رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

سبحانه ، وهو أن يكون في قلبك كبرياء لغيره ، فأهل الجنة ليس لهم مانع من نعيم الرؤية ، وشهود نور التوحيد إلا رداء الكبرياء ، فمن كبر في قلبه غير الله تعالى من غرف أو تحف أو حور أو مأكول أو مشروب أو شيء سواه حجب عن الله تعالى. ومن عرف الله صغر عنده كل شيء فارتفع عن بصره رداء الكبرياء لكل شيء فشهد الله في كل شيء ، وبهذا يظهر لك سر افتتاح الصلاة بالتكبير ، لأن الصلاة حضرة التجلي والمناجاة والمراقبة لأنوار سبحات وجهه سبحانه ، وأما حجبه فقد ثبت في الصحيح «حجابه النور» وفي رواية «حجابه النار» وليس بين الروايتين تناف ، ولك في تأويله سبيلان : أحدهما أن وجهه سبحانه هو الباقي ذو الجلال والإكرام ، فله تجل بجلاله في حجاب النار ، كما تجلى سبحانه لموسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين آنس من جانب الطور نارا ، وله تجل بإكرامه في حجاب النور ، كما تجلى تعالى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الإسراء في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت نورا» وهذان الحجابان لأهل الخصوص ، والتأويل الثاني ، وهو لأرباب العموم ، يؤخذ مما قررناه أنه لا فاعل في الكون غيره ، ولا هادي ولا مضل سواه ، يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، فوجه توحيده هو الذي ينعم ويهدي بإقباله ، ويعذب ويضل بإعراضه ، وله في هدايته النور وهويته المتجلية للقلوب بواسطة شرائع رسله قال تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) وحجابه في إضلاله النار وهو الاكتساب المغشي للقلوب من وساوس الشيطان المخلوق من النار (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) قد بيّن بذلك أن وجه توحيده ، هو الهادي بإقباله ، في حجاب نور الاتباع للرسل (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) وأنه هو المضل بإعراضه في حجاب الاتباع لوسواس الشيطان ، فإنه لا تنافي بين قوله حجابه النور وبين قوله حجابه النار ، وبذلك يفهم سر قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم اجعل في قلبي نورا وفي سمعي نورا وفي بصري نورا إلى قوله واجعلني نورا» أي اجعلني من جميع الوجوه نورا دالا ، وحجابا يتنعم برؤيتي من أراد التنعم بحسن النظر إليك ، وقد جاء في

____________________________________

النسب إليه ، عليم بكم أينما توليتم أن قصدكم التوجه إليه سبحانه على طريق القربة ، وفي قوله : (الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) وأين ما تولوا ، تنبيه أن كل من سجد إلى جهة معينة ليس مقصده الجهة

١٨١

الصحيح «إن لله سبعين حجابا من نور» وذلك لا تنافي بينه وبين قوله : «حجابه النور» لأنه جنس يصلح لشمول الأفراد وإن تعددت ، والحق أن حجب أنواره تعالى لا حصر لها ، لأنه ما من شيء إلا وهو حجاب من وجه ربنا ، وآية من آيات وحدانيته «وفي كل شيء له آية ، تدل على أنه واحد» وبذلك يعرف أن عدد السبعين ليس للحصر ، قال الأزهري وغيره من علماء اللغة : العرب تضع السبع موضع التضعيف وإن جاوز السبع ، وأصل اعتبار هذا العدد في تضعيف حجبه أن لله تعالى صفات ذاتية وهي العلم والحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام ، فهذه سبع صفات ذاتية يتجلى سبحانه في حجب أنوارها بوجه توحيده فكانت هي مبدأ التضعيف في حجب أنواره تعالى ، ثم إن آيات صفاته تعالى في تجلياتها تتضاعف برتبة العشرة ، ورتبة المئة ، ورتبة الألف ، وأما سبحات وجهه سبحانه فقد ثبت في الصحيح «لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» وقد أولها العلماء رضي الله عنهم بجلاله تعالى وهو تأويل صحيح ، لكن وجه ربنا ذي الجلال والإكرام له بجلاله سبحات ، وله بإكرامه سبحات ، وإذا أردت أن تجري في التأويل على وفق الاستعمال اللغوي والقواعد التي مهدناها ، فاعلم أن السبحات جمع سبحة ، والسبحة في اللغة : ما يتطوع به من ذكر وصلاة وتسبيح ونحوها مما لا يحصر أفراده ، وقد ثبت أن أنوار الطاعات حجب وجهه سبحانه ، ونور الذكر شامل لجميعها ومهيمن على سائر سبحات الإكرام والجلال ، وقد قال تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) فذكر الله تعالى لنفسه ولعبده سبحة وجهه شاملة لأنواع سبحاته ، وذكر العبد له نور حجابه ، فما دام العبد يشهد ذكره لربه ، فوجه ربه متجل عليه في حجابه بسبحة ذكره ، كما ثبت في الصحيح «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني» ولا يزال العبد يذكر الله ، وذكره له يبعده عن شهود نفسه ونسبتها ، ويقربه من شهود توحيد ربه ، حتى ينكشف حجاب ذكره لله ، وتتجلى له سبحة ذكر الله له ، هناك تحرق سبحته نسبة الأفعال والأذكار للعبد ، وتظهر نسبتها للرب ، كما ثبت في الصحيح : «ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي

____________________________________

من حيث عينها ، وإنما قصده وجه الله بتلك العبادة ، والإنسان لا ينفك عن الجهات لنفسه ، فلا بد أن يكون مستقبلا جهة من الجهات ، فدخل في «أين ما تولوا» ما عدا المشرق والمغرب من

١٨٢

يمشي بها» ، وأما قوله : «لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» فاعلم أن بصره سبحانه لا يتناهى مبصوراته ، ولا يحجبه عن خلقه حجاب ، وإنما ينكشف لك معنى الحديث لمراجعة ما قررته لك ، وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» فنبه بالشرط على أن العبد لا يشهد رؤية الله له حتى يغيب عن صفته ورؤيته ومراقبته لربه ، فكل عبادة تصحبها المراقبة فهي نور من حجب وجهه ينظر العبد منه إلى ربه تعالى ، وينظر الله منه إلى عبده ، فإذا كشف للعبد فيها حجاب المراقبة شهد رؤية الله سبحانه له ، فانتهاء بصره عبارة عن انتهائه بحسب كشف العبد وشهوده ، لا بحسب نفسه ، فإنه لا انتهاء له ، أو خلقه هو صفة العبد ، ورؤيته وإحراقه هو محوه بثبوت صفة الرب للعبد ، وصفة الرب ورؤيته هي سبحة (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) ـ رقيقة ـ أوتر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الراحلة حيث توجهت ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كله وجه بلا قفا ، فإنه قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إني أراكم من خلف ظهري ، فأثبت الرؤية لحاله ومقامه فثبتت الوجهية له ، وذكر الخلف والظهر لبشريته ، فإنهم ما يرون رؤيته ، ويرون خلفه وظهره ، ومن كانت هذه حاله فحيث كانت القبلة فهو مواجهها ، فما أوتر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قط على راحلته حيث توجهت إلا والقبلة في وجهه (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) فمن كان وجها كله يستقبل ربه بذاته ، ووجه الله للمصلي إنما هو في قبلته ودل على أن من حاله هذا الوصف ويرى القبلة بعين منه تكون في الجهة التي تليها فهو مصل للقبلة ، والله جل جلاله عن التقييد فهو قبلة القلوب (إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) قال تعالى : (رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) وهو الواسع لكل شيء ولهذا الاتساع هو لا يكرر شيئا في الوجود ، فإن الممكنات لا نهاية لها ، فأمثال توجد دنيا وآخرة على الدوام وأحوال تظهر ، وقد وسع كرسيه وهو علمه السموات والأرض ، ووسعت رحمته علمه والسموات والأرض وما ثم إلا سماء وأرض فإنه ما ثم إلا أعلى وأسفل ، فلا تكرار في الوجود ، وإن خفي في الشهود ، فذلك لوجود الأمثال ، ولا يعرفه إلا الرجال ، لو تكرر لضاق النطاق ولم يصح الاسم الواسع بالاتفاق ، وبطل كون الممكنات لا تتناهى ، ولم يثبت ما كان به يتباهى ، فإن الله واسع على الإطلاق (عَلِيمٌ) بما أوجد عليه خلقه.

