رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) (٢٠٤)

الإنسان ألد الخصام حيث خاصم فيما هو ظاهر الظلم فيه ، وليس إلا الربوبية.

(وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) (٢٠٦)

حد جهنم بعد الفراغ من الحساب ودخول أهل الجنة الجنة من مقعر فلك الكواكب الثابتة إلى أسفل سافلين ، هذا كله يزيد في جهنم مما هو الآن ليس مخلوقا فيها ، ولكن ذلك

____________________________________

النحر ، من تعجل فيهما فنفر في اليوم الثاني فلا إثم عليه ، وفيه وجهان : الوجه الواحد أنه مغفور له سواء عجل أو أخر ، ما ينفر إلا وهو مغفور له ، والوجه الآخر ، من تعجل فنفر في اليوم الثاني فلا إثم في تعجيله حيث ترك اليوم الثالث (وَمَنْ تَأَخَّرَ) إلى اليوم الثالث (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) لتأخيره إذ كان التعجيل مشروعا ، وكان يمكن أن يكون منهيا عنه ، وكان التأخير مشروعا وكان يمكن أن يكون منهيا عنه ، فلما كان التعجيل والتأخير مشروعين ، ارتفع الإثم بترك كل واحد منهما لا بتركهما معا ، وقوله : (لِمَنِ اتَّقى) أي من كان تعجيله وتأخيره من حيث ما هو مشروع له فقد اتقى ، وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) يعني في المستأنف ، فإنه مغفور له بحجه ، فليتق الله فيما بقي من عمره ، فأمره الله بذلك وأعلمه أنه إليه يحشر يوم القيامة ، فقال : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) ليلزم طريق الاستقامة ، فهو إيقاظ له لئلا تجنح النفس وتسكن إلى ما تقدم من مغفرة الله له في حجه (٢٠٥) (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) الآيات ، إلى قوله : (وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) هؤلاء الآيات وإن كانت نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي ، فهي عامة في كل من هو بهذه الصفة من النفاق والفساد ، يقول : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ) لما فيه من اللين واللطف عندما يلقاك أو يلقى أحباءك (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) من غير ذلك من العداوة والبغضاء لك ، وهذا لا يكون ممن يعرف أنه نبي ويجحد ما هو متيقن بصدقه ، لقوله : (وَيُشْهِدُ اللهَ) أي أنه يقول لربه : اشهد عليّ أني عدو لهذا ، وأني أعتقد فيه أنه كاذب ، على

٣٠١

معد حتى يظهر ، إلا الأماكن التي عيّنها الله ، فإنها ترجع إلى الجنة يوم القيامة ، مثل الروضة التي بين منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين قبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكل مكان عينه الشارع ، وكل نهر ، فإن ذلك كله يصير إلى الجنة ، وما بقي فيعود نارا كله وهو من جهنم ، والجنة وجهنم عندنا مخلوقتان غير مخلوقتين ، فأما قولنا مخلوقة ، فكرجل أراد أن يبني دارا فأقام حيطانها كلها الحاوية عليها خاصة ، فيقال قد بنى دارا ، وغير مخلوقة هو ما يوجد فيها نتيجة أعمال العباد.

____________________________________

جهة القربة إلى الله ، فإنه أمكن في العداوة لاتخاذه ذلك دينا ، ولو كان يعلم أنه حق لقال : ويشهد الله بفتح الياء ورفع الله على الفاعلية (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) أي شديد الخصومة في الحالتين ، إذا نازعه أحد فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصمه أشد الخصومة تحببا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتملقا له ، وإذا نازعه أحد في صدق نبوة محمد أنه على الحق في محل لا يعرف أنه يصل إليه ذلك الكلام ، خاصمه أشد الخصومة في الرد على النبي والكفر به ولهذا وصفه بما قال : (٢٠٦) (وَإِذا تَوَلَّى) يقول : وإذا غاب عنك (سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها) أي بالفساد (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ) بحرق الزرع وعقر البقر (وَالنَّسْلَ) بالقتل (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) إبقاء على من أنزلت من أجله هذه الآية ، ليرجع إلى الإسلام ، وهو من القول اللين الذي أمر الله نبيه موسى وهارون أن يقولا لفرعون فقال : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ) وإن كان قد علم سبحانه أنه لا يتذكر ولا يخشى ، فقال : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) فنفى عن نفسه حب الفساد ، لعله يرجع عن هذه الصفة ، ولم يسمه لقوله : (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) لقصده التقرب بذلك إليه سبحانه ، ثم قال ينبه على شرفه في نفسه ، وتمكن الكبرياء من قلبه ، وأنه بمحل من العظمة في نفسه أن يقول له من هو في نفسه دونه اتق الله ، فقال : (٢٠٧) (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ) كبر ذلك عليه لا تكبرا على الله ولكن احتقارا بالمخاطب ، فأخبر تعالى أنه (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ) أي حمية الجاهلية (بِالْإِثْمِ) أي على الإثم الذي ينهى عنه ، فيفعله لجاجا وعزة على القائل له هذا ، فأخبر سبحانه المؤمنين ليريحوا أنفسهم من مثل هذا المتكبر ، فقال : (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) أي كفايته جهنم ، أي جهنم تكفيكم شره (وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) يذم مقره فيها ، قال السدي : نزلت هذه الآيات في الأخنس بن شريق ابن عمرو بن وهب بن أبي سلمة الثقفي ، واسم أمه ريطة بنت عبد الله بن أبي قيس القرشي ، من بني عامر بن لؤي ، وكان حليفا لبني زهرة ، أقبل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأظهر الإسلام ، فأعجب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك منه ، وقال : إنما جئت أريد الإسلام والله يعلم أني لصادق ، ثم خرج من عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر ، فأحرق الزرع وعقر الحمر ، فنزلت الآيات ، وقال ابن عباس : نزلت في رجال من المنافقين ، لما أصيبت السرية أصحاب خبيب بالرجيع ،

٣٠٢

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٠٩)

(فَإِنْ زَلَلْتُمْ) من زل إذا زلق (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أي لا يتوصل أحد إلى معرفة كنه الألوهية أبدا ، ولا ينبغي لها أن تدرك ، عزت وتعالت علوا كبيرا (حَكِيمٌ) فإن الحق تعالى ما هو فعله مع الأغراض التي أوجدها في عباده ، وإنما هو مع ما تطلبه الحكمة ، والذي اقتضته الحكمة هو الواقع في العالم ، فعين ظهوره هو عين الحكمة ، فإن فعل الله لا يعلل بالحكمة بل هو عين الحكمة ، فإنه لو علل بالحكمة لكانت الحكمة هي الموجبة له ذلك ، فيكون الحق محكوما عليه ، والحق تعالى لا يكون محكوما عليه.

