رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

والثاني قرب اعتناء وكرامة ، فالقرب الأول قرب رحم ونسب ، لو أراد الدافع أن يدفعه لم يستطع ، لأنه لذاته هو قرب ، وقرب الاختصاص قرب المكانة من السلطان ، والمسيح كل من مسح أرضه بالمشي فيها ، والسياحة في نواحيها ليرى آثار ربه :

(وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٤٦)

كان كلام عيسى عليه‌السلام في المهد دلالة على براءة أمه مما نسب إليها :

(قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤٧)

وقال تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وأصمنا الحق عن إدراك هذا القول إلا بطريق الإيمان ، وأعمانا عن توجهه على إيجاد الأشياء ، بما نصب من الأسباب ، فيحتاج السمع إلى شق هذه الحجب حتى يسمع قول كن ، فخلق في المؤمن قوة الإيمان ، فسرت في سمعه فأدرك قول كن ، وسرت في بصره فشاهد المكون للأسباب :

(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٤٩)

هذه الآية دالة على أنه ما من موجود خلقه الله عند سبب إلا بتجل إلهي خاص لذلك الموجود ، لا يعرفه السبب ، فيتكون هذا الموجود ، وهو قوله سبحانه وتعالى : (فَأَنْفُخُ فِيهِ) فلم يكن للسبب غير النفخ (فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) فالطائر إنما كان لتوجه أمر الله عليه بالكون ، وهو قوله تعالى (كُنْ) بالأمر الذي يليق بجلاله ، فالعامل في قوله تعالى (بِإِذْنِ

٤٤١

اللهِ) يتعلق بيكون طيرا ، وأما عند مثبتي الأسباب فيتعلق بقوله (فَأَنْفُخُ) فإنه نسب الخلق إلى عيسى عليه‌السلام ، وهو إيجاد صورة الطائر في الطين ، ثم أمره أن ينفخ فيه ، فقامت تلك الصورة التي صورها عيسى عليه‌السلام طائرا حيّا ، وقوله (بِإِذْنِ اللهِ) يعني الأمر الذي أمره الله به في خلقه صورة الطائر ، والنفخ وإبراء الأكمه والأبرص وإحيائه الميت ، فأخبر أن عيسى عليه‌السلام لم ينبعث إلى ذلك من نفسه ، وإنما كان عن أمر الله ، ليكون ذلك وإحياء الموتى من آياته على ما يدعيه ، ويخرج عليه‌السلام ممن يدّعى فيه الخلق ، إذ يقول تعالى (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) فلو قالوا عيسى دعي إلها من دون الله وقد خلق من الأرض ، لذلك قدم الحق لأجل هذا القول أن خلق عيسى للطير كان بإذن الله ، فكان خلقه له عبادة يتقرب بها إلى الله ، والمأمور عبد ، والعبد لا يكون إلها ، فكل خلق أضيف إلى خلق فمجاز وصورة حجابية ، ليعلم العالم من الجاهل ، وفضل الخلق بعضهم على بعض. واعلم أنه لما وجد عيسى من غير شهوة طبيعية ، فإنه كان من باب التمثيل في صورة البشر ، فكان غالبا على الطبيعة بخلاف من نزل عن هذه الرتبة ، ولما كان الممثل به روحا في الأصل كانت في قوة عيسى إحياء الموتى ، ألا ترى السامري لمعرفته بأن جبريل معدن الحياة حيث سلك ، أخذ من أثره قبضته فرماها في العجل فخار وقام حيا.

(وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٥٢)

الحواريون هم العلماء أتباع عيسى عليه‌السلام ، والحواري هو من جمع في نصرة الدين بين السيف والحجة ، فأعطي العلم والعبارة والحجة وأعطي السيف والشجاعة والإقدام ، ومقاومة التحدي في إقامة الحجة على صحة الدين المشروع.

٤٤٢

(رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (٥٣)

فأضافوا الإيمان إليهم إيجادا. فقول الله لهم (آمِنُوا بِاللهِ) تقريرا لصحة ما نسبوه من الأفعال إليهم بهذه الإضافة ، فهي إضافة شرعية :

(وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٥٤)

ومكر الله وهو عين مكرهم ، فرده الله عليهم ، فهو عين مكر الله بهم ، لا أنه استأنف مكرا آخر ، ومنه إرداف النعم مع المخالفة وإبقاء الحال مع سوء الأدب.

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٥٩)

لما قال أهل الطبيعة إن ماء المرأة لا يتكون منه شيء ، وإن الجنين الكائن في الرحم إنما هو من ماء الرجل ، كان تكوين جسم عيسى عليه‌السلام تكوينا آخر ، وإن كان تدبيره في الرحم تدبير أجسام البنين ، فإن كان من ماء المرأة إذ تمثل لها الروح بشرا سويا ، أو كان عن نفخ بغير ماء ، فعلى كل وجه هو جسم رابع مغاير في النشء غيره من أجسام النوع الإنساني ، ولذلك قال تعالى (إِنَّ مَثَلَ عِيسى) أي صفة نشىء عيسى (عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ

