رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٩١)

اليهود لم يؤمنوا بكل ما أتى به موسى ، ولو آمنوا بكل ما أتى به موسى لآمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبكتابه (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) اعلم أن الله مع الأنبياء بتأييد الدعوى ، لا بالحفظ والعصمة إلا إن أخبر بذلك في حق نبي معين ، فإن الله قد عرفنا أن الأنبياء قتلتهم أممهم وما عصموا ولا حفظوا.

____________________________________

فكفروا جواب «لما جاءهم ما عرفوا» وجواب لمّا في (لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ) محذوف ، تقديره كذّبوا به ، أي بالكتاب ، فجمعوا بين كفرين ، وخص الاستفتاح دون الافتتاح لأنه بالسين أبلغ (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) الألف واللام للجنس ، وهو أولى من العهد ، ثم قال (٩١) (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) لما جاء الشرع ببيع النفوس في قوله (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ) وسبب ذلك هذه الإضافة ، وهي دعوى الملك فيها ، والعالم بالله لا نفس له بل كله ملك لله ، فإذا أضافها العالم بالله إليه في مثل قوله (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) وقوله (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) فبتمليك الله لا تمليك استحقاق ، فوقع البيع على هذا القدر الذي لحق المؤمن غير العالم من الملك ، فصح بيع النفس لكل ذي نفس من المؤمنين من الله تعالى ، فالمؤمن لا نفس له ، وأما غير المؤمن وغير العالم بالله فنفسه باقية في ملكه في دعواه ، فلهذا صح لهؤلاء وثبت أن يبيعوا أنفسهم بعرض من الدنيا ب (أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) من الكتب (بَغْياً) أي حسدا (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) من أجل أن أنزله الله على موسى وعيسى ومحمد عليهم‌السلام تفضلا منه دونهم ، فنازعوا الله تعالى وكفروا ، وكذبوا بما جاءت به الأنبياء (فَباؤُ بِغَضَبٍ) من الكفر والتكذيب (عَلى غَضَبٍ) من المنازعة ، فهذا دليل على أنهم صدقوا بالإنزال أنه من عند الله ، وقد يستروح

١٦١

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ، خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا ، قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ، قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ

____________________________________

من قوله (عَلى مَنْ يَشاءُ) أن اليهود حسدت العرب حيث كان محمد الذي يجدونه مكتوبا عندهم من العرب ولم يكن من بني إسرائيل ، فأداهم ذلك إلى الكفر بالقرآن ، ثم قال (وَلِلْكافِرِينَ) الجنس أيضا (عَذابٌ مُهِينٌ) في مقابلة إهانتهم للقرآن ومن جاء به ، من قوله (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) وغير ذلك ، فهو خصوص عذاب لصفة مخصوصة في كل من ظهرت منه وعوقب بها ، ثم قال (٩٢) (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) الضمير يعود على اليهود ، وما هنا فيما أنزل الله يريد القرآن والإنجيل (قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) يؤيد ذلك قوله (وَهُوَ الْحَقُّ) الضمير يعود على المنزل ، (مُصَدِّقاً) أي جاء مصدقا لما معهم ، يريد التوراة التي أنزلت عليهم ، فقالت اليهود : نؤمن بما أنزل علينا ، يعني التوراة ، ونكفر بما وراءه ، تقول : وراء كتابنا ، أي بما جاء بعده من الكتب ، فقال الله لمحمد (قُلْ) لهم (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ) وكتابكم لا يتضمن قتل من قتلتموه من الأنبياء ، فقولكم (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) ليس بصحيح ، ولهذا قال لهم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في إيمانكم بما أنزل عليكم ، فقرينة الحال تدل على أنهم قتلوا الأنبياء تكذيبا لهم مع إتيانهم بالبينات والقربان ، لأنهم لو لم يقتلوهم تكذيبا ما كان قول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ) حجة عليهم ، لأن المؤمن لا يلزم أن يكون معصوما من وقوع الذنب منه ، والقتل فعل ظاهر ، وقد يكون من المصدّق والمكذب ، وقد يكون قوله (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي مصدقين في أن الله عهد إليكم في كتابكم (ألا تؤمنوا لرسول حتى يأتيكم بقربان تأكله النار) فقد جاؤا ، فلم قتلتموهم؟ (٩٣) (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ) حين مشى إلى ميقات ربه (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) أنفسكم في ذلك ، وظالمون بعضكم لبعض حيث لم تتناهوا عن منكر فعلتموه ، ثم قال (٩٤) (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ، خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا ، قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ، قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) لما ذكر أخذ الميثاق ورفع الطور ظلة عليهم لما امتنعوا من أخذ الكتاب ، ذكر في القصة الأولى بعض الأسباب وهو ترجي التقوى ، فقال (لَعَلَّكُمْ

١٦٢

كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) (٩٦)

الحرص يتعلق به الذم من جهة متعلقه إذا كان مذموما شرعا وعقلا ، وقوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ) الضمير يعود على قوم مذمومين ، وقرينة الحال تدل على أن مساقه الحرص فيها على الذم تكذيبا لهم فيما ادعوه من أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس.

____________________________________

تَتَّقُونَ) إذ ذكرتم ما فيه عند أخذكم إياه بجد وعزم ، وزاد في هذا التعريف الثاني لنا أنه قال لهم (وَاسْمَعُوا) وهذا أقوى من الأول وأشد في التكليف ، أراد (وَاسْمَعُوا) لتعملوا بما سمعتم ، (قالُوا سَمِعْنا) ما قال ربك لنا في التوراة (وَعَصَيْنا) لأنه شدد علينا ووضع علينا من التكاليف ما يشق علينا فعلها ، ونحن نطلب الرفق ، ولهذا أحببنا عبادة العجل لأنه لم يكلفنا ووسع علينا ، فأخبر تعالى أنهم (أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) أي خالط لحمهم ودمهم حبه ، قال الله لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ) لهم (بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ) في زعمكم إن صح كونكم مؤمنين ، فهو قوله (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وقوله (بِكُفْرِهِمْ) بالتكاليف الشاقة عليهم. لما ثبت عندنا وعند اليهود أن الجنة خالصة للمؤمنين بالله بلا شك ، وأنها دار راحة لا تعب فيها ولا نصب ، وأن الدنيا دار تعب ونصب ، والنفس مجبولة على طلب الراحة ، والجنة لا تحصل إلا بعد الموت ، فالموت مطلوب للمؤمن لتخليصه من المشقة وحصوله على الراحة ، وأنتم تزعمون أنكم مؤمنون ، وأن لكم الدار الآخرة ، يريد الجنة خالصة من دون الناس ، يريد الناس كلهم أو المسلمين خاصة ، فتمنوا الموت إن كنتم صادقين في القطع بسعادتكم ، فقال الله لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٩٥) (قُلْ) لهم (إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ثم أخبر نبيه عن حال اليهود فقال (٩٦) (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) وهذا من آياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم نطقه بالغيب ، فأخبر بما يكون منهم من عدم تمني الموت قبل وقوع ذلك منهم ، فكان كما قال ، قال عليه‌السلام

١٦٣

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (٩٧)

راجع نزول القرآن على القلب آية ١٢١.

