رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

في الحرم الذي يحرم القتال فيه (وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أي لا تتجاوزوا ما حددنا لكم من النهي عن قتل الرهبان والنساء والصبيان وكل من انحجز عن قتالكم من الرجال ، لكن هذا في الحرم خاصة ، وأما في غير الحرم فنحن مأمورون بقتال المشركين كافة فلا يغنيهم كونهم انحجزوا عنهم ، فلا نقاتل في الحرم إلا من باشر القتال ، ووقع النهي

____________________________________

حيث ثقفتموهم أي وجدتموهم على طريق القهر والغلبة ، يقال في اللسان رجل ثقف إذا كان سريع الأخذ لأقرانه ، وإذا كان على هذا ، فلا يكون قتالهم على وجه الأخذ والغلبة إلا بعد المنع مما دعوناهم إليه ، أو ابتداء القتال منهم ، ثم قال : (وَأَخْرِجُوهُمْ) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين (مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) يعني مكة ، وهو قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لورقة بن نوفل حين أخبره أن قومه يخرجونه ، قال : أو مخرجي هم؟ قال : نعم ، فقال الله له : (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ، وَالْفِتْنَةُ) أي الابتلاء بالصد عن المسجد الحرام وبمفارقة الأوطان ، والخروج من الديار مع وجود الحياة وتجدد الآلام في كل وقت لذلك (أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) فإن القتل إنما هو ساعة وينتقل فيستريح من عذاب مفارقة الوطن عن كره لشغله بما يصير إليه من خير أو شر ، وإن أراد بالفتنة الكفر بالله والشرك ، فنقول : والشرك بالله في الحرم أشد من القتل بلا شك ، ثم قال : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) أي لا تبدؤوهم بقتال كما ذكرنا قبل ، وقد يفهم من هذا ما ذهب إليه عطاء بن أبي رباح أن الحرم كله مسجد ، فإن النهي إنما وقع عن القتال في الحرم ، وهذا الخطاب عام إلى يوم القيامة ، ثم قال : (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) أي فإن قاتلوكم فيه يعني في الحرم ، فهنا لا يسوغ إلا قتال من قاتل منهم لا قتال من انحجز عنهم ولم يقاتل لحرمة الحرم ، وكذلك في غير الحرم لو انحجز من المحاربين طائفة ولم تقاتل وطلبت السلم منا وأخرجوا أيديهم عن طاعة من قاتلنا منهم لغير خداع فلنا أن نسالم تلك الطائفة ، ثم قال : (كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) فجعل قتالنا لمن قاتلنا جزاء ، والجزاء لا يكون ابتداء ، ففيه تأكيد أن لا نبدأ بقتال كما أشرنا ، والكاف في كذلك إن شئت جعلتها زائدة ، وإن شئت كانت صفة ، أي مثل ذلك يكون أيضا جزاء الكافرين من أهل الكتاب إذا قاتلوكم وكل من قاتلكم ممن ليس بمشرك لما كانت الآية نزلت في حرب أهل الأوثان الذين ليسوا أهل كتاب ، فأراد الله تعريفنا بأن ذلك جزاء كل كافر شرعا ، ثم قال : (١٩٣) (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فإن انتهوا عن قتالكم في الحرم أو عن الشرك والكفر ، فإن الله يغفر لهم ما وقع منهم من الإثم والعدوان في أيام كفرهم (رَحِيمٌ) بكم وبهم حيث قرر لهم أن يسلموا على ما أسلفوا من خير ولم يحبط لهم ما كانوا عليه في الكفر من العتق والبر ومكارم الأخلاق ، وإن تمادوا على غيهم ولم ينتهوا قال :

٢٨١

عن القتال في الحرم ، وهذا الخطاب عام إلى يوم القيامة ، وقوله تعالى : (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) أي فإن قاتلوكم فيه يعني في الحرم فهنا لا يسوغ إلا قتال من قاتل منهم ، لا من انحجز عنهم ولم يقاتل لحرمة الحرم ، وكذلك في غير الحرم ، لو انحجز من المحاربين طائفة

____________________________________

(١٩٤) (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي حتى لا يبقى كفر ولا يبقى كافر في قوة تكون منه فتنة ، أي محنة وبلاء للمؤمنين (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) إما بزوال الكفر رأسا ، وإما بإعلاء كلمة الله على كلمة الكفر بأن يكونوا تحت ذمة المسلمين إن كانوا من أهل الكتاب ، وأما المشركون من عبدة الأوثان فليس إلا الإسلام أو القتل (فَإِنِ انْتَهَوْا) أيضا (فَلا عُدْوانَ) أي فلا تعتدوا (إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) إن اعتدوا عليكم مثل قوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) فسمى جزاء الظالم ظلما ، كأنه عين الظلم الذي فعله عاد عليه ، مثل قوله : [إنما هي أعمالكم ترد عليكم] ثم قال : (١٩٥) (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) نزلت هذه الآية في عمرة القضاء ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الحديبية جاء معتمرا والمؤمنين معه ، فصدهم المشركون عن المسجد الحرام والوصول إليه ، وكان في الشهر الحرام الذي هو ذي القعدة ، وما كان لهم أن يصدوه في هذا الشهر ، فلما كان في العام القابل جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمرة القضاء الذي صدّ عن إتمامها عام أول في هذا الشهر ، وكان المشركون قد عاهدوه على أن يخلوا بينه وبين الكعبة ثلاثة أيام في العام الآتي ، وخاف المسلمون أن لا يفي المشركون بعهدهم فتأهبوا لقتالهم إن صدوهم ، فلما جاؤوا أيضا في ذي القعدة خلوا بينهم وبين الكعبة على الشرط المعروف المذكور ، فأقاموا ثلاثة أيام ثم خرجوا ، وكان الله قد أنزل عليهم (الشَّهْرُ الْحَرامُ) الذي قضيتم فيه عمرتكم (بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) الذي صدوكم فيه عن تمام العمرة (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) أي من انتهك حرمة انتهكت حرمته ، فإن دخول المسلمين في عمرة القضاء الحرم كان من أشق شيء على المشركين ، وقال الله لنبيه والمؤمنين : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ) فقاتلكم أو آذاكم (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) من غير زيادة (وَاتَّقُوا اللهَ) في الابتداء بالتعدي أو بمجاوزة المثل في القصاص فيمن اعتدى عليكم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) بالنصر والكلاءة ، في هذه الآية دليل لمن يرى أن يعتدي من اعتدي عليه بمثل ما اعتدي عليه في مال وغير ذلك من غير حكم حاكم ولا ارتفاع إليه ، وهو مذهب ابن عباس ، ومنع غيره من ذلك وقال له : ليس له أن يتعدى عليه ويرفعه إلى الحاكم ، ويكون معنى قوله : (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) بعد حكم الحاكم لا تتجاوزوا القدر الذي اعتدى عليكم فيه إذا مكنتم من القصاص ، وكلا الوجهين سائغ في الآية ، والأول أقوى والثاني أحوط ، وفي عمرة القضاء التي نزلت فيها هذا الآية أنّ الشروع في نوافل العبادات ملزم ، قال تعالى : (وَلا تُبْطِلُوا

٢٨٢

ولم تقاتل وطلبوا السلم منّا وأخرجوا أيديهم من طاعة من قاتلنا منهم لغير خداع فلنا أن نسالم تلك الطائفة.

(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (١٩٥)

(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) وهو هنا البخل (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) المحسنون بما أشهدهم من كبريائه.

