رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٥)

(عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) أي على بيان وتوفيق حيث صدقوا ربهم فيما أخبرهم به مما هو غيب في حقهم (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الناجون من عذاب الله الباقون في رحمة الله ، فإن الفلاح هو البقاء ، والآخرة هي دار البقاء.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٦)

____________________________________

كما آمنتم به من حيث أخبركم به موسى وعيسى ، قال تعالى (يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ) فالضمير يعود عليهم بأنه نبي مبعوث إليهم أيضا في كتبهم ، فمن إيمانهم بكتبهم إيمانهم به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما من آية إلا ولنزولها سبب ، ولكن ليس المقصود معرفة السبب إلا إذا كان مقصورا على السبب ، فيتعين عند ذلك ذكر السبب ، وكون المنزل مقصورا عليه ، فلذلك لا نتعرض في هذا التفسير لأسباب النزول في أكثره. (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) من يقن الماء في الحفرة إذا استقر فيها ، فلما استقر الإيمان بالغيب وبما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة ، سماهم موقنين ، فأخبر عنهم بفعل الحال ، وإلى هنا انتهت جملة المبتدأ إذا كان (الَّذِينَ) مبتدأ ، وقوله (بِالْآخِرَةِ) لما قال (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) وذكر ما كان قبله ، قال (وَبِالْآخِرَةِ) وهو ما يكون بعد مما لم يكن ، وهو من وقته إلى قيام الساعة ، إلى دخول الجنة والنار ، إلى الخلود فيها ، إلى ما لا يتناهى ولا ينقطع ، مما وردت به الأخبار الإلهية ، قوله (٦) (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أولاء حرف إشارة يشار به إلى المتقين ، لقوله (فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) فهو قوله (أُولئِكَ) يعني المتقين على هدى من ربهم في توقيهم الداعي لهم إلى البحث عن طريق نجاتهم حتى يتبين ، فهم على هدى من ربهم في ذلك (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) وهو الهدى ، والرب هنا بمعنى المصلح ، وهو الأوجه من سائر مدلولاته ، والمربي أيضا ، وقوله (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) حرف إشارة يشار به أيضا إلى المتقين وإلى الذين يؤمنون ، سواء كان نعتا أو مبتدأ ، وفيه بشرى ونوع تقوية لمن يقول إن المجتهد مأجور وإن أخطأ ، وإن الاجتهاد في الأصول كما هو في الفروع ، والمفلحون : معناه الناجون من عذاب الله ، الباقون في دار كرامة الله ، قال تعالى : (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) وفي هذه الآيات من أول السورة إلى هنا تكذيب لقول من قال : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) فكذبهم في التحجير. قوله (٧) (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)

٦١

لأنهم قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين فكأن الله حكى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرفه بأن حالهم ما ذكروه عن نفوسهم ، فهذه ظلمة قد تكون ظلمة جهل ، وقد تكون ظلمة جحد لهوى قام بهم ، وهو أشد الظلم.

(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٧)

(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) بخاتم الكفر فلا يدخله الإيمان مع علمهم به ، (وَعَلى سَمْعِهِمْ) أي ختم على سمع فهمهم فهم الجهلاء ، لا يعلمون ما أراد الله بما قاله (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) وعلى أبصار عقولهم غشاوة ، حيث نسبوا ما رأوه من الآيات إلى

____________________________________

الآية ، يقول : بكل ما تقدم ذكره ، الكافر هو الساتر للحق ، والساترون الحق على قسمين : قسم يسترون الحق مع معرفتهم بأنه الحق ، فلا يتمكن أن يستروه عن نفوسهم ، بل يستروه عن الغير بما يوردونه من الشبه المضلة والتشكيكات الصارفة عن ظهوره ، وهو قوله تعالى (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) وقوله (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) فهؤلاء جاحدون ، والقسم الآخر هو الذي ستر الحق عن نفسه بما ظهر له من الشبه ، فقامت له سترا بينه وبين الحق ، فيسمى أيضا هذا كافرا لأنه ما وفّى النظر حقه في الأدلة ، فالأول معاند ، والثاني مفرّط ، قال الله لنبيه عليه‌السلام (سَواءٌ عَلَيْهِمْ) ولم يقل عليك (أَأَنْذَرْتَهُمْ) يقول : خوفتهم وأعلمتهم بأسباب السعادة والشقاء (أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) يقول : أو سكت عنهم (لا يُؤْمِنُونَ) يقول : لا يصدقون ، إما عنادا وجحدا ، وإما جهالة ، والأظهر هنا إرادة القسم الواحد وهم الجاهلون ، من أجل ما يأتي بعد من ذكر القلوب ، فالمعاند عالم ومصدق في الباطن ، غير مظهر لما هو به مصدق ، فإنه لا يقدر في نفسه أن ينكر علمه بالشيء ، ولا أن يجعله جهلا ، فهؤلاء أيضا هم الذين جعل الله جزاءهم عدم المغفرة في قوله تعالى (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) ولم يقل عليك فإنه ليس عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سواء ، وهم سواء دعاؤه إياهم أو سكوته عنهم ، ما يتغير عليهم الحال في نفوسهم ، وهذا يؤيد أن المراد بالذين كفروا هنا من جهل لا من عاند مع علمه (لا يُؤْمِنُونَ) أي لا يصدقون بما أعلمتهم ، والتصديق حالة قلبية. قوله (٨) (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) الآية ، العالم بالشيء ما ختم على قلبه ، لكن الجاهل بالشيء مختوم على قلبه ، قوله (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) وما ذكر الطبع هنا ، بل ذكره في موضع آخر ، قال تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) والطبع النقش الذي يكون في الختم ، والختم هو القفل. فقال

٦٢

السحر ـ طب ـ إذا استرخت الطبقة الصلبة التي في البصر حصل الضرر ، فالرخاوة غشاوة ، (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) العذاب إنما سماه الله بهذا الاسم إيثارا للمؤمن ، فإنه يستعذب ما يقوم بأعداء الله من الآلام ، فهو عذاب بالنظر إلى هؤلاء ، ومن وجه آخر سمي عذابا ما يقع به الآلام بشرى من الله لعباده ، أن الذي تتألمون به لا بد إذا شملتكم الرحمة أن تستعذبوه وأنتم في النار ، كما يستعذب المقرور حرارة النار والمحرور برودة الزمهرير ، ولهذا جمعت جهنم النار والزمهرير لاختلاف المزاج ، فما يقع به الألم لمزاج مخصوص يقع به النعيم في مزاج آخر يضاده ، فلا تتعطل الحكمة ، ويبقي الله على أهل جهنم الزمهرير على المحرورين والنار على المقرورين فينعمون في جهنم ، فهم على مزاج لو دخلوا به الجنة تعذبوا بها لاعتدالها ، فسمى العذاب عذابا لأن المآل إلى استعذابه لمن قام به بعد شمول الرحمة ، كما يستحلي الجرب من يحكه ، فإذا حكه من غير جرب أو حاجة من يبوسة تطرأ على بعض بدنه تألم لحكه.

