رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

وهو مؤمن عن دليل فهو عالم ، فالصدّيق هو صاحب النور الإيماني الذي يجده ضرورة في عين قلبه ، كنور البصر الذي جعله الله في البصر ، فلم يكن للعبد فيه كسب ، كذلك نور الصديق في بصيرته ؛ ولهذا قال (أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ) من حيث الشهادة (وَنُورُهُمْ) من حيث الصدّيقية ، فجعل النور للصديقية والأجر للشهادة. والصديقية بنية مبالغة في التصديق ، وليس بين النبوة التي هي نبوة التشريع والصديقية مقام ولا منزلة ، فمن تخطى رقاب الصديقين ، وقع في النبوة والرسالة ، ومن ادعى نبوة التشريع بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد كذب ، بل كذب وكفر بما جاء به الصادق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، غير أن ثم مقام القربة ، وهي النبوة العامة ، لا نبوة التشريع ، فيثبتها نبي التشريع فيثبتها الصديق لإثبات النبي المشرع إياها لا من حيث نفسه ، وحينئذ يكون صدّيقا. ولكل رسول صديقون ، إما من عالم الإنس والجان ، أو من أحدهما ، فكل من آمن عن نور في قلبه ، ليس له دليل من خارج سوى قول الرسول : (قل) ولا يجد توقفا ، وبادر ، فذلك الصديق. فإن آمن عن نظر ودليل من خارج ، أو توقف عند القول حتى أوجد الله ذلك النور في قلبه فآمن ، فهو مؤمن لا صديق ، فنور الصديق معد قبل وجود المصدّق به ، ونور المؤمن غير الصديق يوجد بعد قول الرسول : قل لا إله إلا الله. (وَالشُّهَداءِ) الشهداء الذين تعمهم هذه الآية هم العلماء بالله ، المؤمنون بعد العلم بما قاله سبحانه : إن ذلك قربة إليه من حيث قال الله أو قاله الرسول الذي جاء من عند الله ، وهم الذين قال تعالى فيهم (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) ، فجمعهم مع الملائكة في بساط الشهادة ، فهم موحدون عن حضور إلهي وعناية أزلية ، فهم الموحدون ، والإيمان فرع عن هذه الشهادة ، فإن بعث رسول وآمنوا به ، أعني هؤلاء الشهداء ، فهم المؤمنون العلماء ، ولهم الأجر التام يوم القيامة ، وإن لم يؤمنوا فليس هم الشهداء الذين أنعم الله عليهم في هذه الآية ، لقوله تعالى : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً). وقدم الصديق على الشهيد وجعله بإزاء النبي ، فإنه لا واسطة بينهما لاتصال نور الإيمان بنور الرسالة. والشهداء لهم نور العلم مساوق لنور الرسول من حيث ما هو شاهد لله بتوحيده لا من حيث هو رسول ، فلا يصح أن يكون بعده مع المساوقة ، فكانت المساوقة تبطل ، ولا يصح أن يكون معه لكونه رسولا ، والشاهد ليس برسول ، فلا بد أن يتأخر ، فلم يبق إلا أن يكون في المرتبة التي تلي الصديقية ؛ فإن

٥٢١

الصديق أتم نورا من الشهيد في الصديقية ، لأنه صديق من وجهين : من وجه التوحيد ومن وجه القربة ، والشهيد من وجه القربة خاصة لا من وجه التوحيد ؛ فإن توحيده عن علم لا عن إيمان ، فنزل عن الصديق في مرتبة الإيمان ، وهو فوق الصديق في مرتبة العلم ، فهو المتقدم في رتبة العلم المتأخر برتبة الإيمان والتصديق ، فإنه لا يصح من العالم أن يكون صديقا ، وقد تقدم العلم مرتبة الخبر ، فهو يعلم أنه صادق في توحيد الله إذا بلغ رسالة الله ، والصديق لا يعلم ذلك إلا بنور الإيمان المعد في قلبه ، فعند ما جاءه الرسول اتبعه من غير دليل ظاهر. (وَالصَّالِحِينَ) الصالحون تولاهم الله بالصلاح ، وجعل رتبتهم بعد الشهداء في المرتبة الرابعة ، وما من نبي إلا وقد ذكر أنه صالح ، أو أنه دعا أن يكون من الصالحين مع كونه نبيا ، فدل على أن رتبة الصلاح خصوص في النبوة ، فقد تحصل لمن ليس بنبي ولا صديق ولا شهيد ، فصلاح الأنبياء هو مما يلي بدايتهم وهو عطف الصلاح عليهم ، فهم صالحون للنبوة فكانوا أنبياء ، وأعطاهم الدلالة فكانوا شهداء ، وأخبرهم بالغيب فكانوا صديقين ، فالأنبياء صلحت لجميع هذه المقامات فكانوا صالحين ، فجمعت الرسل جميع المقامات كما صلح الصديقون للصديقية وصلح الشهداء للشهادة ، فالصلاح أرفع صفة للأنبياء عليهم‌السلام وهو مطلبهم ، فإن الله أخبرنا عنهم أنهم مع كونهم رسلا وأنبياء ، سألوا الله أن يدخلهم الله برحمته في عباده الصالحين ، وذكر في أولي العزم من رسله أنهم من الصالحين في معرض الثناء عليهم. فالصلاح يكون أخصّ وصف للرسل والأنبياء عليهم‌السلام ، وهم بلا خلاف أرفع الناس منزلة وإن فضل بعضهم بعضا ، ومن نال الصلاح من عباد الله ، فقد نال ما دونه ، فله منازل الرسل والأنبياء عليهم‌السلام ، وليس برسول ولا نبي ، لكن يغبطه الرسول والنبي ، لما يناله الرسول والنبي من مشقة الرسالة والنبوة ، لأنها تكليف وبها حصلت لهم المنزلة الزلفى ، ونالها صاحب العمل الصالح المغبوط من غير ذوق هذه المشقات ، ومن هنا تعرف قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوم تنصب لهم منابر يوم القيامة في الموقف : [يخاف الناس ولا يخافون ، ويحزن الناس ولا يحزنون ، لا يحزنهم الفزع الأكبر ، ليسوا بأنبياء ، يغبطهم النبيون] حيث رأوا تحصيلهم هذه المنازل مع هذه الحال ، فهم غير مسئولين من بين الخلائق ، لم يدخلهم في عملهم خلل من زمان توبتهم ، فإن دخلهم خلل فليسوا بصالحين ، فمن شرط الصلاح استصحاب العصمة في الحال والقول والعمل ، ولا يكون هذا