٤٤٣

آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) الضمير يعود على آدم ، ووقع الشبه في خلقه من غير أب ، أي صفة نشئه صفة نشىء آدم ، إلا أن آدم خلقه من تراب (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فشبه الكامل وهو عيسى عليه‌السلام بالكامل وهو آدم عليه‌السلام من حيث خلقه بقوله كن ، فصفته صفة آدم في صدوره عن الأمر ، فأوقع التشبيه في عدم الأبوة الذكرانية ، من أجل أنه نصبه دليلا لعيسى في براءة أمه ، ولم يوقع التشبيه بحواء وإن كان الأمر عليه ، لكون المرأة محل التهمة لوجود الحمل ، إذ كانت محلا موضوعا للولادة ، وليس الرجل بمحل لذلك ، والمقصود من الدلالة ارتفاع الشكوك ، وفي حواء من آدم لا يقع الالتباس لكون آدم ليس محلا لما صدر عنه من الولادة ، وهذا لا يكون دليلا إلا عند من ثبت عنده وجود آدم وتكوينه والتكوين منه ، وكما لا يعهد ابن من غير أب ، كذلك لا يعهد من غير أم ، فالمثل من طريق المعنى أن عيسى كحواء ، ولكن لما كان الدخل يتطرق في ذلك من المنكر لكون الأنثى كما قلنا محلا لما صدر عنها ، ولذلك كانت التهمة ، كان التشبيه بآدم لحصول براءة مريم مما يمكن في العادة ، فظهور عيسى من مريم من غير أب كظهور حواء من آدم من غير أم ، فكما وجد أنثى من ذكر وجد ذكر من أنثى ، فختم بمثل ما به بدأ في إيجاد ابن من غير أب كما كانت حواء من غير أم ، ثم أن عيسى على ما قيل لم يلبث في بطن مريم لبث البنين المعتاد ، لأنه أسرع إليه التكوين لما أراد الله أن يجعله آية يردّ به على الطبيعيين ، حيث حكموا على الطبيعة بما أعطتهم من العادة ، لا بما تقتضيه مما أودع الله فيها من الأسرار والتكوينات العجيبة ـ الوجه الثاني ـ قوله تعالى (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) هذا الاشتراك في الفردية ، غير أن جسد عيسى عليه‌السلام أخلص ، ولهذا سماه روحا ، وسمى ذلك آدم من الأدمة ، فإنه مأخوذ من أديم الأرض ، وأين الأدمة من الصفاء النوراني ، ولهذا قال (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) ولم يقل «خلقهما» والضمير يعود على أقرب مذكور ، ومعنى الاشتراك في الفردية هو أن فردانية اللطيفة الإنسانية ثبتت له بتقدم الاثنين ، وهو تسوية البدن وتوجه الروح الكلي ، فظهرت النفس الجزئية التي هي اللطيفة الإنسانية فكانت فردا ، فظهرت الفردية في الأجسام الإنسانية في موضعين. في آدم عليه الصلاة والسلام (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) ، وفي عيسى عليه الصلاة والسلام (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) ولهذا قال تعالى (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) ـ الوجه

٤٤٤

الثالث ـ لما كان عيسى عليه‌السلام هو الذي ستختم به الولاية المطلقة بنزوله ، نبه الله تعالى على ختمية الظهور به وتمام دورته بقوله سبحانه (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فإن مماثلة عيسى لآدم عليهما‌السلام ليست من قبل المادة في خلقه ، ولذلك عرف الله تعالى خلق آدم بأنه من تراب ، ولكن المماثلة في ختميته الظهور الآدمي النبوي ، كما كان آدم خاتم انبساط الظهور للعالم من الغيب إلى الشهادة ، وابتداء المرآة الكاملة الإنسانية ، فهو المطلع الأول الذي هو أول مظاهر الكمال في الخلافة الظاهرة ، ثم أخذ يترقى بسطا في ذريته ، كما كان بروز الظهور في الوجود وأحكامه بالتدريج من الغيب إلى الشهادة حتى انتهى إلى آدم عليه‌السلام ، فلذلك أيضا كان يرتقي بسطا من آدم في ذريته حتى انتهى إلى عيسى ، فكان خاتما لظهور المرائي الإنسانية التي تنسبط بها التجلي ، الذي هو في مقابلة الغيب والشهادة ، وابتداء الرجوع إلى البطون ، فلذلك قال فيه (فَيَكُونُ) ولم يقل فكان ، لأنه تمام زوجية العالم ، فهو ينبسط فيمن بعده إلى تمام النسخة الآدمية.

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٦٢)

العبد المراقب ربه يعلم أن الله هو واضع الأشياء ، وهو الحكيم ، فما وضع شيئا إلا في موضعه ، ولا أنزله إلا منزلته ، فلا يعترض على الله فيما رتبه من الكائنات في العالم في كل وقت ، ولا يرجح نظره وفكره على حكمة ربه ، فيقول : لو كان كذا لكان أحسن ، فالله تعالى يعلم ما خلق ، فما رتب في الزمان إلا ما استحقه بخلقه ، فإنه أعطى كل شيء خلقه.

٤٤٥

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٦٤)

زعمت طائفة من أهل الكتاب ممن اتخذوا عيسى ربا ، قالوا : إن محمدا يطلب منا أن نعبده كما عبدنا عيسى ، فأنزل الله تعالى (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا ...) الآية فإن الله تعالى ما أرسل الرسل إلا ليدعوا الخلق إليه ، لا ليدعوهم إليهم.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٦٧)

(حَنِيفاً) أي مائلا إلى الله (مُسْلِماً) منقادا إلى الله عند كل دعاء يدعوه إليه من غير توقف.

(إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (٦٨)

(وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) من كونه مؤمنا.

(وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ

٤٤٦

(٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٧٣)

الفضل لا يدخل في الجزاء وبهذا كان فضلا. فعطاء الله كله فضل ، لأن التوفيق منه فضل ، والعمل له وهو العامل ، فالحاصل عن العمل بالموازنة وإن كان جزاء فهو فضل بالأصالة.

(يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٧٤)

اعلم أن الاختصاص الإلهي لا يقبل التحجير ، ولا الموازنة ولا العمل ، وأن ذلك من فضل الله يختصّ برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ، ومن هنا يتضح خظأ من قال باكتساب النبوة ، فإن الاستعداد غير مكتسب ، لا تعمّل لأحد فيه ، بل اختصّ الله كل واحد باستعداد. واعلم أن الاختصاص الإلهي الذي يعطي السعادة غير الاختصاص الذي يعطي كمال الصورة ، وقد يجتمعان أعني الاختصاصين في بعض الأشخاص ؛ فالاختصاص الذي يعطي السعادة هو الاختصاص بالإيمان ، والعصمة من المخالفة أو بموت عقيب توبة ، والاختصاص الذي يعطي كمال الصورة هو الذي لا يعطي إلا نفوذ الاقتدار والتحكم في العالم ، بالهمة والحس ؛ والكامل من يرزق الاختصاصين. فليس في الجنة موضع ولا في النار موضع إلا وله عمل يطلبه من فعل وترك ، إلا ما في الجنة من أمكنة الاختصاص ، وليس في النار ذلك ، ولهذا ما ورد في القرآن (يختص بنقمته من يشاء) وورد (يختص برحمته من يشاء) فالنار ينزل فيها بالأعمال ، والجنة ينزل فيها بالأعمال والاختصاص الإلهي ، ولذا

٤٤٧

قال [سبقت رحمتي غضبي] إلى الاختصاص.

(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٧٥)

يؤاخذ الكاذب على كذبه إذا كان عالما بكذبه في المواطن التي كلف أن يصدق فيها ، وإذا أخذ من لا يعلم أنه كاذب ، إنما يؤاخذ من حيث أنه فرط في اقتناء العلم الذي يطلعه على هذا الأمر الذي كذب فيه من غير علم به أنه ليس بحق ، فما يؤاخذ إلا بتفريطه في تحصيل ما ينبغي له أن يحصله من العلم والعمل بما فيه نجاته وسعادته ، لا من جهة كذبه.

(بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٧٨)

فهم الأئمة المضلون الذين شرعوا ما لم يأذن به الله ، وقالوا لأتباعهم هذا من عند الله وما هو من عند الله ، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون.

(ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ

٤٤٨

تَدْرُسُونَ (٧٩) ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (٨٤)

الشرائع كلها أنوار ، وشرع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين هذه الأنوار كنور الشمس بين أنوار الكواكب ، فإذا ظهرت الشمس ، خفيت أنوار الكواكب ، واندرجت أنوارها في نور الشمس ؛ فكان خفاؤها نظير ما نسخ من الشرائع بشرعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع وجود أعيانها ، كما يتحقق وجود أنوار الكواكب ، ولهذا ألزمنا في شرعنا العام أن نؤمن بجميع الرسل وجميع شرائعهم أنها حق ، فلم ترجع بالنسخ باطلا ، ذلك ظن الذين جهلوا ، فرجعت الطرق كلها ناظرة إلى طريق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلو كانت الرسل في زمانه لتبعوه كما تبعت شرائعهم شرعه ، لذلك فإن الولي المحمدي يجمع بمرتبته جميع ما تفرق في الرسل من الدعاء به ، فهو مطلق الدعاء بكل لسان ، لأنه مأمور بالإيمان بالرسل وبما أنزل إليهم ، فما وقف الولي المحمدي مع وحي خاص إلا في الحكم بالحلال والحرمة ، وأما في الدعاء وما سكت عنه ولم ينزل فيه شيء في شرع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يؤذن بتركه ، فلا يتركه إذا نزل به وحي على نبي من الأنبياء عليهم‌السلام ، رسولا كان أو غير رسول.

٤٤٩

(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٨٥)

لأنه حرم نفسه أجر الآخرة.

(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٩١)

هو قوله تعالى (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) وقوله (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا).

(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (٩٢)

كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يشتري السكر ويتصدق به ويقول : إني أحبه ، عملا بهذه الآية ، وأحب ما للإنسان نفسه ، فإن أنفقها في سبيل الله ، نال بذلك ما في موازنتها ، فإنه من استهلك شيئا فعليه قيمته ، والحق قد استهلك نفس هذا العبد ، فإنه أمرك بإنفاق ما تحبّ ، وما لها قيمة عنده إلا الجنة ، ولهذا إذا لم تجد شيئا وجدت الله ، فإنه لا يوجد إلا عند عدم الأشياء التي يركن إليها ، ونفس الإنسان هي عين الأشياء كلها ، وقد هلكت ، فقيمتها ما ذكرناه.