عناية ربي أدركت كل كائن

من الناس في ختم القلوب وفي الطبع

ومن أجل ذا لم يدخل الكبر قلبهم

على موجد الصنع الذي جل من صنع

ولولا وجود السمع في الناس ما اهتدوا

وليس سوى علم الشريعة والوضع

فكم بين أهل النقل والعقل يا فتى

وهل تبلغ الألباب منزلة السمع

____________________________________

تعالى : (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) ، وقال هنا (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي الذين قالوا (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) هو منّا ، ثم قال (وَعَلى سَمْعِهِمْ) أي وختم على سمعهم حين قالوا (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) أي هو منّا ، وقال تعالى (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) لقولهم : (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) أي هو منّا ثم قالوا : (فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) فقال الله : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وهو العمل الذي قالوه وطلبوه ، والختم الذي على السمع هو بينه وبين القلب ، لا بينه وبين الكلام ، فإنه سمع الكلام من الرسول بلا شك ، ولكن لجهله بما سمع أنه حق في نفس الأمر وعدم تصديقه ، كان عنده كمثل الصوت من الإنسان عند البهائم التي لا تعقل معناه ، وهو قوله تعالى : (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً ، صُمٌّ ، بُكْمٌ ، عُمْيٌ ، فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أن ذلك المصوّت به حق فيما يدعو إليه ، وكذلك قوله (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) وما جعله ختما ، أي حايل بينه وبين القلب أن يعلم القلب أن ذلك المبصر من المعجزات الموقوفة على إدراك البصر أنها حق ، مثل نبع الماء من بين أصابعه ، ورؤية الطعام القليل حين أشبع الكثير ، فإن العلم به لا يحصل إلا من جهة

٦٣

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (٨)

لم سمى الله تعالى البشر الناس؟ ـ من باب الإشارة ـ الناس اسم فاعل من النسيان معرّف بالألف واللام لأنه نسي أن الحق سمعه وبصره وجميع قواه في حال كونه كله نورا ، فلما لم يتذكر الناسي هذه الحال وهو في نفسه عليها غافل عنها ، خاطبه الحق مذكرا له بهذا القرآن الذي تعبده بتلاوته ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب ما كانوا قد نسوه.

____________________________________

البصر فعاين ، فلو كان الغشاء بينه وبين المبصر ما صدق هذا القول ، فكان الغشاء بلا شك على البصر من جهة القلب ، فلا يبصر البصر القلب الذي يقبل ما جاء به ، بل جعله القلب من قبيل السحر والخيال ، فتعظيم العذاب هو العذاب من وجهين فصاعدا ، فلهم عذاب الجهل وعذاب التكذيب ، قال تعالى (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) فإنها أدركت بلا شك (وإنما تعمى القلوب) أعين البصائر وهو النظر في مقدمات الأدلة وترتيبها (الَّتِي فِي الصُّدُورِ) قد يكون من الرجوع عن الحق قال تعالى (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) لهم قوله : (٩) (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) الناس : اسم جنس لا واحد له من لفظه ، كقوم ومعشر ورهط ، وقد قيل في تصغيره نويس ، فلا أصل له في الهمز ، وقد تكلموا في اشتقاقه وقالوا إنه من النوس وهو الصوت ، وهذا كله لا فائدة فيه ، إذ قد علمنا لفظة الناس على من ينطلق ، فأقول : وإن كان سبب نزولها قوم مخصوصون ، فلا حاجة لذكرهم بما بيّن الله من صفتهم ، فكل من قامت به تلك الصفة فهو المراد بالآية إلى يوم القيامة قال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) فلم يخبر تعالى أنهم قالوا : لا إله إلا الله ، ولا أنهم قالوا : اليوم الآخر حق ، وإنما أخبر عنهم أنهم قالوا (آمَنَّا بِاللهِ) فالمفهوم الأول التصديق بوجود الله ووجود اليوم الآخر ، فيتصور أن يكون هنا طائفتان ، ثم أخبر تعالى بنفي الإيمان عنهم فيما ادعوه ، قولا واعتقادا ، فقال (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) بوجود الله ، فيكون الإخبار عن المعطلة ، وهم على قسمين : معطلة من حيث الأصل ، ومعطلة بعد وجود ، فقوله (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) أي بمصدقين اعتقادا ، ولا ذكر أنهم تلفظوا به ، فتحقق نفي الإيمان عن قلوبهم ، وبقي الاحتمال في هل تلفظوا أم لا؟ واليوم الآخر ، وأما الطائفة الأخرى ، فقد يكونون مؤمنين بالله من حيث وجوده وإن كانوا مشركين ، ولا يؤمنون باليوم الآخر ولو كانوا موحدين من حيث الدليل ، فيكون الحق قد نفى بقوله تعالى : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) يعني بما جئت به من الغيب عنا وباليوم الآخر ، والأظهر أنه أراد المثبتين وجوده

٦٤

(يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) (٩)

(يُخادِعُونَ اللهَ) بجهلهم القائم بهم بأن الله لا يعلم (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) في خداعهم الذين آمنوا ، فإن من خادع المؤمن فما خدع إلا نفسه ، وأما من يخادع الله فهو جاهل بالله حيث تخيل أنه يلبّس على الحق وأن الله لا يعلم كثيرا مما يعملون ، فهو من الخاسرين فإن الله هو خادعهم بخداعهم ، أي هو خداع الله بهم لكونهم اعتقدوا أنهم يخادعون الله ، فما يشعرون اليوم بأن الله يرد عليهم أعمالهم.

____________________________________

سبحانه سواء وحدوا أو أشركوا بقوله فيهم (١٠) (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) وهذا وأيضا قوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا) يقوي ما ذهبنا إليه في تفسير نفي الإيمان أنه الإيمان بوجود الله ، فيكون (يُخادِعُونَ اللهَ) على دعواكم أن ثم إلها (وَالَّذِينَ آمَنُوا) يخادعون حقيقة فإنهم موجودون ، ولا يبعد جميع ما ذكرناه ، فإن هؤلاء الأصناف كلهم موجودون ، وقد دخلوا فيمن بعث إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن رسالته عامة ، فينسحب الخطاب عليهم ، والخداع مأخوذ من المخدع ، فدخلوا فيه ليعصموا دماءهم وأموالهم لما رأوا دين الله ظاهرا ، فدل بقوله (يُخادِعُونَ اللهَ) على جهلهم بالله ، وصورة الجهل ، إن كان يعلم ما تلفظوا به من كلمتي الشهادة فهو يعلم ما في نفوسهم من عدم التصديق بها ، وإن كان لا يعلم عدم تصديقهم فلا يعلم أيضا أنهم تلفظوا بالشهادة ، والأظهر أن مخادعتهم لله على زعمكم أن ثم إلها ، فيبقى الخداع على الحقيقة للذين آمنوا ، الذين يخافون منهم أن يقتلوهم ، ولذلك قال (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) أي أمثالهم ، مثل قوله (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) ومثل قوله (كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) يريد أمثالكم ، ويحتمل أن يريد بقوله (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) أن يكون الخداع راجعا عليهم ، قال الله تعالى (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) ، أي خداعهم هو خداع الله بهم ، يؤيد ذلك قوله (وَما يَشْعُرُونَ) أي لا يتفطنون لذلك أنه من خداعنا بهم ، وأما قوله (يُخادِعُونَ اللهَ) ببنية المفاعلة لأن المخادعة فعل فاعلين ، وذلك أن من شرط الخداع أن لا يعلم به المخدوع ، والله بكل شيء عليم ، فقال تعالى (وَهُوَ خادِعُهُمْ) اسم فاعل من خدع ولم يقل مخادعهم ، فإنه يخدعهم حقيقة ، وهم لا يقدرون أن يخدعوه ، فلم تختلف القراءة في الأول واختلف في الثاني وهو قوله (وَما يَخْدَعُونَ) و (يُخادِعُونَ) فإن المفاعلة تصح منهم في جنسهم ، لكن العالم قد يصح أن ينخدع ، فهو منخدع ، بمعنى أن يظهر لهم أنه مخدوع ،