____________________________________

أَعْمالَكُمْ) وفيها قضاء نوافل العبادات ، وفيه أنه من صدّ عن عبادة شرع فيها فله أجر الصد وما له أجر العمل ، إذ لو كان له أجر العمل ـ وفائدة العمل حصول الثواب ـ وقد حصل ، فكان إذا شرع في وقت آخر في مثل ذلك العمل لا يكون قضاء ، وإنما يكون ابتداء عمل آخر مشابه للعمل الذي صدّ عنه ، ولا كان يسمى ذلك عمرة القضاء ، هذا إن كان النقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه التسمية ، وإن لم تكن منه فهذه عمرة أخرى ، وتلك العمرة التي صد عن إتمامها حصل له أجرها وكان محله حيث حبس ، ولهذا شرع للمحرم أن يقول : إن محلي حيث حبستني ، وإذا لم يقل ذلك عندنا وحبس عن تمام حجه أو عمرته فعليه دم على تركه هذا القول ، فإنه السنة ، والدماء في الحج لترك السنن ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قضى الركعتين اللتين كان يصليهما بعد الظهر بعد العصر ، وأخبر أنهما تلك الركعتان ، فقضاهما وما كان قد شرع فيهما ، وإنما جاء الوفد فشغله قبل الشروع فيهما ، فكان قضاء لخروج الوقت الذي كان التزم أن يصليهما فيه دائما ، ثم قال : (١٩٦) (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية ، يقال أهلك فلان نفسه بيده ، فالمعنى ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة ، وقد تكون الباء زائدة ، والمعنى ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة ، أي إذا دعاكم ما يكون فيه هلاككم لا تلقوا بأيديكم إليه ، أي لا تنقادوا ولا تسمعوا له ، يحتمل سبيل الله هنا طرق البر كلها ، ويحتمل الجهاد خاصة ، وإن كان نزولها في الجهاد لما آثرت الأنصار الإقامة في أهلها وإصلاح أموالها وترك الجهاد حين فشا الإسلام وكثر ، ولكن سبيل الله كثيرة ، فالعدول إلى التخصيص تحكم أنه المقصود بالآية ، والتهلكة هنا يحتمل أمران : الواحد البخل ، والآخر التبذير ، فكأنه يريد الاقتصاد في النفقة حتى لا يقعد ملوما محسورا ، ولا يترك أولاده عالة يتكففون الناس ، وهذا يبنى على قدر الأوقات ، فقد يحسن في وقت بل يجب إخراج المال كله

٢٨٣

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (١٩٦)

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) وهو إتيانهما على الكمال ، وتمامهما إتيانهما كما شرعتا ، والعمرة بلا شك تنقص عن أفعال الحج ، وكمالها إتيانها كما شرعت ، (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) المحصر هو الممنوع عن الحج أو العمرة بأي نوع كان من المنع ، بمرض أو بعدو أو غير ذلك ،

____________________________________

لإقامة الدين والمصلحة ، وقد يحسن في وقت الاقتصاد في النفقة وترجيح إبقاء البعض من المال ، فقال تعالى : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي أخرجوا ما رزقكم الله وجعلكم مستخلفين فيه في سبيل الله ، أي في الطريق التي فرض الله عليكم ، أو ندبكم أن تخرجوا فيها الأموال ، وإذا أمر الإنسان أن يبذل نفسه التي هي أشرف من ماله ويهلكها في سبيل الله فالمال أحرى وأولى (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) يقول : إلى البخل بذلك ، فإن فيه الهلاك ، أو يقول : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) بأن تنفقوها مبذرين ، والتبذير الإنفاق في غير طاعة الله ، وهو الإسراف وقد يكون الإنفاق في غير الأولى ، وهو أن يتعرض له سبيلان إلى الخير ، وأحدهما آكد في الدين من الآخر وأعظم وللشرع به عناية ، غير أن نفس هذا المكلّف صاحب المال له غرض نفسي في السبيل الآخر الذي هو دون الآخر في عناية الشرع به ، فينفق فيه ويترك الأولى ، فيكون ممن ألقى بيده إلى التهلكة ، حيث اختار ما لم يختر له الحق ، ولا سيما والله يقول : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) فأثبت هذا العبد لنفسه ما نفاه الحق عنه ، ثم قال : (وَأَحْسِنُوا) في النفقة ، وهذا يؤيد ما ذكرناه ، وهو أن الإحسان أن تعبد

٢٨٤

والمحصر يحل من عمرته وحجه حين أحصر ، فإن كان المحرم قال حين أحرم إن محلي حيث تحبسني كما أمر ، فلا هدي عليه ، ويحل حيث أحصر ، وإن لم يقل ذلك وما في معناه فعليه الهدي ، وإن كان مع المحصر هدي تطوع نحره حيث أحل ، ولا إعادة على المحصر في حج التطوع وعمرته إن كان عليه في ذلك حرج ، فإن لم يكن عليه فيه حرج فليعد ، وأما الفريضة فلا تسقط عنه إلا إن مات قبل الإعادة فيقبلها الله له عن فريضته ، وإن لم يحصل منه إلا ركن الإحرام ، بل ولو لم يحصل منه إلا القصد والتعمل ، وما أوقع الخلاف بين العلماء في الإحصار إلا فهمهم في اللسان ، لأنه جاء في الآية بالوزن الرباعي ، ونقل أنه يقال : حصره المرض وأحصره العدو ، وقوله تعالى : (أُحْصِرْتُمْ) هو من أحصر لا من حصر ، يقال : فعل به كذا إذا أوقع به الفعل ، فإذا عرضه لوقوع الفعل يقال فيه أفعل ، وفي اللسان أحصره المرض وحصره العدو بغير ألف ، فهو في المرض من الفعل الرباعي ، وفي العدو من الفعل الثلاثي (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ، وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ، فَمَنْ كانَ

____________________________________

الله في هذه النفقة كأنك تراه ، وإذا كنت بهذه المثابة فمن المحال أن ترجح إلا ما رجح الله من النفقة في إحدى السبيلين ، ويختار ما اختاره وقال : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) يقول : الذين يعبدونه على المشاهدة ، لأن جميع الخيرات وإيثار جناب الحق تستلزم الإحسان في العبادة ، ثم قال : (١٩٧) (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) الآيات ، في هذه الآية دليل على أن الشروع ملزم ، وأن الإنسان إذا شرع في عبادة من تطوع أو واجبة عليه ، لزمه إتمامها على حد ما شرعها الله ، إما في كتابه أو على لسان رسوله المبلغ عنه والمبين ، كما شرع فيمن أحرم بالحج وليس له هدي أن يرد حجه عمرة ولا بد ، أو المرأة تحرم بعمرة فتحيض وتعرف أن حيضتها تكون معها في أيام الحج فترفض عمرتها وتحرم بالحج ، فإذا قضت الحج طافت بالبيت وقضت مكان عمرتها عمرة ، فقوله : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) معرى عن الموانع ، وليس في هذه الآية دليل على وجوب الحج والعمرة على هذه القراءة ، وإنما ورد الأمر بالإتمام لمن دخل فيهما أو في أحدهما على الشرط المعتبر المشروع ، ولما قرن الحق بينهما في الإتمام وما أفرد للعمرة لفظا ثانيا من هذا الفعل ، يستروح منه ترجيح القران على الإفراد ، والكل جائز وإنما يقع الخلاف إما في الأفضل في ذلك ، وإما فيما فعله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك ، هل كان قارنا أو حاجا؟ وأما قوله : (لِلَّهِ) يريد الإخلاص في العبادة لله (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) لا يشوبه شيء من عمل لأجل ثواب أو خوف عقاب ، وإنما يقصد بذلك امتثال أمر الله إن كان واجبا ، أو إتيان ما رغب الله في إتيانه

