رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

شهوتهم عليهم ، والعاقل ليس كذلك ، فإن العقل يأبى إلا الفضائل ، فإنه يقيد صاحبه عن التصرف فيما لا ينبغي ، ولهذا سمي عقلا من العقال ، وقوة العقل والدليل الواضح قاما للعقل على تصديق الرسول الذي بعثه إلينا في إخباره الذي يخبر به عن ربه بما يكون منه سبحانه

____________________________________

كما ورد في السنة من أنه فرض الخائف ركعة ، وهي مسألة خلاف بين الناس ، وقد يمكن أن يكون قوله : (فَاذْكُرُوا اللهَ) تحريض على شكره سبحانه كما علمنا كيف نؤدي هذه الصلاة في حال الخوف وفي حال الآمن وعلى كل حال ، ثم قال : (٢٤١) (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) الوجه عندي في تأويل هذه الآية أنه إخبار من الله بما كان الأمر عليه في زمان الجاهلية ، واستمرار ذلك في أول الإسلام ، من غير أن يرد من الله في ذلك حكم يرفعه ، ولا حكم يقره ، بل بقي الأمر على ما هو عليه من أن المرأة إذا مات عنها زوجها وهي في عصمته ، أنه كان يوصي لها بالنفقة والسكنى حولا كاملا ، ولم يكن لها ميراث ، فإن استعجلت المرأة الخروج قبل الحول سقطت نفقتها وسكناها ، ولم ينزل الله عليهم في حق من تركها تخرج ولا في حقهن إذا خرجن إثما ، بل كان الأولياء والمؤمنون يتركونهن ، وكانت النساء يزلن الإحداد ويتزين ويتعرضن للخطاب والتزويج ، ولا حرج في ذلك عليهم ، ولا عليهن من الله ، إلى أن نزلت آية الميراث والتربص أربعة أشهر وعشرا ، فلم يكن الحول ولا النفقة فيه ولا السكنى شرعا مقررا من عند الله ، ويؤيد هذا أنه لما نزلت عدة المتوفى أربعة أشهر وعشرا ، وظهر من الناس في ذلك ما ظهر من أنه يشق على النساء ، قال عليه‌السلام : [قد كانت إحداكن في الجاهلية تقعد حولا في شر ثيابها] الحديث ـ ولم يقل عليه‌السلام فيه إن ذلك كان شرعا من عند الله ، وقاله منكرا عليهن ، وأن الذي نزل عليه في ذلك أخف مما كان الأمر عليه ، وهن يضقن به ذرعا ، فإذا كانت هذه الآية إخبارا من الله تعالى بما كان الأمر عليه ، فلا يكون ما نزل من الحكم في ذلك بالأربعة أشهر والعشر الليالي وآية الميراث ناسخا لهذا الخبر ، لأن الخبر لا ينسخ ، وإنما الحكم الذي وقع الخبر عنه ارتفع بما نزل في ذلك ، والذي ذهب إليه المفسرون أن هذه الآية خرجت مخرج الحكم من الله في أول الإسلام ، ثم نسخها ما ذكرنا ، وهو بعيد للإنكار الوارد من النبي عليه‌السلام الذي ذكرناه ، وقوله هنا : (وَاللهُ عَزِيزٌ) أي غالب بما قهرهم من الموت ، منيع الحمى أن يحال بينه وبين ما يريد ، فإن الله توفاهم ، وقوله : (حَكِيمٌ) أي عليم بالوقت الذي أنزل فيه رفع هذه المشقة ، فإن الحكيم هو الذي لا يتعدى بالأشياء ميقاتها ، لعلمه بذلك ولا نعلمه نحن ، ثم قال : (٢٤٢) (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)

٣٦١

في خلقه ، وبما يكون عليه سبحانه في نفسه ومما يصف به نفسه مما يحيله عليه العقل إذا انفرد بدليله دون الشارع ، فالعاقل الحازم يقف ذليلا مشدود الوسط في خدمة الشرع ، قابلا لكل ما يخبر به عن ربه سبحانه وتعالى مما يكون عليه ومنه.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) (٢٤٣)

المراد هنا الفضل العام والخاص لما كان الناس يفضل بعضهم بعضا والرسل تفضل بعضهم بعضا (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) فإن عين الشكر عين النعم ، ومن النعم دفع النقم ، كم نعمة لله أخفاها شدة ظهورها ، واستصحاب كرورها على المنعم عليه ومرورها ، وهم في غفلة معرضون ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، بل لا يشعرون بل لا يشكرون.

____________________________________

يقول : إن حكم المطلقة ما هو حكم المتوفى عنها زوجها ، وهو عموم في جميع المطلقات ، وهذه مسألة خلاف بين العلماء ، فمن الناس من قال : إن المتاع هنا نفقة العدة ، ومنهم من قال : هي في غير المدخول بها كما تقدم ، ومنهم من قال : واجبة في كل مطلقة ، وقوله تعالى : (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) أي واجبة على من يتقي الله فيفعل ما أوجب الله فعله عليه ، والظاهر لو أراد بهذه الآية ما أراد بالأولى التي هي غير المدخول بها التي لم يفرض لها لكانت خلية عن الفائدة ، فالأوجه أن يكون مثل الأولى في الوجوب في غير المدخول بها ، وفي المدخول بها على الاستحباب والندب من الله إلى ذلك ، والتقي يبادر إلى ما ندبه الله إليه مبادرته إلى الواجب على السواء ، إيثارا لما اختاره الله له وإن لم يجب عليه ، فإن المتقي يوجبه على نفسه ، ومن ألزم نفسه طاعة ألزمه الشارع إياها فلذلك قال : (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) أي واجبا ، وما كل مؤمن ذا تقوى ، وفي غير المدخول بها واجب ولا بد ، ثم قال : (٢٤٣) (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ) أي يظهر لكم (آياتِهِ) أي العلامات التي تستدلون بها على الأحكام ، أو يقول : كما بينت لكم الأحكام بما أنزلته عليكم في الكتاب ، مثل ذلك يبين الله لكم آياته التي جاءت بها الأنبياء دلالات على صدقهم ، وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي تقيّدون أنفسكم بالعمل بها ، مأخوذ من العقال ، فلا تسرحوا إلا فيما سرحكم الشرع فيه ، ثم قال : (٢٤٤) (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا

٣٦٢

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٤٥)

فقالت طائفة من اليهود إن رب محمد يطلب منّا القرض ، وما طلب الله منك القرض وأنت تعلم أنه ما طلبه منك إلا ليعود به وبأضعافه عليك من جهة من تعطيه إياه من المخلوقين ، فمن أقرض أحدا من خلق الله فإنما أقرض الله ، وليس الحسن في القرض إلا أن ترى يد الله هي القابضة لذلك القرض لا غير ، فتعلم عند ذلك في يد من جعلت ذلك ، وهو الحفيظ الكريم ، وما خرج عن الملك شيء حتى يحكم فيه القبض ، وإنما يقال ذلك بالفرض ، ما خرج شيء عنه ، فالكل به وإليه ومنه ، الحق له الغنى ، ومن أقرضه بلغ المنى ، ودع اللجاج ، فما هو محتاج ، أنت من جملة خزائنه ، فما خرج الشيء عن معادنه ، فما أعطى إلا من خزانته ، لما أعطته حقيقة مكانته ، وحصلت أنت على الأجر ، إن فهمت الأمر «والله يقبض ويبسط» إن لله يدين مباركتين مبسوطتين فيهما الرحمة ، فلم يقرن بهما شيئا من العذاب ، فيعطي رحمة يبسطها ويعطي رحمة يقبضها ، فإن القبض ضم إليه ، والبسط

