رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (٣٧)

وهذه الكلمات هي قوله (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)(فَتابَ عَلَيْهِ) بكله وذريته فيه فأسعد الله الكل ، فله النعيم في أي دار كان منهم ما كان ، بعد عقوبة وآلام ، تقوم بهم دنيا وآخرة (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) إذا اتفق أن يؤاخذ التائب فما يأخذه إلا الحكيم لا غير من الأسماء ، فإذا لم يؤاخذ فإنما يكون الحكم فيه للرحيم ، فإن الله تواب رحيم بطائفة وتواب حكيم بطائفة ، فوصف الحق نفسه بأنه التواب الرحيم ، أي الذي يرجع على عباده في كل مخالفة بالرحمة له ، فيرزقه الندم عليها ، فيتوب العبد بتوبة الله عليه لقوله (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) ـ إشارة ـ تاب الحق على آدم بتلقيه الكلمات العلية ، لأنه تلقاها من حضرة الربوبية ، حضرة الإصلاح.

____________________________________

إلى الخلود معه في الشقاء في دار البوار ، فأهل النار الذين هم أهلها هم أولياء الشيطان ، ولهذا سماهم الله شياطين الإنس والجن ، وقال (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) وقوله تعالى (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) يقول إقامة وقرار (وَمَتاعٌ) يقول : استمتاع ، وهو كل ما يستمتع به من أكل وشرب ولباس ونعيم (إِلى حِينٍ) يقول : إلى حلول آجالكم ، يقول : مدة أعماركم ، فإن القبر أول منزل من منازل الآخرة ، ثم قال (٣٨) (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) الآية ، قرئ برفع آدم ونصب كلمات وبالعكس ، أي من تلقاك فقد تلقيته ، فإن الملاقاة فعل فاعلين ، والأولى بمنصب آدم أن تكون الكلمات تستقبله لوجهين ، الوجه الواحد التعريف بعناية الله به حيث أعطاه ما أداه استعماله إلى إعادة السعادة إليه ، والوجه الثاني التعليم ، لأنه ليس له أن يدعوه بنية التقريب والقربة إلا بوحي منزل عليه ، فإذا رفعت آدم فمن حيث أنه استقبل الكلمات حين استقبلته من عند الله ، ويحتمل عدم ذكر واسطة الملك أنه سبحانه أوحى الله بها منه إليه بلا واسطة ، تشريفا له وتعريفا بالحال ، أن الوصلة بيني وبينك ما انقطعت بمخالفتك نهيي ، والأظهر في ماهية الكلمات أنها المذكورة في سورة الأعراف (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا ، لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) فلما قال آدم الكلمات التي تلقاها من ربه أخبره تعالى أنه تاب عليه (فَتابَ عَلَيْهِ) أي رجع عليه بالسعادة بأن مآله بعد موته إلى الجنة في جوار الرحمن (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) الرجّاع بالرحمة على عباده ، وهو الذي يكثر منه الرجوع في

١٢١

(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٣٨)

قال تعالى : (اهْبِطُوا) فجمع ولم يثن ولا أفرد ، فأهبط آدم وحواء وإبليس ، فنزل آدم من الجنة إلى أصله الذي خلق منه ، فإنه مخلوق من التراب ، فأهبطه الله للخلافة ، لقوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فما أهبط عقوبة لما وقع منه ، وإنما جاء الهبوط عقيب ما وقع منه ، لأنه لما كانت نشأة الإنسان ظهرت في الجنان أولا اتفق هبوطها إلى الأرض من أجل الخلافة لا عقوبة المعصية ، فإن العقوبة حصلت بظهور السوآت ، والاجتباء والتوبة قد حصلا بتلقي الكلمات الإلهية ، فلم يبق النزول إلا للخلافة ، فكان هبوط تشريف وتكريم ، ليرجع إلى الآخرة بالجم الغفير من أولاده السعداء ، من الرسل والأنبياء ، والأولياء والمؤمنين ، فكان هبوط آدم هبوط ولاية واستخلاف ، لا هبوط طرد ، فهو هبوط مكان ، لا هبوط رتبة ، وأهبط الحق تعالى حواء للتناسل ، وأهبط إبليس عقوبة لا رجوعا إلى أصله ، فإنها ليست داره ولا خلق منها ، فسأل الله الإغواء أن يدوم له في ذرية آدم ، لما عاقبه الله بما يكرهه من إنزاله إلى الأرض ، وكان سبب ذلك في الأصل وجود آدم ، لأنه بوجوده وقع الأمر بالسجود ، وظهر ما ظهر من إبليس ، وكان من الأمر ما كان. (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) من قامت قيامته في حياته الدنيا ، واستعجل حسابه ، يأتي يوم القيامة آمنا لا خوف عليه ولا يحزن ، لا في الحال

____________________________________

مقابلة كل مخالفة تقع من العبد ، لأن كل مخالفة خروج ، فإذا عاد بالاستغفار وطلب الرحمة من الله عند كل ذنب ، عاد الحق إليه بالرحمة والمغفرة ، فلذلك جاء ببنية المبالغة في التواب ، (٣٩) قوله (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) الآية ، كرر ذكر الهبوط ، لأنه فصل بين الهبوط المذكور أولا وبين ما أهبط له من إتيان الهدى بالكلام الذي قد تقدم من العداوة والاستقرار والتمتع ، فطالت القصة وبعد الذي أهبط له منه ، فكرر الهبوط ، وليدل أيضا على الفصاحة والإعجاز حيث زاد الكلام تكراره جمالا وبلاغا ، تعرف ذلك فصحاء الأعراب لا نحن ، فقال تعالى (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) هذا شرط ، وجوابه الشرط الثاني وجوابه وهو قوله (فَمَنْ

١٢٢

ولا في المستقبل ، ولهذا أتى سبحانه بفعل الحال في قوله : (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) فإن هذا الفعل يرفع الحزن في الحال والاستقبال ، بخلاف الفعل الماضي والمخلص للاستقبال بالسين أو سوف.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (٣٩) يا بَني إِسرائيلَ اذكُروا نِعمَتِيَ الَّتي أَنعَمتُ عَلَيكُم وَأَوفوا بِعَهدي أوفِ بِعَهدِكُم وَإِيّايَ فَارهَبونِ) (٤٠)