٢٨٥

مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ ، فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) الفدية واجبة على من أماط الأذى من ضرورة ، ومن أماط الأذى من غير ضرورة عليه دم ، فإنه غير متأذ في نفسه ، أي أنه ليس بذي ألم لذلك ، ولذلك جعل محل الأذى الرأس المحس به وما جعله الشعر ، فما ثم ضرورة توجب الحلق ، ولا فدية على من أماط الأذى ناسيا ، والناسي هنا هو الناسي لإحرامه ، والفدية هنا على التخيير ، صيام ثلاثة أيام ، أو صدقة إطعام ست مساكين نصف صاع لكل مسكين ، أو نسك شاة (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أوجب الله على المتمتع بالعمرة وهي الحج الأصغر أن يقدم الهدي إما نسيكة على ما تيسر ، وإما صوما لمن قصده بتلك الزيارة ، فهي الهدية له فإن الصوم له وهو الذي نزل عليه الحاج ، فلذلك كان الصوم هدية لأنه يستحقها ، بل هي أليق به من الهدي ، فإنه لا يناله من الهدي إلا التقوى خاصة من المهدي ، والصوم كله هو له فهو أعظم من الهدية ، والهدية من القادم للذي قدم عليه معتادة ، وإنما جعل الله الصوم لمن لم يجد هديا لأن الهدي ينال الحق منه التقوى ، وينال العبد منه ما يكون له به التغذي وقوام نشأته ، فراعى سبحانه منفعة العبد مع ما للحق فيه من نصيب التقوى مع الوجود ، فقال تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) فإذا لم يجد رفق به سبحانه فأوجب عليه الصوم ، إذ كان الصوم له فأقامه مقام الهدية ، بل هو أسنى ، وقنع الحق بثلاثة أيام

____________________________________

إن كان تطوعا ، ثم قال : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) يقول : فإن منعكم مانع من إتمام الحج وحبسكم حابس عنه بعد إحرامكم من عدو أو مرض أو ما كان ، قال تعالى : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) فالظاهر أن الفقر أحصرهم عن الضرب في الأرض ، وهذا هو أوجه عموم الموانع ، على أن الناس اختلفوا كثيرا في هذا الإحصار المذكور في هذه الآية ، فما من نوع من أنواع المنع إلا وقد قال به قائل ، فلا فائدة في إيراده ، إذ قد أدخلناه في قولنا : [أو ما كان] وإذا كان ذلك كذلك ، فنقول إن المحصر بالعدو اتفق الأكثرون على أنه يحل من عمرته أو حجه حين أحصر ، وقالت طائفة منهم الثوري لا يتحلل إلا يوم النحر ، فأما القائلون بتحلله حين أحصر اختلفوا في إيجاب الهدي ، فمنهم من منع وقال لا يجب عليه هدي ، وإن كان معه هدي نحره حيث أحل وهو قول مالك ، وقال غيره بوجوب الهدي عليه وأن ينحره حيثما أحل ، وقال أبو حنيفة يذبحه بالحرم ، وأما إعادة

٢٨٦

في الحج رفقا به ، حتى يكون قد أتى إليه بشيء ، فيفرح القادم بتلك التقدمة التي قدمها لربه في هذا القدوم ، وأخّر السبعة إذا رجع إلى أهله ، فهناك يأخذها منه ، والقارن عندنا أن يهلّ بالعمرة والحج معا ، فإذا أهلّ بالعمرة ثم بعد ذلك أهلّ بالحج فهو مردف وهو قارن أيضا ، ولكن بحكم الاستدراك ، فمن جمع بين العمرة والحج في إحرام واحد فهو قران ، سواء قرن بالإنشاء أو بعده بزمان ما لم يطف بالبيت ، وذلك كله إن ساق الهدي ، فإن لم يسق معه هديا وجب عليه الفسخ ولا بد ، والقارن للعمرة والحج يطوف لها طوافا واحدا وسعيا واحدا وحلقا واحدا أو تقصيرا ، والهدي يجزئ ولو أهدى دجاجة ، وأجمعوا على أن الكفارة على الترتيب ، فلا يكون الصيام إلا بعد أن لا يجد هديا ، وإذا شرع في الصيام فقد انتقل واجبه إلى الصوم وإن وجد الهدي في أثناء الصوم ، وصيام الثلاثة أيام ما لم ينقض شهر ذي الحجة ، وأما السبعة الأيام فإذا صامها في الطريق أجزأته ، واتفق العلماء على أنه

____________________________________

ما أحصر عنه فقال قوم لا إعادة عليه ، وقال آخرون عليه الإعادة ، وقال بعضهم إن كان أحرم بالحج فعليه حجة وعمرة ، وإن كان قارنا فعليه حجة وعمرتان ، وإن كان معتمرا قضى عمرته ، وهل يقصر المحلل بالإحصار أم لا؟ فيه خلاف ، وقد ثبت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حلق رأسه حين صدّ ، وأما المحصر بالمرض فذهبت طائفة إلى أنه يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ويتحلل بعمرة ، لأن الحج إذا فاته بطول المرض ينقلب عمرة ، وهو قول ابن عمر وابن عباس وغيرهما ، وقال العراقيون حكمه حكم المحصر بالعدو يحل مكانه ، ويرسل هديه ويقدر يوم النحر ويحل في ذلك اليوم ، وبه يقول عبد الله بن مسعود ، وقال داود وأبو ثور لا هدي عليه ، واتفقوا على إيجاب القضاء عليه ، وأما من فاته الحج بغير مانع مرض أو عدو من الأسباب الموجبة لفوات الحج كالخطأ في رؤية الهلال أو عدد الأيام ، فحكمه عند بعضهم حكم المحصر بالمرض ، وقال بعضهم من فاته الحج بعذر غير المرض يحلل بعمرة ولا هدي عليه ، وعليه إعادة الحج والاستقصاء في هذه المسألة عندي لا يكون إلا بالجمع بين الكتاب والسنة ، وذلك أن المحصر الذي منعه مانع فوته الحج إما أن يكون قادرا على الوصول إلى البيت أو غير قادر ، فإن كان متمكنا من الوصول إلى البيت فليس له أن يحل ولا ينحر هديه حتى يطوف بالبيت ويسعى ، وإن كان غير متمكن أحل في موضعه ، فإن كان له هدي ساقه معه نحره ، وليس عليه استئناف هدي آخر ، لحديث مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حل هو وأصحابه بالحديبية فنحروا الهدي وحلقوا رؤوسهم وحلوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت وقبل أن يصل إليه الهدي ، ثم لم يعلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أحدا

٢٨٧

إن صامها في أهله أجزأته (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) النصوص عزيزة وهو النص الصريح في الحكم والأمر الجلي ، فإن المتواتر وإن أفاد العلم فإن العلم المستفاد من التواتر إنما هو عين هذا اللفظ ، أو العلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله أو عمله ، ومطلوبنا بالعلم ما يفهم من ذلك القول والعمل حتى يحكم في المسألة على القطع ، وهذا لا يوصل إليه إلا بالنص الصريح المتواتر ، وهذا لا يوجد إلا نادرا ، مثل قوله تعالى : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) في كونها عشرة خاصة ، فإن المنصوص والمحكم لا إشكال فيه ولا تأويل ، والألفاظ الظاهرة تحتمل معاني متعددة ما يعرف الناظر قصد المتكلم بها منها ، (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) يريد بذلك إجازة الصوم في أيام التشريق من أجل رجوعه إلى بلده ، لا أن المكي ليس بمتمتع ، واتفق على أنه ليس على المكي دم ، والآية محتملة ، وحاضري المسجد الحرام هم ساكنوا