____________________________________

ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) في هذه الآية رد على الأشاعرة في استدلالهم على رؤية الله بالأبصار بقوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) أن الرؤية إذا اقترنت بها كلمة [إلى] كانت بالبصر ، تقول : نظرت إلى كذا ، أي شاهدته ببصري ، ونظرت في كذا ، أي فكرت فيه ، ونظرت لكذا ، أي رحمته ، ونظرت كذا ، أي قابلته ، واحتجوا بذلك على نفاة الرؤية ، فقد جاءت الرؤية هنا بإلى وليست هنا الرؤية بالبصر بلا شك ، فإنه خطاب لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن خوطب ، عن أمم قد مضوا ، وما رأيناهم حال خروجهم ولا حال موتهم ولا حال إحيائهم ، وكذلك قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) فجاء بإلى ومعناه هنا الفكر ، أن يتفكر في ذلك مع وجود [إلى] فإنه معلوم في هذه الآية أن واحدا منا ما رأى ربه وهو يمد الظل ، فيعرف كيفية ذلك المد بوساطة مشاهدة البصر ، فبطل ما استشهدوا به من هذه الآية لتقييدها بحرف [إلى] فالرؤية في هذه الآية بمعنى التعجب والاعتبار إذا فكرت فيهم

٣٦٣

انفساح فيه ، والله يقبض بمنع غضبه ، ويبسط ببسط رحمته ، ويقول أبو عبد الله (١) : والله يقبض القرض ، ويبسط الأجر ، واعلم أن الفرق بين الحضرتين القبض والبسط ، أن القبض لا يكون أبدا إلا عن بسط ، والبسط قد يكون عن قبض وقد يكون ابتداء ، فالابتداء سبق الرحمة الإلهية الغضب الإلهي ، والرحمة بسط ، والغضب قبض ، والبسط الذي يكون بعد قبض كالرحمة التي يرحم الله بها عباده بعد وقوع العذاب بهم ، فهذا بسط بعد قبض ، وهذا

____________________________________

وعلمت قصتهم وحديثهم ، فإن الخبر الصدق والمعاينة على السواء في التصديق بذلك ، ولا أصدق من الله حديثا ، وهو المخبر بقصة هؤلاء الذين أخبر عنهم ، فلا فرق عندنا بين أن نشهدهم بأعيننا في هذه الآية وبين هذا الخبر الإلهي ، بل أتم وأوضح ، وقوله : (وَهُمْ أُلُوفٌ) أي متألفون ، جمع ألف ، كجالس وجلوس ، وقد يمكن أن يكون من العدد ، ويكون الأمران معا ، فأخبر الله تعالى أنهم خرجوا فرارا من الموت ، وهو أن الطاعون كان نزل بهم ، فأراهم الله أنه لا ينجي حذر من قدر ، قال تعالى : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)(فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا) فماتوا ميتة رجل واحد (ثُمَّ أَحْياهُمْ) ليعتبروا ، فإن الأجل المسمى ما كان وصل وقته ، وإنما كان هذا موت اعتبار وإحياء اعتبار لهم ولنا من بعدهم ، ليعلموا أن الله على كل شيء قدير ، وأنه لا راد لأمره ، ويخرج على هذا قوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) يريد في الأولى التي هي الدار الدنيا ، فحذف حرف الجر ، فإن هؤلاء حصل لهم في الدنيا موتتان ، ولأمثالهم ، ثم قال : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) منه هذا وأمثاله (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) أي يكفرون بنعم الله عليهم ، هؤلاء القوم الذين أخبر الله عنهم كانوا من بني إسرائيل ، وكان ذو الكفل نبيهم الذي بعث إليهم ، وهو حزقيل بن روم ، وقيل حزقيا بن روم ، وكان الله قد أمره أن يخرج بقومه لقتال عدوهم ، وكان الطاعون كثيرا ، ما يكون بأرض عدوهم ، فخاف قومه من القدوم على تلك الأرض ، فأبوا عليه ، فابتلاهم الله بالطاعون ، فخرجوا من مدينتهم حذر الموت ، فدعا الله حزقيل عليه‌السلام ربه أن يريهم آية يعرفون بها أنه لا ينجيهم حذرهم من قدر الله ، فقال لهم الله : موتوا ، فماتوا ميتة رجل واحد ، وجيفوا وانتثرت لحومهم عن عظامهم ، ثم دعا الله حزقيل أن يحييهم فأحياهم ، فلما رأوا ذلك تحققوا أن الفرار من قدر الله لا ينجيهم ، ثم قال تعالى : (٢٤٥) (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يحتمل أن يكون المخاطب هؤلاء القوم بالقتال ، فيكون إخبارا لنا من الحق بتمام القصة وبما أمرهم به ، ويحتمل أن يكون المؤمنون المخاطبين بهذه الآية بعد فراغ القصة ، تحريضا للمؤمنين على جهاد عدوهم ، ولا يقولوا مثل ما قال هؤلاء الذين أبوا على نبيهم ، فإن الله (سَمِيعٌ) لكل ما يتكلمون

__________________

(١) أبو عبد الله هو الجامع لهذا التفسير.

٣٦٤

لبسط الثاني محال أن يكون بعده ما يوجب قبضا يؤلم العبد ، ومن يدعو إلى الله على بصيرة يدعو من باب البسط من يعلم أن البسط يعين على الإجابة من المدعو ، ويدعو من باب

____________________________________

به ، (عَلِيمٌ) بما يضمرونه في صدورهم وإن لم يتكلموا به ، وقد يكون قوله : (عَلِيمٌ) إعلام بما هي الحقائق عليه ، فإن السمع متعلقه الكلام من حيث ما هو كلام لا من حيث ما يدل عليه من المعاني ، فيكون قوله : (عَلِيمٌ) بما دل عليه الكلام المسموع ، فجعل له تعلقين : تعلق السمع والعلم (٢٤٦) (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) نزلت في أبي الدحداح عمرو بن الدحداح من الأنصار ، لما سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : من تصدق بصدقة فله مثلها في الجنة ، وكان لأبي الدحداح حديقة ، فقال : يا رسول الله إن تصدقت بحديقتي فلي مثلها؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعم ، قال : وأم الدحداح معي؟ قال : نعم ، قال : والصبية؟ قال : نعم ، قال : فتصدق بحديقته ، فأنزل الله هذه الآية فيه ، وضاعف الله أجره على صدقته ، فقال : (مَنْ ذَا الَّذِي) يقول : أي إنسان كان من المؤمنين لم يخص به واحدا دون آخر (يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) القرض السلف ، لما كان السلف يعود إلى معطيه بعد ذلك جعل الحق سبحانه ما يتصدق به من أجله قرضا ، لأنه يعيد مثله وأكثر من ذلك على من أقرضه ، ولو قال ذلك بغير لفظة القرض ما أعطى هذا المعنى ، وإذا علم المعطي أن متاعه يعود إليه مضاعفا سارع إلى إعطائه لمن يسأل منه ذلك ، وقوله : (حَسَناً) يقول طيبة بذلك نفسه ، ببسط وجه للسائل وبشاشة وفرح ، كان الحسن صلوات الله عليه إذا وقف السائل ببابه يسارع بالصدقة إليه بيده فرحا مستبشرا به ، ويقول : مرحبا بحامل زادي إلى الآخرة ، ومن القرض الحسن رؤية النعمة من الله عند العطاء ، وقوله : (قَرْضاً حَسَناً) أي من وجه ، من المال يجوز له التصدق به مما ملكه الله إياه بوجه صحيح يرضاه الله ، وقوله : (فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) هو قوله : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) وقوله عليه‌السلام : [إن الصدقة تقع بيد الرحمن فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله] ومن القرض الحسن أن لا يتبعه أذى ولا منة ، قال تعالى : (ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً) وقال : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) والشيء إذا كثره الله فلا أكثر منه ، وأقل الكثرة دوامه ، فكيف إذا انضاف إلى ذلك وجود الكثرة في الأمثال ، مثل قوله : (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) لكان مبالغة في الكثرة «والله يقبض ويبسط» يريد هنا في الرزق ، يوسع الرزق على قوم ويضيقه على قوم بقدر ما يعلمه من المصلحة في حق ذلك العبد ، وإن كان شقيا فإنه مرحوم به في شقائه بوجه ما ، فإن رحمته وسعت كل شيء ، قال تعالى : (وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) يعني الرزق ، وقال : (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) فمن أعطاه الله