____________________________________

تَبِعَ هُدايَ) فالفاء جواب الشرط الأول ، وقوله (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) فالفاء جواب الشرط الثاني الذي هو من ، فمعنى الكلام اهبطوا فإن جاءكم مني هدى واتبعتموه فلا خوف عليكم ، والفاء في إما جواب الأمر ، وجاء بلفظة الشك مع تحقق إتيان الهدى عند الله ، لكن في نفس الأمر هو من الممكنات ، فيستوي بالنظر إليه الطرفان ، وجود الإتيان وعدمه ، وتارة يرد الخطاب بما هو الكائن في علم الله ، وتارة يرد الخطاب بما هو الأمر عليه في نفسه ، فيؤذن بأن ذلك الإتيان ليس بواجب على الله ، إذ لا يجب عليه شيء ، كما يقوله مخالفو أهل الحق ، مع أنّا لا ننكر أن يوجب على نفسه ، فمن جملة الهدى الذي جاء من عند الله تلقي الكلمات ، ولذلك الهبوط الثاني هو الهبوط الأول عينه ، ثم قال (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) أي من اتبع ما شرعت له على حد ما شرعت له ، ارتفع عنه خوف العذاب ولم يحزن (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ولم يذكر الجنة ولا الخلود كما ذكر فيمن كفر وكذب بآياته ، لأن أهل السعادة على قسمين ، قسم يعملون لما يقتضيه حق الربوبية وهم الأعلون ، وقسم يعملون لأجل الجنة وهم دونهم ، ولهؤلاء خوف الحجاب ، ولهؤلاء خوف فقد النعيم وحزنه فذكر ارتفاع الخوف والحزن لكونه يعم الطائفتين ولم يذكر الجنة ، لئلا ييأس الأعلون من الطائفتين ، فتهمم الحقق بهم إذ كانوا الطبقة العليا ، والهدى هنا ما بينه لهم في التعريف المنزل المشروع لهم ، ثم قال (٤٠) (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي ستروا ، على ما تقدم في أول السورة في قوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) وقوله (وَكَذَّبُوا) يريد المعاندين وغير المعاندين (بِآياتِنا) أي بالعلامات التي جعلناها ونصبناها أدلة على القربة إلينا ومعرفتنا (وفي كل شيء له آية : تدل على أنه واحد) غير أن الآيات على قسمين : معتادة وغير معتادة ، فأرباب الفكر والمستبصرون

١٢٣

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) أوفوا بما عاهدتكم عليه في الدنيا في موطن التكليف (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) في الدارين معا ، دنيا وآخرة وأدخلكم الجنة ، وهو حق عرضي لا ذاتي ، لأنه حق على الله أوجبه على نفسه لمن وفى بعهده ، ومن لم يف فليس له عند الله عهد ، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة ، وأدخلنا تحت العهد إعلاما بأنا جحدنا عبوديتنا له ، إذ لو كنا عبيدا

____________________________________

الموفقون هي عندهم سواء ، يتخذونها أدلة ، وما عدا هؤلاء فلا ينظرون إلا في الآيات غير المعتادة ، فيحصل لهم استشعار الخوف ، فيردهم ذلك القدر إلى الله ، قال تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) ثم إن الذين يتخذون غير المعتادة آية ، منهم من يخلصها دليلا على الله ، ومنهم من يشرك (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) لمعرفتهم بالأسباب المولدة لتلك الآيات ، كالزلازل والكسوفات وما يحدث من الآثار العلوية ، والله ينور أبصارنا ويرزقنا التوفيق ، قال تعالى (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) باقون ، وقوله (أَصْحابُ النَّارِ) أي أهلها ، كما ورد في الصحيح (أما أهل النار الذين هم أهلها ، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون) وقال في الذين يخرجون منها (ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم ، أو قال بخطاياهم ، فأماتهم الله فيها إماتة) ثم ذكر خروجهم من النار ـ الحديث بكماله ـ فعمّ سبحانه بقوله (الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا) جميع الأشقياء ، وأما قوله (اهْبِطُوا) فحظي إبليس من هذا الهبوط لما تكبر وعلا عند نفسه ، لأن أصله من لهب النار ، ولهب النار يطلب العلو ، فلهذا تكبر ، ولما كان لهبا كان إذا جاءه الهواء من أعلاه عكس رأس اللهب إلى أسفل قسرا وقهرا ، كذلك إبليس لما جاءه هواه من تكبره على آدم لنشأته ، عكسه إلى الأرض ، فأهبط ، ولم يقف الأمر هنا ، بل أهبط إلى أسفل سافلين في دار الخزي والهوان ، فهواه أهبطه ، ولما كانت الملائكة نورا عمت جميع الجهات فلا أثر للهواء في النور ، ألا ترى النور الذي في الشمس والسراج وفي كل جسم مستنير نسبته إلى العلو والسفل والجنبات نسبة واحدة ، والملائكة مخلوقون من النور ، فلا أثر للهوى فيهم ، فلا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، ولما غلب على آدم في نشأته التراب وله السكون ، بخلاف لهب النار ، ثبت على عبوديته وتواضعه ، فسعد ، وكان هبوطه رجوعا إلى أصله ، وسيأتي الكلام على نشأته في موضعها إن شاء الله ، وكونه من حمأ مسنون ، ولهذا يتغير كل ما يحل فيه من الأطعمة والأشربة ويستحيل إلى الروايح القبيحة ، ويندرج في هذا الكلام النشأة الأخراوية ، واستحالة ما يحل فيها من الطعام والشراب إلى الروايح الطيبة ، وتحقيق ذلك في موضعه إن شاء الله ، قوله (٤١) (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) الآية ، أضافهم إلى يعقوب ، فهو إسرائيل ، أي صفوة الله (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) وقد ذكر الله ما أنعم الله به على بني إسرائيل ، من

١٢٤

لم يكتب علينا عهده ، فإنا بحكم السيد ، فلما أبقنا بخروجنا عن حقيقتنا وادعينا الملك والتصرف ، والأخذ والعطاء ، كتب بيننا وبينه عقودا ، وأخذ علينا العهد والميثاق ، وأدخل نفسه معنا في ذلك ، والعبد لا يكتب عليه شيء ولا يجب له حق ، فإنه ما يتصرف إلا عن إذن سيده ، فإذا وفى العبد حقيقة عبوديته ، لم يؤخذ عليه عهد ولا ميثاق ، فمن أصعب آية تمر على العارفين كل آية فيها (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) أو العهود فإنها آيات أخرجت العبيد من عبوديتهم لله. فإن قلت : كيف كلف الحق نفسه وقيدها ، مع أنه مطلق ، والمطلق ، لا يقبل التقييد بوجه من الوجوه؟ قلنا : إن للمطلق أن يقيد نفسه إن شاء ، وأن لا يقيدها إن شاء ، فإن ذلك من صفة كونه مطلقا إطلاق مشيئة ، ومن هنا أوجب الحق على نفسه ، ودخل تحت العهد لعبده فقال في الوجوب : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي أوجب فهو الموجب على نفسه ، ما أوجب غيره عليه ذلك فيكون مقيدا بغيره ، فقيد نفسه لعبيده رحمة بهم ولطفا خفيا ، وقال في العهد : (أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) فكلفهم ، وكلف نفسه ، لما قام الدليل عندهم بصدقه في قيله ، ذكر لهم ذلك تأنيسا لهم سبحانه وتعالى ، ولكن هذا كله أعني دخوله في التقييد لعباده من كونه إلها ، لا من كونه ذاتا ، فإن الذات غنية عن العالمين ، والملك ما هو غني عن الملك ، إذ لولا الملك ما صح اسم الملك ، فالمرتبة أعطت التقييد ، لا ذات الحق جل وتعالى ـ تنبيه ـ احذر أن تفي ليفي إليك ، أوف أنت بعهدك واتركه يفعل ما يريد ، فإنه من وفى بعهده ليفي له الحق بعهده ، لم يزده على ميزانه شيئا ، حيث ورد في الحديث «كان له عند الله عهدا أن يدخله الجنة» لم يقل غير ذلك ، وقد قال تعالى : (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ) ولم يطلب الموازنة ولا ذكرها هنا أنه ليفي له بعهده ، وإنما قال : (فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) وما عظمه الحق فلا أعظم منه ، فاعمل

____________________________________

المنّ والسلوى وتفجير الماء من الحجر ومشيهم على البحر وإنجائهم من عدوهم وتظليل الغمام وغير ذلك ، فإن الله يمن على عباده بما يمتن عليهم من المنن الجسام ، ولذا سميت مننا ، وليس للعباد أن يمتنوا ، لأن النعم ليست إلا لمن خلقها ، فلهذا كان المن من الله محمودا ، لأنه ينبه عباده بما أنعم عليهم ليرجعوا إليه ، وكان مذموما من العباد لأنه كذب محض ، قال تعالى (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ، قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ ، بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) ثم قال تعالى لهم (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) أي أوفوا بما أخذت عليكم من الميثاق ، فأخبرنا بذلك لنسمع

١٢٥

على وفائك بعهدك من غير مزيد ، فإن من طلب من الحق الوفا ، فقد ناط به الجفا ، وليس برب جاف بلا خلاف ـ إشارة ـ الرب رب ، والعبد عبد ، وإن اشتركا في العهد.