____________________________________

من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا ولا أن يعودوا لشيء ، والحديبية موضع خارج عن الحرم فإن لم يكن معه هدي فيجب عليه أن يشتري هديا لقوله تعالى : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) فإن تمكن له إرسال الهدي إلى الحرم لينحر هنالك ، فإن شاء أرسله وهو الأولى ، لحديث ناجية بن جندب الأسلمي : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث معه الهدي حين صد حتى نحره في الحرم ، أخرجه النسائي ، وهل يقدر له فلا يحل حتى ينحر؟ ليس عندنا نص في ذلك ، فإن أقام على إحرامه حتى يصل الهدي إلى الحرم فبقوله تعالى : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) وإن لم يقم فبحديث مالك الذي ذكرناه آنفا ، وإن لم يتمكن له إرسال الهدي نحره حيث صد وأحل بحديث مالك ، ولا قضاء عليه فيما صد عنه وأحصر ، ولا في هديه ، في هذا الحديث ، فإن ترجح عنده حديث الحجاج بن عمرو : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : [من عرج أو كسر ـ زاد أبو داود ـ أو مرض فقد حل وعليه حجة أخرى] وقال أبو داود في حديثه عليه الحج من قابل ، وفيه عن ابن عباس وأبي هريرة ، خرج هذا الحديث النسائي ، فإن أضاف إلى قضاء ما حصر عنه قضاء الهدي فبحديث أبي داود عن ابن عباس : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أصحابه أن يبذلوا الهدي الذي ذكره عام الحديبية في عمرة القضاء ، وإن لم يقض شيئا من هذا كله فبحكم الأصل ، إذ القضاء يفتقر إلى أمر من الشارع ، كما يفتقر الأداء ، ولا سيما وقد ورد في حديث مسلم عن عائشة قالت : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ضباعة بنت الزبير فقال لها : أردت الحج؟ قالت : والله ما أجدني إلا وجعة ، فقال لها : حجي واشترطي وقولي : اللهم محلي حيث حبستني ، وقال الترمذي قولي : لبيك اللهم لبيك ، محلي من الأرض

٢٨٨

الحرم مما رد الأعلام إلى البيت ، فإنه من لم يكن فيه فليس بحاضر بلا شك ، فلو قال تعالى في حاضر المسجد الحرام كنا نقول بما جاور الحرم ، لأن حاضر البلد ربضه إلى الخارج عن سوره ، امتد في المساحة ما امتد ، وإنما علق سبحانه ما ذكره بحاضري المسجد الحرام وهم الساكنون فيه ، ومعنى التمتع تحلل المحرم بين النسكين العمرة والحج ، وهذا عندي ما يكون إلا لمن لم يسق الهدي ، فإن ساق الهدي وأحرم قارنا فإنه متمتع من غير إحلال ، فإنه ليس له أن يحل حتى يبلغ الهدي محله ، فقوله تعالى : (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) أي المتمتع يلزمه حكم الهدي ، فإن كان له هدي وهو بحالة الإفراد بالعمرة أو القران ، فذلك الهدي كافيه ولا يلزمه هدي ولا يفسخ جملة واحدة ، وإن أفرد بالحج ومعه هدي فلا فسخ ، فقوله : (إِلَى) هنا بمعنى مع ، ولهذا يدخل القارن في قوله : (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) أي مع الحج ، فتعم المفرد والقارن ، وأما من نوى الحج وليس معه هدي فواجب عليه الفسخ وأن يحوّل النية إلى العمرة ، ويحل ثم ينشىء الحج ، ثم قال تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

____________________________________

حيث تحبسني ، زاد النسائي ، فإن لك على ربك ما استثنيت ، وليس في شيء من هذه الروايات الأمر بالقضاء في شيء ، لا فيما حصر عنه ولا في الهدي ، فمن ثبت عنده ما ذكرناه من أحاديث القضاء فهي زيادة حكم يجب العمل به ، ومن لم يثبت عنده ذلك خيرناه ، فإن شاء قضى وإن شاء لم يقض ، ثم قال : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) فإن حلق رأسه المحرم لأذى قام به من مرض وغيره (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) ثم عيّن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدر الفداء من كل ما وقع فيه التخيير ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكعب بن عجرة حين أمره بحلق رأسه وهو محرم : إن شئت فأطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام ، أو صم ثلاثة أيام ، أو اذبح شاة ، وهو مخير أن يحلق قبل الفداء أو بعده ، ثم قال : (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) الأظهر في هذه الآية أنها في المتمتع الحقيقي ، فيكون معناه وإذا لم تكونوا خائفين فتمتعتم بالعمرة إلى الحج (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) قال بعض شيوخنا ويدل على صحة هذا التأويل قوله سبحانه : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) والمحصر يستوي فيه حاضر المسجد الحرام وغيره ، قلنا : فإذا أمنتم الموانع وقد فات الحج وسواء كان عن إحصار أو غير إحصار أحل بعمرة بلا شك ، فإن حج من سنته تلك كان متمتعا فوجب عليه هدي التمتع ، وإن لم يحج من

٢٨٩

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) (١٩٧)

الأشهر المعلومات في الحج هي شوال وذو القعدة وذو الحجة عندنا ، وأما العمرة ففي أي وقت شاء من السنة ، ولا كراهة في تكرارها في السنة الواحدة (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ

____________________________________

سنته فلا هدي عليه وليس بمتمتع ، [وهدي التمتع] (*) إما بدنة أو بقرة ، وفي الشاة خلاف ، وأما النسك فبأي شيء كان (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) يعني الهدي (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) فإن صامها قبل يوم النحر وبعد الإحرام بالحج فقد صامها في الحج ، وإن صامها في أيام التشريق فقد صامها في الحج إذ قد بقي عليه من مناسك الحج رمي الجمار ، وأستحب للمتمتع إذا أخر صيام الثلاثة الأيام إلى بعد يوم النحر أن يؤخر طواف الإفاضة حتى يصومها ، ليكون صومه لها وهو متلبس بالحج قبل أن يفرغ منه ، وأما غير المتمتع فالسنة أن يطوف طواف الصدر يوم النحر ، ثم قال : (وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) يعني إذا رجعتم إلى فعل ما كان حجزه عليكم الإحرام في أي وقت شاء ، في أهله وفي غير أهله ، وأما قوله : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) ومعلوم أن ثلاثة وسبعة تكون عشرة ، ففائدة ذكر العشرة رفع الالتباس والاحتمال الذي في الواو من قوله : (وَسَبْعَةٍ) من التخيير والإباحة بين الثلاثة والسبعة إن شاء جمع بينهما وإن شاء صام أحدهما فأي شيء فعل من ذلك أجزأه ، فرفع الحق هذا الالتباس بقوله : (عَشَرَةٌ) فكان الجمع ولا بد ، وأما قوله : (كامِلَةٌ) يريد أنها قامت في البدل من الهدي مقام الهدي على الكمال ، ثم قال : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) لا خلاف أن أهل الحرم لا متعة لهم ، وهو ظاهر الآية ، ولا أدري ما حجة من خرج عن ظاهر الآية إلى أن جعل ذلك ما دون المواقيت أو مسافة تقصر فيها الصلاة ، كل ذلك تحكم من غير حجة (وَاتَّقُوا اللهَ) أي احذروه (أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي قوي العقوبة لمن لا يتقي محارمه وتعدى حدوده ، وسميت عقوبة لأنها تكون عقيب الذنب ، أي متأخرة عنه ، ثم قال تعالى : (١٩٨) (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) أي الزمان الذي يفرض فيه الحج أشهر معلومات ، أي كانت العرب تعلمها ، وهي شوال وذي القعدة وذي الحجة كله عندنا ، وقيل

__________________

[...] (*) ساقطة من الأصل.

٢٩٠

(فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) ـ شعر.