٣٦٥

القبض من يعلم أن القبض يعين على إجابة المدعو ، فيدعو بالقبض والبسط ، فإنه يراعي المصلحة ويدفع بالتي هي أحسن في حق المدفوع عنه وفي حق نفسه ، والبسط مطلب النفوس فليحذر غوائلها (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٢٤٧)

لما كانت الحضرة الإلهية لا تقتضي التكرار لما هي عليه من الاتساع ، وكان العلم صفة

____________________________________

علم ذلك فقد اعتنى به ، وقد علم شيئا من سر القدر ، ثم قال : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ليوفيكم ما أقرضتموه في دار الكرامة ، وليندم من لم يقرضه في هذه الدار حين طلب منهم ذلك بالوجه الذي يصح فيه التصرف ، فهو قوله : (يَوْمُ التَّغابُنِ) للمعطي والمانع ، والمعطي من غير وجهه ، فيود المعطي المقبول لو أعطى جميع ما عنده ، ويود المانع لو أعطى وما منع ، ويود المعطي من غير وجهه أنه أعطى من الوجه الذي يليق ويكون معه القبول كما تقدم ، ولما خرج أبو الدحداح عن حديقته صدقة لله تعالى ، جاء إلى حديقته التي تصدق بها ليسلمها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوجد أم الدحداح والصبية فيها ، فامتنع من الدخول فيها ، فقال : يا أم الدحداح ، قالت له لبيك ، قال إني جعلت حديقتي هذه صدقة واشترطت مثلها في الجنة وأنت وأولادنا معنا فيها ، فقالت له أم الدحداح : بارك الله لك فيما شريت وفيما اشتريت ، فخرجوا منها وسلم أبو الدحداح الحديقة

٣٦٦

إحاطته ، قرن معه السعة ، واشتق له اسما منها كما اشتق من العلم ، فقال تعالى : (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) فإن الحق له الاتساع الذي لا ينبغي إلا له ، والاسم الواسع من أعظم الأسماء إحاطة ،

____________________________________

للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كم نخلة مدلى عذوقها لأبي الدحداح في الجنة ، ما رأيت أعرف من أم الدحداح حيث دعت بالبركة فيما باع وما اشترى ، فأما البركة فيما باعه ، فهو قوله عليه‌السلام في الصدقة ، تقع بيد الرحمن فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله ، حتى تصير مثل جبل أحد وإن كانت غاية في الصغر ، فهذه بركته فيما باع ، فإن الجزاء يقع عليها يوم يقع على قدر ما انتهت إليه من العظم في التربية الإلهية ، لا على قدر الوقت الذي أعطاها ، والبركة التي تكون في المشتري هو ما لم يدخل تحت التعريف ، مضافا إلى القدر الذي زاد على ما كان جزاء للصدقة في أول إعطائها قبل التربية ، فهذا من أدل دليل على علمها بذلك ، ومن جملة القرض النفقة في سبيل الله لتجهيز الضعفاء الذين لا مال لهم إلى قتال عدوهم في قوله : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ونفقتهم على أنفسهم في ذلك ، فوقعت النسبة بين الآيتين ، ثم قال : (٢٤٧) (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) الآية ، يقول ألم تعلم بما أخبرتك به مما كان من وجوه بني إسرائيل من بعد موت موسى ابن عمران (إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ) قيل هو شموئيل ، وهو بالعربية إسماعيل بن بالي بن علقمة بن برخام بن البهر بن يهرص بن علقمة بن ناحب بن عموط بن عزريا بن صفية بن علقمة بن أبي ياسف بن قارون بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن ، وقيل هذا النبي هو شمعون ، وقيل هو يوشع بن نون بن إفراييم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم الخليل ، قالوا له : (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً) يقولون يتقدم علينا ويملك أمرنا ونسمع له ونطيع ليجمعنا على قتال عدونا الذي جلانا عن أهلنا وبلادنا ، وهو جالوت وأصحابه ، فهو قوله : (نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) قال : فقال لهم نبيهم : (هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا) كما قال تعالى لنا : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) وعسى من الله ومن رسوله واجبة ، لأن الأنبياء قلوبهم محفوظة من الخواطر المذمومة ، فما يقع في قلوبهم إلا الحق ، وكذلك كان ، لما كتب عليهم القتال تولوا وأعرضوا إلا قليلا منهم ، كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر خاصة ، فالمعنى يقول لهم نبيهم : الأقرب من أحوالكم إن كتب عليكم القتال أنكم لا تقاتلون وتكرهون ذلك ، لأن كلمة عسى من أفعال المقاربة «قالوا» فقالوا في جواب قوله : (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ) يقولون وما يمنعنا من ذلك ونحن نطلب ثأرا من عدونا ، فقالوا : (وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا) لما ظهر علينا عدونا جالوت ، قال : (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا كما ظنه فيهم نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) فكأن فعل المقاربة إنما دخل من أجل من أطاع منهم

٣٦٧

وهو الاسم الذي يتضمن الأسماء الإلهية التي تطلبها الأكوان كلها لاتساعه ، وهي أكثر من أن تحصى كثرة.