٥٢٢

إلا للعارفين بالمواطن والمقامات والآداب والحكم ، فيحكمون نفوسهم ، فيمشون بها مشي ربهم من حيث هو على صراط مستقيم. فهؤلاء هم الصالحون الذين أثنى الله عليهم بأنه أنعم عليهم ، وهم المطلوبون في هذا المقام ، وأراد بالنبيين هنا الرسل أهل الشرع سواء بعثوا أو لم يبعثوا ، أعني بطريق الوجوب عليهم ، والصالحون هم الذين لا يدخل علمهم بالله ولا إيمانهم بالله وبما جاء من عند الله خلل ، فإن دخله خلل بطل كونه صالحا ، فهذا هو الصلاح الذي رغبت فيه الأنبياء صلوات الله عليهم ، فكل من لم يدخله خلل في صديقيته فهو صالح ، ولا في شهادته فهو صالح ، ولا في نبوته فهو صالح ، ولما كان الإنسان حقيقته الإمكان ، فله أن يدعو بتحصيل الصلاح له في المقام الذي يكون فيه لجواز دخول الخلل عليه في مقامه ، لأن النبي لو كان نبيا لنفسه أو لإنسانيته لكان كل إنسان بتلك المثابة ، إذ العلة في كونه نبيا كونه إنسانا ، فلما كان الأمر اختصاصا إلهيا ، جاز دخول الخلل فيه وجاز رفعه ، فصح أن يدعو الصالح بأن يجعل من الصالحين ، أي الذين لا يدخل صلاحهم خلل في زمان ما. (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً).

(ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً (٧٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ

٥٢٣

لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) (٧٦)

فإن الماء وهو العنصر الأعظم في الإنسان أقوى من النار وهو العنصر الأعظم في الجان ، فلم ينسب إلى الشيطان من القوة شيئا ، وسبب ذلك أن النشأة الإنسانية تعطي التؤدة في الأمر والأناة والفكر والتدبر ، لغلبة العنصرين من الماء والتراب على مزاجه ، فيكون وافر العقل ، لأن التراب يثبطه ويمسكه ، والماء يلينه ويسهله ، والجان ليس كذلك ، فإنه ليس لعقله ما يمسكه عليه ذلك الإمساك الذي للإنسان ، وبذلك ضلّ عن طريق الهدى لخفة عقله وعدم تثبته في نظره فقال : أنا خير منه ، فجمع بين الجهل وسوء الأدب لخفته فأولياء الشياطين وليهم الطاغوت.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (٧٧)

(قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) أي التمتع بها قليل ، فما زهذ من زهد إلا لطلب الأكثر ، فما تركوا الدنيا إلا حذرا أن يرزأهم في الآخرة ، وأما من أمسك الدنيا من الأنبياء والكمّل من الأولياء ، فأمسكوا باطلاع عرفاني ، أنتج لهم أمرا عشقه بما في الإمساك من المعرفة والتحلي بالكمال ، لا عن بخل وضعف يقين. أرسل الله تعالى على أيوب رجل جراد من ذهب ، فسقط عليه ، فأخذ يجمعه في ثوبه ، فأوحى الله إليه : ألم أكن أغنيتك عن هذا؟ فقال : لا غنى لي عن خيرك. فانظر ما أعطته معرفته. واعلم أن ما عند الله لا نهاية له ، ودخول ما لا نهاية له في الوجود محال ، فكل ما دخل في الوجود فهو متناه ، فإذا أضيف ما تناهى إلى ما لا يتناهى ظهر كأنه قليل ، أو كأنه لا شيء.

٥٢٤

(أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) (٧٨)

(أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) فإنه لا ينجي حذر من قدر ، وكان الكافرون يتطيرون بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) فقال له تعالى (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي ما يحدث فيهم من الكوائن من حيث أنها فعل. والسيئة هنا ليست السيئة المحكوم بها من الشرع ، وذلك هو الشرّ ، وإنما هو فيما يسوءك وهو مخالفة غرضك ، فقال له تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ما يسوءكم وما يحسن عندكم والتعريف بذلك من عند الله ، والحكم بأن هذا من الله وهذا من نفسك وهذا خير وهذا شر ، فأنكر عليهم أن تكون السيئة من عند محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأضاف الكل إلى الله ، والكل خير وهو بيده ، والشر ليس إليه ؛ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعائه ربّه [والشر ليس إليك] فالمؤمن ينفي عن الحق ما نفاه عن نفسه ، ولذلك قال في معرض الذم في حق من جهل ما ذكرناه (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي هو الذي حسن الحسن وقبح القبيح (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) أي أنتم محجوبون لا تعلمون ما نحدثكم به ، فإن الشرع كله حديث وخبر إلهي بما يقبله العقل فما لهؤلاء القوم لا يفقهون ما حدثناهم به من أن الكل من عندنا ذما وحمدا فلا يذمون ما سميناه مذموما ويحمدون ما سميناه محمودا ، وينظرون الأشياء من حيث علمناهم ووصفناها ، لا من حيث إسنادها إلينا بحكم الإيجاد؟! واعلم أن الحديث قد يكون حديثا في نفس الأمر ، وقد يكون حديثا بالنسبة إلى وجوده عندك في الحال وهو أقدم من ذلك الحدوث ، فقد يكون حادثا في نفسه ذلك الشيء قبل حدوثه عندك ، وقد يكون حادثا بحدوثه عندك ، أي ذلك زمان حدوثه ، وهو ما يقوم بك أو بمن بخاطبك أو يجالسك من الأغراض في الحال ، وأما عندية الله فهي على قسمين ، أعني ما هو عنده : القسم الواحد ما هو عليه من الأمر الذي يعقل زائدا على هويته وإن لم نقل فيه إنه غيره ولا عينه أيضا ، كالصفات المنسوبة إليه ، لا هي هو ولا هي غيره ، وقد