____________________________________

الجهات ، ونبه أيضا بالمشرق على العلانية لأنه محل الظهور ، وبالمغرب على السر لأنه محل الغيب ،

١٨٣

(وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١١٧)

(بَدِيعُ) لأنه ما خلقهما على مثال متقدم ، وكل خلق على غير مثال فهو مبدع بفتح الدال ، وخالقه مبدعه بكسر الدال «والسماوات والأرض» يعني بذلك ما علا وما سفل ، فهو بديع كل شيء. وليس الإبداع سوى الوجه الخاص الذي له في كل شيء ، وبه يمتاز عن سائر الأشياء ، فهو على غير مثال وجودي ، إلا أنه على مثال نفسه وعينه من حيث إنه ما ظهر عينه في الوجود إلا بحكم عينه في الثبوت من غير زيادة ولا نقصان ، والابتداع على الحقيقة إنشاء ما لا مثل له بالمجموع ، ولا بديع من المخلوقات إلا من له تخيل ، فقد يبتدع المعاني ولا بد أن تنزل في صور مادية وهي الألفاظ التي بها يعبر عنها ، فيقال : قد اخترع فلان معنى لم يسبق إليه ، وكذلك أرباب الهندسة لهم في الإبداع اليد الطولى ، ولا يشترط في المبتدع أنه لا مثل له على الإطلاق ، إنما يشترط فيه أنه لا مثل له عند من ابتدعه ولو جاء بمثله خلق كثير كل واحد قد اخترع ذلك الأمر في نفسه ثم أظهره ، فهو مبتدع بلا

____________________________________

فكأنه يقول : ولله ما شرق منكم أي ما ظهر ، وما غرب عنكم أي ما استتر ، فأينما تولوا بوجوهكم وقلوبكم فثمّ وجه الله ، أي هو مطلع عليكم ، ويؤيده قوله : (إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) وهذا من باب الإشارة والتنبيه (١١٧) (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ) الضمير يعود على من تقدم ، وهو داخل في قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ)(وَسَعى) وقال : (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) يريد بذلك من قال : المسيح ابن الله ، وعزير ابن الله ، والملائكة بنات الله ، فإن الولد ينطلق على الذكر والأنثى ، وهذا أشد ظلما مما فعلوه ، فنزه الحق نفسه عما نسبوا إليه ، وهنا وجهان الوجه الواحد ، إن كانوا أرادوا التبني لقوله : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) ثم نزه نفسه عن ذلك ، فيكون هذا القول منهم افتراء على الله ، حيث نسبوا إليه ما لم ينسب إلى نفسه ، مع جواز التبني بطريق الاصطفاء ، ولكن ما وقع ، والوجه الآخر ، أن يريدوا الولد المعروف الذي للصلب ، فهو جهل منهم بالله تعالى ، فهم ما بين جاهل ومفتر ، فنزه الله سبحانه عن الأمرين نفسه ، فقال سبحانه عن ذلك : «بل» حرف إضراب عن قولهم : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ

١٨٤

شك وإن كان له مثل ، ولكن عند هذا الذي ابتدعه لا سبيل إلا ابتداع الحق تعالى فإنه تعالى قال عن نفسه إنه بديع أي خلق ما لا مثل له في مرتبة من مراتب الوجود ، لأنه عالم بطريق الإحاطة بكل ما دخل في كل مرتبة من مراتب الوجود ، فكل ما في الوجود مبتدع لله فهو البديع ، وهذا يدلك على أن العالم ما هو عين الحق وإنما هو ما ظهر في الوجود الحق ، إذ لو كان عين الحق ما صح أن يكون بديعا ، ولما كان حال كن الإلهية حال المكوّن المخلوق ، وكان أسرع ما يكون من الحروف في ذلك فاء التعقيب ، لهذا جاء بها في جواب الأمر لسرعة نفوذ الأمر الإلهي في نشء العالم وظهوره ، فقال تعالى : (وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) القضاء الذي له المضي في الأمور هو الحكم على الأشياء بكذا ، والقدر ما يقع بوجوده في موجود معين المصلحة المتعدية منه إلى غير ذلك الموجود ، فالقضاء يحكم على القدر ، والقدر لا حكم له في القضاء ، بل حكمه في المقدر لا غير بحكم القضاء.

____________________________________

وَالْأَرْضِ) وهم الملائكة وعزير وعيسى ، وأتى بما ولم يقل من ، لأن ما عند سيبويه تقع على كل شيء فلها العموم ، فالإتيان بالعام أولى حتى يدخل فيها كل شيء (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) أي قائمون بالعبودية وشروطها ، وقد دخل الكفار في هذا القنوت ، فإنهم مما في السموات والأرض ، وهم طائفتان : جاهلة وعالمة ، فمن علم منهم الحق بباطنه مثل أهل الكتاب ومن جرى مجراهم في العلم ، فهو قانت لله في باطنه لعلمه به ، ومن جهل منهم ذلك ، فالجاهل ما عبد غير الله ولا قنت له لعينه ، ولكن تخيل أنه الإله المقصود بالقنوت له ، فما قنت إلا لله وإن أخطأ في نسبة ذلك ، فصدق قول الله في إخباره أنه كل له قانتون بهذا الوجه ، وهل ينفعهم ذلك أو لا ينفعهم مسألة أخرى ليس هذا موضعها (١١٨) (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إبداع الشيء إحكامه وإتقانه ، فإذا كان هذا ، فيكون عاما في كل موجود ، وإن كان المراد هنا بالإبداع إيجاد الشيء على غير مثال ، فيكون خاصا بالموجود الأول من كل نوع ، ولا يدخل ما تحته تحت هذه الصفة من كونه إبداعا وإنما يدخل تحت اسم الخالق والبارئ ، وقد يريد بالسموات والأرض ما علا وما سفل حصرا لجميع الموجودات ، ومن جملتهم ما نسبتموه إلينا من ولد من إنس وملك ، ولكن لا ينتفي الولد من هذا الوجه ، فإن الولد لا بد أن يكون مخلوقا مبدعا ، وليس في اللفظ ما يدل على قدم الولد ، وإنما الحجة في قوله : (وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وما أخبركم أنه قضى أن يتبنى أحدا من خلقه ، فافتريتم عليه ، بل نسبة ما نسبتم إليه من الولد نسبة كل أمر ، إذا قضاه أي شاءه وأراده ، أن يقول له كن أي يأمره بأن يتكون ، فيكون ، وكان هنا تامة ، وهنا بحر واسع يعز

١٨٥

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١٢١)