____________________________________

بين مكة والمدينة ، قال المنافقون : يا ويح هؤلاء المقتولين الذين هلكوا [كذا] ، لا هم قعدوا في بيوتهم ولا هم أدوا رسالة صاحبهم ، فأنزل الله هذه الآية ، ثم قال : (٢٠٨) (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) الآية ، لما باع المؤمن نفسه من الله ، واشتراها الله منه ، أخبرنا بذلك فقال : (وَمِنَ النَّاسِ) عامة (مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ) وهو المؤمن يبيع نفسه من الله بالجهاد في سبيله ، أو كلمة حق عند أمير جائر ، يغلب على ظنه أنه يقتله إذا أمره بمعروف أو نهاه عن منكر ، طلبا لمرضاة الله ، أي ليرضى الله عنه بذلك ، (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) حيث لم يعزم عليهم في ذلك ، ولا كلفهم ، بل وسع عليهم على ثلاثة أنحاء ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ـ فهذا أقواهم إيمانا ـ فإن لم يستطع فبلسانه ـ وهذا ضعف عن الأول ـ فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ليس وراء ذلك مثقال حبة من خردل من إيمان] فهذا من رأفته بعباده (٢٠٩) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) نزلت في جماعة من مؤمني أهل الكتاب ، منهم عبد الله بن سلام ، استأذنوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أن يعملوا ببعض ما في التوراة من أمر السبت وغيره ، فنزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا بما جاء من عندنا (ادْخُلُوا)

٣٠٣

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٢١٠)

ذكر تعالى اعتقادهم وما جرح ولا صوّب ، ولا أنكر ولا عرّف ، وفيه نسبة المكان إلى الحق ، ومثل هذا في الشرع كثير ، والظلل أبواب السماء إذا فتحت وهو قوله تعالى : (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) وقوله : (يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) وهو إتيان الملائكة في ظلل من الغمام. واعلم أنه من المتشابه الآيات التي يذكر فيها الصورة ، فمما صح في ذلك ما رواه البخاري وغيره ، من حديث الرؤية عن أبي هريرة رضي الله عنه وفيه (فيأتيهم ربهم في غير الصورة التي يعرفونها ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك ، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا ، فإذا أتى ربنا عرفناه ، فيأتيهم في الصورة التي يعرفونها فيقول : أنا ربكم ، فيقولون نعم أنت ربنا ، فيتبعونه) وقد ثبت ذكر

____________________________________

في العمل بشرائع الإسلام المنزلة على نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأجمعكم ، واتركوا ما أنزلته من الشرائع قبله ، فلكل منكم شرعة ومنهاج (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي لا تسلكوا طريقه ، ولا تصغوا إلى ما يوسوس به في صدوركم ، ليضلكم عن طريق الهدى الذي أنزلته في هذا الأوان على هذا النبي المخصوص ، وإن كان كل كتاب أنزلته حقا وهدى ونورا ، ولكن تعبدت به عبادي في زمن مخصوص ، وقد انقضت تلك المدة لما سبق في علمي ، فأراد الشيطان أن يضلكم بما وسوس به في صدوركم من اتباع ما نزل من عندنا ، كيدا ومكرا ، وقد عرفتكم (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي ظاهر العداوة ، لا تخفى على مؤمن عارف بطريق ما يخرجكم عن الهدى (٢١٠) (فَإِنْ زَلَلْتُمْ) يقول : فإن انتزعكم فنزعتم عن طريق الهدى الذي هو القرآن (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) الدلائل الواضحة من عندنا ، وهي التعريفات بعداوة الشيطان لكم المذكورة في كل كتاب ، وكفرتم أو خالفتم بعض ما أنزل إليكم في هذا القرآن وما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب لا يغالب ، لا يفوته هارب (حَكِيمٌ) بإنزال العقوبات لمن يستحقها ، إذ الحكيم واضع كل شيء في موضعه ، سمع أعرابي قارئا يقرأ هذه الآية : فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله غفور رحيم ، فأنكر أن يكون هذا كلام الله ، وقال : الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه إغراء عليه ، فمثل هؤلاء عرفوا إعجاز القرآن لمعرفتهم بمواقع الخطاب ، (٢١١)

٣٠٤

الصورة في حديث أبي سعيد رضي الله عنه زيادة أيضا ، وهو من الأحاديث المتشابهة ، ومرجعها إلى الآيات والأحاديث المحكمة ، فاعلم أن للصورة التي يأتي فيها ربنا تعالى يوم القيامة مظهرا وحقيقة ، فالحقيقة هي الظلة في قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) فعلم بذلك أن مظاهر تجليه لعباده هى ظلل غمامه ، وحقائق هذه الظلل آياته التي تعرف لخلقه فيها بواسطة أنبيائه صلوات الله عليهم وسلم ، وقد ثبت في الصحيح تشخيص حقائق آياته كالظلل ، ففي مسلم وغيره من حديث أبي أمامة رضي الله عنه ، وحديث النواس بن سمعان رضي الله عنه ، أن القرآن يوم القيامة يأتي ، تقدمه البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان ، ومن المعلوم أن كلامه سبحانه صفته ، وصفته لا تفارقه ، فإذا ثبت إتيانها في صور ظلل الغمام ، ثبت إتيانه تعالى ، وفي مسلم وغيره أن أسيد بن حضير رضي الله عنه قرأ سورة الكهف ليلة ، فجالت فرسه ، فإذا مثل الظلة فوق رأسه فيها أمثال السرج ، فسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : إن السكينة تنزلت للقرآن ، وفي رواية الترمذي مع القرآن ، وفي رواية ، تلك الملائكة كانت تسمع لك ، وذلك كله موافق لآية البقرة ، ونفرة الفرس دليل على أنها ظلة محسوسة ، وقد ثبت رؤيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للظلة وتأويل أبي بكر لها بالإسلام ، وذلك كله يحقق أن حقائق الظلل هي آيات الله تعالى وشرائعه ، وهي من الروح الأصلي الذي هو منشأ عالم الأمر ، وهو مصباح روح التوحيد ، قال تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) الآية ، وقال تعالى : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) وبهذا الروح يتجلى سبحانه لعباده بأسمائه وصفاته المحكمة والمتشابهة ، والظلة قسمان : ظلة عذاب ، وظلة رحمة ، فظلة العذاب كظلة قوم شعيب صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) وقد ضرب الله تعالى المثل بذلك بالقرآن في قوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) الآية ، وأما ظلة الرحمة ، فهي آياته المقتضية للرحمة النازل غيثها على قلوب المؤمنين ، كما صح في صحيح مسلم والبخاري وغيره قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إن مثلي ومثل ما بعثت به من الهدى والعلم كمثل غيث

____________________________________

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) في هذه الآية إشعار بقرب قيام الساعة ، وبأن هذا القرآن وشرع الإسلام ما بقي بعده كتاب ينزل ولا شرع ، ولا نبي بعد رسول الله

٣٠٥

أصاب أرضا) الحديث ، فهذا هو مظهر الحقيقة ، وأما مظهر الصورة فهو العمل ، وقد ثبت تشخص الأعمال بصور شتى ، وقد صح تمثيل الموت بصورة الكبش ، وتمثيل المال بالشجاع الأقرع وغيره ، وتمثيل الملائكة صلى الله عليهم وسلم بالآدميين ، والسنة مشحونة بنحو ذلك ، ومن المعلوم أن الأعمال أعراض ، فإذا ثبت ظهورها وتمثلها بصور الجواهر والأجسام مع القطع بأنها ليست جسما ولا جوهرا ، فإن الملائكة صلوات الله وسلامه عليهم ليسوا بآدميين ، فعلى مثل ذلك قس إتيان ربنا سبحانه في صور الأعمال ، وأنه لا يلزم من إتيانه في صور الأعمال أن يكون تعالى له صورة ، ولا يلزم من نسبتها وإضافتها إليه أن تكون ذاتية له ، كما ثبت نسبة اليدين والرجلين إلى جبريل عليه‌السلام في حديث عمر رضي الله عنه عند مسلم وغيره في قوله : (طلع علينا رجل شديد بياض الثياب) إلى قوله : (فأسند ركبتيه) ـ الحديث ـ ، ومن المعلوم أن الركبتين واليدين التي جاء بها جبريل صلوات الله عليه وسلامه جسمانيات ، وليست ذاتية له ، وبهذا تعلم أن رؤية العباد لربهم تعالى يوم القيامة مختلفة النعيم ، فكل يراه في صورة عمله على حسب مراقبته وإخلاص توجهه إليه ، وصدقه في إقباله عليه ، وتلك الصور حقائق آيات من آيات أسمائه وصفاته تعالى وأخلاقه ، فما من آية منها تخلّق بها العبد في الدنيا إلا وقد تعرف الله تعالى إليه بها ، أما قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث الرؤية : (فيأتيهم ربهم في غير الصورة التي يعرفون) أي في ظلة آيات العذاب ومظهر الأعمال السيئة ، فيقولون : (نعوذ بالله منك) أي فيستعيذون بالله من تلك الصورة كما كانوا في الدنيا ينكرونها ويستعيذون منها ، وأما قوله : (فيأتيهم في الصورة التي يعرفون) أي في مظهر أعمال البر ، وظلة صفة الرحمة والنبوة التي كانت تحيي قلوبهم بغيث الهدى والعلم ، فيقولون : (أنت ربنا) يعرفونه بواسطة تعرفه لهم في الدنيا ، تحقيقا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة) ، أما صفة الرؤية فقد جاء في غير ما آية ، وفي أحاديث منها في هذا الحديث قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (هل تمارون في رؤية القمر وفي رؤية الشمس) وإذا ثبت تجليه تعالى في صورة روح الشريعة لم يبق في رؤيته إشكال ، وإنما عبر بالوجه والقمر عن حقيقة الوجه وهو نور التوحيد ،