____________________________________

ولم يتول عن القتال ، فكأنهم قاربوا أن يتولوا بأجمعهم لولا أن الله اعتنى بالطائفة التي استثنى منهم ، قال : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) وعيد وتهديد ، وتحقيق أن الله يعلم ما يكون من الظالم من الظلم قبل وقوعه ، فأنطق الله بذلك نبيه عليه‌السلام ، وعرفنا الله بهذا كله تنبيها لنا وتذكرة لئلا نكون مثلهم فيما يأمرنا به سبحانه ، وتعزية للنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتثبيتا لفؤاده إن وقع منا في أمر الله ما وقع من هؤلاء ، قال تعالى : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) ثم قال : (٢٤٨) (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) يقول : لما سأل ملأ بني إسرائيل نبيهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه عدوهم ، قيل أوحى الله إلى نبيه بقارورة فيها دهن مقدس ، فقال له ربه : إذا دخل عليك رجل فينشّ الدهن عند دخوله فذلك هو الملك الذي نبعثه لهم ، فدخل عليه طالوت يوما يرجو بركة دعائه في أن يرد الله عليه حمرا ضلت له ، فلما دخل نش الدهن في القارورة ، فدهنه به ، وكان رجلا دباغا حقيرا في قومه من سبط بنيامين ، ولم يكن في ذلك السبط نبوة ولا ملك ، وكان طالوت من أدنى بيت فيه ، وسمي طالوت لفضله عليهم في العلم والجسم من الطول وهو الفضل ، واسمه بالسريانية شانك بن قيس بن إنبال بن ضرار ابن يحرب بن أفثح بن إيش بن يامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل ، فقال له شمويل : إن الله قد أمرني أن أبعثك ملكا لهؤلاء القوم تقاتل بهم عدوهم ، ودهنه بدهن القدس ، وأعلمه أن الله يوحي إليه إذا كان في مكان كذا وكذا ، ثم قال لقومه : (إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً)(قالُوا أَنَّى يَكُونُ) يقولون كيف يكون : (لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا) وليس هو من سبط فيه نبوة ولا ملك (وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) يقولون وما له مال واسع يكون به ملكا قالَ لهم نبيهم (إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ) أي اختاره (عَلَيْكُمْ) يقول : يكون ملكا عليكم يملك أمركم (وَزادَهُ) عليكم (بَسْطَةً) أي اتساعا (فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) أي منظره عظيم حسن ، ومخبره مثل ذلك ، وأحسن الناس من عظم منظرا ومخبرا ، وقيل كان سقاء يستقي الماء على حمار له (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) يقول : الملك لله سبحانه ليس لكم فيعطيه لمن يشاء من عباده ، قال تعالى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) ثم قال : (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) لما قالوا : ولم يؤت سعة من المال ، أخبرهم الله بأني واسع العطاء إذا شئت أغنيته بالمال ، وقوله : (عَلِيمٌ) في هذا الموضع ، يقول : عليم بمن يصلح من عبادي للنيابة عني في خلقي والتقدم عليهم ، ولما أخبرهم نبيهم بأن الله اصطفى عليهم طالوت بالملك ، قالوا : ما آية ذلك؟

٣٦٨

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٢٤٨)

اعلم أن المعاني التي تتصف بها القلوب قد يجعل الله علامة على حصولها في نفوس من شاء من عباده أن يحصلها ، فيه علامات من خارج ، تسمى تلك العلامة باسم ذلك المعنى الذي يحصل في نفسه من الله ، وإنما يسميه به ليعلم أن تلك العلامة لحصول هذا المعنى

____________________________________

(٢٤٩) (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) فقال لهم : (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ) أي علامة إعطاء الله له الملك (أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) وكان عند أنبياء بني إسرائيل تابوتا قد جعل الله لهم فيه آية يسكنون إليها تدل على نصرهم على عدوهم ، فكانوا إذا قاتلوا عدوهم قدموا التابوت أمام الجيش واستنصروا به ربهم ، فيعطيهم النصر ، فهذا معنى قوله : (فِيهِ سَكِينَةٌ) كما يقال : اقبل هذا الأمر فإن فيه فرجا لك ، وكان الله قد رفع التابوت من بني إسرائيل لما فشت فيهم المخالفات والكفر ، فقيل أخذه منهم عدوهم ، وقيل بل رفعه الله إليه ، ولا شك أن هذا الملأ من بني إسرائيل إنما أوتوا في إنكارهم الملك على طالوت لكونهم ما طلبوا قتال عدوهم لأن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى إيثارا لجناب الحق تعالى ، والله أغنى الشركاء عن الشرك ، فقالوا : (وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا) فذكروا العلة فما قاتلوا إلا لحظوظ نفوسهم لا لجناب الله ، فبعدوا من الله فضعفوا في نفوسهم ، فلم يقبلوا فرض القتال عليهم ، ونازعوا الله في ولاية طالوت عليهم ، فجاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه حتى أنزلته في بيت طالوت ، فحينئذ سمعوا له وأطاعوا رغبة في النصر على عدوهم ، وقوله : (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي فيه آية تدل على النصر ، فيسكن إليه من كان عنده في حال قتال عدوه ، يقال سكن إلى هذا الأمر يسكن سكونا وسكينة ، على أنه قد قيل في هذه السكينة أقوال ، كلها ترجع إلى ما ذكرناه ، فقالوا كانت السكينة التي فيه ريحا هفافة ، لها وجه كوجه الإنسان ، وقيل غير ذلك ، وسميت سكينة لما ذكرناه ، ولا فرق بين أن تكون الآية حضور التابوت عندهم أو تكون ما ذكروه ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) ويحتمل أن تكون السكينة عبارة عن الملائكة الذين مع التابوت ينصرهم الله بهم مددا ودعاء ، فإنه قد ورد في الصحيح أن بعض الصحابة

٣٦٩

نصبت ، مثل قوله تعالى في تابوت بني إسرائيل إن الله قد جعل فيه سكينة ، وهي صورة على شكل حيوان من الحيوانات ، اختلف الناس في أي صورة حيوان كانت ، ولا فائدة لنا في ذكر ما ذكروه من صورتها ، فكانت تلك الصورة إذا هفت أو ظهرت منها حركة خاصة بصروا ، فسكن قلبهم عند رؤية تلك العلامة من تلك الصورة التي سماها سكينة ، وأن السكينة المعلومة إنما محلها القلوب ، ولم يجعل لهذه الأمة المحمدية علامة خارجة عنهم على حصولها ، فليس لهم علامة في قلوبهم سوى حصولها ، فهي الدليل على نفسها ، ما تحتاج إلى دليل من خارج كما كان في بني إسرائيل.

____________________________________

كان يقرأ القرآن وله فرس فجعلت الفرس تضرب بيديها وتنفر ، فنظر الرجل فإذا غمامتان قد نزلتا من السماء ، فلما سكت عن القراءة ارتفعتا ، فذكر ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : تلك السكينة نزلت للقرآن وكانت الملائكة في الغمامتين ، وقوله : (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) يعني الأنبياء (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) فيقال كان فيه عصا موسى وعمامته وشيء من التوراة وثياب موسى ورضراض الألواح والطست الذي كان يغسل فيه قلوب الأنبياء ، ثم قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وهذا دليل على مغايرة العلم للإيمان كما قدمنا ، فإن الدليل يعطي العلم لذاته ولا يعطي الإيمان ، فالإيمان نور يقذفه الله في قلب من خصه من عباده ، وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي مصدقين بأن النصر يكون مع التابوت ، والآية كانت في إتيانه لا فيه ، فقوله : (ذلِكَ) إشارة إلى الإتيان ، فجعله دليلا على صدق شمويل أن الله بعث لهم طالوت ملكا ، فأضيفت الآية للملك المضاف إلى طالوت لأنه محل النزاع ، وقوله : (لَآيَةً لَكُمْ) يدل على أنه علم سبحانه أنهم اتخذوا الإتيان دليلا ، لأنه من لم يتقرر عنده كون هذا الأمر دليلا على كذا لا يكون عنده دليلا ، وإن كان في نفس الأمر دليلا ، ولكن هنا غموض ، فإنه إذا حصل هذا الدليل عند الناظر فيه من جميع وجوهه باستيفاء أركانه ، فلا بد أن يكون عنده دليلا لأنه لذاته يدل ، ويرتبط بمدلوله ، فليس الدليل بالإضافة ، فالجهل إنما حصل من كون الناظر ما استوفى النظر فيه ، ولهذا انقسم الناظرون في آيات الأنبياء إلى قسمين : قسم لم يحصل لهم العلم بالدليل فكفروا بالمدلول ، وقسم حصل لهم العلم بذلك فجحدوا بالآية واستيقنتها أنفسهم ، فيختلف الحكم عليهم في الآخرة من عند الله لاختلاف أحوالهم وإن جمعهم اسم الكفر ، فلما رأت بنو إسرائيل إتيان الملائكة بالتابوت إلى بيت طالوت على حد ما ذكره نبيهم سمعوا له وأطاعوا ، فخرج بهم طالوت لقتال عدوهم ، وهو قوله : (٢٥٠) (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ) من خرج من