____________________________________

[لو تمنوا الموت ما قام أحد من مجلسه حتى يموت غصصا بريقه] فأخبر عليه‌السلام بالأمر قبل كونه ، وقال (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) وعيد وتهديد لليهود لأنهم يعلمون أنهم ظالمون ، فإنهم على يقين من صدق ما كفروا به ، ويعلمون أن الله يعلم ذلك ، وعملهم يقتضي بالحال أنهم يعتقدون أن الله لا يعلم ذلك ، كما يذهب إليه بعض النظار من الفلاسفة أن الله لا يعلم الجزئيات ، فهذا فائدة قوله لهم (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) ، ثم قال لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٩٧) (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) هما معمولان لهذا الفعل ، أي أشد الناس حرصا ، والألف واللام للجنس ، فأنهم أحرص على الحياة من كل أحد وخصوصا «و» أحرص (مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) فإنه لا أحد أحرص على الحيوة ممن لا يقول بالبعث ، فيستغنم الحياة الدنيا ، فهو شديد الحرص على طلبها ، وهؤلاء اليهود المنكرون ما تيقنوا أنه صدق ، وقد تيقنوا العقوبة على ذلك من كتابهم ، فهم قاطعون بالوعيد ، فحرصهم على الحيوة أشد من حرص من لا يؤمن بالبعث لما يؤلون إليه في الدار الآخرة من العذاب ، وهو الأوجه في الترجمة عن هذه الآية ، وقوله (عَلى حَياةٍ) منكّرة أي حياة بهذه الصفة من الطول (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) أي يتمنى (لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) والمعنى أبدا ، لعلمه بما يصير إليه بعد الموت ، قال تعالى (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) فهنا وجهان ـ الواحد : أن الدنيا لا بد من تناهيها ، فلا بد من الموت واللحوق بما ذكرناه من الوعيد لهم ، ففيه أنهم لا يتوبون ولا يتوب الله عليهم ، فهذا يأس من الله لهم وهو سديد ، والوجه الآخر : أنه وإن كانت الإقامة في الدنيا لهم سرمدا ولا تكون آخرة فليس هذا مما ينجيهم من عذابنا ، فإن العمر الطويل وغير الطويل لا ينجي من العذاب (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) أي يبصر ويرى ما يكون من أعمالهم ، تنبيه على الخوف والحياء منه سبحانه ، وفيه هنا تهديد (٩٨) (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) زعمت اليهود أن الله أمر جبريل أن يجعل النبوة في بني إسرائيل فجعلها في العرب ، فاتخذوه عدوا ، كما فعلت الرافضة حيث قالوا : إن الله أمر جبريل أن يجعل النبوة في علي ، فجعلها في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا من جملة ما ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يكون في أمته ، فقال في الحديث الصحيح [إنكم لتتبعون سنن من

١٦٤

(مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (١٠٢)

تكلم بعض المفسرين بما لا ينبغي في حق الملكين ، وبما لا يليق بهما ، ولا يعطيه ظاهر

____________________________________

قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع] الحديث ، وفيه [قالوا يا رسول الله أاليهود والنصارى؟ قال : فمن] فهذا من ذلك ، اتباع الروافض اليهود في نسبة الخيانة لجبريل ، فقال تعالى (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) لأجل هذا ، فإن جبريل ما فعل شيئا ولا تعدى أمر الله ، فإن الله أنزله على قلب محمد بإذن الله ، أي بأمره قال تعالى (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) «مصدقا» يعني الكتاب الذي هو القرآن (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب المنزلة (وَهُدىً) وبيانا لما فيها (وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) لمن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ولم يفرق في الرسالة بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا ، (٩٩) ثم زعمت اليهود أن من أراد أمرا وأراد الآخر خلافه ، فإن كل واحد منهما عدو للآخر ،

١٦٥

الآية ، وقد شهد الله للملائكة بأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، فقد كذب هؤلاء المفسرون ربهم في قوله في حق الملائكة ، قال تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) من علم السحر الذي مزجوه بما أنزل على الملكين هاروت وماروت من علم الحق (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا) له (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) فإن مقلوب الحمد كفر وهو الذم (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما) أي من العلمين (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) وهو القدر من السحر الذي يعطي التفرقة ، والله قد كره ذلك وقد ذمه ، وندب إلى الألفة

____________________________________

وجبريل صاحب العذاب والشدائد ، وميكائيل صاحب الخصب والخير فيما يزعمون ، فكل واحد منهما عدو للآخر ، فأخبر تعالى أنهم إن صدقوا ، فإنهم عدو للاثنين معا ، ومن كان عدوا لهما فهو عدو لله وملائكته ، فيكون الله عدوا له وللكافرين ، وتنزيل صورة العداوة منهم لجبريل وميكائيل ، أنهم يريدون بالمؤمنين إنزال العذاب عليهم بالجوع ونقص من الثمرات ، فيرون الخصب فيهم والخير لهم ، وذلك بيد ميكائيل فيكونون عدوا له لأنه أنعم على أعدائهم ، ويرون ما نزل بهم من رفع الطور والصاعقة وغير ذلك وهو من جبريل ، فهم أيضا عدو له ، فلذلك قال تعالى «من كان عدوا لله وملائكته وجبريل وميكال» فخصهما بالذكر مع دخولهم في عموم ملائكته (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) الفاء جواب من ، ثم قال (١٠٠) (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ) يعني في القرآن ، تظهر صدقك في أنك نبي (وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) الخارجون عن أمر الله من أهل الكتب ، حيث أمرهم الله في كتبهم أن يؤمنوا بك وبما أنزل إليك فعصوه ، وخرجوا عن أمره ، وهو الفسوق ، والفسوق الآخر في حق الذين خرجوا عما تعطيهم دلالات المعجزات من التصديق بمن جاء بها فلم يؤمنوا ، والفسوق الثالث من المقلدين حيث مكّنهم الله من النظر والبحث بما أعطاهم من العقل والفكر فلم يفعلوا وقلدوا ، فهؤلاء أيضا فسقوا أي خرجوا عما تقتضيه عقولهم من أن يكونوا علماء بما هم فيه مقلدون ، فعمّ الفسوق جميع الفرق ، وهذا من جوامع الكلم ، ثم قال (١٠١) (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) هو قوله (ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) فأخبر تعالى أنه أخذ عليهم مواثيق مرارا ونكثوا عهد الله مرارا ، فقد يكون المعنى (وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) أي إلا الذين فسقوا ونقضوا عهد الله ، وأو بمعنى الواو العاطفة المعنى ، وكلما عاهدوا عهدا مع الله ورسوله نبذه أي رمى به فريق منهم (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) يريد المقلدين لعلمائهم ، فإن العلماء قليلون والمقلدين كثيرون ، فالمقلد ليس بموقن حقا ، وعالمهم ليس كذلك فإنه يعرف الحق ولا يقول به ويكتمه عن المقلد له ، فيتضاعف العذاب على العالم ، فإن عليهم إثم البرسيين وهم الأتباع ، ثم قال (١٠٢) (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) يريد

