ، ولا يخبرونهم بما أنزل فيها من الحق في نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيقلدونهم في ذلك ، وقوله (إِلَّا أَمانِيَّ) إلا أن لهم قدرة على الاختلاق وتنظيم الكلام لمن لا يفهم حتى يعتقد أنه حق ، يقال منّى إذا قدر

١٥٢

(وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٨١)

فهم الذين تمسهم النار فإنه ما كل من دخل النار تمسه ، فإن ملائكة العذاب في النار وهي دارهم وما تمسهم النار.

____________________________________

(وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) فذمهم لأنهم متمكنون أن يتعلموا الكتاب حتى يكونوا مثل الذين يعلمون الكتاب فلا يقلدونهم ، و (إِلَّا أَمانِيَّ) استثناء منقطع ، وقد يكون عندي استثناء متصل ، وإن كانوا لا يعلمون إلا أنهم قادرون على الاختلاق ، ثم قال (٨٠) (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) أخبر أن لهم الويل يوم القيامة والنشور بما كتبت أيديهم من تغيير نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته من التوراة ، وقولهم لمن لم يعرف منهم أن هذا الذي نزل من عند الله ، وهو قوله (ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ ، لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) من متاع الدنيا ، أو يكون الثمن رياستهم وافتقار الناس إليهم فيما يشرعون لهم (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) من أجل ذلك (وَوَيْلٌ لَهُمْ) زائد على ذلك (مِمَّا يَكْسِبُونَ) أي مما حصل لهم من ذلك من المال والرياسة (٨١) (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) يقولون وإن دخلنا النار على زعمكم ، فإن الله عادل لا يعذبنا في النار إلا أيام كفرنا وبعد ذلك نخرج ، وصدقوا فيما قالوه من الأيام المعدودة ، وكذبوا في انقضاء ذلك ، وذلك أن الله لا يعذبهم إلا على قدر كفرهم بالنوع الذي وعد على كل سيئة من العذاب الخاص بتلك السيئة ، فإذا انتهى الزمان الذي كان قدر ما كفروا فيه رجع عوده على بدئه ، فلا يزال يدور عليهم عودا على بدء إلى غير نهاية ، كما تدور أيام الجمعة وكما تدور فصول السنة وإن كانت محصورة فدورانها ليس بمحصور ، إلا أن يشاء الله ذلك كما شاء بانقضاء الدنيا ، ولأنه ما مر عليهم يوم من أيام الجمعة إلا والكفر والنفاق يستصحبهم فيه ، فتتعاقب الأيام السبعة عليهم دائما بما عملوه ، ألا ترى في الخبر الوارد أن أبا لهب عم النبي عليه‌السلام يخفف عنه العذاب ليلة الاثنين لوليدة أعتقها فرحا بمولد النبي عليه‌السلام ، فجوزي بذلك في اليوم الذي أوقع فيه هذا الخير ، فإن أنكر منكر وجود الأيام في الدار الآخرة فالله يقول (لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) إلى غير ذلك من الأخبار ، ثم نرجع ونقول والسبب الموجب لذلك هو ما نذكره ، وذلك أن الجنة والنار تتضمن

١٥٣

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٨٢)

الجنة دار بقاء السعادة والنظر ، وهي الساترة لأهلها عن كل مكروه يكون في الدار التي تقابلها ، وما يعطيه سلطان أسماء الانتقام.