٣٧٠

(فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٢٤٩)

من ذلك يعلم أن الصدق سيف الله في الأرض ، ما قام بأحد ولا اتصف به إلا نصره الله ، لأن الصدق نعته والصادق اسمه ، فينصر الله المؤمن الذي لم يدخله خلل في إيمانه على

____________________________________

شيء فقد فصل عنه فصولا ، فقال تعالى : (فَلَمَّا فَصَلَ) أي خرج من بيته بجنوده يطلب عدوه ، وكان في زمان الحر ، (قالَ) لهم : (إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) قيل هو نهر الأردن الخارج من بحيرة طبرية الواقعة في بحيرة لوط ، فابتلاهم الله أي اختبر صدقهم في اتباع طالوت بالشرب من النهر ، إذ التكليف إنما يقع ويتعلق بفعل المكلف (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ) يقول : من كرع فيه فشرب منه أكثر مما يسد به عطشه خاصة ، وهو الضروري من ذلك ، الذي تبقى به حياة الإنسان وإن أحس بالعطش ، يقول : فمن فعل ذلك (فَلَيْسَ مِنِّي) يقول : (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) وصبر على عطشه (فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) وهو قدر الضرورة الداعية إليه فإنه مني ، وقوله : (فَلَيْسَ مِنِّي) أي الشرب منه ليس من سنتي ، كما ورد [من غشنا فليس منا] أي ليس من سنتنا الغش ، قال : (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر ، وما عدا هؤلاء فإنهم شربوا حتى رووا منه ، قال تعالى : (فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ) يعني طالوت «والذين معه» يعني عسكره ، أبصروا عسكر جالوت وكثرته وشدة بأسه ، ونظروا إلى ضعفهم وقلتهم (قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) وهؤلاء القائلون منهم هم الذين شربوا وهم الذين وقع عليهم الشرط بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وهم الذين قالوا : (وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا) فكرهوا أن يخرجوا من أنفسهم أيضا بالقتل ، فجبنوا عن قتال عدوهم ، وضعفوا عن الإيمان بالنصر المقترن بحضور التابوت ، فما كان فيه في حق هؤلاء سكينة ، لأن نفوسهم ما سكنت إليه في ذلك

٣٧١

من دخله خلل في إيمانه ، فإن الله يخذله على قدر ما دخله من الخلل ، أي مؤمن كان من المؤمنين ، فالمؤمن الكامل الإيمان منصور أبدا ، ولهذا ما انهزم نبي قط ولا ولي ، ألا ترى يوم حنين لما ادعت الصحابة رضي الله عنهم توحيد الله ، ثم رأوا كثرتهم فأعجبتهم كثرتهم فنسوا الله عند ذلك ، فلم تغن عنهم كثرتهم شيئا ، مع كون الصحابة مؤمنين بلا شك ، ولكن دخلهم الخلل باعتمادهم على الكثرة ، ونسوا قول الله (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) فما أذن الله هنا إلا للغلبة فأوجدها ، فغلبتهم الفئة القليلة بها عن إذن الله ـ إشارة ـ لما جرى نهر البلوى ، بين العدوتين الدنيا والقصوى ، وكان الاضطرار ، وقع الابتلا والاختبار ، لما كان الظما ، اختبر الإنسان بالما ، فلم يحصل له أمان الغرفة ، إلا من قنع في شربه بالغرفة ، فمن اغترف نال الدرجات ، ومن شرب ليرتوي عمر الدركات ، فما ارتوى من شرب ، وروي من اغترف غرفة بيده وطرب ، فمن رضي بالقليل ، عاش في ظل ظليل ، في خير مستقر وأحسن مقيل.

(وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (٢٥١)

الحكمة هي علم النبوة ، والحكماء على الحقيقة هم العلماء بالله وبكل شيء ومنزلة ذلك

____________________________________

(قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ) فقال القليل منهم ، وهم الذين يظنون أنهم ملاقوا الله ، وقد تقدم الكلام في الظن في هذه السورة (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً) الفئة الجماعة ، وقوله : (بِإِذْنِ اللهِ) أي الغلب لا يقع إلا بإذن الله ، أي بأمره ، فإنه شيء ، وقد قال : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وقال تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) وقوله : (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) قد تقدم الكلام عليه في هذه السورة ثم قال : (٢٥١) (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ

٣٧٢

الشيء المعلوم ، وهم على الحقيقة الرسل والأولياء (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) ولبطلت السنة والفرض.

(تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) (٢٥٣)

الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر رسول ، منهم الفاضل والأفضل ، وإن سبح الكل في فلك الرسالة ، لأن كل صنف أشخاصه يفضل بعضهم بعضا ، ولا تفاضل إلا بالعلم ، فهؤلاء

____________________________________

الْكافِرِينَ) يقول : ولما برزوا أي ظهروا إلى عدوهم ، دعوا الله أن يصب عليهم الصبر والثبات في الحرب ، والنصر على الأعداء ، وكيف يسألون النصر وهم قد علموا وقوع النصر لهم على أعدائهم بكون التابوت معهم؟ فالجواب من وجهين : الوجه الواحد ، الأدب مع الحق والاعتماد عليه لا على الأسباب ، وما هم على يقين أن التابوت يكون معه النصر كما كان لمن تقدم ، لتغير الأحوال ، ومجيئه إنما كان آية على ملك طالوت لا على نصره على عدوهم ، وما يقتضيه أيضا جبلة الإنسان من الجبن ، فاستعان بالدعاء للهلع الذي قام به ، قال تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً) ، والوجه الآخر ، منقول عن السكينة ، فإنهم قالوا إنها كانت آية لها رأس كرأس الهر ، فإذا صاحت علموا أنهم قد نصروا ، وإذا سكتت علموا أنهم لا ينصرون ، وهم لا يدرون هل تصيح فينصرون أم لا؟ فاستعانوا بالدعاء لله والتضرع في النصر على أعدائهم ، فأجاب الله دعاءهم ، فأخبر تعالى وقال : (٢٥٢) (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ) كما قال أولا بإذن الله ، تصديقا لهم حيث قالوا : (غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ)(وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ) يريد داود النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجالوت هو الملك (وَآتاهُ اللهُ) يعني داود (الْمُلْكَ) الذي كان لطالوت (وَالْحِكْمَةَ) الزبور الذي أنزل عليه (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) ما أراده من العلوم التي فيها سعادته وشرفه (وَلَوْ لا

٣٧٣

مع اجتماعهم في الرسالة والكمال يفضل بعضهم بعضا فيما لهم من الأخلاق الخاصة بهم ، وهي مائة وسبعة عشر خلقا ، وقد جمعها كلها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، جمعت له عناية أزلية ، فإن الله تعالى لما خلق الخلق خلقهم أصنافا ، وجعل في كل صنف خيارا ، واختار من الخيار خواصا وهم المؤمنون ، واختار من المؤمنين خواصا وهم الأولياء ، واختار من هؤلاء الخواص خلاصة وهم الأنبياء ، واختار من الخلاصة نقاوة وهم أنبياء الشرائع المقصورة عليهم ، واختار من النقاوة شرذمة قليلة هم صفاء النقاوة المروقة وهم الرسل أجمعهم ، واصطفى واحدا من خلقه هو منهم وليس منهم ، هو المهيمن على جميع الخلائق ، جعله عمدا