فلا تنظر لما عندي

فإن الأمر من عندك

ولا تطلب وفا عهدي

إذا ما خنت في عهدك

فوعدي صادق مني

إذا صدقت في وعدك

وما أتيت إلا من

فساد كان في عقدك

(آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتي ثَمَناً قَليلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٤٢)

العلم حاكم ، فإن لم يعمل العامل بعلمه فليس بعالم ، العلم لا يمهل ولا يهمل ، العلم أوجب الحكم ، لما علم الخضر حكم ، ولما لم يعلم صاحبه اعترض عليه ونسي ما كان قد

____________________________________

حتى نفي بما عاهدنا عليه الله ، وهذا من لطفه سبحانه بنا في الخطاب ، فهو مثل القائل (إياك أعني فاسمعي يا جاره) فهذا تكليف بتعريف ، وقوله (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) جزاء بطريق المناسبة ، وفاء بوفاء ، فإنه عهد إلينا إذا آمنا به ووقفنا عند حدوده ، أن يدخلنا دار كرامته في جواره وينجينا من عذابه ، قال عليه‌السلام (فمن جاء بهن ـ يعني الصلوات ـ لم يضع من حقهن شيئا ، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ، ومن لم يأت بهن استخفافا بحقهن ، فليس له عند الله عهد ، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة) فجعل لعبده عهدا عنده سبحانه ، وقوله (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) من الرهب والرهبانية ، وإن كانتا ترجعان إلى معنى واحد ، وإياي فخافوني وفاعبدوني ، ولهذا رفع عنهم الخوف في قوله (لا خوف عليهم) وهو خصوص وصف في العبودية ، ثم قال (٤٢) (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ) الآية ، الضمير في آمنوا ، يحتمل أن يعود علينا وعلى غيرنا من أهل الكتاب وغيرهم ، لأنه قال (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) مصدقا حال لأنزلت ، فلنا من هذا الخطاب الإيمان بما أنزل من قبلنا مصدقا لما معنا ، مما أنزل إلينا وهو القرآن ، ولأهل الكتاب من هذا الخطاب ، وآمنوا بما أنزلت على محمد مصدقا لما معكم مما أنزلته عليكم ، ولغير أهل الكتاب ،

١٢٦

التزمه فالتزم ، لما علّم آدم الأسماء علم وتبرز في صدر الخلافة وتقدم ، العلم بالأسماء كان العلامة ، على حصول الإمامة :

العلم يحكم والأقدار جارية

وكل شيء له حد ومقدار

إلا العلوم التي لا حد يحصرها

لكن لها في قلوب الخلق آثار

فحدها ما لها في القلب من أثر

وعينها فيه أنجاد وأغوار

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٤٣)

إقامة الصلاة ـ راجع آية رقم ٤ ـ (وَآتُوا الزَّكاةَ) سميت الزكاة زكاة لما فيها من

____________________________________

وآمنوا بما أنزلت من كل كتاب ، مصدقا لما معكم من الأدلة والبراهين على وحدانيتي في ألوهيتي ، وما ينبغي لي من صفات الجلال ، فيكون إيمانكم بما أنزلت مضافا لما معكم من العلوم المستفادة من البراهين ، فهو خطاب يعم الجميع ، وهذا من جوامع الكلم ، وقوله (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) صفة لمحذوف ، يعني كل مخاطب به في كل زمان ، حتى يبقى العموم في الضمير على أصله ، فيكونون أولا في أهل زمانهم في الكفر به ، أي بما أنزل ، قال تعالى (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) وإن كان له وجود قبل مجيئه إليهم ، وقوله (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) لما كانوا هم أهل الكتاب حيث أنزله الحق إليهم ، فصار ملكا لهم ، ولما كان الكتاب حاكما عليهم بالانقياد والسمع والطاعة لمن جاء به وهم الرسل ، وفي المخاطبين رؤساء وأكابر وممن يسمع له ويطاع ، وصعب عليهم أن ينقادوا لما أمرهم به في الكتاب المنزل ، فاستبدلوا به رياسة الدنيا ، فإن البيع والشراء استبدال ومعاوضة ، فاختاروا برياسة الدنيا على رياسة الآخرة التي أعطتهم اتباع هذا الكتاب ، فأقام الآيات مقام ما تدل عليه من رياسة الآخرة وغيرها لمن عمل بها ، فكانوا كمن اشترى الحصى بالياقوت ، والتراب بالمسك والعنبر ، وجعله ثمنا قليلا لكونه ينقطع بالموت أو بالعزل ، ورياسة الآخرة باقية دائمة ، ثم قال (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) أي اتخذوني وقاية ، وهو قوله (وَاتَّقُوا اللهَ) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أعوذ برضاك من سخطك) فجعل الرضاء وقاية من السخط ، وقال (وبمعافاتك من عقوبتك) فجعل المعافاة وقاية تحول بينه وبين العقوبة ، ولما عزت أسماء الحق تعالى أن تنخرط مع الآثار في سلك واحد قال (وبك منك) وإنما أحدث لنا استعاذة أخرى ، فقال عليه‌السلام (وأعوذ بك) فجعله وقاية ، وليس له سبحانه ما يقابله ، والاستعاذة تستدعي

١٢٧

الربو والزيادة ، ولذلك تعطي قليلا وتجدها كثيرا ، والزكاة طهارة للأموال من حيث إضافة المال إلى العبيد ، وطهارة لأربابها من صفة البخل.