٦٥

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) (١٠)

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) شك مما جاءهم به رسولي ، وهذا المرض هو الشبه المضلة القادحة في الأدلة وفي الإيمان ، تحول بين العقل من العاقل وبين صحة الإيمان (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) شكا وحجابا (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) يوم القيامة ، وسمي ما يتألم به أهل الشقاء عذابا لأن السعداء يستعذبون آلام أهل الشقاء ، إيثارا لجناب الحق حيث أشركوا ، فلهم في أسباب الآلام نعيم ، فسمى الحق ذلك عذابا إيثارا لهم حين آثروه ، وقوله تعالى (أَلِيمٌ) اعلم أن قيام الألم ووجوده في نفس المتألم ، ما هو السبب المربوط به عادة ، كوجود الضرب بالسوط ، والحرق بالنار ، والجرح بالحديد ، وما أشبه ذلك من الآثار الحسية مما يكون عنها الآلام الحسية ، وكذلك ضياع المال ، والمصيبة في الأهل والولد ، والتوعد بالوعيد ، وجميع الأسباب الخارجة عنه الموجبة للآلام النفسية عادة ، إذا حصلت بهذا الشخص فتسمى هذه الأسباب عذابا ، وليس في الحقيقة عذابا ، وإنما العذاب هو وجود الألم عند هذه الأسباب ، لا عين الأسباب.

____________________________________

بعدم المؤاخذة في الحال ، فيتوهمون لحلمه أنهم خدوعه ، قوله (١١) (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) يقول في قلوبهم مرض الجهل بالله ، فزادهم الله مرضا بإنزاله سور القرآن ، قال تعالى (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) كما قال في المؤمنين (زادَهُمْ هُدىً) و (زادتهم إيمانا وهم يستبشرون) وهؤلاء بذلك يتألمون ، والألم هو المرض عينه ، وهو أيضا قوله تعالى (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) وما قال : بالله ، أي انقبضت لما وجدت من ألم نسبة الوحدة لله في الألوهية ، ومما يدل على جهلهم بالتوحيد ، قوله (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) فبعث الرسل للكفار زادهم مرضا ، لخطاب الوقت ، فزادهم ألما (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي موجع ، والألم هو العذاب نفسه ، وقد يطلق العذاب على سبب الألم ، كما أن النعيم إنما هو اللذة نفسها ، وقد يطلق على سببها المعهود ، وقوله تعالى (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) هذه باء السبب ، أي بسبب تكذيبهم ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الخبر عنا ، فإن التكذيب متعلقه الخبر ، فهذا عذاب مخصوص من أجل صفة مخصوصة ، وما قال : ولهم عذاب أليم بمرضهم الأول والمزاد ، وجاء بلفظة العذاب ولم يكتف به حتى قال (أَلِيمٌ) وذلك

٦٦

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) (١٢)

الشعور علم إجمالي قطعي أن ثم مشعورا به لكن لا يعلم ما هو ذلك المشعور به.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) (١٣)

السفيه : هو الضعيف الرأي ، يقولون إنهم ما آمنوا الا لضعف رأيهم وعقلهم فجاز

____________________________________

لأن العذاب فيه ضرب من اللذة ، ومنه في صفة الماء (عَذْبٌ فُراتٌ) ولما كان في إيلام الكفار بالله ورسوله سرور المؤمنين قال (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) سماه عذابا للعذوبة التي تحصل منه للمؤمن ، ومن قرأ «يكذبون» مخففا من الكذب في قوله (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) فهي زيادة مرض آخر ، والمرض الأول اعتقادهم التكذيب بقلوبهم ، فزادهم الله مرضا آخر نكرة ، وهو أن نطّقهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، ولكل جنس من المرضين عذاب مخصوص ، فلذلك وردت القراءتان معا ، أي أنهم مجازون على التكذيب بالنار التي تطلع على الأفئدة ، وعلى الكذب بالنار التي تتسلط على الجوارح ، قوله (١٢) (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) الضمير في لهم يعود على الذين كفروا خاصة (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) في زعمهم ، قال تعالى (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) وقال تعالى : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) الذي هو قول الله (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) فلما كانوا على عمل هو فساد عند الله تعالى ، وصلاح في نظرهم ، اعتقدوا أن ما خالف عملهم من الأعمال المقابلة لها وترك أعمالهم هو الفساد ، فاعتقدوا أن المؤمنين على فساد لمخالفتهم ما هم عليه ، فقال تعالى في مقابلة هذا الاعتقاد وإن لم يجر له لفظ : (١٣) (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) دل عليه المعنى (وَلكِنْ) استدراك (لا يَشْعُرُونَ) أي لا يفطنون لذلك ، فلم يكونوا معاندين ولا جاحدين ، بل هم جاهلون ، قوله (١٤) (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا ...) الآية ، الضمير أيضا يعود على الذين كفروا

٦٧

ذلك عليهم لقول الله (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ) أي الذين ضعفت آراؤهم ، فحال ذلك الضعف بينهم وبين الإيمان (وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ).