الحج فرض إلهي على الناس

من عهد والدنا المنعوت بالناس

فرض علينا ولكن لا نقوم به

وواجب الفرض أن نلقى على الراس

فإن الله أخبرنا أن الكعبة أول بيت وضعه للناس معبدا ، والحج في اللسان تكرار القصد إلى المقصود ، والعمرة الزيارة (فَلا رَفَثَ) وهو النكاح ، وقد أجمع المسلمون على أن الوطء يحرم على المحرم مطلقا ، غير أنه إذا وقع فعندنا فيه نظر في زمان وقوعه ، فإن وقع منه بعد الوقوف بعرفة أي بعد انقضاء زمان جواز الوقوف بعرفة من ليل أو نهار فالحج فاسد وليس بباطل ، لأنه مأمور بإتمام المناسك مع الفساد ، ويحج بعد ذلك ، وإن جامع قبل الوقوف بعرفة وبعد الإحرام فالحكم فيه عند العلماء كحكمه بعد الوقوف يفسد ولا بد ، من غير خلاف أعرفه ، ولا أعرف لهم دليلا على ذلك ، ونحن وإن قلنا بقولهم واتبعناهم في ذلك ، فإن النظر يقتضي إن وقع قبل الوقوف أن يرفض ما مضى ويجدد الإحرام ويهدي ، وإن كان بعد الوقوف فلا ، لأنه لم يبق زمان للوقوف ، وهنا بقي زمان للإحرام ، لكن ما قال

____________________________________

وعشر من ذي الحجة ، وقيل تسع من ذي الحجة ، والقولان سائغان في كلام العرب ، لكن الحقيقة فيه أن يكون الشهر كله ، وإنما يعرف ما عدا ذلك بقرينة لا بمجرد الإطلاق ، وهنا في هذه الآية ما ثم قرينة تدل أنه يريد بعض الشهر ، فلو أحرم الإنسان بالحج بعد فراغه من مناسك الحج جاز له ذلك ، فإنه أحرم في أشهر الحج ، فإنه لا خلاف عند العرب أنها تسمي ذا الحجة شهر الحج ، وهو أحق بهذا الاسم من شوال وذي القعدة ، إذ ليس لك فيهما أن تفعل من أفعال الحج سوى الإحرام بالحج والسعي إن جئت البيت ، وجميع المناسك تقع في ذي الحجة ، فهو أولى بالاسم ، ثم قال : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) أي فمن أحرم فيهن بالحج (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) فجعل حكم المحرم بالحج حكم المصلي ، ولهذا تسمى التكبيرة الأولى التي يدخل بها في الصلاة تكبيرة الإحرام ، وقال تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) فقال في الحج : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ) فيفترقان من وجه ويجتمعان من وجه ، فقوله : (فَلا رَفَثَ) قد يريد لا نكاح في الحج وهو الأظهر ، وهل يتلفظ باسمه على التصريح؟ فيه خلاف ، والذين أجازوا التصريح به كابن عباس أجازه عند الرجال أو وحده ، ولم يجزه عند النساء ، وكان ابن عباس ينشد وهو محرم :

خرجن يمشين بنا هميسا

إن تصدق الطير ننك لميسا

٢٩١

به أحد ، فجرينا على ما أجمع عليه العلماء ، مع أني لا أقدر على صرف هذا الحكم عن خاطري ، ولا أعمل عليه ، ولا أفتي به ، ولا أجد دليلا ، خرج أبو داود في المراسيل أن رجلا من جذام جامع امرأته وهما محرمان ، فسأل الرجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لهما : اقضيا نسككما وأهديا هديا ، ثم ارجعا ، حتى إذا كنتما بالمكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما ، فتفرقا ولا يرى منكما واحد صاحبه ، وعليكما حجة أخرى ، فتقبلان حتى إذا كنتما بالمكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما فتفرقا ولا يرى منكما أحد صاحبه ، فأحرما وأتما نسككما وأهديا ، وعلى ذلك فمن جامع أهله عليه أن يمضي في مقام نسكه إلى أن يفرغ مع فساده ، ولا يعتد به ، وعليه القضاء من قابل على صورة مخصوصة شرّعها له الشارع (وَلا فُسُوقَ) الفسوق الخروج وهو هنا الخروج على سيده ـ ومن باب الإشارة ـ الخروج على سيده ، فيدعي في نعته ويزاحمه في صفاته (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ ، وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ ، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) التقوى هنا ما يتخذه الحاج من الزاد ليقي به وجهه من السؤال ويتفرغ لعبادة ربه ، وليس هذا هو التقوى المعروف ، ولهذا ألحقه بقوله عقيب ذلك : (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) فأوصاه أيضا مع تقوى الزاد بالتقوى فيه ، وهو أن لا يكون إلا من وجه طيب ، فجاء الأمر بالزاد ، فعلمنا أنّا قوم سفر نقطع المناهل بالأنفاس ، والتقوى في الزاد ما يقي به الرجل وجهه عن سؤال غير الله ، وما زاد على وقايتك فما هو لك ، وما ليس لك لا تحمل ثقله فتتعب به ، وأقل التعب فيه حسابك على مالا تحتاج إليه ، فلماذا تحاسب عليه ، هذا لا يفعله عاقل ناصح لنفسه ، وما ثمّ عاقل ، لأنه ما ثمّ إلا من يمسك الفضل ويمنع البذل ، والمسافر وماله على قلة ، فإنه ما من منهلة يقطعها ولا مسافة إلا وقطاع الطريق على مدرجته ، فخير الزاد ما يتقي به ، وأما تقوى الله ففي أمره (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ).

____________________________________

فقيل له : أترفث في الحج؟ فقال : إنما ذلك عند النساء ، مثل أن يقول الرجل للمرأة وهو محرم : إذا حللت من إحرامي نكتك ، وأما قوله : (وَلا فُسُوقَ) أي لا يتعدى المحرم شيئا من حدود الله مما يخرج به عن أمر الله ، ولا سيما على من نصبه ، وقد يحتمل أن يريد بالفسوق أي لا يفعل فعلا حرّم عليه ، يفسد بفعله حجه. مما كان يجوز له فعله قبل الإحرام بالحج ، فهو فسوق في حال الحج ، وقوله : (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) بلا خلاف أنه منصوب على النفي والتبرئة ، فهو

٢٩٢

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) (١٩٨)

رفع الله الحرج عمن يبتغي فضلا من ربه ، وهي التجارة (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) ولم يخص مكانا من مكان ، وعرفات كلها موقف ، وعرنة من عرفات ، فمن وقف بعرنة فحجه تام إلا أنه ناقص الفضيلة ، فإنه موقف إبليس ، فهو موضع مكروه الوقوف به من

____________________________________

مخالف في الإعراب للفسوق والرفث ، فكان الحكم فيه أشد ، وقد قيل في تفسير ذلك وجوه : أولاها وأحسنها وأوجهها أن العرب كانت تختلف في ذلك كثيرا ، وهو قوله تعالى : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) فكانت العرب تحج وقتا في المحرّم ووقتا في ذي الحجة ، لتجمع بين حجتين في سنة ، وتنقل أسماء الأشهر بعضها لبعض في وقت ، ثم ترد أسماءها عليها في وقت آخر ، فتقول في صفر وربيع الأول صفران ، وفي ربيع الآخر وجمادى الأولى ربيعان ، وفي جمادى الآخرة ورجب جمادان ، وتسمي شعبان رجب ، وتسمي رمضان شعبان ، وتسمي شوالا رمضان ، وتسمي ذا القعدة شوالا ، وتسمي ذا الحجة ذا القعدة ، وتسمي المحرم ذا الحجة ، فتحج في المحرم تلك السنة ثم ترد أسماء الشهور عليها ، فتقول لصفر صفر ، ولربيعين ربيعان ، ولجمادين جمادان ، ولرجب رجب ، وكذلك شعبان ورمضان ثم شوال ، ثم ذو القعدة ثم ذو الحجة ، فتحج فيه ، فتكون لها حجتان في اثني عشر شهرا ، فقال تعالى : (لا جِدالَ فِي الْحَجِّ) فنفى أن يعدل باسم الشهر عن مسماه ، وقال النبي عليه‌السلام في ذلك : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلقه الله ، السنة اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ، ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر ، الذي بين جمادى وشعبان ، وأبطل النسأة ، فلا جدال في ذلك ، ثم قال : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) هذا من كرمه ولطفه التصريح بالخير والإغضاء عن الشر ، ولا شك أن من المعلوم أنه من يعلم الخير يعلم الشر ، فأخبر عن علمه بالخير ليتحقق العبد الجزاء عليه ، وكف عن التعريف بالعلم بالشر مع كونه عالما به ، ليعلم العبد من كرم الله أنه قد لا يؤاخذ به ويعفو ، على أنه قد كان من العرب من يعتقد ما اعتقده بعض النظار من أن الله لا يعلم الجزئيات ، ولكن باعتبار آخر غير اعتبار النظار ، وقد كان بعض العرب يعتقد أنه إذا تكلم جهرا سمعه الله ، وإذا تكلم سرا لم يسمعه الله ، فأخبر الله في هذه الآية أنه عالم بكل