____________________________________

صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرفع حكمه ، فقال : (هَلْ يَنْظُرُونَ) أي ينتظرون (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) جمع ظلة وهو الطاق ، وهو قيام الساعة ، فما ينتظر غيرها ، وهو قوله : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ

٣٠٦

واختلاف الروايتين يجوز أن يكون تنبيها على اختلاف درجة الرؤيتين في نعيم الرؤية ، ويجوز أن يكون باعتبار الرؤية في البرزخ والآخرة ، فإن البرزخ كالليل وآيته القمر ، والآخرة كالنهار وآيته الشمس ، وقوله : (ليس دونها سحاب) فيه تربية لأهل المراقبة ، وذلك لأن غالب أهل المراقبة لا يشهدون بقلوبهم عند العبادة والمراقبة إلا ظلل آيات الشريعة ، ويحجبون بسحابها عن شهود وجه ربهم تعالى ، وهو نور توحيده ، فإذا كان يوم القيامة كشف الغطاء واحتد البصر ، فيرون وجه ربهم سبحانه كشمس لا دونها سحاب الأعمال ولا ظلل غمام الشرائع ، بل هو أقرب إليهم من أعمالهم. (وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) خاصة الله تعالى أمرهم بالأدب في كل ما يلقي إليهم على توقيت أنفاسهم ، عند أخذهم منه تعالى بالحضور مع الله تعالى ، وكذلك إذا ردوا الأمور إليه ، يردونها محلاة بالأدب الإلهي ، واعلم يا أخي أن الناس إذا قاموا من قبورهم وأراد الله أن يبدل الأرض غير الأرض ، وتمد الأرض بإذن الله ، ويكون الجسر دون الظلمة ، فيكون الخلق عليه عندما يبدل الله الأرض كيف يشاء ، فيمدها مد الأديم ويزيد في سعتها ما يشاء أضعاف ما كانت ، ثم يقبض سبحانه السماء فيطويها بيمينه كطي السجل للكتب ، ثم يرميها على الأرض التي مدها ، فيقفون منتظرين ما يصنع الله بهم ، فإذا وهت السماء نزلت ملائكتها على أرجائها ، فيرى أهل الأرض خلقا عظيما أضعاف ما هم عليه عددا ، فيتخيلون أن الله نزل فيهم لما يرون من عظم المملكة مما لم يشاهدوه من قبل ، فيقولون : أفيكم ربنا؟ فتقول الملائكة : سبحان ربنا ليس فينا وهو آت ، فتصف الملائكة صفا مستديرا على نواحي الأرض محيطين بالعالم ، الإنس والجن ، وهؤلاء هم عمار السماء الدنيا ، ثم ينزل أهل السماء الثانية بعد ما يقبضها الله أيضا ويرمي بكوكبها في النار ، وهم أكثر عددا من السماء الأولى ، فتقول الخلائق : أفيكم ربنا؟ فتفزع الملائكة من قولهم ، فيقولون : سبحان ربنا ليس هو فينا وهو آت ، فيفعلون فعل الأولين من الملائكة ، يصطفون خلفهم صفا ثانيا مستديرا ، ثم ينزل أهل السماء الثالثة ويرمي بكوكبها في النار ، فتقول الخلائق : أفيكم ربنا؟ فتقول الملائكة : سبحان ربنا ليس هو فينا وهو آت ، فلا يزال الأمر هكذا سماء بعد سماء ، حتى ينزل أهل السماء السابعة ، فيرون

____________________________________

السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ) أي عن الغمام ، فذلك إتيان الله إلى عباده للفصل والقضاء «والغمام» الضباب شبه السحاب ، والظلل جمع ظلة ، وهو ما يظلهم من ذلك ، أي طاقات من الغمام ظليلة ،

٣٠٧

خلقا أكثر من جميع من نزل ، فتقول الخلائق : أفيكم ربنا؟ فتقول الملائكة : سبحان ربنا قد جاء ربنا وإن كان وعد ربنا لمفعولا ، فيأتي الله في ظلل من الغمام والملائكة ، وعلى المجنبة اليسرى جهنم ، ويكون إتيانه إتيان الملك ، فإنه يقول : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) وهو ذلك اليوم فسمي بالملك ، ويصطف الملائكة عليهم‌السلام سبعة صفوف محيطة بالخلائق ، فإذا أبصر الناس جهنم لها فوران وتغيظ على الجبابرة المتكبرين ، فيفرون ، الخلق بأجمعهم منها لعظيم ما يرونه خوفا وفزعا ، وهو الفزع الأكبر ، إلا الطائفة التي لا يحزنهم الفزع الأكبر ، فتتلقاهم الملائكة (هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) فهم الآمنون مع النبيين على أنفسهم ، غير أن النبيين تفزع على أممها للشفقة التي جبلهم الله عليها للخلق ، فيقولون في ذلك اليوم : سلّم سلّم ، وكان الله قد أمر أن تنصب للآمنين من خلقه منابر من نور متفاضلة بحسب منازلهم في الموقف ، فيجلسون عليها آمنين مبشرين ، وذلك قبل مجيء الرب تعالى ، فإذا فرّ الناس خوفا من جهنم وفرقا لعظيم ما يرون من الهول في ذلك اليوم ، يجدون الملائكة صفوفا لا يتجاوزونهم ، فتطردهم الملائكة وزعة الملك الحق سبحانه وتعالى إلى المحشر ، وتناديهم أنبياؤهم : ارجعوا ارجعوا ، فينادي بعضهم بعضا ، فهو قول الله تعالى فيما يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إني أخاف عليكم يوم التناد ، يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم) والرسل تقول : اللهم سلّم سلّم ، ويخافون أشد الخوف على أممهم ، والأمم يخافون على أنفسهم ، والمطهرون المحفوظون الذين ما تدنست بواطنهم بالشبه المضلة ، ولا ظواهرهم أيضا بالمخالفات الشرعية ، آمنون يغبطهم النبيون في الذي هم عليه من الأمن ، لما هم النبيون عليه من الخوف على أممهم ، فينادي مناد من قبل الله ، يسمعه أهل الموقف ، لا يدرون أو لا أدري هل ذلك نداء الحق سبحانه بنفسه ، أو نداء عن أمره سبحانه ، يقول في ذلك النداء : (يا أهل الموقف ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم ، أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون) فيؤتى بهم إلى الجنة ، ثم يسمعون من قبل الحق نداء ثانيا : (أين الذين كانوا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ، ليجزيهم الله