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) (١٤)

كان المنافقون في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأتون إلى المؤمنين بوجه يظهرون أنهم معهم ، ويأتون إلى المشركين بوجه يظهرون به أنهم معهم ، ويقولون (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) وما أخذ الله المنافقين إلا بما زادوا به على صورة النفاق ، ولو أنهم بقوا على صورة النفاق من غير زيادة لسعدوا يقول تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) لو قالوا ذلك حقيقة لسعدوا ، (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) لو قالوا ذلك وسكتوا ما أثر فيهم الذم الواقع ، وإنما زادوا (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) فشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كاذبين ، فما أخذوا إلا بما أقروا به ، يدلنا على ذلك ما أخبر الله به عن نفسه في مؤاخذته إياهم فقال :

____________________________________

خاصة ، فإن الآخرين قالوا (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) وإن كانوا كاذبين في مقالتهم تلك (كَما آمَنَ النَّاسُ) يعني المؤمنين (قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) السفه عدم الرشد ، والتصرف على ما لا تقتضيه الحكمة ، وضعف الرأي ، قال الله لهم مخبرا لنا (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ). يقول : هم الضعفاء الرأي لا أنتم ، فعاد ما نسبوه للمؤمنين إليهم ، قال عليه‌السلام (إنما هي أعمالكم ترد عليكم) وجاء في الصحيح (من قال لأخيه : كافر فقد باء به أحدهما) أي بوصف الكفر ، إن كان كما قال فصح الوصف ، وإن لم يكن كما قال جاز ذلك على القائل لأنه من قال إن الإسلام كفر فقد كفر ، والسعيد من استبرأ لدينه ولا يكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ، والعلم واسع والوجوه كثيرة ، ثم قال (وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) أنهم هم السفهاء ، فإن السفه عندهم ترك ما هم عليه ومخالفته ، قوله (١٥) (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) إلى قوله (يَعْمَهُونَ). الضمير في لقوا يعود على الناس الذين قالوا آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ، كانوا ويكونون إلى يوم القيامة من هذه صفتهم (إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) أي صدقنا بالذي صدقتم به ليعصموا دماءهم وأموالهم (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) فهؤلاء سجدوا كرها ، وآمنوا

٦٨

(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١٥)

فأخبر الله تعالى أنه يستهزئ بهم بذلك الفعل الذي يفعلونه مع المؤمنين ، وهم لا يشعرون ، فهذا من مكر الله بهم ، فما أخذهم بقولهم (إِنَّا مَعَكُمْ) وإنما أخذهم بما زادوا به على النفاق وهو قولهم : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) وما عرفك الله بالجزاء الذي جازى به المنافق إلا لتعلم من أين أخذ من أخذ ، حتى تكون أنت تجتنب موارد الهلاك (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) حيث تمادوا على غيهم بعد ما عرفوا من بيده الاقتدار ، وعدلوا عنه ، وعملوا

____________________________________

كرها ، لظهور أهل الإيمان بالسيف عليهم (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) إلى هنا بمعنى مع ، يقول : وإذا خلوا مع شياطينهم من الإنس الباقين على كفرهم ، أو خلا بعضهم مع بعض يقولون ذلك ، فإنهم كلهم شياطين قال تعالى (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) وهو قدحهم في أهل الإيمان من حيث إيمانهم ، وتزيين ما هم عليه من الباطل ، قال تعالى في اليهود والنصارى (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي ينصر بعضهم بعضا (قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) أي على الذي أنتم عليه ، ما غيّرنا ولا بدلنا (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) بهم وتقيّة لما ينجر في ذلك إلينا من المصالح في أنفسنا وأموالنا وذرارينا ، يقولون : نسخر بهم ، فقال الله تعالى (١٦) (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) أي يسخر بهم ، وذلك على وجهين : الوجه الواحد أن استهزاءهم بالمؤمنين هو عين استهزاء الله تعالى بهم من حيث لا يشعرون ، ومنه (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أن عين ما اعتقدوه أنه مكرهم هو مكري بهم ، ومن هذا الباب (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) وقوله تعالى (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) ، والوجه الآخر ينقسم إلى وجهين : وجه يقتضيه العدل فيكون جزاء ، ووجه يقتضيه الاستهزاء ، جزاء أيضا في عمل واحد ، وذلك أنه إذا كان يوم القيامة وهو قوله تعالى (كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) فخلصه للاستقبال ، وهو يوم القيامة ، يحشر الله هذه الأمة وفيها منافقوها ، فإذا اتبعت كل أمة ما كانت تعبد ، ودخلت الأمم النار ، ونصب الصراط على جسر جهنم ، أتي بهؤلاء المنافقين الذين أظهروا الإيمان بألسنتهم ، وصلوا وصاموا وقاموا بفروع الشريعة في الصورة الظاهرة كما قام المؤمنون ، أتى بهم الله تعالى حتى [انفهقت] (*) لهم الجنة بما تحويه من الخير والسرور ، فتنعموا برؤيتها

__________________

(*) [...] جاءت في الأصل وفي الفتوحات المكية في الباب الأخير ، باب الوصايا ، الوصية رقم ٥٨ (انفقهت) والصواب (انفهقت).

٦٩

لغيره مما نصبوه بأيديهم وأيدي من هو من جنسهم إلها ، وظهر لهم عجزه مما يزيد في شقاوتهم. ـ تنبيه ـ إذا ذكرت فاعلم بلسان من تذكر ، وإذا تلوت فاعلم بلسان من تتلو ، وما تتلو ، وعمن تترجم. مثال ذلك قوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا) إلى هنا قول الله (آمَنَّا) حكاية عن المنافقين (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا) إلى هنا قول الله (إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) حكاية فهكذا فلتعرف الأمور إذا وردت ، حتى يعلم قول الله من قول ما يحكيه لفظا أو معنى كل إنسان بما هو عليه ، فإن الله قد ترجم لنا قول أقوام مثل فرعون وغيره باللسان العربي والمعنى واحد ، فهذه الحكاية على المعنى.

____________________________________

وظنوا أنهم داخلوها ، فكانت تلك النظرة والفرح الذي قام لهم بالطمع بدخلوها جزاء لما جاؤوا به من الأعمال الظاهرة ، ظاهرا بظاهر ، عدلا منه سبحانه ، فإذا طابق الجزاء أعمالهم وأخذوا حقهم ، وهم لا يعلمون أنهم يصرفون عنها ، ضرب الله بينهم وبين الجنة سورا باطنه الجنة ، وظاهره من قبله العذاب ، فيؤمر بهم إلى النار ، فهذا هو استهزاء الله بهم وسخرية الله بهم ، فجمع سبحانه في هذا الفعل الواحد بين العدل والاستهزاء ، كما جمعوا بين الإسلام والكفر ، وليس للمنافقين من النار إلا الدرك الأسفل ، وهي النار التي تطلع على الأفئدة ، قال تعالى (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) وليس لهم في أعلاها مكان إلا على قدر معاصيهم الظاهرة ، والكافر يتعذب في النار علوا وسفلا ، بخلاف المنافق ، وكلهم في جهنم جميعا ، وهذا من عدل الله ، فإنه ليس في الجنة موضع ولا في النار موضع إلا وله عمل يطلبه من فعل وترك ، إلا ما في الجنة من أمكنة الاختصاص ، وليس في النار ذلك ، ولهذا ما ورد في القرآن يختص بنقمته من يشاء ، وورد يختص برحمته من يشاء ، فالنار ينزل فيها بالأعمال ، والجنة ينزل فيها بالأعمال والاختصاص الإلهي ، ولذا قال (سبقت رحمتي غضبي) إلى الاختصاص ، والله واسع الرحمة كما قال ، ولم يقل ذلك في النقمة ، فتحقق ما ذكرناه ، ثم قال (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) يقول : يملي لهم مما هم فيه ، قال تعالى (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) وقوله (فِي طُغْيانِهِمْ) أي في تغاليهم ، أي فيما ارتفعوا فيه من الضلالة في بواطنهم إذا كانوا مع المؤمنين ، وفي ظواهرهم إذا كانوا مع أشكالهم من شياطينهم ، من طغى الماء إذا ارتفع وزاد على حده (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ) أي ارتفع ، وقوله تعالى (يَعْمَهُونَ) أي يحارون ، والعمه الحيرة والضلال ،