٢٩٣

أجل مشاركة الشيطان ، فما أراد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بارتفاعه عن بطن عرنة إلا البعد من مجاورة الشيطان (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) وهو المزدلفة ، وسماها الله بالمشعر الحرام لنشعر بالقبول من الله في هذه العبادة بالعناية والمغفرة وضمان التبعات ، ووصفه بالحرمة لأنه في الحرم ، فيحرم فيه ما يحرم في الحرم كله ، فإنه من جملته ، فأمر بذكر الله فيه ، يعني بما ذكرناه ، فإن الشيء لا يذكر بأن يسمى ، وإنما يذكر بما يكون عليه من صفات المحمدة ، ومنها الصلاة ، فقد أجمع العلماء على أنه من بات بالمزدلفة وصلى فيها المغرب والعشاء وصلى الصبح يوم النحر ووقف بعد الصلاة إلى أن أسفر ثم دفع إلى منى أن حجه تام.

____________________________________

ما يفعله العبد من خير في هذه العبادة وغيرها ، ولم يذكر الشر لأنه لم يشرع في هذه العبادة شيئا من الشر ، فهو تأكيد لقوله : (وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ) أي لا يفعل في الحج إلا ما شرع أن يفعل في الحج ، واختلفوا في نكاح المحرم وإنكاحه بمعنى العقد لا بمعنى الوطء ما حكمه؟ وفي هذه المسألة عندي نظر إذا وطئ قبل الوقوف بعرفة ، لأن زمان جواز وقوع الإحرام ما انصرم ، وليس هذا التفسير موضع تفريع المسائل إلا إذا تكلم في أحكام القرآن لمن يستوعب الكلام فيه بإيراد الأحاديث في الأحكام المشروعة ، إذ كان الكتاب أحد الأدلة المشروعة ، وقوله : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) يحرض في هذه الآية على التكثير من الزاد لمن أراد الحج من أهل الآفاق ، وتضعيفه لطول الطريق ومفازاته ، وما يطرأ فيه من العوائق ، فيطول الزمان على الحاج فقال : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) وهو ما يقي به المرء وجهه عن السؤال عند الحاجة ، فإن السؤال يذهب بماء الوجه ، ولا شك أنه من لم يتزود ولا استكثر من الزاد في الغالب فإنه ما وقى وجهه عن السؤال ، إذ كان معرضا للحاجة ، فهذا معنى التقوى هنا ، وكذا قوله : (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) من هذا الباب ، غير أنه على وجه آخر ونسق غير هذا ، ثم قال مما يؤيد ما ذهبنا إليه في تفسير التقوى : «واتقوني يا أولي الألباب» فخاطب أهل العقول والاستبصار ، وهم الخاصة من عباده الذين نوّر الله قلوبهم بالعقل عن الله ، فقال لهم : «واتقوني يا أولي الألباب» إذ كان أصحاب الزاد يتخذونه اتقاء الحاجة ، فأنا أولى من يتقى ، إذ كان بيدي إنزال الحاجة ورفعها ، فالعالم العاقل عن الله الأديب يستكثر من الزاد في طريق الحج اتقاء الله أن ينزل به الحاجة إليه ، إذ العبد معرض لذلك ولو بلغ ما بلغ ، قال أيوب عليه‌السلام : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) وقال عليه‌السلام : (أخرجني الجوع) والعامة من العباد يستكثرون من الزاد اتقاء الحاجة إليه مع الغفلة عن الله ، فلهذا ضمنت الآية النوعين من التقوى ، العام والخاص ، ثم قال : (١٩٩) (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) الآية ، يقول لا إثم عليكم في هذه العبادة

٢٩٤

إشارة ـ عرفات هي موقف حصول المعرفة بالله ، فإنه لما وصل الحاج إلى البيت ، ونال من العلم بالله ما نال ، ونال من المبايعة والمصافحة ليمين الله تعالى ما يجده أهل الله في ذلك ، وحصل من المعارف الإلهية في طوافه بالبيت وسعيه وصلاته بمنى ، أراد الله أن يميز له ما بين العلم الذي حصل له في الموضع المحرم ، وبين المعرفة الإلهية التي يعطيه الله المحل في الحل وهو عرفة ، فإن معرفة الحل تعطي رفع التحجير عن العبد ، وهو في حال إحرامه محجور عليه لأنه محرم بالحج ، فيجمع في عرفة بين معرفته بالله من حيث ما هو محرم وبين معرفة الله من حيث ما هو في الحل ، فتميز العبد بالحجر لبقائه على إحرامه أنه ليس فيه من الحق المختار شيء ، وتميز الحق بالحل أنه غير محجور عليه فهو يفعل ما يريد ، ولما كان يوم عرفة ثلاثة أرباع اليوم ، من زوال يوم عرفة إلى طلوع الفجر يوم النحر ، وكان ينبغي أن لا نسمى عارفين بالله ، حتى نعلم ذاته وما يجب لها من كونها إلها ، فإذا عرفناه على هذا الحد فقد عرفناه ، وهذا لا يكون ، فإن المعرفة بالله على التمام والكمال لا تكون ، فإن يوم عرفة ثلاثة أرباع اليوم ، فإنا لما بحثنا بالأدلة العقلية وأصغينا إلى الأدلة الشرعية ، أثبتنا وجود الذات وجهلنا حقيقتها ، وأثبتنا الألوهة لها ، فهو نصف المعرفة بكمالها ، والربع وجودها أعني وجود الذات المنسوبة إليها الألوهة ، أما الربع الذي لا يعرف فهو معرفة حقيقتها ،

____________________________________

المشروعة لإقامة ذكر الله ، خرج أبو داود عن النبي عليه‌السلام [أن المناسك شرعت لإقامة ذكر الله] فربما يتوهم العبد أنه لا ينبغي أن يذكر الله فيها إلا بما يخص جنابه من الإجلال والتعظيم وما تستلزمه تلك العبادة على الخصوص ، فأباح الله لعباده فيها أن يطلبوا منه فضله من خير الدنيا من المال والولد والأهل ما لم يكن ، ومن خير الآخرة ، ولهذا خصه بالاسم الرب ، إذ بيده مصالح الدنيا والآخرة ، وهو مالك الملك ، وقد يريد بابتغاء الفضل هنا التجارة في هذا اليوم ، فرفع الإثم لمن اتجر فيه بحيث أن لا يمنعه ذلك من ذكر الله ولا يشغله عن عبادته ، ويجعل تجارته في ذلك اليوم من جملة عبادته ، ولهذا قال : (فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) فما عرى هذا الفضل المطلوب عن الإضافة إليه ، أي لا أغيب عنكم في حال طلبكم لهذا الفضل واطلبوه مني ، فإني الذي أسوق إليكم الأرباح ، والفضل الزيادة ، والربح زيادة على رأس المال ، وما أمر الله بطلبه منه في ذلك اليوم إلا وهو تعالى قد علم أنه يعطيه ، فإن خسر التاجر في ذلك اليوم ونقصه من رأس ماله ، أو لم يزد عليه شيء ، فهي علامة له على غفلته عن الله في طلب الفضل منه في وقت تجارته وبيعه وشرائه (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) يقول : إذا دفعتم من عرفات ، اسم لموضع الوقوف في الحج ، ويحتمل