٥٢٥

يكون عنده ما يحدثه فينا ولنا ، وهو مثل قوله (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) ، وهذا الذي عندنا على نوعين : نوع يحدث صورته لا جوهره كالمطر ، فإنا نعلم ما هو من حيث جوهره وما هو من حيث صورته ، وكل العالم على هذا ، أو هو النوع الآخر ما يحدث جوهره وليس إلا جوهر الصورة ووجود جوهر العين القائمة به تلك الصورة ، فإنه لا وجود لعين جوهرها الذي قامت به إلا عند قيامها به ، فهو قبل ذلك معقول لا موجود العين ، فموضع الصورة أو محلّ الصورة من المادة يحدث له الوجود بحدوث الصورة في حال ما ، لا في كل حال ، وينعدم من الوجود بعدمها ما لم تكن صورة أخرى تقوم به ، والكل عند الله ، فما ثمّ معقول ولا موجود يحدث عنده ، بل الكل مشهود العين له بين ثبوت ووجود. فالثبوت خزائنه والوجود ما يحدثه عندنا من تلك الخزائن. ومن هنا تعلم جميع المحدثات ما هي ، ومتى ينطلق عليها اسم الحدوث ومتى تقبل اسم العدم. ـ إشارة ـ فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا فأحرى قديما. ـ نصيحة ـ إن من شرف العلم أن يعطي العالم وكلّ مرتبة ما لها من الحكم ، ومن علم السر ، أن لا يقطع العالم به على ربه عزوجل بأمر ، فإن قطع وحكم فقد جهل وظلم ، ومع أنه تعالى ما عصي إلا بعلمه ولا خولف إلا بحكمه ، لا يقول ذلك العاصي وإن اعتقده ، وكان ممن اطلع عليه وشهده ، وكذلك حكم الطاعة إلى قيام الساعة ، فالعلماء هم الحكماء لا يتعدون بالسلعة قيمتها ، ولا بكل نشأة شيمتها ، لولا ذلك ما كانت الأنبياء ، ولا فرّق في الحكم بين الأعداء والأولياء ، ولا عرفت المراتب ولا شرعت المذاهب ، ولا كانت التكاليف ولا حكمت التصاريف ، ولا كان أجل مسمى ولا تميز البصير من الأعمى ، فمن الأدب مع الله ألا يضاف إليه إلا ما أضافه إلى نفسه ، كما قال تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) وقال في السيئة (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) وقال : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) قال ذلك في الأمرين إذا جمعتهما ، لا تقل من الله ، فراع اللفظ. واعلم أن لجمع الأمر حقيقة تخالف حقيقة كل مفرد إذا انفرد ولم يجتمع مع غيره ؛ ففصل سبحانه بين ما يكون منه وبين ما يكون من عنده ، فما لهم لا يفقهون ما حدثتهم به فإني قد قلت.

(ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ

٥٢٦

وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٧٩)

فرفعت الاحتمال أو نصصت على الأمر بما هو عليه ، فأضاف السوء إليك والحسن إليه ، وقوله صدق وإخباره حق. وما أصابك من سيئة فمن نفسك ، لا من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما أعطيتك إلا على قدر قبولك. والسيئة في هذه الآية ظاهر الاسم وما هي السيئة شرعا فتكون فجورا ، وإنما هو ما يسوءه ولا يوافق غرضه ، وهو في الظاهر قولهم (إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) فأمره سبحانه أن يقول (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) فيعلم العالم بالله أنه أراد الحكم والإعلام بذلك أنه من عند الله لا عين السوء. ولما علم ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : [الخير كله بيديك والشر ليس إليك] ـ مسئلة نسبة الأفعال ـ إن لله بلا شك رائحة اشتراك في الفعل بالخبر الإلهي ، فأضاف العمل وقتا إلينا ووقتا إليه ، فلهذا قلنا فيه رائحة اشتراك ؛ قال تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) فأضاف الكل إلينا ، وقال (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) فقد يكون عطاؤه الإلهام ، وقد يكون خلق العمل. وقال تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) فأضاف الكل إليه ، وهذه مسئلة لا يتخلص فيها توحيد أصلا ، لا من جهة الكشف ولا من جهة الخبر ، فالأمر الصحيح في ذلك أنه مربوط بين حق وخلق ، غير مخلص لأحد الجانبين ، فإنه أعلى ما يكون من النسب الإلهية أن يكون الحق تعالى هو عين الوجود الذي استفادته الممكنات. فما ثمّ إلا وجود عين الحق لا غيره ، والتغييرات الظاهرة في هذه العين أحكام أعيان الممكنات ، فلولا العين ما ظهر الحكم ، ولولا الممكن ما ظهر التغيير ، فلا بد في الأفعال من حق وخلق. وفي مذهب بعض العامة أن العبد محل ظهور أفعال الله وموضع جريانها ، فلا يشهدها الحسّ إلا من الأكوان ، ولا تشهدها بصيرتهم إلا من الله من وراء حجاب هذا الذي ظهرت على يديه المريد لها المختار فيها ، فهو لها مكتسب باختياره ، وهذا مذهب الأشاعرة. ومذهب بعض العامة أيضا أن الفعل للعبد حقيقة ، ومع هذا فربط الفعل عندهم بين الحق والخلق لا يزول ، فإن هؤلاء يقولون : إن القدرة الحادثة في العبد التي يكون بها هذا الفعل من الفاعل أن الله خلق له القدرة عليها ، فما يخلص الفعل للعبد إلا بما خلق الله فيه من القدرة عليه ، فما زال الاشتراك ، وهذا مذهب أهل الاعتزال ، فهؤلاء ثلاثة أصناف : أصحابنا والأشاعرة والمعتزلة ما زال منهم وقوع