٧٠

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (١٦)

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) : أي باعوا الهدى بالضلالة ، واشتروا الحيرة بالبيان فخسروا. (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) المؤمن ممدوح في القرآن بالتجارة والبيع فيما يملك بيعه ، قال تعالى : (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) وقال تعالى : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) وما صرح الله في المؤمن بأنه يشتري خاصة ، وما وصف الشراء في القرآن إلا من أشهدهم الله عن جناية فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) والسبب في أن المؤمن ما وصفه الله بالشراء فإنه خلقه الله ، وملكه جميع ما خلق الله في أرضه الذي هو مسكنه ومحله (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) فجميع ما في الأرض ملكه فما بقي له ما يشتريه ، وحجر عليه الضلالة وهي صفة عدمية ، فإنها عين الباطل وهو عدم ، ولم يأمرنا الله باتباعه فإذا اشترينا الضلالة فقد اخترنا العدم على الوجود ، والباطل على الحق الذي خلقنا له ، فلم يوصف المؤمن بالشراء ، وشرع له البيع فيما أبيح له بيعه ، ومما ملكه الله ما هو مباح له ، وما هو واجب عليه أن لا يخرجه ولا يبيعه ، فكأن المؤمن ملك حلة الإباحة ، وحلة الوجوب ، فخلع عن نفسه حلة الإباحة ، ولبس حلة الوجوب ، وكلاهما له ، فسمى خلعه لها بيعا ، وما سمى لباسه للوجوب شراء ، فإنها ملكه ورحله ومتاعه والإنسان لا يشتري ما يملكه ، ولما حجر الله الضلالة على خلقه ورجح من

____________________________________

قوله (١٧) (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ) الآية ، أولاء حرف إشارة ، أشار بها إلى كل من تقدم ذكره من منافق وكافر ، وأما إخبار الله تعالى عنهم أنهم (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) دل على أنه كان عندهم هدى باعوه بهذه الضلالة ، وأن الذين اشتروا منهم الهدى كان عندهم ضلالة ، فالترجمة عن ذلك ، كل مولود يولد على الفطرة ، وأبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، والفطرة التي فطر الناس عليها هي الإقرار منهم لله بالربوبية عليهم في قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) فهذا هو الهدى ،

٧١

رجح منهم الضلالة على الهدى اشتروا (الضَّلالَةَ) فإنهم لم يكونوا يملكونها (بِالْهُدى) الذي ملكهم الله إياه (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) في ذلك الشراء لأن الله ما شرع لعباده الشراء فاعتبر الحق جانب البيع ولم يعتبر في حق المؤمن جانب الابتياع.

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) (١٧)

ذهب الله بنوره أي أزاله عن أبصارهم أي أن الله أعدم النور من أبصارهم ، وتركهم

____________________________________

كان بأيديهم ، وما من هدى إلا وفي مقابلته ضلالة ، وهو تركه ، فجاء المؤمنون الذين بقوا على هداهم ، أو رجعوا إلى هداهم بإجابتهم دعوة الحق بلسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين دعاهم ، وجاء الذين لم يجيبوا داعي الله ، فأخذ المؤمنون هداهم وعوضهم عن ذلك الضلال الذي في مقابلة هداهم لو لم يهتدوا ، فضلّ هؤلاء الذين اشتروا الضلالة بما عوّضوا به زيادة على ضلالتهم ، قال تعالى (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) يعني هذه الصفقة ، وهي السورة المنزلة ، وازداد المؤمنون هدى إلى هداهم ، قال تعالى (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا) يعني بهداهم الذي كان لهم (زادَهُمْ هُدىً) وهو الهدى الذي باعه الكفار منهم ، فكان للمؤمنين نور على نور ، وكان للكافرين ظلمات بعضها فوق بعض ، فهم في ظلمات لا يبصرون ، والمؤمنون نورهم يسعى بين أيديهم ، فقال تعالى في صفة الكفار (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) أي خسروا في متجرهم لكونهم سفهاء ، وهو تأكيد لقوله تعالى (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ) وأي صفة أعظم من سفه تاجر لا يدري كيف يحفظ رأس ماله ، الذي هو الدين هنا ، قال تعالى (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) قيل وما هي؟ قال (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) فأبوا واختاروا العمى على الهدى ، واشتروا الكفر بالإيمان من المؤمنين ، ليزداد المؤمنون إيمانا مع إيمانهم ، قال تعالى (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) (يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) ، فقوله (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) هنا ، أي ما رشدوا ولا اتخذوا سبيل الرشد سبيلا ، ثم إن الله تعالى ضرب لنا فيهم إذا لقوا المؤمنين مثلا ، وضرب لنا مثلا آخر فيهم وفيما أنزل من القرآن ، فقال تعالى (١٨) (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) هذا هو المثل الأول ، قوله (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ) أي صفتهم كصفة (الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) ومنه (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي صفة

٧٢

في ظلمات لا يبصرون. فأصحاب الشهوات في هذه الظلمات تائهون ، كما أن أصحاب الحضور التام في الأنوار ينعمون.

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (١٨)

وصف الحق هؤلاء الناس بذلك الوصف فهم صم وإن كانوا يسمعون ، بكم وإن كانوا يتكلمون ، عمي وإن كانوا يبصرون ، صم عن سماع ما ذكرهم الله به ، بكم عن الكلام بالحق ، عمي عن النظر في آيات الله ، فهم صم فلم يسمعوا فلم يرجعوا ، فإنهم لم يعقلوا ما سمعته آذانهم ، وما سمع من سمع منهم إلا دعاء ونداء ، وهو قوله : يا فلان وما سمع أكثر من ذلك (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) لما سمعوا ، ولا يرجعون في الاعتبار إلى ما أبصروا ، ولا في الكلام إلى الميزان الذي به خوطبوا ، فلا يرجعون عندما يبصرون ، ولا يعقلون عندما يسمعون ، ولا يصيبون عندما يتكلمون.