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٤٤)

العقل قيد وما خاطب تعالى إلا العقلاء ، وهم الذين تقيدوا بصفاتهم وميزوها عن صفات خالقهم ، ولهذا أدلة العقول تميز بين الحق والعبد ، والخالق والمخلوق ، فقال تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) البر هو الإحسان والخير (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) ولا يتمكن لعبد التزم

____________________________________

مستعاذا منه ، فقال (منك) فجعله سبحانه في مقابلة نفسه إذ لا مثل له ، وهو قوله تعالى (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) فهو المتكبر سبحانه الجبار ، والعبد إذا اتصف بما تناقض حقيقته من أوصاف العظمة والكبرياء التي تستحقها الربوبية [يقع في سخط الله] (*) فلهذا قال (منك) أي أن أكون متكبرا جبارا ، فهو يستعيذ من كبريائه أن يقوم به بكبريائه سبحانه ، ثم قال تعالى (٤٣) (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) الآية ، يقول : لا تخلطوا الحق بالباطل ، وهو قوله سبحانه عنهم (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ) وهو الحق (وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) وهو الباطل فخلطوا بينهما (وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ) حال من الضمير وهو الأوجه ، أي لا تلبسوا الحق بالباطل كاتمين للحق ، ويؤيد هذا قوله (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنه الحق ، قال تعالى (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ) وهم هؤلاء (لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) يقول : إن الحق أبلج ، لا لبس فيه لقوة الدلالة عليه ، ولذلك قال (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا شك ولا لبس ، فهم يتخيلون أن الحق يختلط بالباطل وليس كذلك ، ولذلك كثيرا ما يصف سبحانه الآيات أنها بينات ومبينات ، اسم فاعل واسم مفعول ، وهو قوله (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنه الحق وأنه لا يلتبس ، فهما معلومان لهم ، ثم قال (٤٤) (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) الآية ، تقدم الكلام في إقامة الصلاة في أول السورة (وَآتُوا الزَّكاةَ) المفروضة عليكم ، التي يؤدي إعطاؤها إلى نمو أموالكم وزيادتها ، وإلى تطهيركم مما يلزمكم من إمساكها ، وقوله (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) أي صلوا في الجماعة ، ففي ذلك الحث على حضور الجماعة في الصلاة ، وإن كان الضمير يعود على أهل الكتاب ، فإن صلاتهم على ما قيل لا ركوع فيها ، فيقال لهم صلوا صلاة المسلمين ، وقد يريد (ارْكَعُوا) أي انقادوا لهذا الدين كانقياد المؤمنين ، إذ الركوع الانقياد والخضوع ، (٤٥) (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) الآية ، خطاب لكل من أمر بالبر ولم يعمل به ، البر الإحسان أجمعه ، وكل من أحسن لمن أمر

__________________

(*) [...] ساقطة من الأصل.

١٢٨

الحياء من الله أن يأمر أحدا ببر وينسى نفسه منه ، بل يبتدئ بنفسه ، فقد قال له ربه على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ابدأ بنفسك ، وشرع له ذلك حتى في الدعاء إذا دعا الله لأحد أن يبدأ بنفسه ، فإن جميع الخيرات صدقة على النفوس ، أي خير كان حسا ومعنى ، فينبغي للمؤمن أن يتصرف في ذلك بشرع ربه لا بهواه ، فإنه عبد مأمور تحت أمر سيده ، فإن تعدى شرع ربه في ذلك لم يبق له تصرف إلا هوى نفسه ، فسقط عن تلك الدرجة العلية إلى ما هو دونها عند العامة من المؤمنين ، وأما عند الأكابر العارفين فهو عاص ، فإذا خرج الإنسان بصدقته فأول محتاج يلقاه نفسه ، قبل كل نفس محتاجة ، وهو إنما أخرج الصدقة للمحتاجين ، فإن تعدى أول محتاج فذلك لهواه لا لله ، فإن الله قال : ابدأ بنفسك وهو أول من يلقاه من أهل الحاجة ، وقد شرع له في الإحسان أي يبدأ بالجار الأقرب فالأقرب ، فإن رجح الأبعد في الجيران على الأقرب مع التساوي في الحاجة فقد اتبع هواه ، وما وقف عند حد ربه ، وهذا سار في جميع أفعال البر ، وسبب ذلك الغفلة عن الله تعالى ، فأمر العبد بالصفة التي تحضره مع الله وهي الصلاة ، فهي مناجاة العبد لربه ، وتشير هذه الآية إلى توبيخ الله لمن أمر غيره بإقامة الصلاة ، وإتمام نشأتها ونسي نفسه ، وجعله إياه بمنزلة من لا عقل له. والبر من جملة أحوال الصلاة فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : أقرت الصلاة بالبر والسكينة (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) فإنكم تجدون فيه قوله (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) وهذه حالة من أمر بالبر غيره ونسي نفسه ، فالغافل القليل الحياء من الله يأمر غيره بالطاعات وهو على الفجور ، وينسى نفسه فلا يأمرها بذلك (أَفَلا تَعْقِلُونَ) يقول : أما لكم عقول تنظرون بها قبيح ما أنتم عليه؟ فإذا قلت خيرا ، أو دللت على خير ، فكن أنت أول عامل به ، والمخاطب بذلك الخير ، وانصح نفسك فإنها آكد عليك ، فإن نظر الخلق إلى فعل الشخص أكثر من نظرهم إلى قوله ، والاهتداء بفعله أعظم من الاهتداء بقوله ، فإن الله تعالى يقول في نقصان عقل من هذه صفته : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ

____________________________________

بالإحسان إليه فقد أحسن لنفسه ، والأمر بالإحسان من الإحسان ، فقال تعالى منكرا على من يأمر بالإحسان ولا يأتيه (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ) أي غيركم (بِالْبِرِّ) بالأفعال الحسنة (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) أي وتتركون أنفسكم ، يقول : ألا تأمرون أنفسكم بالفعل الحسن (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) أي تجدون في الكتاب إذا قرأتموه أنكم مخاطبون بأن تأتوا البر في كل حال ، (أَفَلا

١٢٩

وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) فإذا تلا الإنسان القرآن ولا يرعوي إلى شيء منه ، فإنه من شرار الناس بشهادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن الرجل يقرأ القرآن والقرآن يلعنه ، ويلعن نفسه فيه ، يقرأ (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) وهو يظلم فيلعن نفسه ، ويقرأ «لعنة الله على الكاذبين» وهو يكذب فيلعنه القرآن ، ويلعن نفسه في تلاوته ، ويمر بالآية فيها ذم الصفة وهو موصوف بها فلا ينتهي عنها ، ويمر بالآية فيها حمد الصفة فلا يعمل بها ولا يتصف بها ، فيكون القرآن حجة عليه لا له ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الثابت عنه : «القرآن حجة لك أو عليك ، كل الناس يغدو فبائع نفسه ، فمعتقها أو موبقها».

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ) (٤٥)

فأمر من هذه صفته بأن يستعين بالصبر يعني بالصبر على الصلاة ، فقدّم حبس النفس عليها ، ثم ذكر الصلاة فقال : (وَالصَّلاةِ) فإن المصلي يناجي ربه ، فإذا ما حصل العبد في محل المناجاة مع ربه استلزمه الحياء من الله فلا يتمكن له أن يأمر أحدا ببر وينسى نفسه منه ، بل يبتدئ بنفسه. ثم ذكر خشوع الصلاة فقال : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ) يعني الصلاة ثقيلة شاقة (إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) وخشوع كل خاشع على قدر علمه بربه ، وقد جعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخشوع للقلب ولا سيما في الصلاة فقال : لو خشع قلبه لخشعت جوارحه ، والخشوع لا يكون إلا لله فمن لم يخشع في صلاته فما صلى.