٤٥٠

(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٩٥)

امرنا الحق أن نتبع ملة إبراهيم ، لأن العصمة مقرونة بها ، فكان الخليل حنيفا أي مائلا إلى الحق ، مسلما منقادا إليه.

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) (٩٦)

البيت المكي أول بيت وضع للناس معبدا ، والصلاة فيه أفضل فيما سواه ، وهو أقدم المساجد بالزمان ، وكان البيت مذ خلق الله الدنيا ، فهذا البيت هو الذي اصطفاه الله على سائر البيوت ، وله سرّ الأولية في المعابد (مُبارَكاً) أي جعلت فيه البركة والهدى ، فقد طاف به مائة ألف نبي وعشرون ألف نبي ، سوى الأولياء ، وما من نبي ولا ولي إلا وله همة متعلقة بهذا البيت وهذا البلد الحرام ، فإن مكة خير وسيلة عبادية وأشرف منزلة جمادية ترابية ، فكما تتفاضل المنازل الروحانية ، كذلك تتفاضل الجسمانية ، فكثير بين مدينة يكون أكثر عمارتها الشهوات ، وبين مدينة يكون أكثر عمارتها الآيات البينات ، لذلك كانت مكة أشرف بقاع الأرض ، فإنها موطن لظهور يمين الحق وحضرة المبايعة. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمكة : [إنك والله لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت] فمن رأى البيت ولم يجد عنده زيادة إلهية فما نال من بركة البيت شيئا ، لأن البركة الزيادة (وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) والهدى وهو البيان ، أي يتبين له ذلك الذي زاده به من العلم به ، فما جعلت البركة في البيت إلا أن يكون يعطي خازنه للطائف به القادم عليه ، خلع البركة والقرب والعناية ، والبيان الذي هو الهدى في الأمور المشكلة في الأحوال والمسائل المبهمات الإلهية في العلم بالله ما يليق بمثل ذلك البيت المصطفى ، محل يمين الحق ، المبايع

٤٥١

المسجود عليه ، فإن هذا البيت خزانة الله من البركات والهدى ، فإنّ داخل مكة قادم على الله في حضرته ، ومن المحال أن ينزل أحد على كريم غني ويدخل بيته ولا يضيفه ، فمن لا يجد هذه الزيادة فما له سوى أجر الأعمال الظاهرة في الآخرة في الجنان ، وهو الحاصل لعامة المؤمنين ، فإن جاور جاور الأحجار ، وإن رجع إلى بلده رجع بخفي حنين دون زيادة علم بالله.

(فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (٩٧)

(فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) فإن للأمكنة في القلوب اللطيفة تأثيرا ، ولو وجد القلب في أي موضع كان الوجود الأعم ، فوجوده بمكة أسنى وأتم ، فمن لا يجد الفرق في وجود قلبه بين السوق والمساجد ، فهو صاحب حال لا صاحب مقام ، ومن تلك الآيات البينات أن الملائكة ، وإن عمرت جميع الأرض مع تفاضلهم في المعارف والرتب ، فإن أعلاهم رتبة وأعظمهم علما ومعرفة عمرة المسجد الحرام ، وعلى قدر جلسائك يكون وجودك ، فإن لهمم الجلساء في قلب الجليس لهم تأثيرا ، وهممهم على قدر مراتبهم ، ولذلك فإن وجود القلب في مكة ليس للتراب ، ولكن لمجالسة الأتراب من الملائكة المكرمين ، أو الجن الصادقين ، أو من همة من كان يعمره وفقد ، وبقيت آثارهم فيه ، ومن الآيات البينات الحجر والملتزم والمستجار ومقام إبراهيم وزمزم إلى غير ذلك. فبيت الله الحرام أجمع للخيرات من سائر البيوت ، ولهذا منع حمل السلاح في مكة. (مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) من كل خوف ، إلى غير ذلك من الآيات ، فهو سلم كله ، من دخله كان آمنا ، فإنه أقدم الحرم ، فله التقدم على كل بيت ، ويحتوي على أفعال وتروك لا تكون في غيره من العبادات ولا في بيت من البيوت ، فإنه محلّ الحج. (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) لا خلاف في وجوب الحج بين علماء المسلمين ، فهو عندنا واجب على كل مستطيع من الناس ، صغير وكبير ، ذكر وأنثى ، حر وعبد ، مسلم وغير مسلم ، ولا يقع بالفعل إلا بشروط معينة ، فإن الإيمان والإسلام واجب على كل إنسان ، والأحكام كلها الواجبة واجبة على كل إنسان ، ولكن يتوقف قبول فعلها أو فعلها من الإنسان على وجود الإسلام ، فلا