____________________________________

فيقول : هل ينتظرون إلا أن يأتيهم الله بعذاب من عنده في ظلل من الغمام ، تحمل العذاب كما تحمل المطر ، كما كان في إهلاك عاد حين رأوا السحابة السوداء قد طلعت ، وكانوا مقحطين ،

٣٠٨

أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله) فيؤمر بهم إلى الجنة ، ثم يسمعون نداء ثالثا : (يا أهل الموقف ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم ، أين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، ليجزي الصادقين بصدقهم) فيؤمر بهم إلى الجنة ، فبعد هذا النداء يخرج عنق من النار ، فإذا أشرف على الخلق وله عينان ولسان فصيح يقول : (يا أهل الموقف إني وكلت منكم بثلاث) كما كان النداء الأول ثلاث مرات لثلاث طوائف من أهل السعادة ، وهذا كله قبل الحساب ، والناس وقوف قد ألجمهم العرق ، واشتد الخوف وتصدعت القلوب لهول المطلع ، فيقول ذلك العنق المستشرف من النار عليهم (إني وكّلت بكل جبار عنيد) فيلقطهم من بين الصفوف كما يلقط الطائر حب السمسم ، فإذا لم يترك أحدا منهم في الموقف نادى نداء ثانيا : (يا أهل الموقف إني وكلت بمن آذى الله ورسوله) فيلقطهم كما يلقط الطائر حب السمسم من بين الخلائق ، فإذا لم يترك منهم أحدا نادى ثالثة : (يا أهل الموقف إن وكلت بمن ذهب يخلق كخلق الله) فيلقط أهل التصاوير وهم الذين يصورون صورا في الكنائس لتعبد تلك الصور ، والذين يصورون الأصنام ، وهو قوله : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) فكانوا ينحتون لهم الأخشاب والأحجار ليعبدوها من دون الله ، فهؤلاء هم المصورون فيلقطهم من بين الصفوف كما يلقط الطير حب السمسم ، فإذا أخذهم الله عن آخرهم ، بقي الناس وفيهم المصورون الذين لا يقصدون بتصويرهم ما قصده أولئك من عباداتها ، حتى يسئلوا عنها لينفخوا فيها أرواحا تحيا بها وليسوا بنافخين ، كما ورد في الخبر في المصورين ، فيقفون ما شاء الله ينتظرون ما فعل الله بهم ، والعرق قد ألجمهم ، قال علي

____________________________________

فسروا بذلك واستبشروا وقالوا : (هذا عارض ممطرنا) لكون الغيث أبدا يستلزم الغمام ، فقال تعالى : (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رأى ذلك ، يتغير ويدخل ويخرج ، فإذا نزل الغيث وعلم أنه رحمة سكن ، فإذا رأى الناس ظلل الغمام التي هي مظنة الخير والرحمة يستبشرون ، فتبدو لهم منها من البأس والشدة ما لم يكونوا يحتسبون (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وهو قوله في هذه الآية (وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ). وقوله : (وَالْمَلائِكَةُ) بالرفع والجر ، فمن جر عطف على الغمام ، فتكون الملائكة الموكلون بما ذكرناه من بأس الله ، فإن هذه الآية آية وعيد وتهديد ، ومن رفع فمثل قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) والأولى

٣٠٩

ابن أبي طالب رضي الله عنه (١) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن في القيامة لخمسين موقفا ، كل موقف منها ألف سنة ، فأول موقف إذا خرج الناس من قبورهم يقومون على أبواب قبورهم ألف سنة عراة حفاة جياعا عطاشا ، فمن خرج من قبره مؤمنا بربه مؤمنا بنبيه ، مؤمنا بجنته وناره ، مؤمنا بالبعث والقيامة ، مؤمنا بالقضاء والقدر خيره وشره ، مصدقا بما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عند ربه ، نجا وفاز وغنم وسعد ، ومن شك في شيء من هذا بقي في جوعه وعطشه وغمه وكربه ألف سنة ، حتى يقضي الله فيه بما شاء ، ثم يساقون من ذلك المقام إلى المحشر ، فيقفون على أرجلهم ألف عام في سرداقات النيران في حر الشمس ، والنار عن أيمانهم ، والنار عن شمائلهم ، والنار من بين أيديهم ، والنار من خلفهم ، والشمس من فوق رؤوسهم ، ولا ظل إلا ظل العرش ، فمن لقي الله تبارك وتعالى شاهدا له بالإخلاص ، مقرا بنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بريئا من الشرك ومن السحر ، وبريئا من إهراق دماء المسلمين ، ناصحا لله ولرسوله ، محبا لمن أطاع الله ورسوله ، مبغضا لمن عصى الله ورسوله ، استظل تحت ظلّ عرش الرحمن ، ونجا من غمه ، ومن حاد عن ذلك ووقع في شيء من الذنوب بكلمة واحدة ، أو تغير قلبه أو شك في شيء من دينه ، بقي ألف سنة في الحر والهم والعذاب حتى يقضي الله فيه بما يشاء ، ثم يساق الخلق إلى النور والظلمة ، فيقيمون في تلك الظلمة ألف عام ، فمن لقي الله تبارك وتعالى لم يشرك به شيئا ، ولم يدخل في قلبه شيء من النفاق ، ولم يشك في شيء من أمر دينه ، وأعطى الحق من نفسه ، وقال الحق ، وأنصف الناس من نفسه ، وأطاع الله في السر

____________________________________

في هذا الإتيان أنه للفصل والقضاء ، فيتضمن الرحمة للمؤمنين لما في الغمام من الغيث ، ويتضمن

__________________

(١) هذا الحديث الوارد بطوله هنا ، وتتمته في تفسير قوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها) يقول فيه الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي رضي الله عنه ، حدثنا شيخنا القصار بمكة سنة تسع وتسعين وخمسمائة ، تجاه الركن اليماني من الكعبة المعظمة ، وهو يونس بن يحيى بن الحسين بن أبي البركات الهاشمي العباسي ، من لفظه وأنا أسمع ، قال : حدثنا أبو الفضل محمد بن عمر بن يوسف الأرموي ، قال : حدثنا أبو بكر محمد بن علي بن محمد بن موسى بن جعفر المعروف بابن الخياط المغربي ، قال : قرئ على أبي سهل محمود بن عمر بن إسحق العكبري وأنا أسمع ، قيل له حدثكم رضي الله عنكم ، أبو بكر محمد بن الحسن النقاش؟ فقال : نعم حدثنا أبو بكر قال : حدثنا أبو بكر أحمد بن الحسين ابن علي الطبري المزوري ، قال : حدثنا محمد بن حميد الرازي أبو عبد الله ، قال : حدثنا سلمة بن صالح ، قال : أنا القاسم بن الحكم عن سلام الطويل ، عن غياث بن المسيب عن عبد الرحمن بن غنم وزيد بن وهب ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : كنت جالسا عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعنده عبد الله بن عباس رضي الله عنه ، وحوله عدة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال علي رضي الله عنه ـ الحديث.