١٦٦

وانتظام الشمل. ولما علم سبحانه أن الافتراق لا بد منه لكل مجموع مؤلف لحقيقة خفيت عن أكثر الناس شرع الطلاق رحمة بعباده ليكونوا مأجورين في أفعالهم غير مذمومين إرغاما للشياطين ، ومع هذا فقد ورد في الخبر النبوي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ما خلق الله حلالا أبغض إليه من الطلاق ، (وَما هُمْ) أي السحرة (بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فإنه لا تتحرك ذرة إلا بإذنه سبحانه.

____________________________________

محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) أي لما بأيديهم من التوراة (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) يعني اليهود (كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) قد يريد بالكتاب المنبوذ هنا التوراة والقرآن ، وقد يريد أحدهما ، وهو كناية عن ترك العمل به حيث ألقوه خلف ظهورهم (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) شبههم بالمقلدة في فعلهم ، وقد يحتمل أن يكون المعنى ، كأنهم لا يعلمون ، تقريرا لعلمهم بذلك ولكنهم نقضوا عهد الله وفسقوا ، يقول نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم فلم يعملوا به (١٠٣) (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) من السحر والشعوذة (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) على عهد سليمان ، أي في زمن ملكه (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) أي لم يكن علمه سحرا ولا شعوذة ، بل علمه حق من عند الله (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) بما دونوه من علم السحر وخلطوه بما أنزل على الملكين هاروت وماروت من الحق ، والشياطين (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) الأمرين معا ممزوجا (بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) فإذا أتى السائل إلى الملكين ليعلماه ، يقولان له (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) أي إنما نزلنا للتعليم اختبارا ، فإن الشياطين يعلمون الناس السحر ممزوجا بما أنزل علينا (فَلا تَكْفُرْ) أي لا تأخذ من الشياطين فإنك لا تفرق بين الحق من ذلك والباطل ، ثم قال (فَيَتَعَلَّمُونَ) يعني الناس (مِنْهُما) أي من العلمين ، علم السحر والعلم الذي أنزل على الملكين (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ) الرجل (وَزَوْجِهِ) أي امرأته ، وإنما قبله منهم المتعلم لأمرين : الواحد لامتزاجه بالحق الذي أنزل على الملكين ، فإن الشياطين تتصور في صور علمائهم وتقول لهم : هذا هو الذي أنزل على الملكين ، فيصدقونهم ، فيلقون إليهم ما يضرهم ولا ينفعهم من علم السحر ، وأما من اقتصر على الملكين ولم يتعداهما فما علّم إلا حقا منزلا من عند الله ، وما نزل من عند الله لا يكون كفرا وضلالا ، وهو قوله (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) وكل لفظة كفر في هذه القصة قد يكون ضد الإيمان ، وقد يكون بمعنى ستر الحق ، فإن الكفر الستر في اللغة ، وكلا الوجهين في الترجمة عن ذلك صالح ، ثم قال (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ) يناقض قوله (لَوْ كانُوا

١٦٧

(وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٠٤)

تختلف الأحكام باختلاف الألفاظ التي وقع عليها التواطؤ بين المخاطبين ، وإن كان المعنى واحدا فالمصرف ليس بواحد.

____________________________________

يَعْلَمُونَ) بعد هذا فيما يظهر ، فقوله (وَلَقَدْ عَلِمُوا) يعود الضمير على من سأل الملكين فقالا له لا تكفر (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) فإن من كفر لا خلاق له في الآخرة ، فكأنهم قالوا نحن نتعلم منهم ذلك ولا نعمل به ، فإن العلم بالشيء يورث التوقي مما فيه من الضرر لمن جهله ، فلما علموه قامت لهم الأغراض وطلب الرئاسة وتحصيل ما يشتهون بهذا العلم فعملوا به ، فكفروا ، فهو قوله (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ) أي باعوا به (أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أن ذلك يقودهم إلى العمل لما في طيه مما في عمله من تقدمهم على أبناء جنسهم ، والافتقار إليهم في آثار ذلك ونيل أغراضهم ، فهذا هو الذي جهلوه ، والذي علموا هنالك لم يكن هذا الذي جهلوه ، وقد بان المقصود من الآية على غاية الاختصار ونزهنا الملائكة فإن الله قد أثنى عليهم ، وما بلغنا قط عن الله تعالى أنه جرح أحدا من الملائكة ، ثم قال (١٠٤) (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا) قد يعود الضمير في آمنوا على الذين سألوا الملكين وما سمعوا منهم ، ولا اتقوا الله حين قالوا لمن سألهم لا تكفر باتباع الشياطين لأنهم خلطوا الحق بالباطل ، فقال الله فيهم (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا) أي صدقوا الملكين (وَاتَّقَوْا) واتخذوا ما قالاه لهم وقاية (لَمَثُوبَةٌ) لحصلت لهم من ذلك مثوبة من الله وخير (مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) وقد يحتمل أن يعود الضمير على اليهود في الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال (١٠٥) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا) هذا خطاب للمؤمنين ، فإن اليهود كانت تقول هذه الكلمة بلسانها على طريق السب ، فلما سمع اليهود يخاطب بها المؤمنون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرحوا بذلك ، ليقولوها كما يقولها المؤمنون على المعنى الذي تريده اليهود من السب ، وسيأتي شرحها في سورة النساء إن شاء الله ، فنهى المؤمنين عن أن يخاطبوا بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعناها اسمع منا يا رسول الله غرضا لحفظهم ما خاطبهم به ، فقال لهم (وَقُولُوا انْظُرْنا) أي انتظرنا حتى نحفظ ما خاطبتنا به من كلام الله ، يقول الله للمؤمنين (قُولُوا انْظُرْنا)(وَاسْمَعُوا) ما تؤمرون به (وَلِلْكافِرِينَ) يعني الذين يقولون راعنا على غير المعنى الذي قاله المؤمنون (عَذابٌ أَلِيمٌ) موجع من الألم ، وهو الوجع ، ويقال بالسريانية والعبرانية (راعينا) بالياء والنون ، وأما من قرأ

١٦٨

(ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (١٠٥)

(وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) جاء تعالى بلفظة من وهي نكرة فدخل تحتها كل شيء ، لأن كل شيء حي ناطق فيدخل تحت قوله من ، لأن بعض النحاة يعتقدون أن لفظة من لا تقع إلا على من يعقل ، وكل شيء يسبح بحمد الله ولا يسبح إلا من يعقل من يسبحه ، ويثني عليه بما يستحقه ، فمن تقع على كل شيء إذ كل شيء يعقل عن الله سبحانه ، والله تعالى ما عرفنا أنه اختص بنقمته من يشاء كما أخبرنا أنه يختص برحمته من يشاء وبفضله ، فإن أهل النار معذبون بأعمالهم لا غير ، وأهل الجنة ينعمون بأعمالهم وبغير أعمالهم في جنات الاختصاص ، فلأهل السعادة ثلاث جنات : جنة أعمال وجنة اختصاص وجنة ميراث ، فينزل أهل الجنة في الجنة على قدر أعمالهم ، ولهم جنات الميراث وهي التي كانت لأهل النار لو دخلوا الجنة ، ولهم جنات الاختصاص فالحكم لله العلي الكبير ، فإن الاختصاص الإلهي لا يقبل التحجير ولا الموازنة ولا العمل ، وإن ذلك من فضل الله ، يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

____________________________________

«راعنا» بالتنوين في الشاذ ، فهو من الرعن ، وهو الهوج ، أي لا تقولوا قولا راعنا ، ومنه الرعونه ، وقد روى أن سعد بن عبادة من الأنصار لما قالت اليهود لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم راعنا حين سمعوا المؤمنين يخاطبون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، قال : لئن قالها رجل منكم للنبي لأضربن عنقه ، فإنه كان عارفا بما تواطؤوا عليه في كلامهم ، إذ كانوا حلفاء لهم ، وقيل بل كان سعد بن معاذ ، ثم قال (١٠٦) (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) دخل في ذلك المنافق والذي لم ينافق (وَلَا الْمُشْرِكِينَ) عطف على أهل الكتاب ، وحذف من لدلالة الأول عليه (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) حسدا من عندهم حيث لم يكن لهم ذلك الخير (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) في هذا تنبيه على رد من يقول إن النبوة مكتسبة ، فأخبر الله أنها اختصاص ، وكنّى عنها بالرحمة لكونه رحم بها نبيه عليه‌السلام ، ورحم بها من بعث إليه من الأمة ، حتى سلكوا به طريق هداهم ، ثم قال (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي مزيد الخير الذي يعظم وروده وفدره في قلوب العلماء بالله ،

١٦٩

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٠٦)

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) أي علامة على صدق ما ادعاه ، فالآيات منسوخة في الأولياء لأنهم مأمورون بسترها ، محكمة في الأنبياء والرسل (أَوْ نُنْسِها) أي نتركها آية للأولياء كما كانت آية للأنبياء (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) من باب المفاضلة أي بأزيد منها في الدلالة ، وهي آيات الإعجاز فلا تكون إلا لأصحابها ، أو لمن قام فيها بالنيابة على صدق أصحابها ، فلا يكون لولي قط هذه العلامة من حيث صحة مرتبته ، وأما قوله (أَوْ مِثْلِها) الضمير يرجع إلى الآية المنسوخة ، فلم يكن لها صفة الإعجاز ، بل هي مثل الأولى ، ولا يصح حمل هذه الآية على أنها آي القرآن التي نزلت في الأحكام ، فنسخ بآية ما كان ثبت حكمه في آية قبلها ، فإن الله ما قال في آخر هذه الآية «ا لم تعلم (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ولا حكيم ، ومثل هذه الأسماء هي التي تليق بنظم القرآن الوارد بآيات الأحكام ، وإنما قال الله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ

____________________________________

ثم قال (١٠٧) (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (*) سبب نزول هذه الآية فيما قيل ، أن اليهود قالت : ألا تنظرون إلى محمد يأمر بأمر ثم ينهى عنه ويأمر بخلافه؟ فنزلت هذه الآية ، وهذا السبب كأنه لا يصح عندي ، فإن مساق الآية لا يعطيه ، فإنه قال في الآية (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) على جهة المدح ، وإبدال حكم بحكم من طريق التكليف ما فيه ذلك المدح من جهة القدرة ، إذ كان هذا تحت قدرة كل من له أمر مطاع في عشيرته ، بل الإنسان في بيته ، بل في نفسه ، وإنما الذي يقوي أنه سبحانه أراد بالآية هنا آيات الأنبياء صلوات الله عليهم التي نصبها دلالات بحكم الإعجاز على صدقهم ، وقد تقدم تكرارها كثيرا فقال تعالى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) أي من دلالة على صدق نبي ، ونسخها ذهابها ورفعها ، إذا كانت فعلا ، فإنه ينقضي ، ولهذا أتى بها نكرة (أَوْ نُنْسِها) يقول : أو نتركها ، مثل القرآن الذي هو آية مستمرة إلى يوم القيامة فلا يعارض ، وكذلك من قرأ «أو ننساها» أو نؤخرها ، وهو ما بقي من الدلالات والآيات ولم يذهب مثل القرآن وغيره ، والذي رفع كعصا موسى وإحياء الموتى ، وقوله (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) يقول : أقوى منها في الدلالة ، لأن الآيات قد تظهر للعام والخاص ، فتكون أقوى من الآيات التي لا يظهر كونها آية إلا للعلماء ، وقوله (أَوْ

__________________

(*) تفسير هذه الآية بهذا المعنى الوارد هنا ، نسب إلى الشيخ محمد عبده كما جاء في تفسير المنار ، والثابت كما هو واضح أن الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي هو السابق لهذا المعنى الذي لم يرد في تفسير آخر من كتب المفسرين.

١٧٠

عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فأراد الآيات التي ظهرت على أيدي الأنبياء عليهم‌السلام لصدق دعواهم في أنهم رسل الله ، فمنها ما تركها آية إلى يوم القيامة كالقرآن ، ومنها ما رفعها ولم تظهر إلى يوم القيامة ، واعلم أن آيات الأنبياء تختلف باختلاف الأعصار لاختلاف الزمان واختلاف الأحوال ، فيعطي هذا الحال والزمان ما لا يعطيه الزمان والحال الذي كان قبله ، والذي يكون بعده ، فآية كل خليفة ورسول من نسب الغالب على ذلك الزمان وأحوال علمائه ، أي شيء كان ، من طب أو سحر أو فصاحة وما شاكل هذا ، والرسل أوجب الله عليهم إظهار الآيات لكونهم مأمورين بالدعاء إلى الله ابتداء ، وهو ينشىء التشريع وينسخ بعض شرع مقرر على يد غيره من الرسل ، فلا بد من إظهار آية وعلامة تكون دليلا على صدقه أنه يخبر عن الله إزالة ما قرره الله حكما على لسان رسول آخر ، إعلاما بانتهاء مدة الحكم في تلك المسألة.