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) اعلم ـ أيدنا الله وإياك ـ أن القرآن مجدد الإنزال على قلوب التالين له دائما أبدا ، لا يتلوه من يتلوه إلا عن تجديد تنزيل من الله الحكيم الحميد ، وقلوب التالين لنزوله عرش يستوى عليها في نزوله إذا نزل ، فإذا نزل القرآن على

____________________________________

السابح فيه ، والهالك فيه أكثر من الناجي ، وهو فهم المعنى ، هل هذا المخاطب بكن من له عين تعقل أمر المخاطب فتمتثله؟ أم لا عين له؟ وهل ينطلق على المأمور بكن اسم الشيء أم لا؟ وهل العدم صفة للمعدوم؟ ومتى تعلق الخطاب بالتكوين هل في حال العدم؟ أو هل بين الوجود والعدم حالة أخرى؟ وهل كل معدوم يصح منه قبول الوجود؟ والتفريع والتقسيم على هذا كثير ، والخلاف فيه كثير بين المعتزلة والأشاعرة والحكماء وأهل الحقائق ، والسكوت عنه أولى من الخوض فيه ، لأن الله ما ذكر في كتابه ما يحوجنا إلى الترجمة عنه في ذلك ، فنتركه مجملا كما تركه ، ثم قال عنهم : (١١٩) (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) لولا تحضيض ، يقولون لولا يكلمنا الله بتصديقه مشافهة ، كما قال أسلافهم : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً)(أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) تدل على صدقه (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كذلك قال بنو إسرائيل في زمانهم لأنبيائهم ، وقوله : (لا يَعْلَمُونَ) أي لا يعلمون ما ينبغي لجلال الله من التعظيم أن يسأل مثل هذا من غير إذن ،

١٨٦

قلب عبد وظهر فيه حكمه ، واستوى عليه بجميع ما هو عليه مطلقا ، وكان خلقا لهذا القلب ، كان القلب عرشا له ، سئلت عائشة عن خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : كان خلقه القرآن ، فما من آية في القرآن إلا ولها حكم في قلب هذا العبد ، لأن القرآن لهذا نزل ليحكم لا ليحكم عليه. كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تلاوته القرآن إذا مر بآية نعيم حكمت عليه بأن يسأل الله من فضله ، فكان يسأل الله من فضله ، وإذا مر بآية عذاب ووعيد حكمت عليه بالاستعاذة ، فكان يستعيذ ، وإذا مر بآية تعظيم لله حكمت عليه بأن يعظم الله ويسبحه بالنوع الذي أعطته تلك الآية من الثناء على الله ، وإذا مر بآية قصص وما مضى من الحكم الإلهي في القرون قبله ، حكمت عليه بالاعتبار فكان يعتبر. وإذا مر بآية حكم حكمت عليه أن يقيم في نفسه من يوجه عليه ذلك الحكم فيحكم عليه به ، فكان يفعل ذلك ، وهو عين التدبر لآيات القرآن والفهم فيه ، ومتى لم يكن التالي حاله في تلاوته كما ذكرنا فما نزل على قلبه القرآن ، ولا كان عرشا لاستوائه لأنه ما استوى عليه بهذه الأحكام ، وكان نزول هذا القرآن أحرفا ممثلة من خياله كانت حصلت له من ألفاظ معلمه إن كان أخذه عن تلقين ، أو من حروف كتابته إن كان أخذه عن كتابة ، فإذا أحضر تلك الحروف في خياله ونظر إليها بعين خياله ترجم اللسان عنها فتلاها من غير تدبر ولا استبصار ، بل لبقاء تلك الحروف في حضرة خياله ، وله أجر الترجمة لا أجر القرآن ، ولم ينزل على قلبه منه شيء ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حق قوم من حفاظ حروف القرآن يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، أي ينزل من الخيال الذي في مقدم الدماغ إلى اللسان فيترجم به ولا يجاوز حنجرته إلى القلب الذي في صدره ، فلم يصل إلى قلبه منه شيء ، وقال فيهم : إنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم

____________________________________

كما قال : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) وأما العرب فالقرآن آيتهم فلا يقولون هذا ، وعلماء الكتب لا يقولون هذا فإن الآيات الدالة على صدقه في كتابهم ، فلم يبق إلا المقلدة ومن لا علم له بإعجاز القرآن ، وقوله : (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) أي عقولهم في الختم عليها فلا يعلمون (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) وهم العارفون بذلك وإن لم يؤمنوا وباهلوا ، والعلماء بذلك أيضا من من المؤمنين كما قال : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) والجاحد عالم ، قال تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) وقوله : (يُوقِنُونَ) أي يتيقنون ، وهو ثبوت العلم في صدورهم ، ثم خاطب نبيه عليه‌السلام (١٢٠)

١٨٧

من الرمية ، لا ترى فيه أثرا من دم الرمية ، فإنه ما كل تال يحس بنزول القرآن لشغل روحه بطبيعته ، فينزل عليه من خلف حجاب الطبع فلا يؤثر فيه التذاذا ، فهذا قرآن منزل على الألسنة لا على الأفئدة ، وقال في الذوق : «نزل به الروح الأمين على قلبك» فذلك هو الذي يجد لنزوله عليه حلاوة لا يقدر قدرها تفوق كل لذة ، فإذا وجدها فذلك الذي نزل عليه القرآن الجديد الذي لا يبلى ، والفارق بين النزولين أن الذي ينزل القرآن على قلبه ينزل بالفهم فيعرف ما يقرأ ، وإن كانت تلك الألفاظ لا يعرف معانيها في غير القرآن لأنها ليست بلغته ، ويعرفها تلاوة إذا كان ممن ينزل القرآن على قلبه عند التلاوة ، فمن قرأ القرآن منزلا عليه يجد لذة الإنزال ذوقا على قلبه عند قراءته ، فإن للقرآن عند قراءة كل قارئ أي قارئ كان إنزالا ، غير أن الوارث المحمدي بالحال يحس بالإنزال ، ويلتذ به التذاذا خاصا لا يجده إلا أمثاله ، فذلك صاحب ميراث الحال وما عدا هؤلاء فإنما يقرؤون القرآن من خيالهم ، فهم يتخيلون صور حروفه المرقومة إن كان حفظ القرآن من المصاحف والألواح ، أو يتخيلون صور حروف ما تلقنوه من معلمهم ، هذا إذا كانوا عاملين به ، وإما إذا قرؤوه من غير إخلاص فيه فلا يتجاوز حناجرهم ، أي لا يقبل الله منه شيئا ، فيبقى في محل تلاوته وهو مخرج الصوت ، فلا يقرأ القرآن من قلبه إلا صاحب التنزل ، وهو الذوق الميراثي ، فمن وجد ذلك فهو صاحبه يعرف ذلك عند وجوده إياه فلا يحتاج فيه إلى معرف ، فإنه يفرق عند ذلك بين قراءته من خياله وبين قراءته عن تنزيل ربه مشاهدة ، فليس التالي إلا من تلاه عن قلبه الذي له في كل تلاوة فهم في الآية ، لم يكن له ذلك الفهم في التلاوة التي قبلها ، ولا يكون في التلاوة التي بعدها ، وهو الذي أجاب الله في دعائه في قوله : (رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) فمن استوى فهمه في التلاوتين فهو مغبون ، ومن كان له في كل تلاوة فهم