٥٢٧

الاشتراك ، وما ثمّ عقل يدل على خلاف هذا ولا خبر إلهي في شريعة تخلص الفعل من جميع الجهات إلى أحد الجانبين ، فلنقره كما أقره الله على علم الله فيه ، وما ثمّ إلا كشف وشرع وعقل ، وهذه الثلاثة ما خلصت شيئا ولا يخلص أبدا دنيا ولا آخرة. فالأمر في نفسه والله أعلم ما هو إلا كما وقع ، ما يقع فيه تخليص ، لأنه في نفسه غير مخلص ، إذ لو كان في نفسه مخلصا ، لا بد أن كان يظهر عليه بعض هذه الطوائف ؛ ولا يتمكن لنا أن نقول : الكل على خطأ ، فإن في الكل الشرائع الإلهية ، ونسبة الخطأ إليها محال ، وما يخبر بالأشياء على ما هي عليه إلا الله ، وقد أخبر ، فما هو الأمر إلا كما أخبر ، لأن مرجوع الكل إليه ، فما خلص فهو مخلص ، وما لم يخلص فما هو في نفسه مخلص ، فاتفق الحق والعالم جميعه في هذه المسئلة على الاشتراك ، وهو موضع الحيرة فلا يرجح. ولما كان المتكلمون في هذا الشأن على قسمين : الواحد أضاف الأفعال كلها إلى الأكوان ، فقال لسان الغيرة الإلهية (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) أي حادثا ، وأما القسم الثاني فأضاف الأفعال الحسنة كلها إلى الله وأضاف الأفعال القبيحة إلى الأكوان ، فقال لسان الجود الإلهي (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) لا تكذيبا لهم بل ثناء جميلا ، وما ثمّ من قال إن الأفعال كلها لله ولا إلى الأكوان من غير رائحة اشتراك ، فمن السعادة أن يستعمل الإنسان الحضور مع الله في جميع حركاته وسكناته ، وأن تكون مشاهدة نسبة الأفعال إلى الله تعالى من حيث الإيجاد والارتباط المحمود منها ، وأما الارتباط المذموم منها فإن نسبه إلى الله ، فقد أساء الأدب ، وجهل علم التكليف وبمن تعلق ، ومن المكلف الذي قيل له افعل ، إذ لو لم يكن للمكلّف نسبة إلى الفعل بوجه ما ، لما قيل له افعل ، وليس متعلقها الإرادة كالقائلين بالكسب ، وإنما هو سبب اقتداري لطيف مدرج في الاقتدار الإلهي ، الذي يعطيه الدليل ، كاندراج نور الكواكب في نور الشمس ، فتعلم بالدليل أن للكواكب نورا منبسطا على الأرض ، لكن ما ندركه حسا لسلطان نور الشمس ، كما يعطي الحس في أفعال العباد أن الفعل لهم حسا وشرعا ، وأن الاقتدار الإلهي مندرج فيه ، يدركه العقل ولا يدركه الحس ، كاندراج نور الشمس في نور الكواكب ، فإن نور الكواكب هو عين نور الشمس ، والكواكب لها مجلى ، فالنور كله للشمس ، والحسّ يجعل النور للكواكب ، فيقول اندرج نور الكواكب في نور الشمس ، وعلى الحقيقة ما ثم إلا نور الشمس ، فاندرج نوره في نفسه إذ لم يكن ثمّ نور

٥٢٨

غيره ، والمرائي وإن كان لها أثر فليس ذلك من نورها ، وإنما النور يكون له أثر من كونه بلا واسطة في الكون ، ويكون له أثر آخر في مرآة تجليه ، بحكم يخالف حكمه من غير تلك الواسطة. فنور الشمس إذا تجلى في البدر يعطي من الحكم ما لا يعطيه من الحكم بغير البدر ، لا شك في ذلك. كذلك الاقتدار الإلهي إذا تجلى في العبيد فظهرت الأفعال عن الخلق ، فهو وإن كان بالاقتدار الإلهي ، ولكن يختلف الحكم ، لأنه بواسطة هذا المجلى الذي كان مثل المرآة لتجليه. وكما ينسب النور الشمسي إلى البدر في الحس ، والفعل لنور البدر وهو للشمس ، فكذلك ينسب الفعل للخلق في الحسّ ، والفعل إنما هو لله في نفس الأمر ، ولاختلاف الأثر تغير الحكم النوري في الأشياء ، فكان ما يعطيه النور بواسطة البدر خلاف ما يعطيه بنفسه بلا واسطة. كذلك يختلف الحكم في أفعال العباد ، ومن هنا يعرف التكليف على من توجه وبمن تعلق. وكما تعلم عقلا أن القمر في نفسه ليس فيه من نور الشمس شيء وأنّ الشمس ما انتقلت إليه بذاتها ، وإنما كان لها مجلى ، وأن الصفة لا تفارق موصوفها والاسم مسماه ، كذلك العبد ليس فيه من خالقه شيء ولا حل فيه ، وإنما هو مجلى له خاصة ومظهر له ، وكما ينسب نور الشمس إلى البدر ، كذلك ينسب الاقتدار إلى الخلق حسا ، والحال الحال. وإذا كان الأمر بين الشمس والبدر بهذه المثابة من الخفاء ، وأنه لا يعلم ذلك كل أحد ، فما ظنك بالأمر الإلهي في هذه المسئلة مع الخلق ، أخفى وأخفى. وأما المشرك فإنه جاهل على الإطلاق ، فإن الشركة لا تصح بوجه من الوجوه ، فإن إيجاد الفعل لا يكون بالشركة ، ولهذا لم تلتحق المعتزلة بالمشركين ، فإنهم وحدوا أفعال العباد للعباد ، فما جعلوهم شركاء ، وإنما أضافوا الفعل إليهم عقلا وصدقهم الشرع في ذلك. والأشاعرة وحدوا فعل الممكنات كلها من غير تقسيم لله عقلا ، وساعدهم الشرع على ذلك ، لكن ببعض محتملات وجوه ذلك الخطاب ، فكانت حجج المعتزلة فيه أقوى في الظاهر ، وما ذهبت إليه الأشاعرة في ذلك أقوى عند أهل الكشف ، أهل الله ، وكلا الطائفتين صاحب توحيد ، والمشرك إنما جهّلناه لكون الموجود لا يتصف إلا بإيجاد واحد ، والقدرة ليس لها في الأعيان إلا الإيجاد ، فلا يكون الموجود موجودا بوجودين ، فلا يصح أن يكون الوجود عن تعلق قدرتين ؛ فإن كل واحد منهما تعطي الوجود للموجود ، فإذا أعطته الواحدة منهما وجوده فما للأخرى فيه من أثر ، فبطل إذا حققت الشركة في الفعل. فالمشرك الخاسر