____________________________________

دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض ، أي ولولا أن الله يدفع بأوليائه شر أعدائه وفسادهم الذي يرمونه في دين الله وأوليائه (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) أي لظهر الفساد في الأرض (وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) أي ذو منة وعناية على العالمين ، يعني عباده ، ثم قال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (٢٥٣) (تِلْكَ آياتُ اللهِ) يعني جميع ما ذكره من هذه القصة (نَتْلُوها عَلَيْكَ) أي نعرفك بها (بِالْحَقِّ) أنها حق (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) يقول : كما أرسل هؤلاء ، وأنك ستلقى مثل ما لقي هؤلاء ، وتعزية له لما لقيه من بني قريظة والنضير ، ولما كانت الأنبياء قد جعلها الله صنفين : صنف أرسلهم إلى الخلق مبشرين ومنذرين ، وصنف لم يرسلهم بل نبأهم وجعلهم على شريعة من عنده تعبدهم بها ، قال لمحمد عليه‌السلام : (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) منهم ، أي من الصنف الذي أرسل ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعظم الرسل ، إذ كان الرسالة إلى كافة الناس ، فجميع بني آدم من زمان رسالته إلى يوم القيامة من أمته ، من آمن منهم ومن كفر ، فميزانه أرجح الموازين ، وسواد أمته أكثر سوادا يوم القيامة من سائر الأمم ، فهو المكاثر الذي لا يكاثر ، ثم نرجع إلى ذكر القصة بعد انقضاء التفسير فنقول : إن بني إسرائيل لما استولى عليهم جالوت وأخرجهم من ديارهم وحال بينهم وبين أبنائهم بالأسر والجلاء والقتل ، وأخذ التابوت الذي كانت تستنصر به الأنبياء على أعدائها في القتال ، وكان موسى لما مات في التيه ترك التابوت عند يوشع بن نون بن إفراييم ابن يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم الخليل ، وأوصاه به ، وما زال التابوت ينتقل من نبي إلى نبي بالوصية عليه ، إلى أن كفرت بنو إسرائيل وضلوا ، سلط الله عليهم جالوت فاتكا فيهم ، فقيل إن التابوت رفعه الله ، وقيل إن جالوت استولى عليه وأخذه منهم وبقي عنده ما شاء الله ، ولما رأت بنو إسرائيل ما جرى عليها ، اجتمع وجوههم إلى النبي الذي كان عندهم في ذلك الوقت وهو شمويل ، فقالوا له : إن عدونا استولى علينا وليس لنا ملك ولا رأس نرجع له ونسمع له

٣٧٤

أقام عليه قبة الوجود ، جعله أعلى المظاهر وأسناها ، صح له المقام تعيينا وتعريفا ، فعلمه قبل وجود طينة البشر ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا يكاثر ولا يقاوم ، هو السيد ومن سواه سوقة ، قال عن نفسه : أنا سيد الناس ولا فخر ، بالراء والزاي ، روايتان ، أي أقولها غير

____________________________________

ونطيع ، فكان يغزو بنا عدونا ولا نبقى ضميمة يفتك بنا بسيفه ورجاله ، فقال لهم نبيهم : أنا أسأل الله في ذلك ، ولكني أخاف عليكم إن فرض عليكم القتال ألا تقاتلوا ، وكانت الأمم تنزل عليهم الأحكام على قدر سؤالاتهم ، فقالوا لشمويل : يا رسول الله وكيف نتخلف عن قتال عدونا وقد أخرجنا من ديارنا وحال بيننا وبين أبنائنا؟ وذهلوا عن الذي قال لهم شمويل من فرض القتال عليهم لما كانوا فيه من شدة الحرص على قتال عدوهم ، فما طلبوا إلا ملكا يدبر أمرهم ، لا أن يفرض عليهم القتال فيعصون بتركه ، فلما أجاب الله نبيه شمويل فيما سأل من ذلك ، فرض الله عليهم القتال ، فقال لهم نبيهم شمويل : إن الله قد فرض عليكم قتال عدوكم ، فلما سمع القوم بأن ذلك على جهة الفرض صعب عليهم لما في التكليف من المشقة ، فأعرض أكثرهم ورجع عن سؤاله ، وآمنت طائفة بما فرض الله عليها من قتال عدوها ، فكان الذين آمنوا ثلاثمائة وثلاثة عشر ، ثم قال لهم شمويل صلوات الله عليه : إنني سألت الله في أن يبعث لكم ملكا يرجع أمركم في قتال عدوكم إليه ، فأوحى الله إلى شمويل ونزل عليه جبريل بقارورة فيها دهن القدس ، وقال له : يا شمويل انظر إلى هذا الدهن في هذه القارورة فأي رجل دخل إليك ونش هذا الدهن لدخوله ، فهو الملك الذي قد قضيت أن أبعثه لبني إسرائيل ، وكان في زمن شمويل رجل يسقي الماء على حمار له ، وقيل بل كان دباغا ولم يكن من بيت فيه نبوة ولا ملك ولا من أشراف بيته ، وقد ذكرنا نسبه وبيته ، فضاع حماره فخرج في طلبه ، فمر بمنزل شمويل ، فدخل عليه يرجو بركة دعائه في وجدان حماره ، فلما دخل عليه نش الدهن في القارورة ، فنظر إليه شمويل وقال له : ادنه ، فدنا منه طالوت ، فدهن رأسه بذلك الدهن وبرّك عليه ، وقال له : يا طالوت إن الله قد أعطاك ملك بني إسرائيل وقدمك عليهم ، وكان طالوت ذا منظر حسن وهيبة وامتداد قامة ، وكان قد آتاه الله علما بالحروب وترتيب الجيوش والمكايد التي يحتاج إليها في الحرب ، فقال شمويل لبني إسرائيل : إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا ، وكانوا يعرفون طالوت بينهم وأنه فقير حقير مهان في عشيرته ، وعشيرته في العشائر حقيرة غير معتبرة ، فأنفوا أن يتقدم عليهم مثل ذلك ، وقالوا لشمويل : نحن أحق بالملك منه ، فإنه رجل لا أصل له فينا يرجع إليه من ملك ولا نبوة ، ولا مال له ينفقه فينا ، فقال لهم شمويل : إن الله قد فضله عليكم بما تحتاجون إليه في قتال عدوكم وبما ينبغي أن يكون عليه الملك ، وأعطاه الله العلم بالقتال والمغالبة والحروب ، وأعطاه البسطة والجمال في

٣٧٥

متبجح بباطل ، أي أقولها ولا أقصد الافتخار على من بقي من العالم ، وإن كنت أعلى المظاهر الإنسانية فأنا أشد الخلق تحققا بعيني (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) فمن حيث ما هي رسالة فلا فضل إذ الاسم يعم هذه الحالة ، ومن حيث ما هي رسالة بأمر ما وقع