____________________________________

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) يقول له تسلية لما يجده في قلبه من ردهم أمر الله في وجهه : يا محمد ما عليك إلا البلاغ ، وما أنت عليهم بجبار ، أي ما أرسلناك لتجبرهم على الإيمان ، وإنما وظيفتك أن تبلغ عنا ما نزل إليهم ، وأمرهم إلينا (بَشِيراً) أي مبشرا للطائفتين المطيع والمخالف ، قال تعالى : (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) وقال في أولئك : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) وسنبين ذلك في موضعه وقوله : «ونذيرا» أي معلما لهم بما أنزلت عليهم ، وقد تستعمل في الأكثر : البشارة في الخير والإنذار في الشر ، وكلا التأويلين صالح هنا ، والباء من

١٨٨

فهو رابح مرحوم ، ومن تلا من غير فهم فهو محروم ، فمن تكرر له المعنى في تلاوته فما تلاه حق تلاوته وكان دليلا على جهالته ، ومن زادته تلاوته علما وأفادته في كل مرة حكما فهو التالي ، لمن هو في وجوده له تالي. فينبغي لكل تال إذا تلا القرآن أن يتدبره ويأخذ كل أمر أمر الله به نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبلغه أو يقوله أو يعلّمه فليقله في تلاوته ولا يكون حاكيا ، بل يكون صاحب نية وقصد وابتهال في ذلك ، وأنه مأمور به من الحق إن أراد أن يكون من الحزب النبوي ، فإن الله أخفى النبوة في خلقه وأظهرها في بعض خلقه ، فالنبوة الظاهرة هي التي انقطع ظهورها ، وأما الباطنة فلا تزال في الدنيا والآخرة ، لأن الوحي الإلهي ، والإنزال الرباني ، لا ينقطع إذ كان به حفظ العالم ، فجميع العالم لهم نصيب من هذا الإنزال والوحي. ومن تلا المحامد ولم يكن عين ما يتلوه منها فليس بتال ، وكذلك من تلا المذام وكان عين ما يتلوه منها فليس بتال ، فما نزل القرآن إلا للبيان (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) اعلم أنك لا تعرف منازل التلاوة ما لم تعرف الكتب المتلوة بأعيانها ، فإذا عرفتها عرفت حينئذ كيف تتلوها ، وكيف تسمعها ممن يتلوها عليك ، فأسماء الكتب المنزلة ـ وأعني القرآن ـ الكتاب المنير والمبين والمحصي والعزيز والمرقوم والمسطور الظاهر والمسطور الباطن والجامع ، وتعيين أربابها القائمين بها ، فالمنير لأهل الحجج ، والمبين لأهل الحقائق ، والمحصي لأهل المراقبة ، والعزيز لأهل العصمة ، والمرقوم الحكيم للمرسلين والورثة ، والمسطور الظاهر تأويلا واعتبارا لأهل الإيمان ، والمسطور الباطن اعتبارا أيضا لأهل الإباحة ، والجامع للروحانيين الملكيين ، وعلامات التالين لهذه الكتب على الحضور

____________________________________

(بِالْحَقِّ) تصلح أن يعمل فيها ، (أَرْسَلْناكَ) و (بَشِيراً وَنَذِيراً) فبشيرا ونذيرا تفصيل ما جاء به ، وقوله بالحق الأوجه فيه أن يعمل فيه (أَرْسَلْناكَ) لأن الألف واللام الأظهر فيها العهد ، لحق معلوم عنده ، وهو الحق الذي اشترك فيه جميع المرسلين ، وهو إقامة الدين وتبليغه ، وأن سبب إرساله تبليغ هذا الحق ، فالباء للسبب ، وقوله : «ولا تسأل» بفتح التاء (عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) فيه وجهان : الوجه الواحد ، معناه أهملهم وأرح خاطرك وسرك من قبلهم فيما نفعل بهم من الهدى أو الإضلال ، والوجه الآخر ، على طريق الوعيد ، أي ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ما نفعل بهم من العذاب والضيق والنكال شفاء لصدرك واتساعا بالفرح بالانتقام منهم في مقابلة ما ضيقوا به صدرك بما قالوه ، قال تعالى : (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ

١٨٩

من ادعى أنه تلا المنير ، علامته المكاشفة ، ومن ادعى أنه تلا المبين ، علامته التمييز والترتيب ، ومن ادعى أنه تلا المحصي ، علامته الوقوف عند الحدود ، ومن ادعى أنه تلا العزيز ، علامته أنه يجهل مقامه ، ومن ادعى أنه تلا المرقوم الحكيم ، علامته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتسليم لله في كل حال ، ومن ادعى أنه تلا المسطور الظاهر ، علامته المجاهدة ، ومن ادعى أنه تلا المسطور الباطن ، علامته الزندقة ، ومن ادعى أنه تلا الكتاب الجامع ، علامته الخروج عن البشرية ولحوقه بهيولانية ملكية ـ كأبي عقال المغربي وغيره ـ وعلامات من تلا الحق عليه هذه الكتب أن من تلا الكتاب المنير عليه قمع هواه ، ومن تلا عليه المبين شاهد معناه ، ومن تلا عليه كتاب المحصي سلك طريق هداه ، ومن تلا عليه كتاب العزيز اجتنب رداه ، ومن تلا عليه المرقوم الحكيم بلغ مناه ، ومن تلا عليه ظاهر المسطور فاز برحماه ، ومن تلا عليه باطن المسطور كان الشيطان مولاه ، ومن تلا عليه الجامع لم ينظر إلى سواه ، ولعلك تشتهي أن ترسم في التالين لهذه الكتب على الحق تعالى بأن تمر على حروفه وتكون فيه حالّا مترحلا وأنت لا تعقل معناه ، ولا تقف عند حدوده ، أو تتخيل أن يقول لك الحق تبارك وتعالى عند قولك (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) حمدني عبدي ، لا والله ما يراجع الحق سبحانه وتعالى بقوله حمدني عبدي وأثنى علي عبدي إلا أهل الحضور معه عند التلاوة ، بأنه مناج

____________________________________

قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ) ويذهب غيظ قلوبهم وقوله : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) وقد قرئ «ولا تسأل» بضم التاء على الخبر ، أي عليك التبليغ ما عليك سؤال هل أجابوك أم لا ، فيكون مزيد درجة ، راحة للنبي عليه‌السلام يوم القيامة على سائر الرسل لقوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) فأخبره الله تعالى أنه غير داخل في هذا الجمع ، فإن الرسل ما تسأل إلا لأجل إنكار الأمم التبليغ الذين لم يجيبوا في الدنيا إذا رأوا عذاب الله نازلا بهم ، أو اعترافهم بالإجابة ولم تقع منهم ، ويحتمل قوله (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) نفي العلم عنه بهم ، وأن ذلك إلى الله ، فإنه غير عالم بالسعيد منهم على اليقين والشقي إلا بتعيين الله له ، والعالم بمن لا يعلم لا يسأله عما لا يعلم (١٢١) (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) يقول : ما هم عليه من الأهواء ، فإنهم مختلفون ، فلا يتمكن الجمع بينهما ، لأن كل واحد منهما مخالف لما يتضمنه كتابه ، فلو عملوا بما في كتابهم لكانوا أمة واحدة ، وكانوا على ما نحن عليه من الإيمان بالله وبملائكته وكتبه ورسله من غير فرقان بين