____________________________________

تَعْقِلُونَ) يقول : ليس لكم عقل تفهمون به عن الله ما أنزله في كتابه إليكم ، والنسيان الترك عن غفلة ، فكأنه يقول : وتغفلون عن أنفسكم ، وإذا لم يكن عن غفلة فهو التناسي (٤٦) (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ) الآية ، لما كان من قول العبد فيما شرع له (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) بيّن الحق له ما يقع له به المعونة على عدوه إبليس ، فقال لعباده (وَاسْتَعِينُوا) على عدوكم (بِالصَّبْرِ) يقول : بحبس نفوسكم على طاعتي وامتثال ما أمرتكم به ونهيتكم عنه مطلقا ، فإن ذلك مما يقمع عدوكم (وَالصَّلاةِ) فإنه ما ثم عبادة ذكر فيها أنه فيها مناج ربه غير الصلوة ، فلهذا خصها بالذكر دون جميع الأعمال ، ليثابر العبد عليها ، فيكون ممن قال الله (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) وفي موضع آخر (عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) فإن الشيطان لا يتمكن له التمكن من قلب العبد في حال مناجاته ، لأن أنوار هيبة الحضرة تحرقه ، ولقد نشاهد هذا فيمن يحادث منا ملكا عظيما ذا جلال وكبرياء ،

١٣٠

(الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) (٤٦)

فظن خيرا تلقه ، فإن الله ما يوجد إلا عند ظن العبد به فليظن به خيرا.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٤٨)

وهي فروض الأعيان لا تجزى نفس عن نفس شيئا ، فإن الفروض حقوق الله ، وحق الله أحق بالقضاء.

____________________________________

لا يقدر أحد يقطع عليه كلامه ، ولا يدخل بينه وبين الملك ، لما تقتضيه الحضرة من الهيبة والجلال ، فجناب الحق أولى بهذه الصفة ، ولهذا جاء إبليس لعنه الله إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقبس من نار فرماه في وجهه وهو في الصلاة ، لما لم يكن له سبيل إلى قلبه لما ذكرناه من حضوره مع الحق ومناجاته ، ثم قال (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) يقول : إن المتكبرين يستكبرونها حيث تنزلهم عن كبريائهم ، وأما الخاشع فما تطأمن وخضع وذل إلا لتجلي الحق على قلبه في كبريائه وعظمته ، فلا يكبر على الخاشع الوقوف عند أوامر سيده ، ثم وصفهم فقال (٤٧) (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) الآية ، العلم القطع على أحد الأمرين ، والشك التردد بين الأمرين من غير ترجيح ، والظن ترجيح أحد الأمرين من غير قطع ، والظن هنا على بابه ، وله وجهان هنا ، الوجه الواحد أن المؤمنين قاطعون بأنهم إلى ربهم راجعون ، فإنه قال (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) والكافر والمؤمن كلهم يرجعون إلى الله ، غير أنه ما كل من يرجع إليه يلقاه ، قال تعالى (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) فلذا قيل فيهم (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) أي يغلب على ظنهم أن الله بكرمه يختم لهم بما هم عليه من أعمال أهل السعادة ، فيكونون ممن يلقى ربه ، والوجه الآخر أنهم يظنون أنهم ملاقوا ربهم من حيث هذا الاسم ، فإن العبد المطيع لسيده يغلب على ظنه أن سيده لا يلقاه بمكروه ، فإن مدلول هذا الاسم خير كله ، فإنه يجوز أن يلقوا يوم القيامة الاسم المنتقم أو الضار ، فالأدب والمعرفة حكمت عليهم بأن يظنوا (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) فإن عاد الضمير في (إِلَيْهِ

١٣١

(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٥٢)

الشكر هنا : هو الثناء على الله بما يكون منه خاصة ، لصفة هو عليها من حيث ما هو مشكور ، فإن شكر المنعم يجب عقلا وشرعا ، ولا يصح الشكر إلا على النعم.

____________________________________

راجِعُونَ) فتكون واو العطف تشرك في الظن ، وإن كان الضمير يعود عليه من كونه إلها ، فيكون (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) الواو بمعنى مع ، أي مع علمهم بأنهم إليه راجعون ، وقد تكون الجملة في موضع الحال ، تقدير الكلام : يظنون أنهم ملاقوا ربهم في حال رجوعهم إليه الذي لا بد منه ، ثم قال (٤٨) (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا) الآية ـ ذكرهم بهذا النسب نعمته عليهم فيه حيث نسبهم بالبنوة إلى صفوته وهو يعقوب ، وحظنا من التعريف أن نذكر نعمته علينا أيضا ، فلهذا عرفنا فقال (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) ولها وجهان ، الأول اذكروا أي تذكروا ولا تغفلوا ولا تنسوا ذلك ، والوجه الآخر اذكروا ، من الذكر ، أن تحدّثوا بما أنعمت عليكم ، قال تعالى (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) والنعم التي أنعم بها على بني إسرائيل مذكورة في القرآن ، فلا أحتاج إلى ذكرها ، وقوله (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) فيه إنباه لنا أن نذكر ذلك في قوله (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) وأما قوله لبني إسرائيل أنه فضلهم على العالمين ، أي زادهم أمورا ظهرت عامة ، لم يعط عمومها لسائر الملل ، وإن لخواص هذه الأمة ما أعطى سائر الأمم ، من الكشف وطي الأرض والمشي على الماء وفي الهواء وتظليل الغمام والطير وتسخير الرياح وتفجير المياه ، وقد رأينا كثيرا من هذا على المنقطعين من عباد الله في حال سياحاتي وطلبي الاجتماع بهم ، وكان ذلك في بني إسرائيل يظهر للعام والخاص ، فالفضيلة في هذا ، ثم قال (٤٩) (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي) الآية ، الخطاب عام لجميع العباد ، فالضمير عام ، وقوله (يَوْماً) يريد يوم القيامة ، وفي الحقيقة الأيام كلها بهذه المثابة ، وأنه ما أراد الله إمضاءه في خلقه لا تقتضيه نفس عن نفس شيئا ، وقوله (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) هو قوله (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) بل كل نفس بما

١٣٢

(وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (٥٥)

الصواعق أهوية محترقة لا شعلة فيها فما تمر بشيء إلا أثرت فيه.

____________________________________

كسبت رهينة ، (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) وقوله (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) فذلك يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ، وقوله (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) أي من شفع من أجلها لا تقبل شفاعته فيها ، فإنهم في ذلك اليوم يعرفون ـ بل عند موتهم ـ أنهم ليسوا ممن يقبل كلامهم ، فثبت ما قلناه ، وهو قوله (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) ، وقوله (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) يقول : فداء ، تعريفا لهم هنا ، وهو قوله (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ) وقوله (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، وقوله (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) هو قوله (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) أي لا ناصر لهم ، فإن الآخذ هو الله ولا مقاوم له سبحانه (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (٥٠) (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) الآية ، ثم رجع إلى ذكر ما أنعم به عليهم ، فقال : واذكروا (إِذْ نَجَّيْناكُمْ) قوله (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) وضمير الخطاب ، يحتمل أن يكون من الله إخبارا لنا على الحكاية بما خاطبهم به في زمانهم بما أنعم عليهم ، ويمكن أن يكون الضمير يعود على بني إسرائيل الحاضرين في زمان النبي عليه‌السلام ، يعدد عليهم ما أنعم به على أسلافهم ومن مضى من آبائهم في زمان موسى عليه‌السلام ، وقد يكون للحاضرين هذا الخطاب حيث أنعم عليهم إذ لم يوجدهم في زمان من أولى أسلافهم سوء العذاب ، وقد يكون ذلك كله مرادا لله تعالى في الخطاب ، والله أعلم ، وقوله تعالى (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) ولم يقل من فرعون ، لأن آله كانوا المباشرين لعذابهم ، ولم يكن لفرعون إلا الأمر بذلك ، وكذا جرت العادة في الرؤساء والملوك ولهذا جوزوا ، فقال تعالى (أَدْخِلُوا آلَ

١٣٣

(ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٥٧)

يعني يظلمون أنفسهم بما كانوا عليه في سابق العلم.