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (١٠٧)

الأولياء هم الذين تولاهم الله بنصرته على الأعداء الأربعة : الهوى والنفس والدنيا والشيطان.

____________________________________

مِثْلِها) أي بآية مثلها في القوة في الدلالة من الظهور وغيره ، فتكون هذه الأخرى مقوية للأولى ، فإن الأدلة إذا توالت وإن خفيت يقوي بعضها بعضا ، فما من رسول أتى بآية إلا وقوى بها آية الرسول الأول ، والآيات التي هي دلالات على صدق الرسل هي التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى على وجهين من الإعجاز : الوجه الأول ، أن يأتي بآية يعجز البشر عن الإتيان بها أو مثلها ، والوجه الآخر ، الصرف وهو أن تكون تلك الآية في مقدور البشر ويتحدى الآتي بها أنه لا يقدر أحد أن يأتي بها فيصرفوا عنها ، وعلى كلتا الحالتين يثبت كونها آية ويعلم أن الله على كل شيء قدير ، فيأتي ختم الآية بالمدح بالقدرة في موضعه ، ولا يكون هذا على ما ذهب إليه من تقدمنا من المترجمين ، وما رأيت من تنبه لهذا مع وضوحه وبيانه ، إلا أن يكون ولم يصل إلينا علمه ، فهذا لا يمنع ، فإني ما أحطت بأقوال الناس في ذلك ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ، والحمد لله على نعمه التي لا تحصى ، وأما ترجمتي على مسئلة هاروت وماروت فعلمتها في النوم في رؤيا رأيتها ، فوقفت عندها ، وجاءت الترجمة عن الكلام مطابقة له ، ثم قال تعالى مؤيدا لما ذهبنا إليه في هذا (١٠٨) (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) والآيات ليست بخارجة عنهما

١٧١

(أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٠٩)

(حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) للواسطة فإن الحسد في الجنس ، فإن الله تعالى لم يزل ربا ، ولم نزل عبيدا في حال عدمنا ووجودنا ، فكل ما أمر سمعنا وأطعنا ، في حال عدمنا ووجودنا ، إذا لم يخاطبنا بفهوانية الأمثال والأشكال ، فإذا خاطبنا بفهوانية الأمثال والأشكال وألسنة الإرسال ، فمن كان مشهوده ما وراء الحجاب وهو المثل والرسول سمع فأطاع من حينه ، ومن كان مشهوده المثل سمع ضرورة ولم يطع للحسد الذي خلق عليه من تقدم أمثاله عليه ، فظهر المطيع والعاصي ، أي عصيّ على مثله لكونه ما نفذ فيه أمره بالطاعة ، ما عصيّ على الله ، فإنه لا يتمكن أن يخالف أمره على الكشف ، فانحجب بالأرسال انحجابه بالأسباب.

____________________________________

فهي في ملكه وتحت قدرته ، وهو الذي عجزكم عن الإتيان بأمثالها ، (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ) ممن يتولاكم بالمعونة على الإتيان بمثلها ، كما توليت أنا أنبيائي ورسلي بها (وَلا نَصِيرٍ) ولا من ينصركم بحجة على دفع ما جاءت به رسلي من الآيات كما نصرت أنا رسلي بها حجة عليكم ، قال تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) وقال تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) ومما يؤيد ما ذهبنا إليه قوله أيضا متصلا بهذا (١٠٩) (أَمْ تُرِيدُونَ) يعني اليهود (أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأضافه إليهم لأنه ممن بعث إليهم وإلى جميع الخلق (كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) كما سأل أسلافكم موسى من قبل ، فقالوا (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) وغير ذلك مما قد ذكرناه فيما تقدم مما سألوه ، فهذا يدلك أنه أراد نسخ الآيات المعجزات لا آيات الأحكام ، إذ ليس للحكم هنا مدخل ولا يدل عليه وصف ، فصح ما ذكرناه ، ثم قال : (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ

١٧٢

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١١٠)

تضاف الصلاة إلى البشر بمعنى الرحمة والدعاء والأفعال المعلومة شرعا ، فجمع البشر هذه المراتب الثلاث المسماة صلاة.

____________________________________

بِالْإِيمانِ) وهو قوله : (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) وقد شرحناه قبل (فَقَدْ ضَلَّ) يقول : فقد حاد عن (سَواءَ السَّبِيلِ) أي عدل والتفت عن الطريق المستقيم الموصل إلى السعادة ، وهو قوله فيما ندعوه به (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (١١٠) (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً) يقول : يتمنى اليهود أن تصغوا إليهم فيما يلقونه إليكم من الكفر في معرض النصيحة «ليردوكم» أي ليرجعوكم (مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (كُفَّاراً) به مثلهم (حَسَداً) أي يفعلوا ذلك حسدا لعلمهم بأنكم على الحق وأنكم تسعدون بذلك ، وقوله : (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) يقول : إن الذي جاؤوا به لم يكن من كتابهم ، فما قالوه إلا من عندهم ، لأنه قال : (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) الذي أنتم عليه ، وقوله : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) دليل على تقدم ذنب ظهر للمؤمنين منهم ، إذ التمني من عمل القلب فيكون الذنب الذي أمر المؤمنون بأن لا يؤاخذوهم عليه ، هو ما روي أنهم اجتمعوا بطائفة من الصحابة بعد وقعة أحد وقالوا لهم : [لو كنتم على الحق ما نصر عليكم عدوكم من المشركين ، فارجعوا إلى ما نحن عليه واتركوا ما جاءكم بهم محمد] صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأبت الصحابة ، وقالوا : [رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا] وأرادوا مجازاتهم ، فأنزل الله (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) يحتمل وجهين : الواحد ، يوم القيامة قال تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) والوجه الآخر ، ما أمروا به بعد ذلك من قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي أنه القدير على مجازاتهم على ذلك ، ولكن أمهلهم إلى وقت يحكم الله فيهم لئلا تشترك الصحابة في مجازاتهم من غير أمر الله ، بل من عند أنفسهم ، كما فعلوا هم بما قالوه من عند أنفسهم لا من كتابهم ، فنزه الله أولياءه المؤمنين عن أن يشاركوهم في هذا القدر ، وليقتدوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) ثم أتبع ذلك بقوله لهم : (١١١) (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) يقول لهم : واشتغلوا بما كلفتموه من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وقد تقدم شرحهما ، ثم أخبرهم فقال : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) أي ما تقدمونه بين أيديكم لآخرتكم من أجل نفوسكم أن يعود عليها من خير مما شرعناه

١٧٣

(وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١١١)

فأكذبهم في التحجير بما ذكره الله تعالى في أول سورة البقرة في قوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) البراهين لا تخطئ في نفس الأمر ، وإن أخطأ المبرهن عليه ، فذلك راجع إليه ، وأما البرهان ، فقوي السلطان.