____________________________________

ثلاثة أحوال : دخولا ، ونزولا فيها على طبقات مخصوصة ، وخلودا بلا خروج ، فأما الدخول فيها فبرحمة الله ، قال عليه‌السلام [لا يدخل الجنة أحد بعمل ، قيل له : ولا أنت؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته] فإن الدخول حالة متوهمة ، وذلك كالخط الفاصل بين الظل والشمس الذي ليس من الظل ولا من الشمس وهو متوهم فهو حال الدخول ، فإنه إن كنت في أول الشمس الملاصق للظل فقد دخلت وأنت في الشمس ، وإن كنت في الظل الذي في الحد المجاور للشمس فما دخلت ، فلما لم يكن لهذا الفاصل المتوهم وجود حسي لم يقترن به عمل يوجبه إلا رحمة الله ، فإذا دخل السعيد أو الشقي داره نزل فيها بحسب عمله في الدرجات والدركات زمانا وحالا ، وأما الخلود فموجبه النيّات ، وهو أن كل فريق منهم كان في نيته لو بقي في الدنيا أبد الآبدين لا يخرج منها لبقي على اعتقاده ذلك ، كفرا كان أو إيمانا ، فكان الخلود في مقابلة هذا الاستمرار ، فصدقوا في قولهم (أَيَّاماً مَعْدُودَةً) وغاب عنهم أن ذلك يدور عليهم دائما ، وهذا في أهل النار الذين هم أهلها ، وأما الرحمة في دخول النار فهي بالنار وما فيها من الحيوانات المعدة للعذاب ، فرحمها الله بما جعل فيها من الإنس والجن ، فتأكل جلودهم وتعذبهم ، فإنها تتنعم بالانتقام من أعداء الله ، مثل التشفي ، وقد صح عندنا هنا أنها اشتكت إلى ربها فقالت : يا رب أكل بعضي بعضا ، فرحمها بأن أذن لها بنفسين ، نفس في الشتاء وهو ما نجده من شدة البرد ، ونفس في الصيف وهو ما نجده من شدة الحر ، وإن شئنا قلنا إنهم يدخلونها بعدل الله ، فقال الله حين قالوا (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) قُلْ لهم يا محمد (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً) أنزله عليكم في الكتاب ففعلتم به ، فإن كان هذا (فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ) ففي الكلام حذف (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) يقول : أم تفترون على الله الكذب ، أما حرف (أَمْ) هنا قد يكون بمعنى أي ، وقد يكون منقطعا ، ثم قال (٨٢) (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) جواب قولهم (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) بَلى تمسكم دائما يفسره قوله (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) على الجمع والإفراد وإذا أحاطت به فلم يكن له عمل صالح شرعا وعرفا يخرجه من النار ، فإنه لو تخلل هذا أمر ما صالح ما كان محيطا ، وهؤلاء أهل النار الذين هم أهلها لا يموتون فيها ولا يحيون ، فهم شر محض ليس فيهم من الخير المشروع ولا المعروف شيء ، إما بأنهم جوزوا على ذاك في الدنيا ،

١٥٤

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) (٨٣)

الزكاة : ربو من زكا يزكو إذا ربا ، والزكاة طهارة بعض الأموال.

____________________________________

وإما لم يعملوه ، فهذا معنى (وَأَحاطَتْ بِهِ)(فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) وأصحاب النار هم أهلها الذين خلقوا لها ، وأما الدوام فيها إلى ما لا يتناهى فلا يقبل موحدا ، أخرج مسلم في الصحيح من رواية عثمان ، قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة ولو دخل النار] وهذا خبر ، والخبر الإلهي لا يدخله النسخ ، ويخرج الله يوم القيامة من لم يعمل خيرا قط ، والتوحيد ليس بعمل وإنما العمل طلب تحصيله ، فهؤلاء الذين أخرجهم الله حصل لهم نور من عنده سبحانه من غير عمل ولا تعمل ، ولكن عملوا أعمالا استوجبوا بها العقاب ما شاء الله ، ثم أخرجهم سبحانه بالعناية التي سبقت لهم ، ثم قال في مقابلة هؤلاء في أهل الجنة الذين هم أهلها (٨٣) (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالله وما أنزله من الكتب والرسل (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) في مقابلة (وأحاطت به خطيئاته) فإن الأعمال الصالحة هي التي لا يدخلها خلل يزيل عنها اسم الصلاح ، قال (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) فخصهم بالذكر دون من يدخل الجنة بالشفاعة وبعد العذاب ، تهمما بهم واعتناء ، وإن كان الخلود في الجنة يشمل العاصي والطائع ، ثم قال (٨٤) (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) جميع ما يأتي هو شرح الميثاق الذي أخذه عليهم ، فهو إخبار بما عهد إليهم وتعليم لنا ، فقوله (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) أي لا تقروا بالوحدانية في الألوهية ولا تتقربوا بالعبادات إلا الله ، وقرئ بالتاء والياء على الإخبار وعلى حكاية الخطاب الذي قال لهم ، ومن ذلك قوله (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي برا بهما عاما ، وهو حجتنا على من يلزمنا الوقوف عند التأفيف لهما من التنبيه بالأدنى على الأعلى في تأويلهم ، وأن ما عدا التأفيف يجوز أن نعاملهما به ، فنلتزم لهم ذلك ونجعل حجتنا (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) وما عدا التأفيف من قبيح الأفعال ومما يؤدي إلى العقوق يدخل في الإحسان اجتنابه ، وقوله (وَذِي الْقُرْبى) يريد صلة الرحم ، وقوله (وَالْيَتامى) يخاطب الأوصياء بحفظ أموالهم ، وغير الأوصياء بالشفقة عليهم وجبر انكسارهم ليتمهم ، وقوله (وَالْمَساكِينِ) وهم الذين أذلهم

١٥٥

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٨٥)

يوم القيامة هو يوم قيام الناس من قبورهم لرب العالمين لفصل القضاء.