____________________________________

فرعون) الذين تولوا عذابهم (أَشَدِّ الْعَذابِ) في مقابلة سوء ، وقرئ بكسر الخاء ، فقد يمكن أن يقال لبني إسرائيل يوم القيامة ذلك ليولوهم أشد العذاب بأنفسهم ، كما فعلوا هم بهم في الدنيا حين ساموهم سوء العذاب ، وآل الرجل أهله وخوله وأنصاره وأتباعه ، سمعت شيخنا الإمام أوحد زمانه في معرفة كلام العرب ، أبا ذر مصعب بن محمد بن مسعود الخطيب يقول : الآل لا يضاف إلا للأكابر الزعماء ، وأما من دونهم فيقال أهل فلان ، وقوله (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ) يقول يولونكم ما يسؤكم من (الْعَذابِ) فمن ذالكم قتل أولادهم ذبحا ، وجعل إبقاء النساء عذابا لهم ، مع أن إبقاءهم ينبغي أن يكون من فرعون نعمة عليهم ، وذلك أن الرجل في الغالب يسرع إليه ذهاب الحزن منه بخلاف النساء ، فأبقى النساء حتى يتجدد على الآباء العذاب بما يجدونه من الحزن لحزن نسائهم وبكائهم على أولادهم دائما ، وشغلهم بذلك عن مصالح أزواجهم ، فيتجدد العذاب عليهم ، هذا يسوغ في إبقاء الأمهات ، وأما إبقاء الإناث فيزيد بذلك من قتل ولده حسرة إلى حسرته ، وحزنا إلى حزنه ، قال تعالى (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) قال تعالى (وَفِي ذلِكُمْ) خطاب لنا (بَلاءٌ) أي ابتلاء (مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) ، نشكر أو نكفر ، كما قال سليمان عليه‌السلام (لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) فكل عذاب في الدنيا يكون بلاء إذ كانت دار اختبار (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) وأما في الدار الآخرة فلا يقال له بلاء وإنما هو عذاب خالص. ولهذا ما أظن والله أعلم أن الله ذكر عذاب الآخرة بلفظ البلاء ، على أني ما بحثت على ذلك ، لما لم تكن دار تكليف ، وكان سبب قتل الأبناء أنه رأى ورئي له أن مولودا من بني إسرائيل يولد في دولته يكون هلاكه وهلاك أتباعه على يديه ، ثم من نعمة الله على بني إسرائيل قوله (٥١) (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) الآية ، وهذا يؤيد ما ذكرناه أنه سبحانه يحكي ما خاطبهم به في زمانهم من تقرير النعم عليهم ، فمن ذلك (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ) أي بسببكم (الْبَحْرَ) لتنجوا من عدوكم ، فزال البحر بعضه عن بعض وافترق ، فظهرت الأرض وسكن البحر عن جريته (فَأَنْجَيْناكُمْ) بما أهلكنا به

١٣٤

(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (٦٠)

إشارة ـ علم الاثنتي عشرة عينا التي في العلم بها العلم بكل ما سوى الله ، وهو علم

____________________________________

عدوكم ، فإن رؤيتهم لذلك الطريق غرهم فاتبعوكم حتى غشيهم من اليم ما غشيهم ، فانطبق البحر عليهم فأهلكهم (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ ، وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) وأنتم تشهدون ذلك ، ولنا وجه في (أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) وهو أن خرج من الحكاية إلى خطاب الحاضرين من بني إسرائيل وذلك بأن يكون (تَنْظُرُونَ) بمعنى تنتظرون ، فقال لهم وأنتم تنظرون أي تنتظرون أن يحل بكم إن لم تؤمنوا بمحمد عليه‌السلام ما حل بآل فرعون لما لم يؤمنوا بموسى عليه‌السلام ، وأما نسب موسى ، فهو موسى ابن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوى بن يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم خليل الله ، وقيل سمّي موسى لأنه وجد التابوت الذي كان فيه بين الشجر في الماء ، والمو بالقبطية الماء ، والسا الشجر ، فركبوا من ذلك اسم موسى ، وأما فرعون فقالوا اسمه الوليد بن مصعب ، وقالوا مصعب بن الريّان ، ثم ذكر من النعم قوله (٥٢) (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) الآية ، لما كان من نعم الله عليهم ما أنعم به على رسولهم ، إذ لهم الشرف بذلك ، ذكر من جملة النعم مواعدته لموسى في مناجاته ، فقال (وَإِذْ واعَدْنا) فعل فاعلين ، وهو أتم في التشريف حيث قرنه بنفسه في المواعدة ، وكذا أنزلت وتليت ، وقد قرأنا «وعدنا» بغير ألف ، فهو الوعد من جانب الحق تعالى خاصة ، وهذا أنزه ، والأول أشرف في حق موسى ، وقوله (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) يمسكه عنده فيها مناجيا مقربا ، ويحتمل أنه بعد انقضاء الميقات يكون الكلام ، ليس في هذه الآية دليل على ترجيح أحد الوجهين ، وقوله (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد ما فارقكم وجاء لميقاتنا الذي وعدناه

١٣٥

الحياة التي يحيا بها كل شيء ، وهو العلم المتولد بين النبات والجماد من المولدات بصفة القهر ، فإن العيون الإثنتي عشرة إنما ظهرت بضرب العصا الحجر ، فانفجرت منه بذلك الضرب

____________________________________

(وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) أنفسكم ، أي ظلم بعضكم بعضا ، حيث لم يأخذ بعضكم على بعض ، ولا نهى بعضكم بعضا في اتخاذكم العجل إلها من دون الله (٥٣) (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) إشارة إلى الاتخاذ ، أي لم ندخر لكم العقوبة إلى الآخرة ، وجعلنا عقوبتكم في الدنيا ، وفرضنا لكم التوبة ، وهو الرجوع من شرككم إلى توحيد الله كما سيأتي ، ثم قال (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) على هذه النعمة في قبول التوبة ورفع العقوبة عنكم في الآخرة ، وقد ندخل نحن في قوله (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) حيث قصصنا عليكم ما كان منا في حق الأمم من قبلكم ، فتشكرون نعمة الله عليكم حيث عافيناكم مما ابتلينا به من كان قبلكم ، وسنأتي على شرح هذه القصة في مكانها من الأعراف وطه ، ثم قال (٥٤) (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) الآية ، ومن النعم أيضا على نبيكم موسى وعليكم ، أن آتيناه ، أي أعطيناه وأنزلنا عليه الكتاب ، يعني التوراة ، يقول : الجامعة لما فيه سعادتكم إن عملتم بها (وَالْفُرْقانَ) فيها ، أي وكتبت الفرقان فيها ، وهو من بعض ما فيها ، يقول : جعلت لكم ما تفرقون به بين الحق والباطل (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) تتبينون ذلك عند تلاوتكم إياها فتعملون عليه ، ثم من نعمه قوله تعالى (٥٥) (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) الآية ، فنبههم على ذنبهم وعلى ما شرع الحق في ذلك ، فقال (وَإِذْ قالَ) أي يا بني إسرائيل واذكروا أيضا إذ قال (مُوسى لِقَوْمِهِ) الذين عبدوا العجل ، فأضافهم إليه وإن كانوا قد كفروا وخالفوا دينه (يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي ظلم بعضكم بعضا حيث لم يرده عما شرع فيه من مخالفة أمر الله (بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) إلها من دون الله ، فهؤلاء كفار وليسوا مشركين إن كانوا لم يتخذوه شريكا ، ثم قال (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) فارجعوا إلى الذي خلقكم وبرأكم ، فإن العجل ما يخلق شيئا ، فذكر أخص وصف الإله ، ليدل أن الخلق لا يكون إلا لله ، خلافا لمخالفي أهل الحق الذين ينسبون الخلق إلى غير الله (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي فتوبتكم أن يقتل بعضكم بعضا عقوبة لكم مناسبة كما لم يرد بعضكم بعضا عن عبادة العجل ، وكما لم يرد بعضكم بعضا في ذلك لظلمة الجهل التي أعمت بصائركم ، كذلك أنزل عليكم ظلمة حتى يقتل بعضكم بعضا فيها ، فأرسل الله عليهم ظلمة بحيث لا يبصر بعضهم بعضا ، وتقاتلوا فيها حتى رفع الله عنهم ذلك ، وقصتهم في التاريخ مذكورة ، وغرضنا التنبيه والإيجاز وما يدل عليه اللفظ وكيفية الوقائع موقوف على كتب التواريخ ، ولو وصلت إلينا من طريق صحاح ربما ذكرناها ، ومما ظهر لنا أيضا في إرسال الظلمة عليهم في وقت قتالهم لئلا يدرك الرجل رأفة في أبيه أو ابنه أو أخيه أو ذي قربى ، فيؤديه ذلك إلى الفتور في إقامة