____________________________________

لكم من الأعمال المقربة إلينا (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) كما ورد في الصحيح [إن الصدقة تقع بيد الرحمن فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله] وقوله : [إن فلانا استطعمك ـ الحديث] وفيه [فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي] وقوله : (فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) إذا كان بالياء المنقوطة من أسفل فهو وعيد لهم ، أي اشتغلوا بما كلفتم عنهم وعن عقوبتهم ، فإن الله بما يعملون بصير ، والعامل في الباء بصير ، وبصير هنا عالم بأعمالهم ، أي بقصدهم فيها ، هل يسعدهم ذلك أو يشقيهم ، إذ ليس للرؤية بمعنى البصر فائدة ، ومن قرأ بالتاء فهو للمؤمنين خطاب من الله على ذلك الحد من علمه بالقصد في العمل ، ثم أخبر عنهم فقال : (١١٢) (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) جمع بالضمير بين القولين لاتحاد المقول ، وهو دخول الجنة ، إذ كل واحد من الطائفتين يضلل الأخرى كما سيأتي في قولهم : (لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) عن اليهود ، ومثل ذلك من النصارى ، فكأنه قال : وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ، جمع هايد ، كعوذ جمع عائذ ، وحول جمع حائل ، ويقال للمذكر والمؤنث بلفظ واحد ، وقد يكون هودا مصدر يؤدي عن الجمع ، كما يقال رجل صوم ، وزور ، وفطر ، للواحد والاثنين والجمع ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا ، فقال تعالى : (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) أي لم يكن الإخبار عما يجدونه في كتبهم ، وإنما هو شيء يتمنونه ، يعلم الله ذلك منهم ، فتلك إشارة إلى القولة إنها من أمانيهم المتقدمة ، كقوله : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) و (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) و (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ) فتلك الأماني ، وأما احتجاجنا على التمني بقوله : (ما يَوَدُّ) وهو نفي التمني فلما يتضمنه من تمني النقيض ، ثم قال الله لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ) يا محمد لهم (هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فإن الذي جاؤوا به هو خبر محتاج إلى دليل على صدقه ، وليس لهم حجة ، لأنه خبر عن تمنيهم ، وليس في اللفظ ما يدل على التمني ، وإنما عرفنا ذلك من كون الله

١٧٤

(بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١١٢)

اعلم أن الإحسان أعلى درجة في الإيمان ، وأعلى الإحسان المشاهدة ، وأدناه المراقبة ، والمحسن قد تحقق الصدق في دعوى قوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) والصدق في هذه الدعوى إنما يكون بالإخلاص لله سبحانه وحده ، فقوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) خطاب لموجود يشاهد مع العبادة ، ويراقب مع الاستعانة ، لأننا مع المشاهدة نرى أفعال الله تعالى فينا وفي غيرنا ، ومع المراقبة نعلم أنه الذي أسمعنا ما نسمعه في أنفسنا ومن غيرنا ، وهو الذي أوجد حركاتنا وحركات غيرنا وسكناتهم ، فالمشاهدة على هذا رؤية تقع موقع العيان ، والمراقبة رؤية قلب ، ولا تتحقق العبادة والاستعانة إلا ممن يعرف المشاهدة والمراقبة ، فمن أسلم وآمن وأحسن فقد عرف معالم الدين الذي نزل به جبريل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليعلم الأمة معالم دينهم ، ولا يظفر بهذه الصفة إلا من أسلم وجهه لله وهو محسن.

____________________________________

تعالى أخبر أن ذلك من أمانيهم ، فشرحنا لكلام الله ، فهو شرح الشرح ، لعلمنا بأن الله صادق فيما يخبر به ، ولا حجة لهم ولا برهان على صدق ما أخبروا به ، ثم أكذبهم الله فقال : (١١٣) (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) قوله : (بَلى) إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة ، ولم يقل سبحانه إن اليهود والنصارى لا يدخلون الجنة ، فإن اليهود والنصارى الذين آمنوا بنبيهم وأسلموا لله وأحسنوا وماتوا قبل بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنهم يدخلون الجنة ، فلهذا أضرب عن تعيين طائفة بعينها منا أو منهم ، وأتى بمن لفظة عامة ، تعم كل من عينه الوصف الذي وصفت به من إسلام الوجه لله والإحسان ، فكأنه يقول ليهود المدينة القائلين هذا والنصارى : إنما يدخل الجنة من كان بهذه الصفة ، وهم أعلم بنفوسهم ، هل هم بهذه الصفة أم لا ، وقوله : (فَلَهُ) الفاء جواب من ، والضمير يعود عليه ، «وأسلم» بمعنى انقاد و «وجهه» عينه وذاته «لله» من أجل الله ، أي لأمر الله حيث أمره (وَهُوَ مُحْسِنٌ) يعني في انقياده ، وهو أن يعبد الله كأنه يراه ، وقد يخرج محسن على إتيان مكارم الأخلاق (فَلَهُ أَجْرُهُ) على عمله ذلك الذي فرض له ، سواء طلبه أو لم يطلبه (عِنْدَ رَبِّهِ) (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) قد تقدم شرحه في أول السورة (١١٤) (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) الآية ، يتوجه في هذه المقالة ثلاثة أوجه ،

١٧٥

(وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١١٤)

الدنيا هي الدار القريبة إلينا ، نشأنا فيها وما رأينا سواها ، فهي المشهودة وهي الحفيظة علينا والرحيمة بنا ، فيها عملنا الأعمال المقربة إلى الله ، وفيها ظهرت شرائع الله ، وهي الدار الجامعة لجميع الأسماء الإلهية فظهرت فيها آلاء الجنان وآلام النار ، ففيها العافية والمرض ،