١٩٠

نفسه بفعله والمناجى بإحاطته وذاته ، وأهل التدبر والتذكر لما أودع في كتابه العزيز من الأسرار والعلوم ، يفهم كل عبد على قدر مقامه وذوقه وكشفه ، قال تعالى : ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب وقال تعالى : قد علم كل أناس مشربهم ، بل أقول : إن كل من قعد على منهج الاستقامة ، وكانت حيلته الطاعة ، وكان اللسان صامتا عن تلاوة القرآن ، فإنه حامد لله شاكر له بأفعاله ، ويقول الله فيه حمدني عبدي. فإذا كان اللسان يقول الحمد لله ، والقلب في الدكان ، أو في الدار ، أو في عرض من الأعراض ، متى عرف من هذه صفته أن يحمد الله؟! وكيف ذلك والقلب غافل بما هو عليه عما جرى به لسانه ، فإذا وفقك الله وتريد أن يسمع الحق جل اسمه منك تلاوتك ، ويرسمك في ديوان التالين ، ويقول لك على الكلمات حمدني ، فاعلم منازل التلاوة ، ومواطنها ، وكم من التالين منك ، وذلك أن تعلم أن على اللسان تلاوة ، وعلى الجسم بجميع أعضائه تلاوة ، وعلى النفس تلاوة ، وعلى القلب تلاوة ، وعلى الروح تلاوة ، وعلى السر تلاوة ، وعلى سرّ السرّ تلاوة ، فتلاوة اللسان ترتيل الكتاب على الحد الذي رتب المكلف له ، وتلاوة الجسم المعاملات على تفاصيلها في الأعضاء التي على سطحه ، وتلاوة النفس التخلق بالأسماء والصفات ، وتلاوة القلب الإخلاص والفكر والتدبر ، وتلاوة الروح التوحيد ، وتلاوة السر الاتحاد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث القدسي صفة لا ذاتا كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ،

____________________________________

أحد من رسله ، ولهذا قال تعالى : (قُلْ) لهم يا محمد (إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) ولم يقل قل هداي ، أي الذي جئت به خاصة ، فإن التوراة والإنجيل هدى الله مثل القرآن ، فلو أطاعوا وسمعوا ما جاءت به كتبهم ما تفرقوا جملة واحدة ، وكانوا يؤمنون بكل كتاب وبما تضمنه ، فكنا نحن وهم على السواء ، فإن في التوراة الإيمان بالإنجيل والقرآن وبمن جاء بهما وما جاء فيهما ، وفي الإنجيل الإيمان بالتوراة وبمن جاء بهما وما جاء فيهما ، وفي القرآن الإيمان بالتوراة والإنجيل وبمن جاء بهما وما جاء فيهما ، فآمنا نحن بالجميع ، والكل هدى الله ، وكفروا هم بالكتابين وببعض ما جاء في كتابهم واتبعوا أهواءهم ، فلو دعونا إلى اتباع كتبهم لوجدونا متبعين لذلك مؤمنين غير مخالفين لشيء من ذلك ، فلهذا قال الله لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم محذرا : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) وهو قوله : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) وما سامحه سبحانه في طمعه باستدراجهم بذلك ليؤمنوا بقوله

١٩١

وتلاوة سر السر الأدب وهو التنزيه الوارد عليه من الإلقاء منه جل وعلا ، فمن قام بين يدي سيده بهذه الأوصاف كلها فلم ير جزء منه إلا مستغرقا فيه على ما يرضاه منه ، كان عبدا كليا ، وقال له الحق تعالى إذ ذاك : حمدني عبدي أو ما يقول على حسب ما ينطق به العبد قولا أو حالا ، فإن كان فيه بعض هذه الأوصاف وتعلقت غفلة ببعض التالين فليس بعبد كلي ، ولا يكون فيه للحق تعالى من عبودية الاختصاص إلا على قدر ما اتصفت به ذاته ، فثم عبد يكون لله فيه السدس ولهواه ما بقي ، ولله فيه الخمس ولهواه ما بقي ، والربع والثلث والنصف على قدر ما يحضر منه مع الحق تعالى من حيث هو نوري ، فانظر أين تجعل همتك ، وكيف تكون مع الحق الذي إليه مردك ، فإنك لا تجد عنده إلا ما قدمت ، وقد علمت المنازل فإما عبدا كليا ، وإما جزء عبد فتدبر هذه التلاوة ، والزمها نفسك في حركاتك وسكناتك ، فلا تتحرك إلا بالله ولله ومع الله وفي الله وإلى الله وعن الله ولا تسكن إلا على هذا الحد ، فبالله من حيث توليه لك في ذلك ، ولله من أجله لا من أجلك ، ومع الله من حيث المشاهدة والمراقبة ، وفي الله من حيث التدبر والتفكر ، وإلى الله من حيث التوجه والقصد ، وعن الله من حيث التكليف. وهكذا فلتكن في تلاوتك فإنه سبحانه يعلم السر وأخفى ، فلا يطلع عليك في سرك وعلانيتك على ما لا يرضاه منك ، وإن كان هو الفاعل سبحانه الموجد الفعل. فالزم ما كلفت من الأدب ، وما تقتضيه الحضرة الإلهية من الإجلال والتعظيم.

____________________________________

تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) بما أوحينا إليك في ذلك (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْناكَ) هذا مع القصد الحسن فكيف بغير ذلك ، قال تعالى : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) وهو قوله : (ما عليك إلا البلاغ) (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) و (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) و (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) ، ثم قال : (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ) يتولاك فيما يريده الحق أن يجريه عليك (وَلا نَصِيرٍ) ينصرك عليه ، فقال : (١٢٢) (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) التلاوة الاتباع ، يتلوه يتبعه ، فكما أن آيات الكتاب يتلو بعضها بعضا كذلك التالي لها يمشي عليها مشيا بعد مشي ، يقول : الذين أعطيناهم الكتاب الذي أنزلته عليهم ، وهم الرسل ، (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) أي يتبعونه حق الاتباع الذي يجب له ، وحقه الإيمان به أنه من عندنا ، وأن لا يكفر بشيء منه (أُولئِكَ) أي الذين أوتوه وتلوه حق تلاوته (يُؤْمِنُونَ

١٩٢

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣) وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (١٢٤)

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) لأن الابتلاء من أفضل الكرامات ، وقد تلقاها للتوب صاحب السمات ، والابتلاء إشارة إلى ذبح ولده قال الله تعالى لخليله إبراهيم عليه‌السلام : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) ابتداء منه من غير طلب من إبراهيم عليه‌السلام ليكون معانا مسددا ، وعلمنا أنه ليس بظالم قطعا لأن الإمامة عهد من الله وقال تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) ولم يقل خليفة بل ذكره بالإمامة لأن الخليفة يطلب بحكم هذا الاسم عليه من استخلفه فيعلم أنه مقهور محكوم عليه ، فالخليفة له فيه تذكرة لأنه مفطور على النسيان والسهو والغفلة ، فيذكره اسم الخليفة بمن استخلفه ، والإمام ربما اشتغل بإمامته عمن جعله إماما ، لأن الإمامة ليست لها قوة التذكير في الخلافة فقال تعالى في الجماعة الكمل : (جَعَلَكُمْ

____________________________________

بِهِ) أي يصدقون بكل ما يتضمنه ، وبه أنه من عند الله ، ويحتمل أن يريد به أهل التوراة الذين تلوها حق تلاوتها وأهل الإنجيل وآمنوا بما وجدوا فيها من بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورسالته ، وأنه هو هذا ، فيكون خاصا بالمؤمنين من اليهود والنصارى ، ثم قال : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) كما فصلناه في معنى الكفر والكافر (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) تقدم الكلام على هذا المعنى في (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) في أول السورة (١٢٣) (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) قد تقدم الكلام عليها وكذلك (١٢٤) (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ) فذكر في الأولى (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) وزاد في هذا (وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ) أي فداء ، فإن القبول لا يكون إلا مع الرضاء به ، والأخذ قد يكون عن رضاء وقد لا يكون ، فزاد في هذه الآية ولو أخذنا الفداء لم نأخذه على جهة القبول والرضاء وإنما هو بضاعتنا ردت إلينا ، فأبان هنا بالقبول أمرا لم يذكره هناك ، وقال في هذه الآية (وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ)