١٣٦

اثنتا عشرة عينا ، يريد علوم المشاهدة عن مجاهدة ، بسبب الضرب ، وعلوم ذوق ، لأن الماء من الأشياء التي تذاق ، ويختلف طعمها في الذوق ، فيعلم بذلك نسبة الحياة كيف

____________________________________

حد الله الذي شرع لهم ، كما ورد في شرعنا في جلد الزاني والزانية (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) وهذا أيضا من أكبر النعم على بني إسرائيل ، وقال تعالى (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ) أي التوبة والقتل خير لكم عند بارئكم ، فأضافهم إلى البارئ عقيب القتل ، ليتنبهوا على الإعادة ورجوع الحياة إليهم ، ونبههم أيضا بذلك على أنهم شهداء ، فهم أحياء عند ربهم يرزقون (فَتابَ عَلَيْكُمْ) أي رجع عليكم برحمته التي كان الكفر قد سلبها عنكم (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ) الرجّاع (الرَّحِيمُ) بالرحمة إليكم ، وقد تقدم تفسير التواب في قصة آدم ، ثم أردف أيضا هذه النعم بنعمة أخرى فقال تعالى وجل (٥٦) (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) الآية ، إلى قوله (تَشْكُرُونَ) قص الله علينا هذه الأمور ليري الله تعالى نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قاسى موسى من أمته فيعزي نفسه بذلك ، قال تعالى (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) وقال (وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى) لنا لنشكر الله على ما أولانا من نعمه حيث آمنا واستسلمنا ، ولم نكلف نبينا أن يسأل ربه شيئا ، مثل ما كلفت الأمم رسلها ، فنشكره سبحانه على هذه النعمة ، إذ لو شاء لألقى في قلوبنا ما ألقاه في قلوب الأمم قبلنا ، ولهذا نشرك أنفسنا معهم في الضمير المذكور في قوله (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) فقال تعالى إخبارا عن بني إسرائيل ، والعامل في إذ كما في أمثاله (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) أي لن نصدق بك (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) فالعامل في جهرة يحتمل أن يكون قلتم ، ويحتمل أن يكون العامل نرى ، وهذا من أعظم ما اجترؤوا به على الله تعالى ، وأعظم ما كلفوه لموسى ، فعاقبهم الله بأن أرسل عليهم صاعقة ، أمرا من السماء هائلا أصعقهم لم ينقل إلينا من طريق صحيحة ما كان ذلك الأمر (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) أي فأخذتهم الصاعقة جهرة ، وهو قوله (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) قال (٥٧) (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) أي من بعد ما صعقتم ، فقد يكون موت غشي ، وقد يكون موتا حقيقة ، والأقرب أن يكون موت غشي وصعق ، لأن الله يقول (لا يَذُوقُونَ فِيهَا) يعني في الجنة (إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) فأفردها ، وليس بنص ، ولكن يتقوى به وجه التأويل على هذا المعنى ، وسنومئ في إحياء من مات في ضرب الميت بالبقرة فحيي ، ما كانت تلك الحياة ، وفي كل حي يحيى في الدنيا بعد موته قبل حياة البعث ، فإنه سر لطيف لا يدرك إلا من جهة الكشف ، ثم قال (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) خطابا لنا ولهم ، فهذا تعريف يتضمن تكليفا بالشكر ، ومن النعم قوله (٥٨) (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) الآية ، لما دعا موسى على قومه بالتيه حين قالوا ما ذكر في سورة المائدة ، قال أصحابه المؤمنون به : ما يقينا من حر الشمس في

١٣٧

اتصف بها المسمى جمادا ، حتى أخبر عنه الصادق أنه يسبح بحمد الله ، لأن الحق أضاف ذلك إلى الحجر بقوله «منه» ، ومن لا كشف له ولا إيمان لا يثبت للجماد حياة ، فكيف

____________________________________

هذا التيه؟ فظلل الله عليهم الغمام ، وهو الضباب أو السحاب ، فقالوا : ما نأكل؟ فأنزل الله عليهم المن ، وهو هذا الذي ينزل على الشجر ويجمعه الناس ، جعل الله لهم فيه غذاء وهو المعروف عندنا ، وقد قيل فيه إنه شيء شبه الخبز النقي ، وقيل شبه الذرة ، وأما السلوى فهو طائر واحده سلواة ، فقال تعالى (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) من جعل من للتبيين جعل الطيبات الحلال من الرزق ، وأطلق الرزق على الحلال والحرام ، ومن جعل من للتبعيض يريد التقليل من الأكل وهو مشروع ، جعل الرزق هنا الحلال ، فإن الله نهى عن أكل الحرام في غير ما موضع من كلامه في كل كتاب ، وقوله (وَما ظَلَمُونا) أي وما تضررنا بمعصيتهم ولا بمخالفتهم ، إذ كان كل مظلوم متضررا (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي ما يكون من الضرر في ذلك يعود عليهم ، وهذا يدلك أيضا على أنه لنفسك عليك حق ، وهو أن تسلك بها سبيل النجاة ، فإذا لم تفعل فقد ظلمتها وأورثتها الضرر والشقاء ، ثم قال تعالى (٥٩) (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) الآية ، ومن نعمه أيضا عليهم بعد أن فرغوا من إقامتهم في التيه أن قال لهم (ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) يعني بيت المقدس أو أريحا ، ما ثبت عندنا أية قرية هي ، غير أنا زرنا قبر موسى عليه‌السلام على قرب من أريحا على قارعة الطريق الكبرى وقرب من الكثيب الأحمر ، بأرض يقال لها البريصا ، ظاهر حجارتها بيض وباطنها أسود نفطية ، كنا نوقدها كما يتقد النفط ، ورائحتها كرائحته وفيها دهن ، والقبر على يمين الطريق إذا طلبت أريحا ، ثم قال (فَكُلُوا مِنْها) الضمير يعود على القرية (حَيْثُ شِئْتُمْ) أي مما فيها ، فأباح لهم الدخول والأكل كيف شاؤا ومما شاؤا وحيث شاؤا (رَغَداً) في اتساع عيش من غير تضييق ولا تحجير (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) كلفهم التواضع عبادة بالسجود عند الدخول (وَقُولُوا حِطَّةٌ) بالرفع ، أي قولوها كما أمرتم حكاية على الرفع ، وحطة مثل قعدة وجلسة ، وقد يكون دعاء ، أي حط عنا ذنوبنا حطة ، وقد يكون المعنى إذا دخلتم سجدا وفرغتم من عبادتكم فحطوا ، أي أنزلوا رحالكم حطة ، ومعناه يتداعوا بها على الرفع بينهم : حطة حطة ، ليحطوا ، فإذا فعلتم ذلك (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ) جمع خطيئة ، وهو ما كان منكم مما تقدم مما ذكرناه من الذنوب ، (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) إحسانا على إحساننا لهم ، لكونهم ما خالفوا أمر الله واحترموا جانب الحق ، قال تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) فإن تركهم للمخالفة زيادة عمل مشروع إذا اقترنت به نية الترك ، وسواء كان الترك لمباح أو ندب أو فرض ، على أنه عندنا إذا أتى المباح من حيث أنه مباح شرعا أجر (٦٠) (فَبَدَّلَ