٣١٠

والعلانية ، ورضي بقضاء الله ، وقنع بما أعطاه الله ، خرج من الظلمة إلى النور في مقدار طرفة العين ، مبيضا وجهه ، قد نجا من الغموم كلها ، ومن خالف في شيء منها بقي في الغم والهم ألف سنة ، ثم خرج منها مسودا وجهه ، وهو في مشيئة الله يفعل به ما يشاء ، ثم يساق الخلق إلى سرداقات الحساب ، وهي عشر سرداقات ، يقفون في كل سرداق منها ألف سنة ، فيسأل ابن آدم عند أول سرداق منها عن المحارم ، فإن لم يكن وقع في شيء منها جاز إلى السرداق الثاني ، فيسأل عن الأهواء فإن كان نجا منها جاز إلى السرداق الثالث ، فيسأل عن عقوق الوالدين ، فإن لم يكن عاقا جاز إلى السرداق الرابع ، فيسأل عن حقوق من فوض الله إليه أمورهم ، وعن تعليمهم القرآن ، وعن أمر دينهم وتأديبهم ، فإن كان قد فعل جاز إلى السرداق الخامس ، فيسأل عما ملكت يمينه ، فإن كان محسنا إليهم جاز إلى السرداق السادس ، فيسأل عن حق قرابته ، فإن كان أدى حقوقهم جاز إلى السرداق السابع ، فيسأل عن صلة الرحم ، فإن كان وصولا لرحمه جاز إلى السرداق الثامن ، فيسأل عن الحسد ، فإن لم يكن حاسدا جاز إلى السرداق التاسع فيسأل عن المكر ، فإن لم يكن مكر بأحد جاز إلى السرداق العاشر ، فيسأل عن الخديعة ، فإن لم يكن خدع أحدا نجا ونزل في ظل عرش الله تعالى قارة عينه فرحا قلبه ضاحكا فوه ، وإن كان قد وقع في شيء من هذه الخصال بقي في كل موقف منها ألف عام جائعا عاطشا حزنا مغموما مهموما لا ينفعه شفاعة شافع ، ثم يحشرون إلى أخذ كتبهم بأيمانهم وشمائلهم ، فيحبسون عند ذلك في خمسة عشر موقفا ، كل موقف منها ألف سنة ، فيسألون في أول موقف منها عن الصدقات وما فرض الله عليهم من أموالهم ، فمن أداها كاملة جاز إلى الموقف الثاني ، فيسأل عن قول الحق والعفو عن الناس ، فمن عفا عفا الله عنه وجاز إلى الموقف الثالث ، فيسأل عن الأمر بالمعروف ، فإن كان آمرا بالمعروف جاز إلى الموقف الرابع ، فيسأل عن النهي عن المنكر ، فإن كان ناهيا عن المنكر جاز إلى الموقف الخامس ، فيسأل عن حسن الخلق ، فإن كان حسن الخلق جاز إلى الموقف السادس ، فيسأل عن الحب في الله والبغض في الله ، فإن كان محبا في الله مبغضا في الله جاز إلى الموقف السابع ، فيسأل عن مال الحرام ، فإن لم يكن أخذ شيئا جاز إلى الموقف الثامن ، فيسأل عن شرب الخمر ، فإن لم يكن شرب من الخمر

____________________________________

البأس للكافرين لما يتضمن من الصواعق والرعود القواصف والبروق الخواطف والرياح

٣١١

شيئا جاز إلى الموقف التاسع ، فيسأل عن الفروج الحرام ، فإن لم يكن أتاها جاز إلى الموقف العاشر ، فيسأل عن قول الزور ، فإن لم يكن قاله ، جاز إلى الموقف الحادي عشر ، فيسأل عن الأيمان الكاذبة ، فإن لم يكن حلفها جاز إلى الموقف الثاني عشر ، فيسأل عن أكل الربا ، فإن لم يكن أكله جاز إلى الموقف الثالث عشر ، فيسأل عن قذف المحصنات ، فإن لم يكن قذف المحصنات أو افترى على أحد جاز إلى الموقف الرابع عشر ، فيسأل عن شهادة الزور ، فإن لم يكن شهدها جاز إلى الموقف الخامس عشر ، فيسأل عن البهتان ، فإن لم يكن بهت مسلما مر فنزل تحت لواء الحمد وأعطي كتابه بيمينه ونجا من غم الكتاب وهوله وحوسب حسابا يسيرا ، وإن كان قد وقع في شيء من هذه الذنوب ثم خرج من الدنيا غير تائب من ذلك بقي في كل موقف من هذه الخمسة عشر موقفا ألف سنة في الغم والهول والهم والحزن والجوع والعطش حتى يقضي الله عزوجل فيه بما يشاء ، ثم يقام الناس في قراءة كتبهم ألف عام ، فمن كان سخيا قد قدم ماله ليوم فقره وحاجته وفاقته ، قرأ كتابه وهون عليه قراءته ، وكسي من ثياب الجنة ، وتوج من تيجان الجنة ، وأقعد تحت ظل عرش الرحمن آمنا مطمئنا ، وإن كان بخيلا لم يقدم ماله ليوم فقره وفاقته ، أعطي كتابه بشماله ، ويقطع له من مقطعات النيران ، يقام على رؤوس الخلائق ألف عام في الجوع والعطش والعري والهم والغم والحزن والفضيحة حتى يقضي الله عزوجل فيه بما يشاء ، ثم يحشر الناس إلى الميزان ، فيقومون عند الميزان ألف عام ، فمن رجح ميزانه بحسناته فاز ونجا في طرفة عين ، ومن خف ميزانه من حسناته وثقلت سيئاته حبس عند الميزان ألف عام في الغم والهم والحزن والعذاب والجوع والعطش حتى يقضي الله فيه بما يشاء ، ثم يدعى بالخلق إلى الموقف بين يدي الله في اثني عشر موقفا ، كل موقف منها مقدار ألف عام ، فيسأل في أول موقف عن عتق الرقاب ، فإن كان أعتق رقبة أعتق الله رقبته من النار وجاز إلى الموقف الثاني ، فيسأل عن القرآن وحقه وقراءته ، فإن جاء بذلك تاما جاز إلى الموقف الثالث ، فيسأل عن الجهاد ، فإن كان جاهد في سبيل الله محتسبا جاز إلى الموقف الرابع ، فيسأل عن الغيبة ، فإن لم يكن اغتاب جاز إلى الموقف الخامس ، فيسأل عن النميمة ، فإن لم يكن نماما جاز إلى الموقف السادس ، فيسأل عن الكذب ، فإن لم يكن كذابا جاز إلى الموقف السابع ، فيسأل عن طلب العلم ، فإن

____________________________________

الزعازع ، والملائكة بالبشرى للفريقين ، ففريق تبشره بعذاب أليم ، وفريق تبشره بنعيم مقيم