____________________________________

الفقر ، فيتصدق عليهم برؤية المنة لهم علينا في قبولهم منا ما نواسيهم به ، وأن نعرفهم أنا مستخلفون من الله فيما بأيدينا ، فهو رزقكم ، ونحن أمناء الله عليه ، حتى يأخذه المسكين بعزة ولا يظهر عليه ذلة الحاجة لما في أيدينا ، وقوله (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) أي ألقوهم بالبشاشة وطلاقة الوجه والقول الحسن ، قال تعالى (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) وقوله أيضا (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) هذا كله من القول الحسن المأمور به ، ثم قال (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) قد تقدم الكلام على ذلك فيما مضى (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) عن كل ما أخذنا عليكم الميثاق فيه (إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) عن ذلك ، لأنه قد يكون توليهم عند فراغ الخطاب تولي مفارقة إلى منازلهم ليعملوا بما كلفوا ، فأخبر تعالى أن توليهم كان إعراضا عن الحق ، واستثنى قليلا منهم ، وهو من أسلم وانقاد إلى الحق وعمل به ، كعبد الله بن سلام وابن أخته قيس بن زيد وغيرهما ، وهذا يرجح من قرأ بالتاء المنقوطة من فوق من (لا تَعْبُدُونَ) وقد يحتمل أن يكون ضمير المخاطب في (تَوَلَّيْتُمْ) و (أَنْتُمْ) يهود المدينة ، أي توليتم عند إخبارنا إياكم ما أخذناه على أسلافكم أن يكونوا عليه وذريتهم وأعقابهم ، إلى أن جاء زمانكم فتوجه إليكم الخطاب بما تتضمنه توراتكم من ذلك وغيره ، من الإيمان بمحمد واتباعه من نفس كتابكم ، فتوليتم وأنتم معرضون إلا قليلا منكم ، ثم قال (٨٥) (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) يقول مخاطبا يهود المدينة ، وقد

١٥٦

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٨٦)

لولا نحن ما قيل : دنيا ولا آخرة ، وإنما كان يقال ممكنات وجدت وتوجد كما هو الأمر ، فلما عمرنا نحن من الممكنات المخلوقة أماكن معينة إلى أجل مسمى من حين ظهرت أعياننا ، ونحن صور من صور العالم ، سمينا ذلك الموطن الدار الدنيا ، أي الدار القريبة التي عمرناها في أول وجودنا لأعياننا ، وقد كان العالم ولم نكن نحن ، مع أن الله تعالى جعل لنا في عمارة

____________________________________

أخذنا ميثاقكم على ما وجدتموه في التوراة وتقرونه بينكم (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) أي لا تقتلوا أنفسكم ، ولا يقتل بعضكم بعضا ، يقول الله فيمن قتل نفسه [بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة] (وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) أي لا يخرج بعضكم بعضا من منزله تعديا عليه (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) بأن ما ذكرناه حق (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) أنه في كتابكم كما أخبركم به محمد عليه‌السلام ، وهو أمي لا يقرأ كتابكم ، فتعلمون أنه نبي أرسلناه من عندنا ، فكفرتم ببعض ما أنزل إليكم في كتابكم ، وهو قوله (٨٦) (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) يقول يقتل بعضكم بعضا (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ) أي تتعاونون عليهم بما تأثمون بفعله (وَالْعُدْوانِ) من التعدي لحدود الله (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ) من ديارهم ، فهذا مما كفرتم به فغيرتم الصفة التي أقررتم ، بما فعلتم من القتل والإخراج ، فغير الله بكم بما نذكره في الخزي الذي نالهم في الحياة الدنيا ، قال تعالى (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) وكتبنا عليكم في التوراة أن تفدوا من أسر منكم ، وهو قوله (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ) فهذا مما أنتم به من التوراة مؤمنون ، يقول الله لهم (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) وهو قوله أيضا في سورة النساء (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) أي يحدثوا طريقا أخرى من عند أنفسهم ، أولئك هم الكافرون حقا ، فقال تعالى (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ) وهو الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه (إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وهو ما كان من قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير ، وما ضرب الله عليهم من الذلة والمسكنة أينما كانوا إلى يوم القيامة (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) وهو الدرك الأسفل من النار الذي أعده الله للمنافقين (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وعيد وتهديد من الله لهم (٨٧) (أُولئِكَ) إشارة إليهم (الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ

١٥٧

الدنيا آجالا ننتهي إليها ، ثم ننتقل إلى موطن آخر يسمى آخرة ، فيها ما في هذه الدار الدنيا ، ولكن متميز بالدار كما هوهنا متميز بالحال ، ولم يجعل لإقامتنا في تلك الدار الآخرة أجلا تنتهي إليه مدة إقامتنا ، وجعل تلك الدار محلا للتكوين دائما أبدا إلى غير نهاية ، وبدل الصفة على الدار الدنيا فصارت بهذا التبديل آخرة والعين باقية (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) لما قال تعالى في حق أهل الشقاء : (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) ما قال إن الحال التي هم فيها لا تنقطع كما قال في السعداء والذي منع من ذلك قوله : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) وقوله : «إن رحمتي سبقت غضبي» في هذه النشأة فإن الوجود رحمة في حق كل موجود ، وإن تعذب بعضهم ببعض ، فتخليدهم في حال النعيم غير منقطع ، وتخليدهم في حال الانتقام موقوف على الإرادة ، فقد يعود الانتقام منهم عذابا عليهم لا غير ويزول الانتقام ، ولهذا فسره في مواضع بالألم المؤلم وقال : (عَذابٌ أَلِيمٌ) و (الْعَذابَ الْأَلِيمَ) وفي مواضع لم يقيد العذاب بالأليم وأطلقه فقال : (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) يعني وإن زال الألم وقال : (فِي عَذابِ جَهَنَّمَ) ولم ينعته بأنه أليم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) (٨٧)

(وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) أي قويناه فإن الخوف مما تطلبه حكم الطبيعة في هذه النشأة ، فإن لها خورا عظيما لكونها ليس بينها وبين الأرواح التي لها القوة والسلطان عليها واسطة

____________________________________

الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) يعني ما عصموا به دماءهم وأموالهم من كلمتي الشهادة ، فكانوا في الدنيا معافين ، والكفار بالجزية ، فاشتروا عافية الدنيا وتركوا عافية الآخرة ، وقد تقدم معنى ذلك في تفسير (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) في أول السورة ، قال (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) إذ لم يعملوا ما يوجب لهم التخفيف عنهم من ذلك (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) ولا لهم ناصر ينصرهم ، ثم قال (٨٨) (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) يعني التوراة (وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) يقول بعد موت موسى

١٥٨

ولا حجاب ، فلازمها الخوف ملازمة الظل للشخص ، فلا يتقوى صاحب الطبيعة إلا إذا كان مؤيدا بالروح ، فلا يؤثر فيه خور الطبيعة ، فإن الأكثر فيه أجزاء الطبيعة ، وروحانيته التي هي نفسه المدبرة له موجودة أيضا عن الطبيعة فهي أمها ، وإن كان أبوها روحا ، فللأم أثر في الابن فإنه في رحمها تكوّن ، وبما عندها تغذى ، فلا تتقوى النفس بأبيها إلا إذا أيدها الله بروح قدسي ينظر إليها ، فحينئذ تقوى على حكم الطبيعة فلا تؤثر فيها التأثير الكلي وإن بقي فيه أثر ، فإنه لا يمكن زواله بالكلية ، ولما كان عيسى عليه‌السلام روحا كما سماه الله أنشأه روحا في صورة إنسان ثابتة ، فكان يحيي الموتى بمجرد النفخ ، ثم إنه أيده بروح القدس فهو روح مؤيد بروح طاهرة من دنس الأكوان.

(وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) (٨٨)

____________________________________

أرسلنا رسلا تترى ، يقال قفاه إذا اتبعه من قفاه ، كما يقال واجهه إذا جاءه من جهة وجهه ، فإنه جاء بغده يوشع وشمويل وشعيا وأورميا وداود وغيرهم ، وكلما جاء أمة رسولها كذبوه إلى أن جاء عيسى ابن مريم (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) وهو أيشوع بالسريانية ، والمريم من النساء كالزير من الرجال ، فأعطاه الله من البينات ما جاء ذكره في القرآن (وَأَيَّدْناهُ) يقول وقويناه (بِرُوحِ الْقُدُسِ) فيه وجهان ، الواحد أنا خلقناه مطهرا من الشهوة الطبيعية التي تكون عن النكاح ، فإنه لم يكن عن نكاح ، فليس للطبيعة فيه أثر ، فكأنه خلق مؤيدا بأصل نشأته ، فلم يجدوا له قومه ما يثلبونه به ، والوجه الثاني يعني جبريل عليه‌السلام ، فجعلناه له ركنا يأوي إليه ويتقوى جأشه به عند منازعة قومه ، فكانت اليهود قد قالت لمحمد عليه‌السلام : إن من جاء قبلك من الرسل جاؤوا بالبينات ، فأت أنت بمثل ما جاؤوا به ، فأنزل الله عليه (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ) يعني أن طلبهم البينات كان دفعا لنبوته حتى لا يؤمنوا به ، فإنه من أعظم البينات له كونه مذكورا في كتابهم بنعته واسمه ، وفي الإنجيل ، كما أخبر الله تعالى أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، يقول (اسْتَكْبَرْتُمْ) عن اتباع أمثال الرسل وعن اتباعي (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ) وما سلطتم عليهم (وَفَرِيقاً) أيضا من الأنبياء (تَقْتُلُونَ) قتلتم كيحيى وزكريا وغيرهما ، وأردتم قتلي بما جعلتم في ذراع الشاة من السم ، ولكن عصمني الله منكم ، ولكن مع هذا قال عليه‌السلام [ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان قطعت أبهري] لتحصل له الشهادة التي هي أشرف الموتات ، فلما عرفت اليهود أن الذي قاله حق ولم تكن لهم حجة يحتجون بها (٨٩) (وَقالُوا

١٥٩

(وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) أي في غلاف ، وهو الكن الذي ستره عن إدراك الأمر على ما هو عليه.

(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) (٨٩)

يعني بذلك كل كافر به في كل زمان ، حتى يبقى العموم في الضمير على أصله ، كما قال تعالى : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) صفة لمحذوف فيكونون أولا في أهل زمانهم في الكفر به فقوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) وإن كان له وجود قبل مجيئه إليهم فيعم كل من كفر به في كل زمان.

____________________________________

قُلُوبُنا غُلْفٌ) قالوا قلوبنا غلف أي هي في غلاف ، مثل قولهم (فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) ففي هذا الكلام رائحة من الرجوع إلى القضاء والقدر ، أي لو أراد الله أن نتبعك لأزال هذا الغلاف عن قلوبنا فأبصرت نور النبوة ، فأضرب الله عن قولهم فقال (بَلْ) حرف إضراب (لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) باء السبب ، فأوقع اللعنة عليهم لأنهم كفروا ، أي ستروا الحق الذي يعلمونه من نبوة محمد ، ويحتمل أن يكون قولهم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) أي هي نفس الغلاف لما تحوي عليه من العلوم ، فلو كنت نبيا لكان في قلوبنا العلم بك ، فأخبر تعالى أن الكفر في قلوبهم بنبوته فلعنهم الله لذلك ، وصدقهم في قولهم إن قلوبنا غلف ولكن للكفر (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) فمنهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ، ولتكذيبهم أيضا وجه في قولهم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) (وفي أكنة مما تدعونا إليه) فإنه مما يدعوهم إليه الإيمان بالله وقد فطروا عليه ، إذ كل مولود يولد على الفطرة ، فبطل أن تكون قلوبهم في غلاف وكن من الإيمان بالله ، ولهذا جعلنا ذلك الإيمان بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال (٩٠) (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) يعني القرآن و (مِنْ عِنْدِ اللهِ) في موضع الصفة للكتاب (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) أي لما في الكتاب الذي معهم وهو التوراة والإنجيل (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ) أن يأتيهم محمد بالقرآن يؤمنون به من كتابهم ، وإذا اجتمعوا بالكفار في قتال (يَسْتَفْتِحُونَ) أي يستنصرون الله (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) به ، فيقولون : اللهم بحق هذا النبي الذي يأتي ووصفته لنا في كتابنا فانصرنا عليهم ، وهذا معنى قوله (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا)(فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) الذي كانوا يستنصرون به ، وهو قوله (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) (كَفَرُوا بِهِ)

١٦٠