١٣٨

تسبيحا ، فيعلم بهذا الكشف نسبة الحياة أيضا إلى النبات ، لأن الضرب كان بالعصا ، وهي من عالم النبات ، وبضربه بها ظهر ما ظهر ، ومن لا كشف له لا يعلم أن النبات حي ، إلا من يصرف الحياة إلى النمو ، فعلم الاثنتي عشرة عينا على الكشف والمشاهدة هو علم ما يتعلق بمصالح العالم (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) من تلك العيون ، فمن علمها علم حكم الاثنى عشر برجا ، وعلم منتهى أسماء الأعداد وهي اثنا عشر ، وعلم الإنسان بما هو ولي لله تعالى.

____________________________________

الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) الآية ، قيل لهم قولوا : حطة ، فبدلوا ، قيل المعنى فاستهزؤا ، وقيل اللفظ ، فقالوا : حطا سمقا ، بالقبطية معناه حنطة حمراء استهزاء ، فعاقبهم الله على ذلك ، فقال (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) بيّن أن الرجز إنما نزل بالظالمين ، ولم يقل عليهم لئلا يدخل فيه غير الظالمين ، لأن العذاب قد ينزل فيعم الصالح والطالح ، ويحشر كل إنسان على عمله ، فلهذا أخبر الله أن الرجز الذي هو العذاب اختص بالذين ظلموا (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) أي بخروجهم عن أمرنا فيما بدلوه من قولنا قولوا حطة ، ومن نعمه أيضا قوله (٦١) (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) الآية ، لما أعطاهم ما يقيهم من حر الشمس وما يأكلون طلبوا ما يشربون ، فاستسقى الله لهم موسى (فَقُلْنَا) فقال له ربه (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) فإن الحجارة في الغالب موضع تفجير الماء (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) وكانوا اثني عشر سبطا ، لكل سبط عين ، والحجر قد يكون الألف واللام لحجر بعينه ، وكذا ذكر في التاريخ ، وأنه كان صغيرا يحمله في مخلاة ، فحيثما نزلوا من التيه أخرجه وضربه بعصاه ، فتفجر عيونا اثنتي عشرة ، وقد يحتمل أن يكون للجنس ، وقوله (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) كان لكل سبط عين تخصه ، وكل سبط يرجع إلى ولد من أولاد يعقوب ، وهم الأسباط ، فسبط يرجع إلى روبيل ومعناه بالعربية الأبيض ، وسبط يرجع إلى يهود ومعناه بالعربية شاكر ، وسبط يرجع إلى شمعون وهو بالعربية سمعان ، وسبط يرجع إلى نفنوان ومعناه المنطيق ، وسبط يرجع إلى رنوان ويقال فيه ربالون ولم نر له تفسيرا ، وسبط يرجع إلى آشر ومعناه الطيب ، وسبط يرجع إلى أنساخر ومعناه المتأخر ، وسبط يرجع إلى جاد ومعناه الفياض ، وسبط يرجع إلى دان ومعناه بالعربية الحكم ، وسبط يرجع إلى يوسف ومعناه يزيد ، وسبط يرجع إلى لاوى ومعناه العطاف ، وسبط يرجع إلى بنيامين ومعناه شداد ، وكلهم أولاد يعقوب وهو إسرائيل ومعناه صفوة الله ، ثم قال لهم (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ) تقدم الكلام في الرزق (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) اسم فاعل من أفسد يفسد فهو مفسد ، يقال عاث في الأرض إذا أفسد فيها ، وبه سمى العوث وهي الدودة التي تأكل الثياب

١٣٩

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) (٦١)

(أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى) وهو ما ذكروه (بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) وهو ما أنزل الله عليهم من المن والسلوى ، فأشار إلى دناءة همتهم

____________________________________

والكتب ، ويقال لها الأرضة ، فقال لهم : لا تفسدوا في الأرض ، فتسموا مفسدين ، ثم قال تعالى (٦٢) (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) الآية ، لما كان في طبع هذه النشأة الدنيوية إذا استصحبها أمر تمله ، خلق الله له من الأرزاق أنواعا مختلفة المطاعم والألوان والروائح ، ولما فرض عليهم العبادات جعلها مختلفة بالنوع ، وجعل لها أوقاتا متفرقة من أجل الملل الذي جبلهم الله عليه ، ولو كان الرزق من ألذ المطاعم واستصحبه سئمه وطلب غيره أو تباعد عنه الزمان ، حتى تدعو الحاجة إليه وإن كان واحدا ، ولما ألفوا تكاثر الآلهة عندهم لم يلتذوا بالتوحيد التذاذهم بالكثرة ، ومن حكمة الله في وحدانيته سبحانه أن جعل له أسماء كثيرة ندعوه بها في عموم أحوالنا ، فننتقل من اسم إلى اسم لتتنوع علينا الأدعية والأذكار مع أحدية المدعو والمذكور ، كل ذلك للملل الذي في جبلتنا ، فسبحان اللطيف بعباده ، وهذا من خفايا ألطافه التي لا يعرفها إلا القليل من عباده ، فقالوا لموسى (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) في تيههم (مِنْ بَقْلِها) يقول من أنواع بقولها ، ثم خصوا بالذكر ما كان لهم فيه رغبة ، حتى يكون ذلك المعيّن من جملة ما يخرج لهم (وَقِثَّائِها) بضم القاف وكسره وهو معروف (وَفُومِها) قيل هو الثوم وهو الأقرب ، وقيل الحنطة ، وقيل الخبز (وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ) الله لموسى قل لهم (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى) أي أخس وأوضع وأحقر (بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) منه ، وهو ما كانوا فيه من اللحم والحلوا ، ولا شك أن أمرهم متناسب في الشكل ، فمن اشترى الضلال بالهدى ، والعذاب بالمغفرة ، والكفر

١٤٠