٤٥٢

يقبل تلبسه بشيء منها إلا بشرط وجود الإسلام عنده ، فإن لم يؤمن أخذ بالواجبين جميعا يوم القيامة : وجوب الشرط المصحح لقبول هذه العبادات ، ووجوب المشروط التي هي هذه العبادات ، فإنه ما قال «على المسلمين» ولا ذكر صفة زائدة على أعيانهم ، فأوجبها على الأعيان وجوبا إلهيا ، والطفل الرضيع يصح حجه ، ولو مات عندنا قبل البلوغ كتب الله له تلك الحجة عن فريضته ـ إشارة ـ (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ) إشارة إلى النسيان ولم يقل على بني آدم (حِجُّ الْبَيْتِ) وقرئ بكسر الحاء وهو الاسم ، وبفتحها هو المصدر ، يعني قصد هذا المكان من كونه بيتا ، ليتنبه باسمه على ما قصد به دون غيره ، لما فيه من اشتقاق المبيت. فكأنه إنما سمي بيتا للمبيت فيه ، فإنه الركن الأعظم في منافع البيت ، فراعى حكم المبيت ، والمبيت لا يكون إلا ليلا ، والليل محل التجلي فيه ، فإن الحق ما جعل تجليه لعباده في الحكم إلا في الليل ، فإن فيه ينزل ربنا ، ومن فتح الحاء وجب أن يقصد البيت ليفعل ما أمره الله به أن يفعله عند الوصول إليه ، في المناسك التي عيّن الله له أن يفعلها. ومن قرأ بالكسر وأراد الاسم ، فمعناه أن يراعي قصد البيت ، فيقصد ما يقصده البيت ، وبينهما بون بعيد. فإن العبد بفتح الحاء يقصد البيت ، وبكسرها يقصد قصد البيت ، وقصد البيت قصد حالي ، لأنه يطلب بصورته الساكن ، وما أمرك بالقصد إلى البيت لا إليه إلا لكونه جعله قصدا حسيا ، فيه قطع مسافة أقربها من بيتك الذي بمكة إلى البيت ، وهو معك أينما كنت. فلا يصح أن تقصد بالمشي الحسي من هو معك. (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) أي من قدر على الوصول إليه ، وحد الاستطاعة يدخل فيها كل ما يؤدي الحاج إلى السكون من الأسباب ، كالزاد والراحلة في المباشرة وما قرره الشرع بالحكم. فينبغي للإنسان أن يكون مثبتا للأسباب ، فاعلا بها غير معتمد عليها ، لأن التجرد عنها خلاف الحكمة ، والاعتماد عليها خلاف العلم ، والاستطاعة بالنيابة مع العجز عن المباشرة ثبتت شرعا عندنا ، بالأمر بالحج عمن لا يستطيع لوليه ، أو بالإجارة عليه من ماله إن كان ذا مال. ومن شرط النائب في الحج إن كان وليّا أن يكون قد قضى فريضته. وأما إذا كان النائب بالإجارة فله حكم آخر. وأما العبد فواجب عليه الحج ، وإن منعه سيده مع القدرة على تركه لذلك ، كان السيد عندنا من الذين يصدون عن سبيل الله. وقد ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن العبد إذا حج عبدا ثم مات قبل العتق كتب الله له ذلك الحج عن فريضته ، والمرأة إن منعها زوجها

٤٥٣

فهو من الذين يصدون عن سبيل الله إن كان لها محرم تسافر معه ، إذا كانت آفاقية. وأما إن كانت من أهل مكة ، فلا تحتاج إلى إذن زوجها ، فإنها في محل الحج ، كما لا تستأذنه في الصلاة ولا في صوم رمضان ولا في الإسلام ولا في أداء الزكاة ، وهذه العبادة عندنا على الفور عند الاستطاعة. (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) اعلم أن الله ما هو غني عن العالم إلا لظهوره بنفسه للعالم ، فاستغنى أن يعرف بالعالم ، فلا يدل عليه الغير ، بل هو الدليل على نفسه بظهوره لخلقه ، فلا دليل عليه سواه. فإنه لا شيء أدلّ من الشيء على نفسه ، فهو غني عن العالمين ، أي سواء ظهوركم وعدمكم ، فهو غني عن الدلالة ، كأنه يقول : ما أوجدت العالم ليدل عليّ ولا أظهرته علامة على وجودي ، وإنما أظهرته ليظهر حكم حقائق أسمائي ، وليست لي علامة عليّ سوائي ، فإذا تجليت عرفت بنفس التجلي ، والعالم علامة على حقائق الأسماء لا عليّ ، وعلامة أيضا على أني مستنده لا غير ، فإن كل حكم في العالم لا بد أن يستند إلى نعت إلهي ، إلا النعت الذاتي الذي يستحقه الحق لذاته ، وبه كان غنيا عن العالمين ، والنعت الذاتي الذي للعالم بالاستحقاق وبه كان فقيرا ، بل عبدا ، فإنه أحق من نعت الفقر ، وإن كان الفقر والذلة على السواء ، فالحق تعالى هو المنزه عن أن تدل عليه علامة ، فهو المعروف بغير حد ، المجهول بالحد ، ولهذا فإن التجلي الإلهي لا يكون إلا للإله وللربّ ، ولا يكون لله أبدا ، فإن الله هو الغني ، وكذا الاسم الإلهي الأحد ، فلا يتجلى في هذا الاسم ، ولا يصح التجلي فيه ، وما عدا هذين الاسمين من الأسماء المعلومات لنا ، فإن التجلي يقع فيها ، والعالمون هنا هو الدلالات على الله ، فهو غني عن الدلالات عليه ، فرفع أن يكون بينه وبين العالم نسبة ووجه يربطه بالعالم ، من حيث ذلك الوجه الذي هو منه غني عن العالمين ، وهو الذي يسميه أهل النظر وجه الدليل. يقول الحق : ما ثمّ دليل عليّ فيكون له وجه يربطني به ، فأكون مقيدا به ، وأنا الغني العزيز ، الذي لا تقيدني الوجوه ، ولا تدلّ عليّ أدلة المحدثات ، فالواجب الوجود غني على الإطلاق ، فلا شيء واجب الوجود لنفسه إلا هو ، فهو الغني بذاته على الإطلاق عن العالمين بالدليل العقلي والشرعي ، إذ لو أوجد العالم للدلالة عليه لما صح له الغنى عنه ، فهو أظهر وأجلى من أن يستدل عليه بغير ، أو يتقيد تعالى بسوى ، إذ لو كان الأمر كذلك ، لكان للدليل بعض سلطنة وفخر على المدلول ، فكان يبطل الغنى ، فما نصب الأدلة عليه ، وإنما