____________________________________

الوجه الواحد ، مباهتة بعضهم لبعض مع معرفة كل فريق منهم أن الفريق الآخر على حق ، إذ كان كل فريق أهل كتاب ، وأن في التوراة نبوة عيسى ، وفي الإنجيل نبوة موسى ، والوجه الثاني ، أن يقول كل فريق ليس الآخر على شيء من دينه ، أي أنه لا يعمل بدينه ولا بما أنزل عليه ، فإن النصارى لو آمنت بالإنجيل لصدقتنا ، فإن الإنجيل يصدقنا ، وتقول النصارى لو آمنت اليهود بالتوراة لعرفت أنا على الحق ، فإن التوراة تصدقنا ، والوجه الثالث ، أن يكونوا صادقين فيما قالوه ، فإنه ببعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ارتفعت كل شريعة قبله ، فقالت اليهود وصدقت ليست النصارى على شيء فإن بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن نسخ شرعهم ، فإن الإنجيل يدلهم على ذلك ، (وَقالَتِ النَّصارى) وصدقت (لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) لأن بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن نسخ دينهم وهو في التوراة عندهم ، وهو أصدق الوجوه فيما يرجع إلى علمهم بما في كتابهم ، فهو اعتقادهم وإن لم يتلفظوا به ، ولهذا قال الله تعالى : (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) يعني التوراة والإنجيل ، فيعلمون الحق بيد من هو ، وهو بيد محمد عليه‌السلام ، فوبخهم الله تعالى أشد التوبيخ حيث شبههم بمشركي العرب الذين ليسوا أهل كتاب وأنكروا نبوة محمد عليه‌السلام ، ثم قال : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) وهم المقلدة (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) يعني قول علمائهم ، ثم قال : (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) الضمير يعود على المتنازعين من جهة المعنى المقصود كانوا من كانوا ، ولهذا لم يثن على إرادة الطائفتين قال تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) ، وهو قوله : (يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١١٥) (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) الآية ، وإن نزلت

١٧٦

وفيها السرور والحزن ، وفيها السر والعلن ، وما في الآخرة أمر إلا وفيها منه مثل ، وهي الأمينة الطائعة لله ، أودعها الله أمانات لعباده لتؤديها إليهم وهي ترقب أحوال أبنائها ما يفعلون بتلك الأمانات التي أدتها إليهم ، هل يعاملونها بما تستحق كل أمانة لما وضعت له ، فمنها أمانة توافق غرض نفوس الأبناء ، فترقبهم هل يشكرون الله على ما أولاهم من ذلك على يديها ، ومنها أمانات لا توافق أغراضهم ، فترقب أحوالهم هل يقبلونها بالرضى والتسليم لكونها هدية من الله ، فيقولون في الأولى : الحمد لله المنعم المفضل ، ويقولون فيما لا يوافق الغرض : الحمد لله على كل حال ، فيكونون من الحامدين في السراء والضراء ، فتعطيهم الدنيا هذه الأمانات نقية طاهرة من الشوب ، فبعض أمزجة الأبناء الذين هم كالبقعة للماء والأوعية لما يجعل فيها ، فيؤثر مزاج تلك البقعة في الماء والماء كله طيب عذب في أصله ، قال قتادة : ما أنصف الدنيا أحد ، ذمت بإساءة المسيء فيها ، ولم تحمد بإحسان المحسن فيها ، فلو كانت بذاتها تعطي القبح والسوء ما تمكن أن يكون فيها نبي مرسل ولا عبد صالح ، كيف والله قد وصفها بالطاعة فقال : إن علوها وسفلها قالا : أتينا طائعين ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا قال أحدكم : لعن الله الدنيا قالت الدنيا : لعن الله أعصانا لربه ، فهذا ابن

____________________________________

هذه الآية في سبب خاص ولكن الحكم عام ، فقال : (وَمَنْ) فأتى بصيغة النكرة ، يقول : ومن أشد ظلما من شخص منع من أراد (أَنْ) يذكر الله في المساجد ، وهي البيوت التي جعلها معبدا تؤدى فيها فرائضه و (يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) وأمر برفعها عما يجوز من العمل في البيوت ، فقال : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ) أي يصلي (له) لله (فِيهَا) في المساجد ، فهل ترفع عن دخول الكفار فيها؟ هي مسألة خلاف فيما يحرم من ذلك ، وأما تنزيهها عن ذلك على جهة الندب فلا خلاف فيه ، فمن خرج (أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) ، أي أمر وحمله على الوجوب ، منع من دخول الكفار جميع المساجد ، المشركين وغيرهم ، وأما المسجد الحرام الذي بمكة فقد ورد النص بأن لا يقربه مشرك وأنه نجس ، فمن علل المنع بالنجاسة وجعل النجاسة لكفره وعلل المسجد لكونه مسجدا منع الكفار كيفما كانوا من جميع المساجد ، ومن رأى أن ذلك خاص بالمسجد الحرام ولهذا خص بالذكر وأن ما عدا المشرك وإن كان كافرا لا يتنزل منزلته ، منع دخول المشرك المسجد الحرام وكل مسجد ، لقوله تعالى : (فِي بُيُوتٍ) وجوز الدخول فيه لمن ليس بمشرك ، ومن أخذ بالظاهر ولم يعلل منع المشرك خاصة من المسجد الحرام خاصة ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حبس في المسجد في المدينة ثمامة بن أثال حين أسر وهو مشرك ، وهو الأوجه ، ومنع (١) غير المشرك من

__________________

(١) هكذا في الأصل والصواب ولم يمنع.

١٧٧

عاق لها ، كيف لعنها وصرح باسمها ، والدنيا من حنوها على أبنائها لم تقدر أن تلعن ولدها ، فقالت : لعن الله أعصانا لربه ، وما قدرت أن تسميه باسمه ، فهذا من حنو الأم وشفقتها على ولدها ، فيا عجبا فينا لم نقف عند ما أمرنا الله به من طاعته ، ولا وفقنا ولا وفينا ما رأيناه من أخلاق هذه الأم وحنوها علينا ومحبتها ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعمت الدنيا مطية ، عليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشر ، فوصفها بأن حذرها على أبنائها تذكرهم بالشرور وتهرب بهم منها ، وتزين لهم الخير وتشوقهم إليه ، فهي تسافر بهم وتحملهم من موطن الشر إلى موطن الخير وذلك لشدة مراقبتها إلى ما أنزل الله فيها من الأوامر الإلهية المسماة شرائع ، فتحب أن يقوم بها أبناؤها ليسعدوا. فهذا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد وصفها بأحسن الصفات وجعلها محلا للخيرات ، والناس نسبوا ما كانوا عليه من أحوال الشرور التي عيّنها الشارع إلى الدنيا ، وهي أحوالهم ما هي أحوال الدنيا ، لأن الشر هو فعل المكلف ما هو الدنيا ، ونسبوا ما كانوا عليه من أحوال الخير ومرضات الله التي عينها الشارع للآخرة ، وهي أحوالهم ما هي أحوال الآخرة ، لأن الخير هو فعل المكلف ما هو الآخرة ، فللدنيا أجر المصيبة في أولادها من أولادها ، فمن عرف الدنيا بهذه المثابة فقد عرفها ، ومن لم يعرفها بهذه المثابة وجهلها مع كونه فيها مشاهدا لأحوالها شرعا وعقلا فهو بالآخرة أجهل ، فراقبوا الله هنا عباد الله ، مراقبة الدنيا أبناءها ، فهي الأم الرقوب ، وكونوا على أخلاق أمكم تسعدوا.