____________________________________

الجنة ، ومنه (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أي الوصف ، فقال : مثلهم إذا لقوا المؤمنين ـ قد يمكن أن يكون اللقاء هنا منهم عن قصد ـ ليؤكدوا عندهم إيمانهم ، فإن المؤمن الحقيقي يدل بإيمانه ، والذي في قلبه خلاف ما تلفظ به يتخيل أنه يطّلع على ما في باطنه ، فتراه أبدا يحرص على إظهار الإيمان ابتداء من غير استدعاء ، ليؤكد عند السامع أنه بتلك الصفة ، وإن كان من لقيك فقد لقيته ، ولكن ما قال : إذا لقيهم المؤمنون ، ويؤكد ما ذهبنا إليه ما ذكره في التشبيه في قوله (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) وما قال : كمثل الذي وجد نارا ، والوقود من الواقد لا يكون إلا بقصد ، فلهذا رجحنا أن اللقاء كان عن قصد لما ذكرناه ، فقال تعالى : مثلهم إذا لقوا المؤمنين كمثل من استوقد نارا ، أي أوقد ، أو طلب وقود نار ، وهو ما يشرعون فيه مع المؤمنين إذا لقوهم من قولهم (آمَنَّا) فما داموا مجتمعين على ذكر الإيمان وفضائله ، هو قوله (أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) في التشبيه وقال : ما حوله ولم يقل فيه ، لأنه ما عنده من الإيمان إلا ذكره ، ليس فيه منه شيء ، ولذلك عصم ظاهره ، فإنه حوله ، ولم يعصم باطنه ، فإنه ليس فيه إيمان ، ثم شبه انصراف المؤمنين عنهم فينصرف نور ذكر الإيمان لانصرافهم بقوله (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) ثم شبه رجوعهم إلى أنفسهم وشياطينهم من أمثالهم بقوله (وَتَرَكَهُمْ) يعني المنافقين بانصراف النور عنهم (فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) يقول في طغيانهم لا يهتدون ، لأنه من لا يبصر لا يهتدي ، ولا يعلم ما حدث له في طريقة ، ثم قال (١٩) (صُمٌّ) عن سماع داعي الحق (بُكْمٌ) لا يتكلمون في حق (عُمْيٌ)

٧٣

(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) (١٩)

الصواعق هواء محترق ، والبروق هواء مشتعل تحدثه الحركة الشديدة ، والرعود هو هبوب الهواء تصدع أسفل السحاب إذا تراكم (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) وهي إحاطة عامة ، فهي الأخذ الكلي من غير تقييد بجهة خاصة ، لكن هو أخذ بتقييد صفة وهو الكفر.

____________________________________

لا ينظرون في الأشياء نظر اعتبار ، كما قال (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) وقال تعالى (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) ، ثم قال (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) إلى طريق الهدى ، لأن الله ختم على قلوبهم وسمعهم وعلى أبصارهم ، قوله (٢٠) (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) أتى بأو للتشكيك اتساعا ، فعدلوا بها عن الشك ، والأولى أن لا يعلل كلام العرب مثل هذا ، بل يقال : ترد في اللسان للشك ، وترد للتخيير ، وكلاهما لغة ، تقول جالس فلانا أو فلانا ، فمعناه انظر في هذا المثل إن شئت ، أو في هذا المثل إن شئت ، أو فيهما ، فالمشبّه الكتاب المذكور في أول السورة الذي أنزل إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمشبّه به الصيّب ، الذي هو المطر المنحدر من السماء ، وهو السحاب هنا ، نزل به الروح الأمين على قلب محمد ، وشبّه القرآن في حياة القلوب به للمؤمنين بالمطر الذي به حياة الأرض ، ثم قال (فِيهِ) يعود الضمير على السماء وهو السحاب (ظُلُماتٍ) شبه بها ما يحوي عليه القرآن من الأخبار التي أخبر الحق بها عن الكفار من قولهم (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ) و (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) و (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) و (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) فهذه الأقوال ظلمات القرآن (وَرَعْدٌ) ما فيه من الآيات الزواجر (وَبَرْقٌ) ما فيه من الآيات الدالة على التوحيد والتنزيه ، والذي وقع التشبيه بها هنا والله أعلم في البرق إنما هي آيات مكارم الأخلاق وصنائع المعروف التي هي محبوبة لكل نفس ، ولذا قال تعالى (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) والكافر لا تضيء له آية التوحيد حتى يمشي فيها ، وإنما ذلك آيات الوعد والرغبة ومكارم الأخلاق ، وقوله (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ) من أجل سماع الآيات الزواجر ، جمع صاعقة أي سماع هذه الآيات يجعلهم يصعقون ويخافون الصعق لئلا يكون فيه موتهم ، أي تنصدع قلوبهم بما سمعوه ، كما اتفق لبعض زعماء المشركين وذلك أنه لما سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلو (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ

٧٤

(يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٠)

(وَلَوْ شاءَ اللهُ) من نسبة الأفعال إلى الله لا يجب عليه فعلها ولا تركها ، ولهذا جعل المشيئة في ذلك وعلقها بلو فامتنع عن نفوذ الاقتدار ، وهذا موضع إبهام لا يفتح أبدا ، فوصف الحق نفسه بما يقوم الدليل العقلي على تنزيهه عن ذلك ، فما يقبله إلا بطريق الإيمان والتسليم ، فإنه سبحانه قيد مشيئته وإرادته بلو ، وهو حرف امتناع فيه سر خفي لأهل العلم بالله ، فإذا علمت هذا أقمت عذر العالم عند الله ، فالكل بيده وإليه يرجع الأمر كله (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) بالإيجاد.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٢١)

____________________________________

صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) ضرط وتخبط في عقله ، وقال : إن هذا كلام جبار ، ثم قال (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) بالأخذ ، من أحاط بهم العدو ، فلا يجدون مفلتا ولا منقذا ، قال تعالى (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) فالمثل الأول في المنافقين ، وهذا المثل الآخر في الجميع ، وفي نزول القرآن وما يحويه ، ثم قال (٢١) (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) يقول : يكاد ما يسمعونه من آيات الوعد والتحضيض على مكارم الأخلاق (يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) عن العمى ، ويردهم إلى الحق مما يفرحون بسماعه ، ثم قال (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) يقول : وإذا سمعوا الآيات التي حكاها الحق عنهم رجعوا إليها وقاموا على دينهم وكفرهم ، أي ثبتوا (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) عن الباطل ، وعن رؤية الظلمات إلى الحق وإلى النور ، كأنه يقول : ولو شاء الله لهداهم ، (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي على كل مقدور ، أن يوجده إن كان معدوما ، أو يعدمه إن كان موجودا ، قال تعالى (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) إعدام الموجود (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) إيجاد المعدوم (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) بممتنع ، قوله (٢٢) (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا

٧٥

(يا أَيُّهَا) إذا أيه الله بأحد في كتابه فكن أنت ذلك المؤيه به ، فإن أخبر فافهم واعتبر ، فإنه ما أيه بك إلا لما سمعت ، وإن أمرك أو نهاك فامتثل ، وما ثم قسم رابع ، إنما هو خبر أو أمر أو نهي ، وأنزله تعالى في خطابه إياك منزلة الأم في الشفقة ، فتلقّى منه بالقبول ما يورده عليك ، فإنه ما خاطبك إلا لينفعك ، وكن أنت المخاطب في خطاب الحق بسمعك لا بسمع الحق ، فإنه لا يأمر نفسه ولا ينهاها (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي الأسباب التي وجدتم عندها (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ثم قال لمن يرى أنا وجدنا بالأسباب لا عندها.