٣١٢

كان طلب العلم وعمل به جاز إلى الموقف الثامن ، فيسأل عن العجب ، فإن لم يكن معجبا بنفسه في دينه ودنياه أو في شيء من عمله جاز إلى الموقف التاسع ، فيسأل عن التكبر ، فإن لم يكن تكبر على أحد جاز إلى الموقف العاشر ، فيسأل عن القنوط من رحمة الله ، فإن لم يكن قنط من رحمة الله جاز إلى الموقف الحادي عشر ، فيسأل عن الأمن من مكر الله ، فإن لم يكن أمن من مكر الله جاز إلى الموقف الثاني عشر ، فيسأل عن حق جاره ، فإن كان أدى حق جاره أقيم بين يدي الله تعالى قريرا عينه ، فرحا قلبه ، مبيضا وجهه كاسيا ضاحكا مستبشرا ، فيرحب به ربه ويبشره برضاه عنه ، فيفرح عند ذلك فرحا لا يعلمه أحد إلا الله ، فإن لم يأت بواحدة منهن تامة ومات غير تائب حبس عند كل موقف ألف عام حتى يقضي الله عزوجل فيه بما يشاء ، ثم يؤمر بالخلائق إلى الصراط ، فينتهون إلى الصراط وقد ضربت عليه الجسور على جهنم ، أدق من الشعر وأحدّ من السيف ، وقد غابت الجسور في جهنم مقدار أربعين ألف عام ، ولهيب جهنم بجانبها يلتهب ، وعليها حسك وكلاليب وخطاطيف ، وهي سبعة جسور ، يحشر العباد كلهم عليها ، وعلى كل جسر منها عقبة مسيرة ثلاثة آلاف عام ، ألف عام صعود ، وألف عام استواء ، وألف عام هبوط ، وذلك قول الله تعالى عزوجل : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) يعني على تلك الجسور ، وملائكته يرصدون الخلق عليها ، ليسأل العبد عن الإيمان بالله فإن جاء به مؤمنا مخلصا لا شك فيه ولا زيغ جاز إلى الجسر الثاني ، فيسأل عن الصلاة ، فإن جاء بها تامة جاز إلى الجسر الثالث ، فيسأل عن الزكاة ، فإن جاء بها تامة جاز إلى الجسر الرابع ، فيسأل عن الصيام ، فإن جاء به تاما جاز إلى الجسر الخامس ، فيسأل عن حجة الإسلام ، فإن جاء بها تامة جاز إلى الجسر السادس ، فيسأل عن الطهر فإن جاء به تاما جاز إلى الجسر السابع ، فيسأل عن المظالم ، فإن كان لم يظلم أحدا جاز إلى الجنة ، وإن كان قصّر في واحدة منهن حبس على كل جسر منها ألف سنة حتى يقضي الله عزوجل فيه بما يشاء ، واعلم أن القيامة أمر محقق موجود حسي مثل ما هو الإنسان في الدنيا ، والحشر المحسوس في الأجسام المحسوسة والميزان المحسوس والصراط المحسوس والنار والجنة المحسوستين ، كل ذلك حق وأعظم في القدرة ، فإذا قام الناس ، ومدت الأرض ، وانشقت السماء ، وانكدرت النجوم ، وكورت

____________________________________

(وَقُضِيَ الْأَمْرُ) بين الفريقين فريق في الجنة وفريق في السعير (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٢١٢)

٣١٣

الشمس ، وخسف القمر ، وحشرت الوحوش ، وسجرت البحار ، وزوجت النفوس بأبدانها ، ونزلت الملائكة على أرجائها ، أعني أرجاء السموات ، وأتى ربنا في ظلل من الغمام ، ونادى المنادي : يا أهل السعادة ، فأخذ منهم الثلاث الطوائف الذين ذكرناهم ، وخرج العنق من النار فقبض الثلاث الطوائف التي ذكرناهم ، وماج الناس ، واشتد الحر ، وألجم الناس العرق ، وعظم الخطب ، وجل الأمر ، وكان البهت فلا تسمع إلا همسا ، وجيئ بجهنم ، وطال الوقوف بالناس ولم يعلموا ما يريد الحق بهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فيقول الناس بعضهم لبعض ، تعالوا ننطلق إلى أبينا آدم فنسأله أن يسأل الله لنا أن يريحنا مما نحن فيه فقد طال وقوفنا ، فيأتون إلى آدم ، فيطلبون منه ذلك ، فيقول آدم : إن الله قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وذكر خطيئته ، فيستحي من ربه أن يسأله ، فيأتون إلى نوح بمثل ذلك ، فيقول لهم مثل ما قال آدم ، ويذكر دعوته على قومه وقوله ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ، ثم يأتون إلى إبراهيم عليه‌السلام بمثل ذلك ، فيقولون له مثل مقالتهم لمن تقدم ، فيقول كما قال من تقدم ، ويذكر كذباته الثلاث ، ثم يأتون إلى موسى وعيسى ويقولون لكل واحد من الرسل مثل ما قالوه لآدم ، فيجيبونهم مثل جواب آدم ، فيأتون إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو سيد الناس يوم القيامة ، فيقولون له مثل ما قالوا للأنبياء ، فيقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنا لها ، وهو المقام المحمود الذي وعده الله به يوم القيامة ، فيأتي ويسجد ويحمد الله بمحامد يلهمه الله تعالى إياها في ذلك الوقت ، لم يكن يعلمها قبل ذلك ، ثم يشفع إلى ربه أن يفتح باب الشفاعة للخلق ، فيفتح الله ذلك الباب ، فيأذن في الشفاعة للملائكة والرسل والأنبياء والمؤمنين ، فبهذا يكون سيد الناس يوم القيامة ، فإنه شفع عند الله أن تشفع الملائكة والرسل ، ومع هذا تأدب صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : أنا سيد الناس ، ولم يقل سيد الخلق فتدخل الملائكة في ذلك ، مع ظهور سلطانه في ذلك اليوم على الجميع ، وذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم جمع له بين مقامات الأنبياء عليهم‌السلام كلهم ، ولم يكن ظهر له على الملائكة ما ظهر لآدم عليه‌السلام من اختصاصه بعلم الأسماء كلها ، فإذا كان في ذلك اليوم ، افتقر الجميع من الملائكة والناس من آدم فمن دونه في فتح باب الشفاعة وإظهار ما له من الجاه عند الله ، إذ كان القهر الإلهي والجبروت الأعظم قد أخرس الجميع ، وكان هذا المقام مثل مقام آدم عليه‌السلام وأعظم ،

____________________________________

(سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ). يقول الله لنبيه : سل بني إسرائيل كم ، وإن كانت

٣١٤

في يوم اشتدت الحاجة فيه ، مع ما ذكر من الغضب الإلهي الذي تجلى فيه الحق في ذلك اليوم ، ولم تظهر مثل هذه الصفة فيما جرى من قضية آدم ، فدل بالمجموع على عظيم قدره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث أقدم مع هذه الصفة الغضبية الإلهية على مناجاة الحق فيما سأل فيه ، فأجابه الحق سبحانه ، وعلقت الموازين ، ونشرت الصحف ، ونصب الصراط ، وبدئ بالشفاعة ، فأول ما شفعت الملائكة ، ثم النبيون ، ثم المؤمنون ، وبقي أرحم الراحمين ، وهنا تفصيل عظيم يطول الكلام فيه ، فإنه مقام عظيم ، غير أن الحق يتجلى في ذلك اليوم فيقول : لتتبع كل أمة ما كانت تعبد ، حتى تبقى هذه الأمة وفيها منافقوها ، فيتجلى لهم الحق في أدنى صورة من الصور التي كان تجلى لهم فيها قبل ذلك ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك ، ها نحن منتظرون حتى يأتينا ربنا ، فيقول لهم جل وتعالى : هل بينكم وبينه علامة تعرفونه بها؟ فيقولون : نعم ، فيتحول لهم في الصورة التي عرفوه فيها بتلك العلامة ، فيقولون : أنت ربنا ، فيأمرهم بالسجود ، فلا يبقى من كان يسجد لله إلا سجد ، ومن كان يسجد اتقاء ورياء جعل الله ظهره طبقة نحاس ، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ، وذلك قوله : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) يعني في الدنيا ، والساق التي كشفت لهم عبارة عن أمر عظيم من أهوال يوم القيامة ، فإذا وقعت الشفاعة ولم يبق في النار مؤمن شرعي أصلا ، ولا من عمل عملا مشروعا من حيث ما هو مشروع بلسان نبي ، ولو كان مثقال حبة من خردل فما فوق ذلك في الصغر إلا خرج بشفاعة النبيين والمؤمنين ، وبقي أهل التوحيد الذين علموا التوحيد بالأدلة العقلية ولم يشركوا بالله شيئا ، ولا آمنوا إيمانا شرعيا ، ولم يعملوا خيرا قط من حيث ما اتبعوا فيه نبيا من الأنبياء ، فلم يكن عندهم ذرة من إيمان فما دونها ، فيخرجهم أرحم الراحمين وما عملوا خيرا قط ، يعني مشروعا من حيث ما هو مشروع ، ولا خير أعظم من الإيمان وما عملوه ، وهذا حديث عثمان بن عفان في صحيح مسلم بن الحجاج ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من مات وهو يعلم ـ ولم يقل يؤمن ـ أنه لا إله إلا الله دخل الجنة ، ولا قال يقول ، بل أفرد العلم ، ففي هؤلاء تسبق عناية الله في النار ، فإن النار بذاتها لا تقبل تخليد موحد لله بأي وجه كان ـ إشارة ـ قرأ