____________________________________

المسجد الحرام ومن المساجد ومنع المشرك من سائر المساجد أولى ، لقوله تعالى : (أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) إلا أن يقترن بذلك أمر أو حالة فلا بأس ، فوصف الله بالظلم الشديد من منع المسجد ممن أراد أن يذكر الله فيه بصلاة وغيرها ، ولم يخص أهل دين من أهل دين إذا كان قصد الداخل إليها ذكر الله فيها ، فهذا قوله : (أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ، وقوله : (وَسَعى فِي خَرابِها) وجهان : الوجه الواحد هدمها وإزالة رسمها ، حتى لا يبقى لها حد يعرف من غيرها من المواضع ، وقد لعن الله من غير منار الأرض لما يؤدي ذلك إليه من إبطال الوقوف وأكل الأموال بالباطل ، فإن خرب سلطان أو أحد مسجدا لما في بقائه من الضرر لمنازلة عدو ومحاصرة بلد ، أو لمنفعة لاتساع خندق أو موضع قتال ، ففيه نظر ، وهل يبني المخرب له عوضا منه في موضع آخر ويرد الوقف الذي كان له إلى ما بناه بدلا منه؟ أو لمن يرجع الوقف هل لصاحبه أو لبيت المال أو لما يبنى بدله؟ والوجه الآخر منع الذكر فيها سعي في خرابها ، إذ كان بناؤها لإقامة ذكر الله ، وأما

١٧٨

(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) (١١٥)

(فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) هذه حقيقة منزهة بلا خلاف ، فإن الله جل جلاله عن التقييد ، فهو قبلة القلوب ، فوجه الله موجود في كل جهة يتولى أحد إليها ، ولا بد لكل مخلوق من التولي إلى أمر ما ، ووجه الشيء ذاته وحقيقته ، فكما نسب الحق الفوقية لنفسه من سماء وعرش ، نسب لنفسه الإحاطة بالجهات كلها بقوله : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) لحكم المراتب ، فإن الله تعالى جعل وجهه في كل جهة ليعصم من شاء ويحفظ من شاء ، فإن الحق مع بعض عباده بالولاية والعناية وبالكلاءة والرعاية ، فله تعالى عين في كل أين ، ومع هذا لو تولى الإنسان في صلاته إلى غير الكعبة مع علمه بجهة الكعبة لم تقبل صلاته ، لأنه ما شرع له إلا استقبال هذا البيت الخاص ، بهذه العبادة الخاصة ، فإذا تولى في غير هذه العبادة التي لا تصح إلا بتعيين هذه الجهة الخاصة ، فإن الله يقبل ذلك التولي مثل الصلاة على الراحلة ، فالمستقبل لا يتقيد فهو بحسب ما تمشي به الراحلة ، كما أنه لو اعتقد أن كل جهة يتولى إليها ما فيها وجه الله لكان كافرا وجاهلا ، ولو لا أن الإجماع سبق في أن التوجه إلى القبلة أعني الكعبة شرط من شروط صحة الصلاة ، لما كان ذلك شرطا في صحتها ، فإن قوله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) نزلت بعد الأمر بالتوجه إلى الكعبة ، وهي

____________________________________

قوله : (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ) يعني الكفار المذكورين (أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) أي هذا كان الأولى ، وفيه إباحة الدخول للكفار في المساجد على هذه الحالة من ظهور الإسلام عليهم ، ثم قال : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) ومن فعل هذا فله في الدنيا خزي أي ثناء سوء ، فإنه مؤلم لهم ما يذكرون به من القبيح ، فإنهم يقرؤون في كتبهم أنه مذموم من فعل ذلك ، فيتألمون به وإن فعلوه ، وأما غير أهل الكتاب فخزيهم ما يرون من تعظيم المسلمين لمساجدهم وطردهم عنها ، فيجدون لذلك حزنا ولا سيما إذا دخلوا دار الإسلام (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) مضاعف للمنع والتخريب ، فيمنعوا أن تنالهم رحمة الله وتخرب أجسادهم في النار بإنضاج الجلود وغير ذلك ، وأما سبب النزول فإنها نزلت في أنطاخوس بن برسيس الرومي ومن معه من نصارى الروم ، حين منعوا بيت المقدس أن يصلى فيه ، وظهروا على اليهود فقتلوهم وخربوا بيت المقدس ، وقوله : (١١٦) (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) هذه الآية محكمة

١٧٩

آية محكمة غير منسوخة ، ولكن انعقد الإجماع على هذا وعلى قوله تعالى (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) محكما في الحائر الذي جهل القبلة ، فيصلي حيث يغلب على ظنه باجتهاد بلا خلاف ، ولا خلاف أن الإنسان إذا عاين البيت أن الفرض عليه هو استقبال عينه ، وأما إذا لم ير البيت فعندنا أن استقبال الجهة هو الفرض لا العين ، فإن في ذلك حرجا ، ومعلوم أن الصف الطويل قد صحت صلاتهم مع القطع بأن الكل منهم ما استقبلوا العين ، وإصابة الجهة في غير الغيم المتراكم ليلا أو نهارا في البراري لا يقع إلا بحكم الاتفاق ، فأحرى إصابة العين ، فلا إعادة على من صلى ولم يصب الجهة إذا تبين له ذلك بعد ما صلى ، واعلم أنه قد جاء ذكر وجه الحق في آيات كثيرة ، فإذا أردت أن تعلم حقيقته ومظهره من الصورة التي يتجلى فيها الحق ، فاعلم أن حقيقته من غمام الشريعة ، بإرث نور التوحيد ، ومظهره من العمل وجه الإخلاص (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) الآية ويدل على أن وجهه تعالى الإخلاص مظهر قوله تعالى : (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) وقوله تعالى : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) وقوله تعالى : (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) والمراد في ذلك كله الثناء بالإخلاص على أهله تعبيرا بإرادة الوجه عن إخلاص النية ، وتنبيها على أن مظهر وجهه سبحانه يدل على أن حقيقة الوجه هو بارق نور التوحيد لقوله تعالى : (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) أي إلا نور توحيده ، وهو نور السموات والأرض بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة» وبهذا يفهم سر قوله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) ولوجه ربنا سبحانه رداء ، وله حجب وله سبحات ، فأما رداؤه سبحانه فقد نبه عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» فالرداء هنا والله أعلم هو ما يحجب القلب عن رؤية الرب

____________________________________

فيمن جهل القبلة ، فاجتهد وصلى على أنه مواجهة القبلة ثم تبين له بعد ذلك أنه لم يستقبلها ، أن صلاته صحيحة ولا إعادة عليه ، وفي المصلي على الراحلة ، وفي السفينة حيث توجهت به راحلته ، وما من جهة إلا وقد كانت قبلة في أمة من الأمم ، وفي هذه الآية دليل على أن الله لا يختص بجهة ، وأن نسبة الجهات إليه نسبة واحدة ، ولهذا جاء بالاسم الواسع والعليم ، لاتساعه في حكم جميع

١٨٠