____________________________________

رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) نادى الشاردين من عباده الذين تمادوا في إعراضهم عن توحيد خالقهم ، فإن لفظة «يا» في النداء وضعت للبعد ، وكذلك (أيا) و (هيا) كما أن الهمزة وأي للقرب ، وأي حرف مبهم ، والهاء للتنبيه ، ولا بد من مفسّر يأتي بعد «يا أيها» فكان الناس هنا ، فقال (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) أي تذللوا وأطيعوا مصلحكم ومربيكم ، تعريفا بالنعم (الَّذِي خَلَقَكُمْ) أوجدكم (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وخلق من قبلكم ، فذكر الخلق تنبيها لاعتكافهم على عبادة آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ، قال تعالى (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ، فلما تمدح بالخلق دل من مضمون الكلام أن لا خالق للأشياء كلها إلا هو ، من أفعال العباد وغيرها ، ولو كانت أفعال العباد خلقا لهم ، لم يكن ذكره للخلق تمدحا خاصا لوقوع الاشتراك ، فتحقق مذهب أهل الحق في أن لا موجد ولا فاعل إلا هو ، وقوله (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي أنها مخلوقة له أيضا تأكيد لما ذكرناه ، ومن قبلنا كل من تقدمنا في الخلق من مخلوقات الله ، من عقول ونفوس وأجسام وجسمانيات ، فإن كثيرا من الناس يضيفون الأفعال بطريق الإيجاد إلى نفوس الأفلاك والعقول ، فبيّن الله أن الكل من خلقه ، ثم قال (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) لعل كلمة ترج وتوقع ، وكذلك عسى ، وهي من الكرماء واجبة ، والله أكرم الأكرمين ، والعامل في هذا الترجي عند الجماعة (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) وما بعده ، وفيه بعد لغموضه وما يحتاج إليه من التقدير فيه ، والأظهر عندي أن ضرب الأمثال المتقدمة تطلبه بقرائن الأحوال ، ومدلول المعاني وسياق الكلام ، أي ضربنا لكم هذه الأمثال لعلكم تتقون ، أي تحذرون وتخافون ، فيردكم حذركم إلى الحق ، فيطابق معنى التقوى ، ولا يظهر مثل هذا في قوله (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) ولا سيما ويأتي بعد تتقون ما يناسب الأول ، وهو قوله (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) إلى

٧٦

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢٢)

(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنه أوجد الأسباب ، وأوجدكم عندها لا بها ، فإن الله وضع الأسباب وجعلها له كالحجّاب ، فهي توصل إليه تعالى كل من علمها حجّابا ، وهي تصد عنه كل

____________________________________

قوله (رِزْقاً لَكُمْ) كلها من باب تقرير النعم التي أنعم بها على عباده ، فكأن (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) صار مقحما ، وإن لم يسم مثل هذا مقحما ، ولكنه في المعنى كذلك ، وربما لا يعرف إنزال هذه اللفظة في هذا الموضع وفصلها بين المناسبين إلا من يعرف إعجاز القرآن ، وأما حرف الترجي في هذه التقوى مع علمه بما يكون منهم ، فمثل قوله (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ) وهو عالم بما يكون منهم ، وغلّب المخاطب على الغائب في (لَعَلَّكُمْ) لأنه المقصود بالخطاب ، وهو الأوجه من طريق المعنى ، لأن الله هو المخاطب ولا يغيب شيء عن الله ، فينسحب هذا الخطاب على جميع المخلوقات من مضى ، ومن هو الآن ، ومن يكون ، وبلا شك أن من يكون مخاطب بهذه الآية وهو الآن لم يكن ، ولكن ما جاء فيه بضمير الغائب ، وكذلك من قبلنا ، والكلام قديم ، والسامع محدث ، والمتكلم به كذلك ، قال تعالى (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) والذي جاءهم إنما هو المتكلم به. ثم قال (٢٣) (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) خص ذكر الفراش على المهاد والقرار والبساط للتوالد الذي يذكره فيما بعد ، من إخراج الثمرات بإنزال الماء من السماء في الأرض ، وذكر السماء بلفظة البناء للابتناء ، فجعله شبيها بالنكاح فقال (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) فعلى السماء على الأرض وهي مفترشة قابلة ، فأنزل فيها الماء فاهتزت وتحركت وربت ، حملت شبه حمل المرأة (فَأَخْرَجَ بِهِ) أي بسبب هذا النكاح (مِنَ الثَّمَراتِ) الألف واللام لاستغراق الجنس (رِزْقاً لَكُمْ) ما تغتذون به (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ) الذي خلق هذه الأشياء كلها (أَنْداداً) آلهة تعبدونها ، مخلوقة تنحتونها بأيديكم ، أو تتخذون الكواكب وغيرها آلهة مع الله (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنهم لا يخلقون شيئا وأن الله هو خالقهم وخالق كل شيء ، والند المثل المخالف المناوي ، وهذا لا يتصور إلا فيمن يدّعي الألوهية ، كفرعون وغيره من الجبابرة ، لا في كل من يدّعى فيه الألوهية ، وهو والله أعلم من ندّ أي شرد ، فإنه شرد من موطن العبودة التي هي حقيقته إلى الربوبية التي ليس له منها وصف ، ولا له فيها قدم ، فلهذا سمي ندا ، فكأنه يقول لهم : من ندّ وادعى لكم أنه إله ، فلا تجعلوه لي ندا ، أي مثلا ، قال عليه