٢٩٥

فلم نصل إلى معرفة حقيقتها ولا يمكن الوصول إلى ذلك ، والزائد على الربع الذي جهلناه أيضا هو جهلنا بنسبة ما نسبناه إليها من الأحكام ، فإنا وإن كنا نعرف النسبة من كونها نسبة ، فقد نجهل النسبة الخاصة لجهلنا بالمنسوب إليه ، فالذي بأيدينا من المعرفة علمنا بوجود الذات وعلمنا نسبة الألوهة لها ، لا كيفية النسبة ، وهو نصف المعرفة ، وهو علم بصفات التنزيه والسلوب ، والربع الثالث المعرفة بصفات الأفعال والنسب ، أما الربع الرابع فلا يعرف أبدا ، وكذلك ما جهلنا من نسبة ما وصف الحق به نفسه من صفة التشبيه ، فلا ندري كيف ننسب إليه ، مع إيماننا به ، وإثباتنا له هذا الحكم مع جهلنا ، لكن على ما يعلمه الله من ذلك ـ أما قوله تعالى (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) فالمزدلفة من الزلفى وهو القرب ، فالوقوف في المزدلفة هو مقام القربة ، والاجتماع بالمعروف فيها ، وهو تجل خاص منه لقلوب عباده ، ولهذا سميت جمعا ، (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) والذكر في طريق الله لا يختص بالقول فقط ، بل تصرف العبد إذا رزق التوفيق في جميع حركاته ، لا يتحرك إلا في طاعة الله تعالى ، من واجب أو مندوب إليه ، ويسمى ذلك ذكر الله ، أي لذكره في ذلك الفعل أنه لله بطريق القربة سمي ذكرا ، فجميع الطاعات كلها من فعل وترك إذا فعلت أو تركت لأجل الله فذلك من ذكر الله ، أن الله ذكر فيها ، ومن أجله فعلت أو تركت على حكم ما شرع فيها ، وهذا هو ذكر الموفقين من العلماء بالله.

____________________________________

أن يكون علما له مسمى باسم الجمع ، أو يكون اسم جمع كمسلمات ، واحده عرفة ، يقول : (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) وهو المزدلفة وهو جمع ، وهو من مناسك الحج ، واختلفوا فيمن لم يدرك صلوة الصبح مع الإمام فيه ، هل فاته الحج أو لم يفته؟ فمن جعل ذلك ركنا ، قال بفوات الحج إذا فاته ، ومن لم يجعله ركنا كان حكمه حكم ما ليس بركن ، وقوله : (عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) جعله ظرفا للذكر فيها (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) هذا الذكر الآخر لا يختصّ بهذا الموضع ولا بهذه العبادة ، بل يعمّ ذكره جميع الأحوال ، وقوله : (كَما هَداكُمْ) يقول : مثل ما ذكرتم عند هدايته إياكم من الضلال الذي كنتم عليه ، فمعناه كما أنه اعتنى بكم سبحانه بما بينه لكم من الطريق التي تؤدي إلى سعادتكم وكنتم بها جاهلين ، قال تعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) فاذكروه أنتم شكرا على هذه النعمة ، بقبولكم ما هداكم له ومشيكم عليه واتباعكم سبيله تعظيما له ، فإنه من أهدى إليك هدية عناية منه بك ، فقبولك إياها دون ردها ، فيه تعظيم لجناب المهدي ، وشكرك له على ذلك ثناء على ثناء ، وذكر على ذكر ، ولهذا كرره في هذا الموضع ملصقا

٢٩٦

(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) (٢٠٠)

أمر الله بذكر الله في أيام التشريق ، فإن العرب كانت في هذه الأيام في الموسم تذكر أنسابها وأحسابها لاجتماع قبائل العرب في هذه الأيام ، تريد بذلك الفخر والسمعة ، فهذا معنى قوله : (كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) أي اشتغلوا بالثناء على الله بما هو عليه على طريق الفخر إذ كنتم عبيده ، وفخر العبد بسيده ، فإنه مضاف إليه ، وأكبر من ذلك من كونه منه ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (مولى القوم منهم) ولا فخر للعبد بأبيه ، بل فخره بسيده ، وإن افتخر العبد بأبيه فإنما يفتخر به من حيث أن أباه كان مقربا عند سيده ، لأنه عبد مثله ، ممتثلا لأمره واقفا عند حدوده ورسومه ، فإنه أيضا عبد الله ، فلهذا قال : (كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) أي أديموا

____________________________________

به ، فقال : (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) ومن الهداية وقوفنا بعرفات ، إذ كانت الحمس لا تقف إلا بالمزدلفة اختصاصا لها على سائر الناس ، لشرفها وتميزها بشفوفها في ذلك الموضع على سائر الناس ، فهدى الله نبيه إلى ما هو الحق عنده من الوقوف في ذلك اليوم بعرفة ، وهو قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) في وقوفكم بالمزدلفة ، وقوله : (٢٠٠) (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) الأوجه في تأويلها يخاطب الحاج ، يقول لهم : ثم أفيضوا كما أفضتم من عرفات إلى المزدلفة ، أفيضوا من المزدلفة إلى منى ، وقوله : (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) يريد قريشا فإن قريشا كانت تفيض من المزدلفة ، فلم تكن لهم سوى إفاضة واحدة من المزدلفة إلى منى ، والوجه الآخر : أن يكون الضمير يعود على قريش ، يقول لهم : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) يعني من عرفات ، فتكون (ثُمَّ) هنا قد سيقت لترتيب الجمل اللفظية ، لا لترتيب المعنى ، إذ لم يكن في الآيات المذكورة ذكر للحمس ، وإنما خاطب في هذه الآيات كل من حج من أحمس وغيره ، فحملها على ما قلناه أولى في التأويل ، فإنه على التأويل الثاني يكون هذا التأخير يراد به التقديم ، فيكون موضعه بعد قوله : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) (ثُمَّ أَفِيضُوا) يعني الحمس ومن تحمّس (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ

٢٩٧

ذكر آبائكم في هذا الموطن في قلوبكم وألسنتكم ، فإن الله تعالى يقول : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) فما نهاهم عن ذكر آبائهم ، ولكن رجح ذكر الله على ذكرهم آباءهم بقوله : (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) وهو الموصي عباده بقوله : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) أي كونوا ـ أنتم من إيثار ذكر الله والفخر به من كونه سيدكم وأنتم عبيد له ـ على ما كان عليه آباؤكم.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢) وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٢٠٣)

إن الناس اختلفوا في الإعادة من المؤمنين القائلين بحشر الأجسام ، ونحن نثبت الحشر في النشأة الروحانية المعنوية مع الحشر المحسوس في الأجسام المحسوسة ، والميزان المحسوس