٥٢٩

المشروع نعته ، هو من أضاف ما يستحقه الإله إلى غير الله ، فعبده على أنه إله ، فكأنه جعله شريكا في المرتبة ، ولذلك قال تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) ، فهو إنكار عن نسبة الفعل الذي ظهر على العبد من الأمور التي نهى أن يعملها إلى الله ، والسيئة هو ما يسوءك فأنت محل أثر السوء. فمن حيث هو فعل لا يتصف بالسوء ، هو للاسم الإلهي الذي أوجده ، فإنه يحسن منه إيجاد مثل هذا الفعل ، فلا يكون سوءا إلا من يجده سوءا أو من يسوءه وهو نفس الإنسان ، إذ لا يجد الألم إلا من يوجد فيه ؛ ففيه يظهر حكمه لا من يوجده ، فإنه لا حكم له في فاعله ، فهذا معنى قوله (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) وإن كانت الحسنة كذلك ، فذلك يحسن عند الإنسان ، فإنها أيضا تحسن في جانب الحق الموجد لها ، فأضيفت الحسنة إلى الله الموجد لها ابتداء وإن كانت بعد الإيجاد تحسن أيضا فيك ، ولكن لا تسمى حسنة إلا من كونها مشروعة ، ولا تكون مشروعة إلا من قبل الله ، فلا تضاف إلا إلى الله ، والسيئة من قبل الحق حسنة ، لأنه بيّنها لتجتنب ، فتسوء من قامت به إما في الدنيا وإما في العقبى.

(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (٨٠)

لأن الله وكلّه على عباده ، فأمر ونهى ، وتصرف بما أراه الله الذي وكلّه في التبليغ عنه ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينطق إلا عن الله ، بل لا ينطق إلا بالله ، بل لا ينطق إلا الله منه ، فإن الله سمعه وبصره ولسانه ، وما خصّ الاسم الله من غيره من الأسماء في قوله (فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) إلا لكونه الاسم الجامع ، فله معاني جميع الأسماء كلها. واعلم أن كل ما أمر به الحق سمعنا وأطعنا في حال عدمنا ووجودنا إذا لم يخاطبنا بفهوانية الأمثال والأشكال ، فإذا خاطبنا بفهوانية الأمثال والأشكال وألسنة الأرسال ؛ فمن كان مشهوده ما وراء الحجاب ، وهو المثل والرسول سمع فأطاع من حينه ، ومن كان مشهوده المثل ، سمع ضرورة ولم يطع للحسد الذي خلق عليه من تقدّم أمثاله عليه ، فظهر المطيع والعاصي. ولهذا قال بعضهم : إنما احتجب الله في الدنيا عن عباده لأنه سبق في علمه أن يكلفهم ويأمرهم وينهاهم ، وقد قدّر عليهم بمخالفة أمره وبموافقته في أوقات ، فلا بد من ظهور المخالفة والموافقة ، فخاطبهم على ألسنة الرسل عليهم‌السلام ، وحجب ذاته سبحانه عنهم في صورة الرسول ، وذلك لأنه قال (مَنْ يُطِعِ

٥٣٠

الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) ، وقال (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) فوقعت المخالفة بالقدر السابق والحكم القضائي ولا يتمكن أن يخالف أمره على الكشف ؛ فانحجب بالأرسال انحجابه بالأسباب ، فإن الله تعالى يظهرنا وقتا ويستر نفسه فيما هو له ، ووقتا يظهر نفسه ويسترنا بحسب المواطن حكمة منه (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) فجلاه باسمه وكان ظاهرا فستره كما قال (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) فأظهره بكاف الخطاب ثم ستره ، فانظر إلى سريان اللطف الإلهي ما أعجبه وحكمه الظاهر كيف أبان أن طاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طاعته ، وقد ورد في الخبر الصدق والنبأ الحق أنه يجب اتباعه ، وما يتبعه إلا من أطاعه ، واتباع الرسول اتباع الإله ، لأنه قال عزوجل (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ)(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) فصلوا عليه وسلّموا تسليما ، فإن الله يصلي عليه وينظر إليه ، ومن لم يمتثل أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لم يمتثل أمر الله ؛ فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر الله ، فإنه لا ينطق عن الهوى ، فمن يطع الرسول ، فقد أطاع الله ، فإن هويته سمعه وبصره وجميع قواه.

(وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٨١) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٨٢)

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) أي يتفكرون في معانيه (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) الوجه الأول ـ يعني في نعت الحق وما يجب له ، فإن الناظر بفكره في معتقده لا يبقى على حالة واحدة دائما ، بل هو في كل وقت بحسب ما يعطيه دليله في زعمه في وقته ، فيخرج من أمر إلى نقيضه ، فعلوم المتكلمين في ذات الله والخائضين فيه ، ليست أنوارا ، وهم يتخيلون قبل ورود الشبه أنهم في نور وعلى بينة من ربهم في ذلك ، فلا يبدو لهم نقصهم حتى ترد عليهم الشبهة ، وما يدريك لعل تلك الشهبة التي يزعمون أنها شبهة هي الحقّ والعلم ، فإنك تعلم قطعا أن دليل الأشعري في إثبات المسئلة التي ينفيها المعتزلي هو الحق وأنه شبهة عند المعتزلي ، ودليل المعتزلي الذي ينفي به ما يثبته الأشعري شبهة عند الأشعري ، ثم أنه ما من مذهب إلا وله أئمة يقومون به ، وهم فيه مختلفون ، وإن اتصفوا

٥٣١

جميعهم مثلا بالأشاعرة فلا يزالون مختلفين ، مع كون كل طائفة يجمعها مقام واحد واسم واحد ، وهم مختلفون في أصول ذلك المذهب الذي جمعهم ، ورأينا المسمين رسلا وأنبياء قديما وحديثا من آدم إلى محمد ومن بينهما عليهم الصلاة والسلام ، ما رأينا ـ أحدا منهم قط ـ قد اختلفوا في أصول معتقدهم في جناب الله ، بل كل واحد منهم يصدق بعضهم بعضا ، ولا سمعنا عن أحد منهم أنه طرأ عليه في معتقده وعلمه بربه شبهة قط ، ولا اختلف واحد منهم على الآخر في ذلك ، فالله يحول بيننا وبين سلطان أفكارنا فيما لم نؤمر بالتفكر فيه ، الوجه الثاني ـ لما كان الوحي ينزل لترتيب الأمور التي تقتضيها حكمة الوجود ، لذلك قال تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) يخالف ترتيب حكمة الوجود ، وليس إلا من الله ، فهو في غاية الإحكام والإتقان الذي لا يمكن غيره ، فلا يؤمن بما جاء به هذا الرسول إلا من خاطبه الرسول في سره ، وإن لم يشعر به المخاطب ، ولا يعرف من كلمه ، وإنما يجد التصديق بما جاء به في قلبه. وأهل الكشف والحضور يعرفون عن سماع بقلوب وآذان وأبصار كلام الرسول بأن هذا جاء من عند الله ، فيؤمنون به على بصيرة.

(وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً) (٨٣)

اعلم أن الناس يفضل بعضهم بعضا ، فأدناهم منزلة من هو إنسان حيواني ، وأعلاهم من هو ظل الله وهو الإنسان الكامل نائب الحق ، يكون الحق لسانه وجميع قواه ، وما بين هذين المقامين مراتب. ففي زمان الرسل يكون الكامل رسولا ، وفي زمان انقطاع الرسالة يكون الكامل وارثا ، ولا ظهور للوارث مع وجود الرسول ، إذ الوارث لا يكون وارثا إلا بعد موت من يرثه ، فلم يتمكن للصاحب مع وجود الرسول أن تكون له هذه المرتبة ، والأمر ينزل من الله على الدوام لا ينقطع ، فلا يقبله إلا الرسل خاصة على الكمال ، فإذا

٥٣٢

فقدوا حينئذ ، وجد ذلك الاستعداد في غير الرسل ، فقبلوا ذلك التنزل الإلهي في قلوبهم ، فسموا ورثة ، لم ينطلق عليهم اسم رسل مع كونهم يخبرون عن الله بالتنزل الإلهي. فإن كان في ذلك التنزل الإلهي حكم أخذه هذا المنزل عليه وحكم به ، وهو المعبر عنه بلسان علماء الرسوم المجتهد الذي يستنبط الحكم عندهم ، وهو العالم بقول الله (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) ، فهذا حظ الناس اليوم من التشريع بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونحن نقول به ، ولكن لا نقول بأن الاجتهاد هو ما ذكره علماء الرسوم ، بل الاجتهاد عندنا بذل الوسع في تحصيل الاستعداد الباطن الذي به يقبل هذا التنزل الخاص ، الذي لا يقبله في زمان النبوة والرسالة إلا نبي أو رسول ، إلا أنه لا سبيل إلى مخالفة حكم ثابت قد تقرر من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفس الأمر ، فإن لم يكن ذلك في نفس الأمر فلا يلقى إلى هذا المجتهد الذي ذكرناه إلا ما هو الحكم عليه في نفس الأمر ، حتى إنه لو كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيا لحكم به ، مع أنه قرر حكم المجتهد وإن أخطأ. فما أخطأ المجتهد إلا في الاستعداد كما ذكرناه ، فلو أصاب في الاستعداد ما أخطأ مجتهد أبدا ، بل لا يكون مجتهدا في الحكم ، وإنما هو ناقل ما قبله من الحق النازل عليه في تجليه ، وهذا عزيز في الأمة ما يوجد إلا في أفراد ، وعلامتهم أنهم ما يختلفون في الحكم أصلا لوحدانية الرسالة في هذا الزمان ، فإذا اختلفوا فما هم الذين ذكرناهم ، فيكون صاحب الحق إذا كانت الأحكام منحصرة القسمة واحدا منهم ، فإن بقي قسم لم يقع به حكم ربما كان الحق فيه ، ومع هذا تعبد كل واحد بما أعطاه دليله ، فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر ، فوقع الاجتهاد في الاجتهاد ، فإن كنت من أهل الاجتهاد في الاستنباط للأحكام الشرعية ، فأنت وارث نبوة شرعية ، فإنه تعالى قد شرع ذلك في تقرير ما أدى إليه اجتهادك ودليلك من الحكم أن تشرعه لنفسك وتفتي به غيرك إذا سئلت ، وإن لم تسئل فلا. واعلم أن الاجتهاد ما هو في أن تحدث حكما ، هذا غلط ، وإنما الاجتهاد المشروع طلب الدليل من كتاب أو سنة أو إجماع ، وفهم عربي على إثبات حكم في تلك المسئلة بذلك الدليل الذي اجتهدت في تحصيله والعلم به في زعمك ، هذا هو الاجتهاد ، فإن الله تعالى ورسوله ما ترك شيئا إلا وقد نصّ عليه ولم يتركه مهملا ، فإن الله تعالى يقول (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وبعد ثبوت الكمال فلا يقبل الزيادة ، فإن الزيادة في الدين نقص من الدين ، وذلك هو الشرع الذي لم يأذن به الله.