____________________________________

تحتمل أن تكون خبرية ولكن الاستفهام فيها أظهر ، فإن قوله : (سَلْ) يطلبها ، والسؤال

٣١٥

بعضهم (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي) إشارة إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (خلق الله آدم على صورته) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أولياء الله : (إذا رؤوا ذكر الله).

(سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢١١)

(وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ) وهي ما بشّرنا به من عموم مغفرته (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ) فمن هنا وإن كانت شرطا ففيها رائحة الاستفهام ، وقال في الجواب : (أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) ولم يقل فإن الله يعاقب من بدل نعمة الله ، فهو كما قال شديد العقاب في حال العقوبة ، فما ثم من يقدر يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته ، فيبدل نعمة الله بما هو خير منها بحسب الوقت ، فإن الحكم له ، قال تعالى : (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) وهي أعيان العالم ، وإنما التبديل لله لا لهم ، فقوله فيمن بدل نعمة الله من بعد ما جاءته إنه شديد العقاب ، أي يسرع تعالى إلى من هذه صفته بالعقاب ، وهو أن يعقبه فيما بدله أن التبديل لله عزوجل ليس له ، فيعرفه أنه بيده ملكوت كل شيء ، فإن الله ما قرن بهذا العقاب ألما ، ومتى لم يقرن الألم بعذاب أو عقاب فله محمل في عين الأمر المؤلم ، فإنه لا يخاف إلا من الألم ، ولا يرغب إلا في الالتذاذ خاصة ، هذا يقتضيه الطبع الذي وجد عليه من يقبل الألم واللذة.

(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٢١٢)

____________________________________

استفهام ، وهو استفهام تقرير ، يقول : سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آيات النعم ، وقد ذكرناها فيما تقدم ، من تظليل الغمام وإهلاك عدوهم وغير ذلك ، فإذا أخبروك بما أنعمت عليهم ، وأقروا عندك بذلك واعترفوا فقل لهم : (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ) أي من حق نعمة الله الشكر عليها ، فمن بدله بكفرها (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) على ذلك ، ووجه آخر (كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) على صدقك في كتبهم وعلى ألسنة رسلهم ، وهي نعمة مني عليهم ، حيث

٣١٦

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢١٣)

... (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) بشارة الأنبياء متعلقة بالعمل المشروع ، وهو أنه من عمل كذا كان له كذا في الجنة ، أو نجاه الله من النار بعمل كذا ، هذا لا يكون إلا

____________________________________

أقمت لهم البينات على طريق هداهم ، (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ) أي من بعد ما علمها وتحققها ، مثل قوله : (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) فإن الله يعاقبهم على ذلك أشد العقوبة ، وإذا كانت (كَمْ) خبرية ، يقول : يا محمد (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) ثم يخبره سبحانه فيقول له : (كَمْ آتَيْناهُمْ) يا محمد ، أي أعطيناهم (مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) فإنك إذا سألتهم يقولون ذلك مثل ما أخبرتك ، ويكون قوله : (وَمَنْ يُبَدِّلْ) إخبارا لمحمد عليه‌السلام أن الأمر في كل من بدل نعمة الله كذا ، أو يكون على جهة أن يعرفهم بذلك إذا سألهم واعترفوا بنعم الله (٢١٣) (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) لا فاعل إلا الله تعالى قال تعالى : (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) تنبيه أن يعتقد ذلك وأنه من قضائه وقدره ، إذ كل شيء بيده ، ثم قال : (زين لهم الشيطان أعمالهم) تنبيه على الأدب ، ويضاف إلى الشيطان إذ جرى عليه لسان الذم من الله تعالى تنزيها لجنابه ، وذلك بحسب المخاطبين فإن كان في العقد خلل أضيف التزيين إلى الله ليثبت في قلبه اعتقاد كل شيء بيده ، والخير والشر من الله ، وإن كان [العقد] سالما أضاف مثل ذلك إلى الشيطان أو إلى نفسه ، ثم جعل مرتبة ثالثة في ذلك ، فبنى منه فعل ما لم يسم فاعله فقال : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) وقال : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) ولم يذكر من زينها لهم ، فهي حالة وسط بين العقد والأدب ، فإذا لم يترجح عند المتكلم أحد الجانبين قال بهذه الصفة ، لقرينة الحال ، حيث يجمع المجلس المخاطبين الوجهين معا ، فلا يكون إنكار ، فإن كل واحد يأخذه على حاله في الوقت ، فقال : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي نعيم الدنيا ، وطلبوا المثابرة عليه ، فإنه من حسن عنده شيء رغب في تحصيله والتكثر منه ، وسفّه غيره في ترك طلبه إياه ، فإذا رأى من يزهد فيما

٣١٧

للرسل ، وكذلك الإنذار في مخالفة الله تعالى وأوامره ، أما قوله تعالى : (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) اعلم أن الله اصطفى من كل جنس نوعا ، ومن كل نوع شخصا ، واختاره عناية منه بذلك المختار ، أو عناية بالغير بسببه ، فاختص الله من أيام الأسبوع يوم العروبة ، وهو يوم الجمعة ، وعرف الأمم أن لله يوما اختصه من هذه السبعة الأيام ، ولما ذكر الله شرف هذا اليوم للأمم ولم يعينه ، وكلهم الله في العلم به لاجتهادهم ، فاختلفوا فيه ، فقالت النصارى : أفضل الأيام والله أعلم هو يوم الأحد ، فاتخذوه عيدا ،