٤٥٤

نصبها على المرتبة ، ليعلم أنه لا إله إلا هو (١) ، ولهذا لا يصح أن يكون عليه ، وإليه الدلالة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [كان الله ولا شيء معه] ، فهو غني عن الدلالة. واعلم أن معقولية كون الله ذاتا ، ما هي معقولية كونه إلها ، وهي مرتبة ، وليس في الوجود العيني سوى العين ، فهو من حيث هو غني عن العالمين ، ومن حيث الأسماء التي تطلب العالم لإمكانه لظهور آثارها فيه ، يطلب وجود العالم ، فلو لا الممكن ما ظهر أثر للأسماء الإلهية ، فللأسماء الإلهية أو المرتبة التي هي مرتبة المسمى إلها التصريف والحكم فيمن نعت بها ، فبها يتصرف ، ولها يتصرف ، وهو غني عن العالمين في حال تصرفه ، لا بد منه ، فالألوهية مرتبة للذات ، لا يستحقها إلا الله ، فطلبت مستحقها ، ما هو طلبها ، والمألوه يطلبها وهي تطلبه ، والذات غنية عن كل شيء. فالله من حيث ذاته ووجوده غني عن العالمين ، ومن كونه ربّا يطلب المربوب بلا شك ، فهو من حيث العين لا يطلب ، ومن حيث الربوبية يطلب المربوب وجودا وتقديرا ، فالوجود الحادث والقديم مربوط بعضه ببعضه ربط الإضافة والحكم ، لا ربط وجود العين ، وذلك تنزيه أن يقوم بالحق فقر ، أو يدل عليه دليل غير نفسه ، فإن الله وإن كان في ذاته غنيا عن العالمين ، فمعلوم أنه منعوت بالكرم والجود والرحمة ، فلا بد من مرحوم ومتكرم عليه ، فأوجد العالم من جوده وكرمه ، وهذا لا يشك فيه عاقل ولا مؤمن ، وأن الجود له نعت نفسي ، فإنه جواد كريم لنفسه ، فلا بد من وجود العالم ، وما حكم العلم بكونه يستحيل عدم كونه ، فهو تعالى المطلوب للعالم ، والطلب يؤذن بالافتقار في حق المحدثات ، وهو المطلوب ، فهو الغني. فمن كونه مطلوبا للموجودات صح افتقارها إليه ، والممكن في حال عدمه أشد افتقارا إلى الله منه في حال وجوده ، ولهذا لا تصحب الممكن دعوى في حال عدمه كما تصحبه في حال وجوده ، فإفاضة الوجود عليه في حال عدمه أعظم في الجود والكرم ، وبذلك صح غناه تعالى عن العالم. فقبوله عليه قبول جود وكرم ، ومتعلق غناه تعالى هو فيما بقي من الممكنات مما لم يوجد ، فإنها غير متناهية بالأشخاص ، فلا بد من بقاء ما لم يوجد ، فبه تتعلق صفة الغنى الإلهي عن العالم ، فإن بعض العالم يسمى عالما. فمن فهم الغنى الإلهي هكذا فقد علمه ، وأما تنزيه الحق عما تنزهه عباده مما سوى العبودية ، فلا علم لهم بما

__________________

(١) راجع سورة العنكبوت آية ٦.