____________________________________

النَّاسُ) من عرفات ، ويكون الناس هنا من بقي على ملة إبراهيم في الوقوف بعرفة في ذلك اليوم ، وعلى هذا أكثر أهل التأويل ، وفيه بعد في سياق الآية وإن كان صحيح المعنى ، والذي ذهبنا إليه أقرب بالمساق ، ثم قال : (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) إشعار بما كان عليه من الخطأ من وقف يوم عرفة بجمع ، وقد يكون الاستغفار طلبا من العباد إلى الله أن يضمن التبعات عنهم لأربابها بإرضاء الخصوم ، حتى ينقلبوا من حجهم مطهرين من جميع الذنوب ، وما أمرهم بالاستغفار في هذا الموطن إلا وهو يغفر لهم ، ولو لم يكن كذلك لم يكن للاستغفار المأمور به على التعيين فائدة ، فقال : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) إذا استغفر تموه (رَحِيمٌ) بكم حيث أمركم أن تستغفروه ، ثم قال : (٢٠١) (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) في هذا المساق إشعار ونوع حجّة لمن لا يرى أن طواف الإفاضة ركن من أركان الحج ، لأنه ما ذكره على التعيين كما ذكر الإحرام بفرض الحج ، وذكر عرفات وذكر المزدلفة يقوي من احتج بالحديث في أنه من لم يدرك من الليل المزدلفة ولا صلى مع الإمام صلاة الصبح لم يدرك الحج ، فما ذكر إلا هؤلاء وما بقي أدخله في ذكر المناسك ، فقال : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) الآية ، يقال : منسك بكسر السين وهو الاسم ومنسكا بفتح

٢٩٨

والصراط المحسوس ، والنار والجنة المحسوستين ، فإن كل ذلك حق ، وأعظم في القدرة ، فإن ثمّ نشأتين ، نشأة الأجسام ونشأة الأرواح وهي النشأة المعنوية ، ولولا أن الشرع عرّف بانقضاء هذه الدار ، وأن كل نفس ذائقة الموت ، وعرف بالإعادة ، وعرف بالدار الآخرة ،

____________________________________

السين ، يقال نسك ينسك نسكا ونسيكة ومنسكا إذا ذبح نسكه بفتح السين ، ويجمع على مناسك ، والنسك أيضا العبادة والزهد ، والمنسك الموضع المشروع للعبادة فيه ، ومناسك الحج من ذلك ، فإنها أماكن مخصوصة وأفعال مخصوصة ، وهي ما بين فرض وسنة واستحباب ، فقال تعالى : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) أي الأفعال التي شرعناها لكم في أماكنها ، على حد ما شرعناها من واجب وغيره (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) يدل على أن عادتهم كانت جارية منهم في ذلك الزمان بعد فراغ المناسك يذكرون آباءهم ويفتخرون بأنسابهم ، ويقومون النسابون في ذلك الوقت فيذكرون الأنساب ، وحكاية أبي بكر الصديق مع الأعرابي مذكورة بحضور النبي عليه‌السلام ، فلما كان لهم بذكر آبائهم في ذلك الموطن شدة عناية ، قال الله لهم : (فَاذْكُرُوا اللهَ) مثل ذكركم آباءكم ، أي افتخروا بالله واذكروا نعمه عليكم كما تذكرون آباءكم (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) يقول : بل أكثر ذكرا ، لأن الذي تنسبونه لآبائكم من الفخر الذي تفخرون به إنما هو من عطائي ونعمتي ، وأنا أحق بالذكر ، وإنما قرر ذكر الآباء بالخير من البر بالوالدين والإحسان لهم ، وقد قرر الشارع ذلك لعباده فقال : (أَنِ اشْكُرْ لِي) وهو قوله : (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) (وَلِوالِدَيْكَ) وهو قوله : (كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) وقال : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) ولم يخص سبحانه بهذا الذكر الذي أمرنا به ذكرا من ذكر ، لكن نبه بما ذكر بعد ذلك أن الدعاء من الذكر المطلوب هنا ، إذ كان من دعاك فقد ذكرك ، وليس كل من ذكر دعا ، فقال تعالى : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) (٢٠٢) (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) يقول : فمن الناس (مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) يطلب من الله خيرا في الدنيا ، وما له في الدعاء في خير الآخرة (مِنْ خَلاقٍ) أي من نصيب ، وهذا حالة من اشتدت ضرورته في الدنيا حتى أنسته الآخرة ، فأخبر الله تعالى عنه أنه ما جعل للآخرة في دعائه نصيبا و «منهم» يعني من الناس (مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) أي حالة حسنة في كل شيء ومن كل شيء (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) أي حالة حسنة كذلك ، (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) يعم عذاب الدنيا والآخرة ، إذ يجمعهما العذاب ، فإن النار قد تكون في الدنيا رحمة لإصلاح معايش الناس ، فالمسؤول الوقاية من عذابها ، ومن خصص التأويل بحسنة دون حسنة فقد قيد ما أطلقه الله في الإخبار عنهم ، والناس يسألون بحسب أغراضهم ،

٢٩٩

وعرف أن الإقامة فيها في النشأة الآخرة إلى غير ما نهاية ما عرفنا ذلك ، وما خرجنا في كل حال من موت وإقامة وبعث أخروي وجنان ونعيم ونار وعذاب بأكل محسوس وشرب محسوس ونكاح محسوس ولباس على المجرى الطبيعي ، فعلم الله أوسع وأتم ، والجمع بين العقل والحس والمعقول والمحسوس أعظم في القدرة وأتم في الكمال الإلهي ، فالأولى بكل ناصح نفسه الرجوع إلى ما قالته الأنبياء والرسل على الوجهين المعقول والمحسوس ، إذ لا دليل للعقل يحيل ما جاءت به الشرائع ، فألزم الإيمان نفسك تربح وتسعد إن شاء الله.

____________________________________

وأما من ذهب من أهل التأويل إلى أن القائلين (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أنهم الذين لا رغبة لهم فيما عند ربهم من الأجر والثواب في الآخرة عن قصد ، فما هم بمؤمنين ولا قضى هذا منسكا مشروعا قط ، والظاهر أن الحق سبحانه ما قسم إلا الذين قضوا مناسكهم ، وقوله : (٢٠٣) (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) يعم الفريقين ، وأما الفريق الثاني فلا شك فيه ، وأما الفريق الأول الذين غفلوا عن طلب خير الآخرة لشغلهم بما غلب عليهم من ضيق الدنيا ، فأخبر تعالى أن لهم نصيبا في الآخرة مما كسبوه من الأعمال في الحج ، وما لهم من حيث دعاؤهم في الآخرة نصيب ، وأما الآخرون فلهم نصيب من أعمالهم ولهم نصيب في الآخرة أيضا من دعائهم في ذلك ، ثم نبه سبحانه بقوله : (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) لتعجيل نيل ما كسبوه من أعمالهم ، أخبر أنه يحاسبهم سريعا ليفضوا إلى نعيمهم ، فهي بشرى لهم سرعة الحساب لمن يحاسب ، وفيه فائدة أخرى ليتنبه طالب الدنيا بأنه محاسب على ما يؤتيه الله منها ، فيكون معظم طلبه ما يتعلق بجانب الآخرة ويقلل من ذكر طلب الدنيا ، إذ الدنيا جواز ليس له منها إلا سد جوعة وستر عورة بأي نوع كان ، (٢٠٤) (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) الأيام المعدودات هي أيام التشريق ، وهي أربعة أيام بيوم النحر ، وإنما أمر الله بالذكر في هذه الأيام فإنها كما قال عليه‌السلام : [أيام أكل وشرب وبعال] وهذه أسباب مؤدية إلى الغفلة عن ما يجب علينا من شكر الله على ما أعاننا عليه من قضاء مناسكه ، وما أسبغ علينا من نعمه التي كان حرمها علينا في حجنا ، وأمرنا بالذكر وشرع في هذه الأيام التكبير إدبار الصلوات والدعاء عند رمي الجمار ، وقسم الجمار على الأيام كلها ، كل ذلك حتى لا نغفل ، ولم يقيد الذكر في هذه الأيام المعدودات كما قيده في الأيام المعلومات على ما سيأتي ذكره في موضعه إن شاء الله ، وأرسل الذكر هنا مطلقا حتى يعم جميع الأذكار بجميع النعم ، إذ كان عقيب فراغ من عبادات جمة ونعم متواليه ، فسبحان العليم الحكيم ، مرتب الأمور مواضعها ، وقوله : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) يريد يومين بعد يوم

٣٠٠