١٩٣

خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) فوقع هذا في مسموعهم فتصرفوا في العالم بحكم الخلافة ، وقال لإبراهيم عليه‌السلام بعد أن أسمعه خلافة آدم ومن شاء الله من عباده (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) لما علم أن الخلافة قد أشربها فلا يبالي بعد ذلك أن يسميه بأي اسم شاء ، فقال إبراهيم لربه تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي)(قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فإن الإنسان المخلوق على الصورة ـ لا الإنسان الحيوان ـ هو الذي له الإمامة في الكون ، صاحب العهد فإن الله لا ينال عهده الظالمون وليس عهده سوى صورته ، فما أهمل من أهمل من الأناسي إلا لجهله بمنزلته وتصرفه في غير مرتبته ، فلو أعطى نفسه حقها ، كما أعطاها ربها خلقها ، لكان إمام العالمين ، فالسيد الإمام ، العارف العلام ، يقول : الأمام الأمام ، وفي يده سراجه وفي رأسه تاجه ، يشهد له الحق بالخلافة ، والأمن من كل عاهة وآفة ، وأما إذا كانت الطرق مظلمة ، لا يعرف الماشي فيها في أي مهواة يهوي ، ومع هذا يسير ولا يلوي ، فإذا سقط ، عند ذلك يعلم أنه فرط.

____________________________________

وهناك (لا تقبل منها) أي من أجلها شفاعة ، وهنا ولو قبلت عناية بالشافع ما نفعت المشفوع فيه ، بأن نعلم الشافع مرتبته من عنايتنا به عندنا ، ونبين له قدر الجريمة التي لهذه النفس ، فيرجع الشافع عن ذلك إعظاما لجناب الله مع أن الحق سمع شفاعته ، ولكن ما نفعت المشفوع ، هذا كله على تقدير الوقوع ، أي لو وقعت الشفاعة من أهل العناية عندنا لكان الأمر كما ذكرناه ، فزاد هنا ما لم يذكر في الأولى (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) قد مضى تفسيره ، ثم قال : (١٢٥) (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) الصحيح في هذه الكلمات عدم تعيينها ، فنعلم قطعا أن الله اختبره بكلمات أنزلهن عليه (فَأَتَمَّهُنَّ) فأثنى عليه بقوله : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) ومحن الأنبياء كثيرة ، وما كلفوه كثير ، كما قيل لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) على غيرك ونهونه عليك ، والعامل في (إِذِ) إما مضمر ، وإما جاعلك ، أي قام بهن حق القيام من الشكر إن كان نعمة ، ومن الصبر إن كان غير ذلك ، كذبح الولد والرمي في النار وغير ذلك ، فوفّى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجميع ما خوطب به على حسب ما يعطيه ذلك الخطاب ، وقد أكثر الناس في تعيين الكلمات من غير دليل قاطع ، فلهذا تركت تعيين ما يمكن أن تكون ، إذ لا يفيد ذلك علما ، وقوله : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) يحتمل أن يكون هذا من الكلمات ، لأنها ابتلاء لما يلزمه فيها من مراعاة حدود الله في خلقه ، وإقامة العدل فيهم ، والنظر في مصالحهم الدينية والدنياوية ، والمبالغة في

١٩٤

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (١٢٥)

(وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) وهما الركعتان بعد الطواف لننال ما ناله إبراهيم عليه‌السلام من الخلة على قدر ما يعطيه حالنا ، فإن من مقامه عليه‌السلام قوله تعالى فيه : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) ومن مقامه عليه‌السلام أنه كان أواها حليما ، فيكون هذا أيضا من قصدنا مقام إبراهيم لنتخذه مصلى ، أي موضع دعاء في صلاة ، أو إثر صلاة لنيل هذا المقام والصفة ، التي هي نعت إبراهيم خليل الله وحاله ومقامه ، ومن مقام إبراهيم عليه‌السلام

____________________________________

التبليغ ، وشروط الإمامة كثيرة ، فهي من الابتلاء الشديد ويحتمل أن يكون ذلك على جهة التشريف والتكريم ، لما قام بالكلمات حق القيام على التمام والكمال كان أهلا للإمامة ، فشرفه الله بأن قدّمه على خلقه ليأتموا به ويهتدوا بهديه ، إذ قد آنس منه الرشد فيما ابتلي به ، فدفع الإمامة إليه ، كما أمرنا في الأيتام في دفع أموالهم لهم واستحقاقهم لها بإيناس الرشد منهم ، فقال : (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) وهو أحد الشرطين (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) قالَ إبراهيم (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي)(قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) طلب إبراهيم من ربه أن يجعل من ذريته أئمة ، وهذا الطلب دليل على أنّ جعله إماما كان تشريفا وكرامة به لا ابتلاء ، فترجح أحد الوجهين ، ولو فهم بقرائن الأحوال أن الإمامة كانت على طريق الابتلاء ما طلب مثلها لذريته ، وإن كانت ابتلاء من حيث ما يتعلق بها ، ولكن إذا عرف الإمام بتعريف الله أنه معان معصوم كانت إمامته تشريفا بلا شك ، ويبقى ما فيها من الابتلاء في حق من وليها من المؤمنين الذين جهلوا أحوالهم فيها ، وأما قوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) يقول لا أعطي الإمامة للظالم بوحي منزل فيه أسميه بعينه ، مثل ما سميت الرسل بأسمائهم وخصصتهم من سائر الخلق بالخطاب بالعهد والإمامة ، مثل قولنا : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) ولإبراهيم (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) وهكذا جميع الرسل ، فهذا هو العهد الذي لا يناله الظالم من عبادي ، وأما من نصبه الناس إماما فأئمتهم رجلان : ظالم وعادل ، فالعادل هو الذي يقوم فيهم بسنة نبيهم وهديه ، ويسلك بهم أوامر الحق المشروع لهم من عندنا ، وهم أئمة الهدى الذين يأمرون بالقسط من الناس ، فنحن أيضا شرعنا لهم بالوحي المنزل على الرسل تولية مثل هؤلاء الإمامة ، فهم ممن ينال عهدي ، وطائفة

١٩٥

أيضا : أنه كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم ، ومن مقامه عليه‌السلام : أنه أوتي الحجة على قومه بتوحيد الله ، ومن مقامه عليه‌السلام أيضا : أنه كان مسلما ، ومن مقامه عليه‌السلام أيضا : الصلاح ، ومن مقام إبراهيم عليه‌السلام : أن الله آتاه أجره في الدنيا ، وأنه في الآخرة لمن الصالحين. فهذا كله من مقام إبراهيم الذي أمرنا أن نتخذه مصلى فقال : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) أي موضع دعاء إذا صليتم فيه أن ندعو في نيل هذه المقامات التي حصلت لإبراهيم الخليل عليه‌السلام. واعلم أن مكة خير وسيلة عبادية ، وأشرف منزلة جمادية ترابية ، وأنه قد طاف بهذا البيت