٤٥٥

هو الأمر عليه ، فإنه يكذب ربه في كل حال يجعل الحق فيه نفسه مع عباده ، وهذا أعظم ما يكون من سوء الأدب مع الله ، أن ينزهه عما نسبه سبحانه إلى نفسه بما نسبه إلى نفسه ، وهذه الآية تشير من وجه أن الحق في نفسه على ما علم ، وله في نفسه ما لا يصح أن يعلم ، فهو غني عن العالمين. فإن قلت : فلم وجد العالم؟ قلنا : ما أظهر العالم مع الاستغناء عنه إلا لتظهر مرتبة قوة الاثنين ، لئلا يقال ما في الوجود إلا الله مع ظهور الممكنات والمخلوقين ، فيعلم أن الله غني عن العالمين مع وجود العالمين ، والاستغناء عنه معقول لبيان غنى الحق عن العالم ، وذلك معناه أن الحق غني عن وجود العالم لا عن ثبوته ، فإن العالم في حال ثبوته يقع به الاكتفاء والاستغناء عن وجوده ، لأنه وفّى الألوهية حقها بإمكانه ، ولو لا طلب الممكنات وافتقارها إلى ذوق الحالات ، وأرادت أن تذوق حال الوجود كما ذاقت حال العدم ، فسألت بلسان ثبوتها واجب الوجود أن يوجد أعيانها ، ليكون العلم لها ذوقا ، فأوجدها لها لا له ، فهو الغني عن وجودها ، وعن أن يكون وجودها دليلا عليه وعلامة على ثبوته ، بل عدمها في الدلالة عليه كوجودها. فأي شيء رجح من عدم أو وجود حصل به المقصود من العلم بالله ، فلهذا علمنا أن غناه سبحانه عن العالم عين غناه عن وجود العالم ، فهو غني عن العالمين ، والعالم ليس بغني عنه جملة واحدة ، لأنه ممكن ، والممكن فقير إلى مرجح ـ إشارة واعتبار ـ (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) اعلم أيدك الله أن الحج في اللسان تكرار القصد إلى المقصود ، والعمرة الزيارة ، وقد جعل تعالى بيته في مكة نظيرا لعرشه ، وجعل الطائفين به من البشر كالملائكة الحافين من حول العرش ، يسبحون بحمد ربهم ، أي بالثناء على ربهم تبارك وتعالى ، فقلب العبد المؤمن أعظم علما وأكثر إحاطة من كل مخلوق ، فإنه محل لجميع الصفات ، وارتفاعه بالمكانة عند الله لما أودع فيه من المعرفة به ، ولما كان للبيت أركان أربعة ، فللقلب خواطر أربعة ، خاطر إلهي وهو ركن الحجر ، وخاطر ملكي وهو الركن اليمني ، وخاطر نفسي وهو الركن الشامي ، وهذه الثلاثة الأركان هي الأركان الحقيقية للبيت من حيث أنه مكعب الشكل ، وعلى هذا الشكل قلوب الأنبياء مثلثة الشكل ، ليس للخاطر الشيطاني فيها محلّ ، ولما أراد الله ما أراد من إظهار الركن الرابع ، جعله للخاطر الشيطاني ، وهو الركن العراقي ، وإنما جعلنا الخاطر الشيطاني للركن العراقي لأن الشارع شرع أن يقال عنده (أعوذ بالله من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق) وبالذكر

٤٥٦

المشروع في كل ركن تعرف مراتب الأركان ، وعلى هذا الشكل المربع قلوب المؤمنين وما عدا الرسل والأنبياء المعصومين ، ليميز الله رسله وأنبياءه من سائر المؤمنين بالعصمة التي أعطاهم وألبسهم إياها ، فليس لنبي إلا ثلاثة خواطر ، إلهي وملكي ونفسي ، وكما أن الله تعالى أودع في الكعبة كنزا ، كذلك جعل الله في قلب العارف كنز العلم بالله ، فشهد لله بما شهد به الحق لنفسه ، من أنه لا إله إلا الله ، ونفى هذه المرتبة عن كل ما سواه ، فقال (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) فجعلها كنزا في قلوب العلماء بالله ، فالله بيته قلب عبده المؤمن ، والبيت بيت اسمه تعالى ، والعرش مستوى الرحمن ، فبين القلب والعرش في المنزلة ما بين الاسم الله والاسم الرحمن ، فإن مشهد الألوهية أعمّ ، لإقرار الجميع ، فما أنكر أحد الله ، وأنكر الرحمن ، فإنهم قالوا : (وَمَا الرَّحْمنُ) ولما كان الحج لبيت الله الحرام تكرار القصد في زمان مخصوص ، كذلك القلب تقصده الأسماء الإلهية في حال مخصوص ، إذ كل اسم له خاص يطلبه ، فمهما ظهر ذلك الحال من العبد طلب الاسم الذي يخصه ، فيقصده ذلك الاسم ، فلهذا تحج الأسماء الإلهية بيت القلب ، وقد تحج إليه من حيث أن القلب وسع الحق ، والأسماء تطلب مسماها ، فلا بد لها أن تقصد مسماها ، فتقصد البيت الذي ذكر أنه وسعه السعة التي يعلمها سبحانه ، (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) لما كان قصد البيت قصدا حاليا ، لأنه يطلب بصورته الساكن ، فلله على الناس أن يجعلوا قلوبهم كالبيت ، تطلب بحالها أن يكون الحق ساكنها ، وهذا معنى من قرأ بكسر الحاء ، وهو الاستعداد بالصفة التي ذكر الله أن القلب يصلح له تعالى بها ، ومن قرأ بفتح الحاء ، فوجب عليه أن يطلب قلبه ليرى فيه آثار ربه ، فيعمل بحسب ما يرى فيه من الآثار الإلهية والعمرة التي هي الزيارة بمنزلة الزور الذي يخص كل إنسان ، فعلى قدر اعتماره تكون زيارته لربه ، فالزيارة من غير تسميتها بالعمرة تكون لكل زائر حيث كان ، وكذلك الحج ، فهي زيارة مخصوصة كما هو قصد مخصوص ، ولما فيها من الشهود الذي يكون به عمارة القلوب تسمى عمرة ، وأما العمرة بلسان الشرع فلا تصح إلا بمكة ، وكذا الحج.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) (٩٨)

فالله هو الشهيد الذي لا يقبل الرشا ، والبصير لا يقوم ببصره غشا.