____________________________________

صورته بحيث إذا رآه عدوه هابه ، وأما المال فإنّ الله بيده خزائن الأرض ومقاليدها ، فهو يعطيه ويهبه ما ينفقه فيكم ، فقالوا له : إن كان الله اختاره لنا وبعثه ملكا علينا كما زعمت فما علامة ذلك ، وكانت بنو إسرائيل كثيرا ما تطلب الآيات من أنبيائها ، فقال لهم : إن علامة ملكه فيكم أن يرجع إليكم التابوت الذي أخذ منكم ، وتأتي به الملائكة تحمله في الهواء وأنتم تنظرون إليه حتى تنزله في بيت طالوت ، ففرحوا برد التابوت ورضوا بهذه الآية ، فبينما هم جلوس وإذا بالتابوت بين السماء والأرض تحمله الملائكة وهم ينظرون إليه ، حتى نزلت به الملائكة في بيت طالوت ، وكان في التابوت صورة يقال لها السكينة ، لها رأس كرأس الهر ووجه كوجه الإنسان وجناحان ، فإذا لقوا العدو نظروا إليها وهي في التابوت ، فإذا أنّت وصوتت وفتحت جناحيها أيقنوا بالنصر ، وسار التابوت بحركتها قدما تجاه العدو ، وسار الجيش خلف التابوت ، فيدبر عدوهم منهزما ، فلما رأت بنو إسرائيل التابوت قد نزل عند طالوت علموا أن الله قد أعطاه الملك عليهم ، فسمعوا له وأطاعوا واجتمعوا عليه ، فخرج بهم يطلب جالوت ، وكان عدوهم بين فلسطين وديار مصر ، وكان من عبدة الأوثان ، فلما جاء الغور وكان زمان قيظ واشتد عليهم الحر ، وأخذهم العطش ، أخرج الله لهم نهرا من بحيرة طبرية يجري مع طول الغور إلى أن يصب في بحيرة لوط ، يقال له الأردن ، فقال لهم طالوت : إن الله يختبركم بهذا النهر مع عطشكم ، فمن لم يطعمه صحبني وكان معي ، ومن شرب منه وأخذ منه فوق حاجته فليس يتبعني ولا يكون معي ، إلا من أخذ منه قدر الحاجة ، وهي الغرفة بيده ليسد بها رمقه إذا خاف الهلاك من العطش ، فشرب منه كل من تولى حين فرض عليهم القتال ، ولم يشرب منه الثلاثمائة والثلاثة عشر ، فلما جاوز النهر طالوت وعسكره ولحقوا بجالوت وعسكره ، قال أصحاب طالوت الذين شربوا من النهر : لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ، لما رأوه من العدة والعدد ، فقال الثلاثمائة والثلاثة عشر : لا تقولوا هكذا فإن النصر من عند الله ، ما هو بكثرة الجموع ، فكم رأينا وسمعنا من جماعة قليلة ضعيفة في العدة والعدد هزمت بإذن الله ـ لما ثبتت وصبرت ـ جماعة كثيرة قوية في العدة والعدد ، والله مع من يثبت في الحرب ، ولا يبرح معين له وناصر ، وكان طالوت لما بشره شمويل بالملك قال له : إني أعطيك درعا يكون معك ، تخلعه على قاتل جالوت ، وتزوجه بنتك وتعطيه نصف ملكك ، وإن هذا الدرع لا يلبسه ويكون على قده إلا قاتل جالوت ، وهذه علامة لك على ذلك ، وكان داود عليه

٣٧٦

التفاضل ، ووقع التفاضل بين الرسل وهم الخلفاء لاختلاف الأزمان واختلاف الأحوال ، ولهذا اختلفت آيات الأنبياء باختلاف الأعصار (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) فآية كل خليفة ورسول من نسبة ما هو الظاهر والغالب على ذلك الزمان وأحوال علمائه ، أي شيء كان من طب أو سحر

____________________________________

السلام يرعى غنما ، وكان داود بن إيشا بن عويذ بن غابر بن يسلمون بن يخسون بن عميذاب ابن رام بن حصرون بن فارض بن يهودا بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم الخليل ، وكان أبوه إيشا وإخوته في عسكر طالوت ، وأراد داود الغزو معه فأودع غنمه ربه تعالى وانحدر يريد الجيش ، فخاطبه حجر وقال له : خذني يا داود فإني أقتل جالوت ، فكم قتل بي هرون عليه‌السلام من أعداء الله ، فقل للريح تعينني على إزالة البيضة من رأس جالوت ، حتى أنفذ إلى رأسه فأشدخه ، فأخذه فجعله في مخلاة له ، ثم انصرف ، فناداه حجر آخر : يا داود أنا حجر موسى ، كم قتل بي من عدو الله ، فخذني حتى تستعين بي على قتل عسكر جالوت ، فأخذه وجعله في مخلاته ، ثم انصرف ، فناداه حجر ثالث كذلك ، فأخذه فجعله في مخلاته ، فلما دخل على طالوت ، قال له داود : يا طالوت إني قاتل جالوت ولي عليك شرط إذا قتلته أن تزوجني بنتك وتقاسمني في ملكك ، فقال له طالوت وتذكر ما عهد إليه شمويل في ذلك : يا داود إن لي علامة فيك وهو هذا الدرع ، فإن هو استوى عليك ولم يقصر عنك ولا طال عليك فأنت قاتل جالوت ، وكان ذلك الدرع ما يلبسه أحد إلا طال عليه أو قصر ، فأفرغه على داود فطال عليه فانتقص فيه فتقلص حتى استوى عليه ، فكان تقلصه من أكبر الآيات ، حتى لا يقال إنه وقع له بحكم الموافقة ، فعلم طالوت أن ذلك آية كما كان التابوت له آية ، ثم إن الجمع التقى وجاء داود حيال جالوت ، فقال له جالوت : ما تريد؟ قال : أنا قاتلك ، فازدراه جالوت وحقره لقلة سلاحه ولذاته وما رأى عنده إلا الدرع عليه ومخلاة ومقلاعا ، فأدخل يده داود في مخلاته فإذا الأحجار الثلاثة قد التأمت بإذن الله وصارت واحدا ، فجعل الحجر في المقلاع ، وأمر الله الريح أن تلقي البيضة عن رأس جالوت ، فهبت هبوبا شديدا حتى ألقت البيضة عن رأس جالوت ، ورمى داود عليه‌السلام بالمقلاع الحجر كما رمى النبي عليه‌السلام التراب في وجوه الأعداء يوم حنين ، فانقسم الحجر في الهواء ثلاثة أقسام ، فطار حجر منه إلى رأس جالوت فنفذه ، والحجر الآخر أخذ يمين الجيش ، وأخذ الحجر الثالث ميسرة الجيش ، فانهزم جالوت وجنوده ، وسقط جالوت قتيلا ، وهزمهم الله عن آخرهم ، واستبشر الناس ، وجاء داود إلى طالوت وطالبه بالشرط ، فصعب على طالوت أن يكون ملكا ويعطيه ابنته وهو رجل راعي غنم ، فقال يا داود : ما كان لمثلك أن يخطب بنات

٣٧٧

أو فصاحة أو ما شاكل هذا ، وأعطي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جميع ما فضلت به الرسل بعضهم على بعض ليتبين شرفه وما فضله الله به على غيره في الدنيا بما اختص به ، وفي البرزخ والقيامة والجنة والكثيب وأيد عيسى عليه‌السلام بالروح ، لأنه ما رقمه قلم في لوح ، فقذف في الرحم من غير شهوة ، فلم يكن له عن طرح الأكوان سلوة.