____________________________________

أخرى نصبهم الناس فظلموا ، وضلوا وأضلوا ، وعدلوا عن الحق ، فهؤلاء هم الذين لم ينالوا عهدي بحكم تعيينهم بالأمر بالتقدم ، ولكن نحن جعلناهم أئمة يدعون إلى النار بقضائنا لا بأمرنا ، قال تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) وفي هذه الآية دليل على أن إمامة الظالم لا تصح شرعا ، فإن الله قد نفى عنه الإمامة ، ويتقوى مذهب من يقول إن الإمام إذا فسق انعزل شرعا وإن تعذر خلعه ، والكلام في هذه المسألة يطول ، والوجه عندي في هذه المسألة والله أعلم ، أن الظلم هنا كما فسره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزل قوله تعالى : (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) قالت الصحابة : [وأينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال عليه‌السلام : ليس كما زعمتم ، وإنما الظلم هنا ما قاله لقمان لابنه : يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم] فهذا مثل ذلك ، وأما المسلمون وإن جاروا وظلموا فإن النبي عليه‌السلام قد أمرنا أن لا نخرج أيدينا من طاعة ، فإن جاروا فلنا وعليهم ، وإن عدلوا فلنا ولهم ، وقال : أطيعوهم ما أقاموا الصلاة ، لما تكلموا في جورهم ، وقال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) أي خيارا عدلا (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) فقد نص الله على عدالتنا بمجرد الإيمان ، وإن كان قد علم أنه يقع منا الجور والظلم والتعدي للحدود المشروعة ، مع حفظ الإيمان بتحليل ما أحل الله ، وتحريم ما حرم الله ، فلم يخرج الله العصاة والظلمة من أهل الإيمان من الإمامة ، ولا سيما في قوله : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) مع كونه مصطفى ، ونحن نقول إن الظالم إذا حكم بأمر فسّق فيه قد انعزل شرعا عن حكم الله في تلك النازلة ، فإنه بمعزل عن حكم الله فيها ، وهو مأثوم ، ولكن أقول إذا اتفق أن يتمكن الناس من خلع الظالم وإقامة العادل من غير ضرر فادح يصيب الناس وتهلك فيه النفوس والأموال فلهم ذلك ، وهل يجب أو لا يجب؟ فيه عندي نظر ، وأنا الآن في محل التردد في ذلك لتعارض الأدلة ، وما ترجح عندي في ذلك شيء ، واعلم أن

١٩٦

مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي سوى الأولياء ، وما من نبي ولا ولي إلا وله همة متعلقة بهذا البيت وهذا البلد الحرام ، لأنه البيت الذي اصطفاه الله على سائر البيوت وله سر الأولية في المعابد ، كما قال تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) من كل مخوف إلى غير ذلك من

____________________________________

الأئمة رجلان : إمام يقتدى به وهم الرسل ، قال تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) وسيأتي في ترجمتها في موضعها ما يتعلق بها من الحكم ، فإذا كانت الإمامة يراد بها الاقتداء ، أن يقتدى بها ، فلا تجوز الإمامة إلا لمنصوص على عصمته ، وذلك هم الرسل خاصة ، ولا خلاف بين أهل الإسلام في إمامة من جهلت عصمته أو من ليس بمعصوم ، إلا شرذمة قليلة لا يحكى قولهم ، والرجل الآخر ، إمام لا يقتدى به ، ولكن يسأل في النوازل إذا كان من أهل الذكر ، فلا بد أن يكون عالما ، بما يحكم به بين الناس ، ولا يقتدى به في أفعاله وإن كانت أفعاله مستقيمة ولكن اقتداءك إنما هو بمن اقتدى هو به وهو الشرع لا به ، فإن الكل أتباع الرسل ، فيكون نصب الإمام هنا لوجود المصالح التي يقوم بها معاشهم ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم وأزواجهم ، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ، ثم قال : (١٢٦) (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) يقول : نصبنا البيت بمعنى الكعبة ، مثابة للناس يحجون إليه في كل عام بجد وعزم ومحبة تؤديهم إلى أن يثوبوا إلى قصده من جميع البلاد بسرعة ، من الوثب ، وإن تناءت بلادهم وهلكت في قصده أموالهم ، فإن ذلك يهون عليهم ولا يبطئ بهم عن قصده لما جعل الله في نفوسهم من محبته ، فهوّن عليهم الشدائد في طريقه ، وهي بشارة من الله لعبده إذ أوجد في قلبه تهوين الشدائد ، من بذل المال وتعب البدن ومفارقة الأهل والوطن في طلب قصده والوصول إليه ، أنه مؤمن ممن اعتنى الله به ، وإن وجد غير ذلك فليعزّ نفسه ، فإن الله قد سلب عنه الإيمان وهذا من سر الله في قلوب العباد ، وهو من قوله : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) وأية آية أعظم من هذا ، وقوله : (وَأَمْناً) أي جعل في قلوبهم أن يشرعوا الأمان لكل من دخله ولاذ به ، جعل ذلك في قلوب المشركين وغيرهم ، قال الله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) فنسب ذلك الجعل إليه وأطبق قلوب الكفار على ذلك ، ثم قال : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) على الأمر إذا كسرت الخاء ، وعلى الخبر إذا فتحتها ، وقد يرد الخبر ويراد به الأمر ، فمن جعله خبرا يقول : جعلنا في قلوبهم أن يتخذوه موضعا للدعاء فاتخذوه ، فأخبر أنهم اتخذوه ، ومن جعله أمرا جعل اتخاذه مشروعا على جهة الندب لا على الوجوب ، واختلف الناس في هذه الآية في «المقام» ما المراد به؟ وفي كيفية اتخاذه مصلى ، وما معنى «مصلى» فأما المقام فلا خلاف أن الحجر الذي قام

١٩٧

الآيات (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ) أمر إبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت للطائفين عناية بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سيد المرسلين ، فأكرمهما ببناء البيت وتطهيره إنما كان لكونهما حملا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ظهورهما ، واختص إسماعيل دون بنيه بذلك وبالإبتلا لكونه كان من آباء النبي عليه‌السلام ، قال «أنا ابن الذبيحين» وإنما كانت الفضيلة لهما في البيت لكونهما طهراه وبنياه عن أمر إلهي فقال تعالى : (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) في بيت خاص نسبة إذ كان بيت الله بلا واسطة منذ خلق الدنيا ما جرت عليه يد مخلوق ، والطائفون كالحافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم ، والبيت في الأرض كالعرش المنسوب إلى استواء الرحمن (وَالْعاكِفِينَ) الاعتكاف : الإقامة بمكان مخصوص ، وفي الشرع على عمل مخصوص ، بحال مخصوص على نية القربة إلى الله جل جلاله وهو مندوب إليه شرعا واجب بالنذر. وللمعتكف أن يفعل جميع أفعال البر التي لا تخرجه عن الموضع الذي أقام فيه ، فإن خرج فليس بمعتكف ، ولا يثبت عندي فيه الاشتراط.