٤٥٧

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٩٩)

وهذه مراقبة الحق عباده مراقبة كبرياء ووعيد.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٠١)

الاعتصام ضربان اعتصام بالله ، واعتصام بحبل الله ، فإن كنت من أهل الحبل فأنت من أهل السبب ؛ وإن اعتصمت بالله كنت من أهل الله ، فإن لله من عباده أهلا وخاصة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٠٢)

خاطبنا الله بهذه الآية من حيث كوننا مؤمنين فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) وتقوى الله حق تقاته هو رؤية المتقي التقوى منه ، وهو عنها بمعزل ، ما عدا نسبة التكليف به ، فإنه لا ينعزل عنها لما يقتضيه من سوء الأدب مع الله ، فحال المتقي لله حق تقاته كحال من شكر الله حق الشكر ، وهو أن يرى النعمة منه سبحانه ، وهذه الآية من أصعب آية مرت على الصحابة ، وتخيلوا أن الله خفّف عن عباده بآية الاستطاعة في التقوى ، وما علموا أنهم انتقلوا إلى الأشد ، وكنا نقول بما قالوه ، ولكن الله لما فسّر مراده بالحقية في أمثال هذا ، وهو حديث شكر الله حق شكره ، هان علينا الأمر في ذلك ، وعلمنا أن تقوى الله بالاستطاعة أعظم في التكليف ، ففي حق تقاته أثبت للعبد النظر إليه في تقواه وهو أهون عليه ، فما كان شديدا عندهم كان في نفس الأمر أهون ، وعند من فهم عن الله ، وما كان هينا عندهم كان في نفس الأمر شديدا وعند من فهم عن الله ، جعلنا الله ممن فهم عنه خطابه ، فحقيقة حق تقاته تبري العبد من الدعوى ، وهو قوله! لا حول ولا قوة إلا

٤٥٨

بالله العلي العظيم) ـ الوجه الثاني ـ أن العبد يرى ما يستحقه جلال الله من التعظيم ويرى ما لله عليه من الحقوق ، فيجهد نفسه في أداء ذلك ، لأداء حق ما تعين عليه لله وما تعطيه مرتبة العبد من سيدّه.

(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٠٣)

حبل الله هو الطريق الذي يعرج بك إليه مثل قوله (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) فليس حبله سوى ما شرعه ، وهو السبب الموصل إلى إدراك السعادة ، فجعل الله بينه وبين عباده حبلا منه إليهم ، وهو الشرع يعتصمون به ويتمسكون ، ليصح الوصلة بينهم وبين الله سبحانه ، فإن الحبل الوصل وبه يكون الاعتصام كما هو بالله فأعطى الحبل منزلته في قوله تعالى (وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ) وتفاضل فهم الناس فيه ، فمنهم ومنهم ، ولذلك فضل الله بعضهم على بعض ، فمن لم يخطئ طريقه فهو المعصوم ، والتمسك به هو الاعتصام ، وعليه حال المؤمنين الذين بلغوا الكمال في الإيمان ، ومثل هؤلاء يعتصمون بالله في اعتصامهم بحبل الله ، ثم قال (جَمِيعاً) فإن الأمر الشديد على الواحد إذا انقسم على الجماعة هان ، فأمر الجماعة بالاعتصام به حتى يهون عليهم ، فقال تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) فأمر الجماعة بالاعتصام بحبل الله ، وهو عهده ودينه المشروع فينا الذي لا يتمكن لكل واحد منا على الانفراد الوفاء به فيحصل بالمجموع لاختلاف أحوال المخاطبين. (وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً ، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) ورد في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لأصحابه من الأنصار في واقعة وقعت في فتح مكة في غزوة حنين ، فقال لهم : [ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي] فذكر نفسه [ووجدتكم على شفا حفرة من النار فأنقذكم الله بي] وهذا معنى وأصل قول الناس هذا ببركة فلان ، وهذا بهمة فلان ، ولولا همته ما جرى كذا وما دفع الله عنا كذا ، وقولهم اجعلني في خاطرك وفي همتك ولا تنساني وأشباه

٤٥٩

هذا. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١٠٤)

(يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) وهو الأمر بما هو معلوم له (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) المنكر فعل ما أمر بتركه أو ترك ما أمر بفعله ، ولا يوصف بأنه أتى منكرا حتى يعلم أنه مأمور به ذلك العمل أو منهي عنه (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الناجون بفعلهم من عذابه ، الباقون في نعيمه.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (١٠٦)

(فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) أي ذواتهم ، فلا نور لهم يكشفون به الأشياء ، بل هم عمي فلا يبصرون (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) ولم يكن لهم إيمان تقدم إلا إيمان الذر زمان الأخذ من الظهر ، فنسي ذلك العقد لما قدم العهد ، ولولا البيان والإيمان ما أقر به الإنسان ، فتظهر العناية الإلهية بالمقرب الوجيه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ، والنميمة والغيبة وإفشاء السر وما شاكل هذا كله حق مكروه ، وهو يؤدي إلى اسوداد الوجوه.

(وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (١٠٩)

٤٦٠