٥٣٣

(فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤) مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) (٨٥)

القاضي حاكم والمقدّر مقيت ، فالقدر التوقيت في الأشياء من اسمه المقيت.

(وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) (٨٦)

لا يجوز تأخير رد التحية بدليل قوله تعالى (فَحَيُّوا) فجاء بالفاء ولم يخصّ صلاة من غيرها ، فيجوز للمصلي أن يرد السلام على من يسلم عليه ، فإنه يجوز التلفظ به في الصلاة وغيرها ، وهو ذكر لله ، فكيف ورد السلام واجب. وعند أهل الإيمان فإن المصلي إذا أراد أن يكبر تكبيرة الإحرام في صلاة الصبح والعصر يقول : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، لأنهم في ذلك الوقت تنصرف عنهم الملائكة التي كانوا فيهم ، وترد عليهم الملائكة الذين يأتون إليهم ، فلا تنصرف عنهم الملائكة الذين كانوا معهم ولا تأتيهم الملائكة الأخر إلا عند شروعهم في الصلاة ، سواء قاموا إليها في أول الوقت أو في آخره ، كل إنسان لا تنصرف عنه الملائكة إلا كما قلنا ، وهم عند إتيانهم يسلمون على العبد ، وعند انصرافهم يسلمون أيضا ، والله قد أمرنا بقوله (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها). فوجب على كل مؤمن عند حق إيمانه وحقيقته أن يرد في ذلك الوقت السلام عليهم ، وإلا فهو طعن في إيمانه إن حضر مع هذا الخبر.

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) (٨٧)

٥٣٤

هذا التوحيد السادس في القرآن ، توحيد الابتداء ، وهو توحيد الهوية المنعوت بالاسم الجامع للقضاء والفصل. فمن رحمة الله أنه قال (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) فما نجتمع إلا فيما نفترق فيه ، وهو الإقرار بربوبيته سبحانه. وإذا جمعنا من حيث إقرارنا له بالربوبية فهي آية بشرى ، وذكر خير في حقنا بسعادة الجميع ، وإن دخلنا النار ، فإن الجمعية تمنع من تسرمد الانتقام لا إلى نهاية ، لكن يتسرمد العذاب وتختلف الحالات فيه ؛ فإذا انتهت حالة الانتقام ووجدان الآلام ، أعطى من النعيم والاستعذاب بالعذاب ما يليق بمن أقر بربوبيته ثم أشرك ثم وحد في غير موطن التكليف. والتكليف أمر عرض في الوسط بين الشهادتين لم يثبت ، فبقي الحكم للأصلين الأول والآخر.

(فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً

٥٣٥

(٩١) وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (٩٢)

ما في الخلق من يملك سوى الإنسان ، وما سوى الإنسان من ملك وغيره لا يملك شيئا ، وما ثم موجود من يقرّ له بالعبودية إلا الإنسان ، فيقال : هذا عبد فلان ولهذا شرع الله له العتق ورغّبه فيه.

(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) (٩٣)

غضب الله لا يخلص عن رحمة إلهية تشوبه ، فغضبه في الدنيا ما نصبه من الحدود والتعزيرات ، وغضبه في الآخرة ما يقيم من الحدود على من يدخل النار ، فهو وإن كان غضبا ، فهو تطهير لما شابه من الرحمة في الدنيا والآخرة ، لأن الرحمة لما سبقت الغضب في الوجود عمّت الكون كله ووسعت كل شيء ، ويخرج تخليد من قتل مؤمنا متعمدا أي قصد قتله لإيمانه : (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ) أي جازاه جزاء المغضوب عليه ، فإن غضب الله تعالى منزه عن غليان دم القلب طلبا للانتصار ، لأنه سبحانه يتقدس عن الجسمية والعرض ، فذلك قد يرجع إلى أن يفعل فعل من غضب ممن يجوز عليه الغضب ، وهو انتقامه سبحانه من الجبارين والمخالفين لأمره والمتعدين حدوده ، فالمجازي يكون غاضبا ؛ فظهور الفعل أطلق الاسم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى

٥٣٦

إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٩٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٩٤) لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) (٩٥)

المقصود من الجهاد هو إعلاء كلمة الله في الأماكن التي يعلو فيها ذكر غير الله ممن يعبد من دون الله قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [سياحة هذه الأمة الجهاد] واعلم أيدك الله أنّ المجاهدين هم أهل الجهد والمشقة والمكابدة ، والمجاهدة مقام مستصحب للتكليف ، فما دام التكليف موجودا كانت المجاهدة قائمة العين ، فإذا زال حكم التكليف زالت المجاهدة ، والمجاهدون أربعة أصناف : مجاهدون من غير تقييد بأمر ، وهو قوله تعالى : (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ) ومجاهدون بتقييد في سبيل الله وهو قوله (وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) ، ومجاهدون فيه وهو قوله (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) ومجاهدون في الله حق جهاده. ولما كان إتلاف المهج أعظم المشاق على النفوس ، لهذا سمي جهادا ، فإن النفوس نفسان : نفس ترغب في الحياة الدنيا لألفتها بها ، فلا تريد المفارقة وتشق عليها ، ونفس ترغب في الحياة الدنيا لتزيد طاعة وأفعالا مقربة وترقيا دائما مع الأنفاس ، فشقّ عليها مفارقة الحياة الدنيا ، فلهذا سمي جهادا : (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) وما عظم الله لا يقدر قدره.

(دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٩٦)

(دَرَجاتٍ مِنْهُ) وما جعلها درجة واحدة ، فإن جهادهم مطلق غير مقيد ، كما قال في المجاهدين في سبيل الله ، وهو جهاد مقيد حيث جعل لهم درجة واحدة ، ثم زادهم ما

٥٣٧

ذكر في تمام الآية (وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) كان حرف وجودي ، ويطلق من الوجه الذي لا يقبل به ظرفية الزمان على الله ، فيقال (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) (٩٧)

قال تعالى : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) ولم يقل منها ولا إليها ، فهي أرض الله سواء سكنها من يعبده أو من يستكبر عن عبادته ، فإن مكة أشرف البقاع وإنها بيت الله الذي يحج إليه من مشارق الأرض ومغاربها ، ومع ذلك أمر وعظم الأجر لمن يهاجر منها من أجل ساكنيها ، فلما فتحها الله وأسكنها المؤمنين من عباده قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لا هجرة بعد الفتح] ولما قال تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أي حكم ، فما عبد من عبد غير الله إلا لهذا الحكم ، فلم يعبد إلا الله وإن أخطؤوا في النسبة ، إذ كان لله في كل شيء وجه خاص ، به ثبت ذلك الشيء ، فما خرج أحد عن عبادة الله. ولما أراد الله أن يميّز بين من عبده على الاختصاص وبين من عبده في الأشياء ، أمر بالهجرة من الأماكن الأرضية التي يعبد الله فيها في الأعيان ، ليميز الله الخبيث من الطيب ، فالخبيث هو الذي عبد الله في الأغيار ، والطيب هو الذي عبد الله لا في الأغيار. فعليك بالهجرة ، ولا تقم بين أظهر الكفار ، فإن في ذلك إهانة دين الإسلام وإعلاء كلمة الكفر على كلمة الله ، فإن الله ما أمر بالقتال إلا لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى. وإياك والإقامة أو الدخول تحت ذمة كافر ما استطعت. واعلم أن المقيم بين أظهر الكفار مع تمكنه من الخروج من بين ظهرانيهم لا حظّ له في الإسلام ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد تبرأ منه ، ولا يتبرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مسلم ، وقد ثبت عنه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : [أنا بريء من مسلم يقيم بين أظهر المشركين] فما اعتبر له كلمة الإسلام. وقال الله تعالى فيمن مات وهو بين أظهر المشركين (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ)

٥٣٨

قال الله لهم (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً). ولهذا حجرنا في هذا الزمان على الناس زيارة بيت المقدس والإقامة فيه لكونه بيد الكفار ، فالولاية لهم والتحكم في المسلمين ، والمسلمون معهم على أسوأ حال نعوذ بالله من تحكم الأهواء ، فالزائرون اليوم البيت المقدس والمقيمون فيه من المسلمين هم من الذين قال الله فيهم (ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً).

(إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) (٩٩)

العفو يجمع بالدلالة بين القليل والكثير ، هكذا هو في أصل وضع اللسان. واتصاف الحضرة الإلهية بالعفو أنها تعطي ما تقتضيه الحاجة ، لا بد من ذلك. من كونه سخيا حكيما ، ثم يزيد في العطاء في كونه منعما مفضلا غير محجور عليه ، ولا تقضي عليه الحاجات بالاقتصار على ما يكون به الاكتفاء. وأما في المؤاخذة على الذنوب فهو عفو بما يعطي من قليل العذاب ، وهو عفو بما يعطي من كثير المغفرة والتجاوز ، ثم يغفر الله ويجود بالإنعام ورفع الآلام.

(وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (١٠٠)

الهجرة هي الاغتراب عن الأوطان ، وممن أجره على الله ، المهاجر يموت قبل وصوله إلى المنزل الذي هاجر إليه ، فإن أجره على الله على قدر الباعث الذي بعثه على الهجرة ، والناس في ذلك متفاضلون. ثم إن الله ينوب عن رسوله فيما يعطيه من الأجر ، فإنه خرج مهاجرا إلى الله ورسوله ، ثم إن له أجر الفوت بالموت الذي أدركه وذلك من الله ، فإنه

٥٣٩

الذي رزأه وحال بينه وبين الوصول إلى مهاجره ، فالدية عليه. فإن كان هذا الذي يموت عالما عاقلا فأعظم من لقاء الله ورؤيته فما يكون ، وقد حصل له ذلك بالموت ، فهو أفضل في حقه من أن يعيش حتى يصل ، فإنه لا يدري ما دام في الحياة الدينا ما يتقلب عليه من الأحوال ، فإنّه في محل خطر سريع التبديل. وصح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا الباب ما خرّجه البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لامرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه] ثم يضاف إلى هذه الأجور قدر كرم المعطي وغناه ، وهذا يدخل تحت قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر] يعني من المجزيين. وقد أكد الله تعالى هذا الأجر على غيره ممن له أجر على الله بالوقوع وهو الوجوب ، فإن الأجر قد يقتضيه الكرم من غير وجوب وقد يقتضيه الوجوب ، والذي يقتضيه الوجوب أعلى. والمهاجر من ترك ما أمر الله ورسوله بتركه وبالغ في ترك ذلك لله خالصا من كل شبهة ، عن كرم نفس وطواعية لا عن كره وإكراه ولا رغبة في جزاء ، بل كرم نفس بمقاساة شدائد يلقاها من المنازعين له في ذلك ، ويسمعونه ما يكره من الكلام طبعا ، فيتغير عند سماعه ، ويكون ذلك كله عن اتساع في العلم ، والدؤوب على مثل هذه الصفة ، وتقيده في ذلك كله بالوجوه المشروعة لا بأغراض نفسه ، ويكون به كمال مقامه. فإذا اجتمعت هذه الصفات في الرجل فهو مهاجر ، فإن فاته شيء من هذه الفصول والنعوت فاته من المقام بحسب ما فاته من الحال. وإنما قلنا هذا كله واشترطناه لما سماه الله مهاجرا ، والله بكل شيء عليم ، فكل ما يدخل تحت هذا اللفظ مما ينبغي أن يكون وصفا حسنا للعبد فيسمى به صاحب هجرة اشترطناه في المهاجر ، لانسحاب هذه الحقيقة اللفظية في نفس الوضع على ذلك المعنى الذي اشتق من لفظه هذا الاسم.

(وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) (١٠١)

٥٤٠