____________________________________

عليه إبراهيم حين بنى البيت ودعا الناس بالحج إليه الذي هو اليوم في البيت يتبرك به لموضع أقدامه فيه أنه مقام إبراهيم ، واختلفوا فيما سوى ذلك في المذكور في هذه الآية ، فأعمها قولا مناسك الحج كلها في الحل والحرم ، وأخصها ما ذكرناه ، وما بين هذين القولين أقوال كثيرة في تعيين بعض الأماكن من الحرم ، وأما قوله : (مُصَلًّى) فقد يريد به مدّعى ، أن يدعو الناس فيه ، وقد يريد به الصلاة المعلومة في الشرع ، وقد يريد الأمرين وهو الأوجه إذ لا تناقض في ذلك ، وأما كيفية اتخاذه مصلى فليس بعد شرح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك شرح ، وينبغي الوقوف عنده ، فإنه أعلم بمعنى ما أنزل الله عليه ، وذلك أنه صح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لما فرغ من الطواف صلى خلف المقام وجعل المقام الذي هو الحجر بينه وبين القبلة ، وصلى وتلا (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) وليس بعد هذا البيان بيان ، ومن خالف بعد هذا البيان فما اقتدى ، ثم قال : (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) أي أمرناهم حتما جزما ، وشرك إسماعيل مع إبراهيم في ذلك العهد لما فيه من الشرف والرفعة حيث أهلهما لتطهير بيت أضافه إليه ، وجعله مقصدا لعباده إلى يوم القيامة من ملك وجن وإنس ، والإنسان مجبول أن يحب لابنه من الخير أكثر مما يحب لنفسه ، فأكرم الله إبراهيم بأن يشرك ابنه معه في ذلك ، ووجه آخر ، وذلك أن يكون لمحمد عليه‌السلام نصيب من هذا التشريف حيث كان انتقل إلى إسماعيل من إبراهيم ، فشرف الوالد لشرف الولد ، لأنه حامله في ذلك الوقت ، لأنه كان يتردد في الأصلاب منحدرا

١٩٨

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٢٦)

دعا إبراهيم عليه‌السلام لمكة بالبركات ، فإنه إذا بورك في الأم بورك في البنات.

____________________________________

في ارتقاء وتطهير ، وأحسن بيت رأيته ورويته أن يليق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قول بعضهم : [تخيرك الله من آدم ... فما زلت منحدرا ترتقي] فأمرهما الله أن يطهراه من الأقذار المحسوسة كما صب النبي عليه‌السلام الماء على بول الأعرابي ، وبيّن أن المساجد لا تصلح لشيء من هذا ، وغير المحسوسة أيضا ، وهو تطهيره من هجر القول وسوئه وجعل الأوثان فيه والأصنام ودخول المشركين فيه ، وجميع ما يقع عليه اسم تطهير شرعا وعرفا ، مطلقا من غير تخصيص ، فإنه سبحانه ما خصص لنا ، وقوله : (لِلطَّائِفِينَ) الذين يطوفون بهذا البيت من جميع أصناف الطائفين ، ثم قال : (وَالْعاكِفِينَ) يريد المقيمين فيه من المجاورين ومن أهله ، وأرجو إن شاء الله أن يكون أجرهم أجر المعتكف الاعتكاف المشروع ، ولا سيما على مذهب بعضهم حيث جوز للمعتكف في غير المسجد مباشرة النساء ، وقد يستروح من هذا أنه من أراد الاعتكاف في نفس البيت لا يمنع ، وأن المعتكف في الحرم أي المقيم فيه من غير طواف ولا صلوة أنه في عبادة بمجرد الإقامة ، وقوله : (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) يريد المصلين والساجدين في التلاوة ، والراكعين الخاضعين وإن لم يكونوا مصلين إذ الركوع الخضوع ، ثم قال : (١٢٧) (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) لما أخبر الله تعالى نبيه إبراهيم أن الله جعل بيته أمنا لمن عاد به وجاوره ، دعا إبراهيم ربه أن يجعل البيت أيضا آمنا في نفسه من تسليط الجبابرة عليه بالهدم والتخريب لغير المصلحة وعدم الاحترام ، فما زال محترما عند كل جبار ، ومن قصده لانتهاك حرمته وهدمه فإنه لا يقدر على ذلك ، كأصحاب الفيل وغيرهم ، حتى يأتي وعد الله عند قرب الساعة فيسلط عليه الأحابشة ، وأما الحجاج فما قصد إلا عبد الله بن الزبير بتأويل رآه ، ونحن إنما تكلمنا فيمن قصده لعينه الذي دعا فيه إبراهيم ، وقوله : (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ) لما رآه واديا غير ذي زرع ، فهو تجبى إليه ثمرات كل شيء من أداني القرى وأقاصيها رزقا من عند الله لدعوة إبراهيم ، وقوله : (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أدبا مع الله حيث قال له من قبل لما سأله فقال : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ

١٩٩

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١٢٧)

دعا إسماعيل بالقبول ، فأظهر النقص ليصح كمال الخليل ، إذ الواجب على كل بنيه ، أن يضع من قدره عند قدر أبيه ، فأظهر إسماعيل صفة الافتقار ، وظهر بها احتراما لأبيه وأدبا معه.

____________________________________

لا یَنالُ عَهْدِی الظَّالِمینَ) ومثله من يتأدب ويقف عند ما نبهه عليه ربه ، وأيضا لما علم إبراهيم عليه‌السلام أن سبب خصب البلاد وإنزال الرزق إنما هو لأجل عناية الله بالصالحين من عباده وبدعائهم ، إذ هم المقصودون للحق من العالم ، وأن الكافر يرزق بحكم التبعية لا بحكم العناية ، كما يهلك الصالح بنزول العذاب الذي أنزل من أجل المفسدين فنال الصالح بحكم التبعية لا بحكم العقوبة ، فلهذا أيضا لم يذكر أرزاق الكافر ، وقوله : (قالَ وَمَنْ كَفَرَ) سؤال من إبراهيم فيكون في الكلام حذف ، كأنه لما قال ذلك قال الله : (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ) فتكون الفاء جواب شرط محذوف دل عليه الكلام ، وقد يكون قوله : (وَمَنْ كَفَرَ) مبتدأ ويكون القائل الله ومن شرط وجوابه (فَأُمَتِّعُهُ) يقول والكافر أرزقه (قَلِيلاً) يعني الحيوة الدنيا ، قال تعالى : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) أي التمتع بها قليل ، ثم قال : (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ) لا ينبغي أن يجعل الاضطرار بمعنى الإكراه لأنه ما قال إلى النار ، وإنما قال : (إِلى عَذابِ النَّارِ) وإنما الإكراه إنما يكون في سوقهم إلى النار ودخولها ابتداء بالجبر ، فإذا حطوا فيها كما قال : (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ) وسيأتي شرحه ومعنى سوقهم (وِرْداً) ما معناه ، والله يبقي علينا فهمه في وقت الترجمة عنه ، فاعلم أن الاضطرار هو أن يقصد المضطر ما يحتاج إليه لا ما يكره عليه ، فإن الإكراه ضد الاضطرار ، فإن حالة الاضطرار تزيل الكراهة عند المضطر من الشيء الذي كانت عنده في حال الاختيار ، واعلم أن جهنم تحتوي على عذابين حرور وزمهرير إلى غير ذلك ، فإذا كان الشقي في حرور النار ومسّت منه ما آلمه ونظر إلى الزمهرير الذي في مقابلته رمى نفسه إليه مضطرا من عذاب إلى عذاب ، وكذلك إذا جاع اضطر إلى دفع الجوع بما يأكله ، فينظر إلى شجرة الزقوم ، فيتوهم بالعادة من أكل الثمر أنه مزيل لجوعه ، فيضطر إلى قطعها فإذا ازدردها قطعت أمعاءه ، وناله من العذاب فوق ما كان يجده ، وهكذا في الشراب وغيره ، فهذا معنى الاضطرار ، وقال فيه تعالى : (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) كلمة ذم ، كما أن نعم كلمة مدح ، فذم الله ذلك المصير الذي صار

٢٠٠