٧٧

من اتخذها أربابا ، فذكرت الأسباب في إنبائها ، أن الله من ورائها ، وأنها غير متصلة بخالقها ، فإن الصنعة لا تعلم صانعها ، ولا منفصلة عن رازقها ، فإنّها تأخذ عنه مضارها ومنافعها ، فالعلاقة بين الأسباب والمسببات لا تنقطع ، فإنها الحافظة لكون هذا سببا ، وهذا مسببا عنه ، فسببية السماء فيما يظهر على الأرض من النبات من توجهها عليها بما تلقيه من الغيث فيها ، وتلقيها ، كذلك كل حركة فلكية ونظر كوكب في العالم العلوي وإمداد الطبيعة ، كل ذلك أسباب لوجود زهرة تظهر على وجه الأرض ، والسبب الحادث قد يعلم أن أثره وحكمه في المسبّب عن أمر إلهي فله فيه إرادة ، فهو سبب عرضي ، وقد لا يعلم أن أثره وحكمه في المسبب عن أمر إلهي فهو سبب ذاتي ، ومن جهة أخرى نقول : إن الغنى بالله لا يصح عن الله ، ولا عن المخلوقين من حيث العموم ، لكنه يصح من حيث تعيين مخلوق ما ، يمكن أن يستغنى عنه بغيره ، فإن الله ما وضع الأسباب سدى ، فمنها أسباب ذاتية لا يمكن رفعها هنا ، ومنها أسباب عرضية يمكن رفعها ، فمن المحال رفع التأليف والتركيب عن الجسم ، مع بقاء حكم الجسمية فيه ، فهذا سبب لا يمكن زواله إلا بعدم عين الجسم من الوجود ، وإذا كانت الأسباب الأصلية لا ترتفع فلنقر الأسباب العرضية أدبا مع الله ، فإنه ما وضعها إلا وهو يعلم الحكمة في وضعها ، ولا نركن إليها ، ونبقي الخاطر معلقا بالله ، فلا يرفع الأسباب إلا جاهل بالوضع الإلهي ، ولا يثبت الأسباب إلا عالم كبير أديب في العلم الإلهي ، ومع ذلك يجب أن نعلم أن لله في كل موجود وجها خاصا وفي كل ما وجد فيه ، وعن ذلك الوجه الخاص وجد ، ولا يعرف السبب قط ذلك الوجه الخاص الذي لمسببّه المنفعل عنه ، فلا يعلمه إلا الله خاصة وهو رقيقة الجود ، وكل خلق أضيف إلى خلق فمجاز وصورة حجابية ، ليعلم العالم من الجاهل ، وفضل الخلق بعضهم على بعض ـ إشارة لطيفة ـ إن فهمت معاني القرآن ، وكيف جعل الأرض فراشا ، وكيف خلق آدم منها ، علمت قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الولد للفراش يريد المرأة ، أي لصاحب الفراش ، كما كان آدم عليه‌السلام حيث جعله خليفة فيمن خلق فيها ، ليكون أيضا صاحب فراش لأنه على صورة من أوجده ، فأعطاه قوة الفعل ، كما أعطاه قوة الانفعال ، فإن الله ما خلق الألفاظ حين عينها بالذكر سدى ، ولولا هذه الحكمة المطلوبة لا كتفى بالمهاد ولم

____________________________________

السلام : من الكبائر أن تجعل لله ندا وهو خلقك ، فمن عجز عن الخلق فليس بإله ، فالخلق أخص

٧٨

يذكر الفراش ، فإن ذلك حرف جاء لمعنى وهو ما قلنا ولا يقتصر ، فجعل سبحانه بين السماء والأرض التحاما معنويا ، وتوجها لما يريد سبحانه أن يوجده في هذه الأرض من المولدات ، من معدن ونبات وحيوان ، فجعل الأرض كالأهل ، والسماء كالبعل ، والسماء تلقي إلى الأرض من الأمر الذي أوحى الله فيها ، كما يلقي الرجل الماء بالجماع في المرأة ، وتبرز الأرض عند الإلقاء ما خبأه الحق فيها من التكوينات على طبقاتها.

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٣)

انظر في إعجاز القرآن تجده حسن النظم ، مع توفير المعنى وحسن مساقه وجمع المعاني بعضها إلى بعض من اللفظ الحسن النظم الوجيز ، مع وجود تكرار القصة الموجب للملل ، ولا تجد هذا في القرآن ، فتجد مع تكرار القصة الواحدة ، مثل قصص الأمم كآدم وموسى ونوح وغيرهم ، مما تكرر بزيادة لفظ أو نقصه ، ما تجد إخلالا في المعنى جملة واحدة ، وسبب ذلك أنه قول حق ، ما فيه تزوير.

____________________________________

أوصاف الإله الذي تميز به عن عباده ، فليس لمخلوق خلق فعل أصلا ، ثم قال (٢٤) (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) هذا خطاب لفصحاء العرب خاصة ، الذين يعرفون نظم الكلام العربي وإعجازه ، يقول : إن كنتم في شك من القرآن أنه منزل على محمد عبدنا من عندنا ، عارضوه في سورة مثله ، حتى تعرفوا أنه ليس في مقدور البشر أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، أي معينا من الجن والإنس ، والظاهر في هذه المعجزة أنه ليس من مقدور البشر ، لا أنهم صدوا مع القدرة قبل طلب المعارضة ، وهو الوجه الآخر من الإعجاز ، فترجح الوجه الواحد بقوله (نَزَّلْنا) يؤيد ذلك (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) فهكذا أنزل عليه بهذه الألفاظ المخصوصة ، فإن لم تقدروا ، كما أنه خارج عن مقدور عبدنا ، (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ) الذين اتخذتموهم آلهة (مِنْ دُونِ اللهِ) يأتونكم بمثل ما نزلنا على عبدنا (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنهم آلهة إذ الإله هو الذي لا يعتاص عليه شيء ، بل

٧٩

(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٢٤)

ثبت أنه ما من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان ، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدّم ، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدّم ، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار ، فاتقوا النار ولو بشق تمرة ، والنار تتقى لما يكون من الألم عند تعلقها بنا ، فقوله تعالى (فَاتَّقُوا النَّارَ) أي اجعلوا بينكم وبينها وقاية حتى لا يصل إليكم أذاها يوم القيامة (الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ) المشركون ومنهم من ادعى الألوهية ، فدعاكم إلى عبادة نفسه ، أو عبدتموه وكان في وسعه أن ينهاكم عن ذلك فما نهاكم ، فمثل هؤلاء يكون من حصب جهنم (وَالْحِجارَةُ) المعبودة التي كانوا يصورونها في الكنائس وغيرها ، فالمشركون والحجارة المعبودة جمر جهنم.

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٥)

____________________________________

هو على كل شيء قدير ، قوله (٢٥) (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) يقول فإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم عن المعارضة ، ولن تفعلوا ولن تأتوا بمثله ، فنفى بلن الإتيان في المستقبل كما انتفى في الحال ، فجاء شبه المقحم ، وفيه فائدة الإخبار بعدم المعارضة في المستقبل ، وتأييد أنه خارج عن مقدور البشر ، فتبيّن صدق الرسول عندكم بعدم المعارضة ، فصح عنادكم إن لم تؤمنوا وترجعوا عن ضلالتكم ، فإن لم تفعلوا (فَاتَّقُوا النَّارَ) أي اتخذوا الإيمان بما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقاية من النار (الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ) الذين كفروا بما أنزل عليه (وَالْحِجارَةُ) الآلهة التي عبدوها من دون الله ، نكاية لهم حيث زعموا أنها تشهد لهم أنهم على الحق عند الله تعالى ، قالوا (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) فاتخذوهم شهداء ، ولذا قال (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) فدخولها معهم زيادة في عذابهم ، وقوله (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) يعني النار ، وقد يحتمل أن يقول : أعدت الحجارة هنا ، أي هي معدة لعذابهم في النار ، ثم قال (٢٦) (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الآية ، يقول : وقل للمؤمنين

٨٠