____________________________________

استحسنه بما زين له سخر منه ، فقال تعالى : (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) حيث يعيبون عليهم ما هم فيه من نعيم الدنيا ، فيقولون : [لا عقل لهم] مستهزئين بهم ، فقال تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ففيه تحريض للمؤمن على التقوى ، حتى لا يشاركونهم يوم القيامة في شيء من النار ، فلو قال : [والذين آمنوا فوقهم يوم القيامة] لكان الكافر إذا رأى المؤمنين الذين أوبقتهم الذنوب حتى أوردتهم النار إلى أن يشفع فيهم فيخرجون ، لم يكن يصدق عندهم قوله : [والذين آمنوا فوقهم يوم القيامة] فذكر المتقين الذين يحشرون يوم القيامة إلى الرحمن وفدا ، فيعلمون عند ذلك صدق الله في صفة المتقي ، إذ لا طريق له إلى النار ، ثم قال : (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي هذا المتقي أيضا قد يكون له حظ عظيم من الدنيا ، ولا سيما كملك سليمان ويوسف وداود وما فتح الله به على محمد صلى الله عليهم أجمعين ، ولا أحاسبهم عليها ، كما ورد في الحديث أن من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ، ومن فسره على التقدير ، أي بغير تقدير ، فليس بشيء ، فإن الله يقول : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) ولا تقتضي الألوهية أن تكون الأمور جزافا ، تعالى الله عن ذلك ، فهذا معنى (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) وإن قلنا معناه بغير تقدير ، فيكون عند المرزوق ، وإن كان يقول الله : هذا الرزق معلوم القدر عندنا ، فما أعلمنا المرزوق بذلك ، فمعناه بغير تقدير عنده ، والأول أولى وأمدح بالمتقي (٢١٤) (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) كان حرف وجودي ، يقول إن الناس أوجدهم على الفطرة وكلهم أقروا بوجود الله ، ثم اختلفوا بعد ذلك بحسب ما ظهر لكل واحد منهم عندما بحث وفكر في معرفة من استند إليه في وجوده ، فاختلفت الفرق في ذلك ، وكل ذهب إلى ما أفضاه نظره ، فمنهم المصيب ومنهم المخطئ (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) بالكتب (مُبَشِّرِينَ) لمن أصاب الحق في نظره (وَمُنْذِرِينَ) من أخطأ أن يرجع إلى الصواب ، وعينت الأنبياء لهم ذلك (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ) الكتب

٣١٨

وقالت : هذا هو اليوم الذي أراده الله ، ولم يقل لهم نبيهم في ذلك شيئا ، ولا علم لنا هل أعلم الله نبيهم بذلك أم لا ، فإنه ما ورد بذلك خبر ، وقالت اليهود : بل ذلك اليوم السبت ، فإن الله فرغ من الخلق يوم العروبة واستراح يوم السبت ، واستلقى على ظهره ووضع إحدى رجليه على الأخرى وقال أنا الملك ، قال الله تعالى في مقابلة هذا الكلام وأمثاله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) فقالت اليهود : يوم السبت هو اليوم الذي أراده الله بأنه أفضل أيام الأسبوع ، فاختلفت اليهود والنصارى ، وجاءت هذه الأمة ، فجاء جبريل إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيوم الجمعة في صورة مرآة مجلوة فيها نكتة ، فقال له : هذا يوم الجمعة ، وهذه النكتة ساعة فيه لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي إلا غفر الله له (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فهدانا الله لما اختلفت فيه أهل الكتاب ، وأضاف الهداية إلى الله ، وسبب فضله أنه اليوم الذي خلق الله فيه هذه النشأة الإنسانية التي خلق المخلوقات من يوم الأحد إلى يوم الخميس من أجلها ، فلا بد أن يكون أفضل الأوقات ، ولا تعرف الساعة التي فيه إلا بإعلام الله ، وهذه الساعة في يوم الجمعة كليلة القدر في السنة سواء ، فيوم الجمعة خير يوم طلعت فيه الشمس ، فما بيّنه الله لأحد إلا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لمناسبته الكمالية ، فإنه أكمل الأنبياء ، ونحن أكمل الأمم ، وسائر الأمم وأنبيائها ما أبان الحق لهم عنه. لأنهم لم يكونوا من المستعدين له ، لكونهم دون درجة الكمال ، أنبياؤهم دون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأممهم دوننا في الكمال ، فيوم الجمعة هو آخر أيام الخلق وفيه خلق من خلقه الله على صورته وهو آدم ، فبه ظهر كمال إتمام الخلق وغايته ، وبه ظهر أكمل المخلوقات وهو الإنسان وهو آخر المولدات ،

____________________________________

ليحكموا بها بين الناس فيما اختلفوا فيه ، فيكون الحاكم الله بينهم في ذلك ، ثم إنهم اختلفوا في الكتاب خلافا آخر ، فمنهم من صدق به ومنهم من كذب به جهلا ، ومنهم من كذب به بغيا وحسدا كيف أنزل على شخص منهم بعينه دون غيره ، وهم مشتركون في الجنس الإنساني ، والذين صدقوا به اختلفوا فيما يتضمنه ، فمنهم من آمن به كله ، ومنهم من آمن ببعضه وكفر ببعضه ، وانقسم هذا المخلط قسمين : منهم من كفر ببعضه جهلا بمعناه وقلة فهم ، ومنهم من كفر ببعضه بغيا وحسدا كما قلنا ، مثل كفرهم بما جاء في التوراة من ذكر القرآن ونبوة محمد وملة إبراهيم ، والذين آمنوا على قسمين : منهم من اجتهد فأخطأ في بعض المسائل كيوم الجمعة الذي فرضه الله عليهم كما فرضه علينا ، فقالت اليهود السبت وقالت النصارى الأحد ، وهدى الله المؤمنين لما اختلفوا

٣١٩

وأطلق الله على هذا اليوم اسما على ألسنة العرب في الجاهلية وهو لفظ العروبة ، أي هو يوم الحسن والزينة ، فلم يكن في الأيام أكمل من يوم الجمعة ، فإن فيه ظهرت حكمة الاقتدار بخلق الإنسان فيه ، فلما كان أكمل الأيام وخلق فيه أكمل الموجودات خصه بالساعة التي ليست لغيره من الأيام ، والزمان كله ليس سوى هذه الأيام ، فلم تحصل هذه الساعة لشيء من الزمان إلا ليوم الجمعة ، وكان خلق الإنسان في الساعة المذكورة المخصصة من يوم الجمعة ، فإنها أشرف ساعاته ، فالحمد لله الذي اصطفانا وهدانا إلى يوم الجمعة وخصنا بساعته ، فإنه من أعظم الهداية التي هدى الله إليها هذه الأمة خاصة ، فإنه اليوم الذي اختلفوا فيه ، فيوم الجمعة أشرف أيام الأسبوع ، وشرفه ذاتي لعينه ، ولا يفاضل بيوم عرفة ولا غيره ، فإن فضل يوم عرفة وعاشوراء لأمور عرضت ، إذا وجدت في أي يوم كان من أيام الأسبوع كان الفضل لذلك اليوم لهذه الأحوال العوارض ، ولهذا شرع الغسل ، وهو فرض عندنا ليوم الجمعة لا لنفس الصلاة ، فإن اتفق أن يغتسل في ذلك اليوم لصلاة الجمعة فلا خلاف أنه أفضل بلا شك.

____________________________________

فيه من ذلك فأصبنا يوم الجمعة ، وأصبنا ملة إبراهيم وأصبنا الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله من غير أن يفرق بين أحد منهم ، فقال تعالى مخبرا : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) أي على أمر واحد فاختلفوا (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) مرغبين ومخوفين (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ) الحق المنزل في الكتاب. (بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) ليبين الصواب عند من هو منهم من الخطأ ، ثم اختلف في الكتاب من أنزل إليهم من الأمم ، فقال : (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) يقول : المعجزات والدلائل على أن هذا الكتاب هو من عند الله (بَغْياً) حسدا (بَيْنَهُمْ) كيف أنزل الكتاب على فلان ولم ينزل على فلان ، كما قالوا في القرآن (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) فذكر الطائفة التي علمت وجحدت ، والطائفة التي جاءها الدليل فلم تعقله (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) المؤمنين من أهل الكتاب ومنا (لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) أي بإعلامه إيانا على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) منا ومنهم (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) إلى الطريق الذي يهدي إلى الحق الذي فيه سعادتهم عند الله (٢١٥) (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) نزلت لما أصيب المسلمون يوم أحد تعزية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، بما أصاب الأمم المؤمنين قبلهم من الشدة والبلاء ، فقال لما ذكر أنهم

٣٢٠