____________________________________

الملوك؟ وفرح الناس بداود ، وحسده طالوت ، فأراد أن يوقع به ، فلم يعن عليه ، وهرب داود أمامه ، وندم طالوت على ما جرى منه في حق داود ، فتاب إلى الله من ذلك ، ووجه إلى داود وأعطاه ابنته ونصف ملكه ، وأوحى الله إلى طالوت فيما حكي أن توبتك عندي أن تأتي أرض البلقاء وحدك فتقاتلهم ، فإما أن تفتحها وإما أن تقتل بها ، فتلك توبتك ، فنهض طالوت إلى بلقاء وما زال يقاتلها وحده حتى قتل ، واجتمعت الأسباط كلها على داود ، وملكها وانقادت ، ولم تكن قبل ذلك تجتمع على ملك واحد ، بل كان لكل سبط ملك منهم ، إلا داود فآتاه الله الملك ، وأنزل عليه الزبور ، وأقام فيهم إلى حين موته ، والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

انتهى الجزء الثامن من إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن ، ويتلوه في التاسع قوله تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) وهذا الأصل الأول بخط يدي من غير مسودة ، وكتب محمد ابن علي بن محمد بن أحمد بن العربي الحاتمي الطائي المترجم في يوم الجمعة الثاني والعشرين من ذي القعدة سنة إحدى وعشرين وستمائة ، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد خاتم النبيين وعلى آله أجمعين آمين.

تم استنساخه بخط الفقير إليه تعالى كامل بن محمد السمسمية مساء يوم السبت الواقع في التاسع والعشرين من رمضان المبارك سنة ألف وثلاثمائة وإحدى وسبعين عن نسخة بخط الحكيم محمد سعيد السيوطي والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

تم استنساخه بخط الفقير إلى الله تعالى محمود بن محمود الغراب مساء يوم الثلاثاء العاشر من ذي القعدة سنة ألف وثلاثمائة وثمان وثمانين هجرية الموافق للثامن والعشرين من كانون الثاني سنة ألف وتسعمائة وتسع وستين ميلادية والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تم مراجعة هذه النسخة بوساطة الكاتب والسيد رضا العظمة على النسخة الخطية للسيد حسني ابن محمود بيك العظمة وهي النسخة المنقولة من نسخة شيخ الإسلام الأسبق السيد عبد الرحمن أفندي نسيب ، تم ذلك في يوم الإثنين العاشر من ربيع الأول سنة ألف وثلاثمائة وتسع وثمانين هجرية.

٣٧٨

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (٢٥٥)

ورد أن آية الكرسي سيدة آي القرآن ، فقد ثبت في الأخبار تفاضل سور القرآن وآيه بعضه على بعض في حق القارئ بالنسبة لما لنا فيه من الأجر ، فكانت آية الكرسي سيدة آي القرآن ، لأنه ليس في القرآن آية يذكر الله فيها بين مضمر وظاهر في ستة عشر موضعا منها إلا آية الكرسي ، ولما كانت الآيات العلامات ، ولا شيء أدل على الشيء من نفسه ، وآية الكرسي كلها أسماؤه وصفاته ، لا يوجد ذلك في غيرها من الآيات ، فدل على نفسه بنفسه ، فقال : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فنفى وأثبت بضمير غائب على اسم حاضر له مسمى غيب ، وما نفى الحق إلا الألوهة أن تكون نعتا لأكثر من واحد (الْحَيُّ) صفة شرطية في وجود ما له من الأسماء ، فإنه لما لم يتمكن أن يتقدم الاسم الحي الإلهي اسم من الأسماء الإلهية ، كانت له رتبة السبق ، فهو المنعوت على الحقيقة بالأول ، فكل حي من العالم ـ وما في العالم إلا حي ـ فهو فرع عن هذا الأصل ، فالحي اسم ذاتي للحق سبحانه ، لم يتمكن أن يصدر عنه إلا حي ، فالعالم كله حي ، إذ عدم الحياة ووجود موجود من العالم غير حي لم يكن له مستند إلهي في وجوده البتة ، ولا بد لكل حادث من مستند (الْقَيُّومُ) على كل ما سواه بما كسب ، فإنه أعطى كل شيء خلقه ، ولما كانت القيومية من لوازم الحي استصحبها في الذكر مع الحي ، قال عزوجل : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) فكانت القيومية من نعوت الحي ، واستصحبته فلا تذكر إلا معه ، فالاسم القيوم أخو الاسم الحي

٣٧٩

الملازم له ، فما جاء الاسم الحي إلا والقيوم معه (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) صفة تنزيه عما يناقض حفظ العالم الذي لولا قيوميته ما بقي لحظة واحدة ، فنعت الحق نفسه بصفة التنزيه عن حكم السنة والنوم ، لما يظهر به من الصور التي يأخذها السنة والنوم ، كما يرى الإنسان ربه في المنام على صورة الإنسان التي من شأنها أن تنام ، فنزه نفسه ووحدها في هذه الصورة وإن ظهر بها في الرؤيا حيث كانت ، فما هي ممن تأخذها سنة ولا نوم ، فهذا هو النعت الأخص بها في هذه الآية ، وقدم الحي القيوم لأن النوم والسنة لا يأخذ إلا الحي القائم ، أي المتيقظ ، إذ كان الموت لا يرد إلا على حي ، فلهذا قيل في الحق إنه الحي الذي لا يموت ، كذلك النوم والسنة ، والسنة أول النوم كالنسيم للريح ، فإن النوم بخار وهو هواء ، والنسيم أوله ، والسنة أول النوم ، فلا يرد إلا على متصف باليقظة ، فهذا توحيد التنزيه عمن من شأنه أن يقبل ما نزه عنه ، هذا الحي القيوم ، وهو توحيد الهوية توحيد الابتداء ، لأن الله فيه مبتدأ ونعته في هذه الآية بصفة التنزيه ، فهو تعالى لا يغيبه شهود البرازخ عن شهود عالم الحس عن شهود عالم المعاني الخارجة عن المواد في حال عدم حصولها في البرازخ وتحت حكمه (لَهُ) الضمير يعود عليه وهو ضمير غيب (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) السموات هنا ما علا والأرض هو ما سفل ، فله ما في السموات وما في الأرض ملكا له وعبدا ، معين الحفظ لبقاء الحكم بالألوهة (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ) شفعية الوتر بالحكم (عِنْدَهُ) ضمير غيب (إِلَّا بِإِذْنِهِ) عدم الاستقلال بالحكم دونه ، فلا بد من إذنه إذ كان ثم شفيع أو شفعاء ، والشفاعة لا تقع إلا فيمن أتى كبيرة تحول بينه وبين سعادته ، فيعلم ما في السموات وما في الأرض من الشفعاء والمشفوع فيهم (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) وهو ما هم فيه (وَما خَلْفَهُمْ) وهو ما يؤولون إليه (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) بالأشياء (إِلَّا بِما شاءَ) منها لا بكلها ، فبيّن الحق في هذه الآية أن العقل وغيره ما أعطاه من العلم إلا ما شاء ، وما ذكر عن أحد من نبي ولا حكيم أنه أحاط علما بما يحوي عليه حاله في كل نفس نفس إلى موته ، بل يعلم بعضا ولا يعلم بعضا ، مع علمنا بأن الله عزوجل أوحى في كل سماء أمرها ، وأن الله أودع اللوح المحفوظ علمه في خلقه بما يكون منهم إلى يوم القيامة ، ولو سئل اللوح المحفوظ ما فيك أو ما خط القلم فيك من علم الله عزوجل؟ ما علم ، فإن الله أودع ذلك كله في نظره لمن هو دونه ، ولا يعلم ما يكون عن الأثر إلا الله ، فإن الأثر

٣٨٠