رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ١

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

(رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١٢٨)

اعلم أن توبة الله مقطوع لها بالقبول ، وتوبة العبد في محل الإمكان ، لما فيها من العلل وعدم العلم باستيفاء حدودها وشروطها وعلم الله فيها ، فالعارف يسأل ربه أن يتوب عليه ، فإن الرجوع إلى الله بطريق العهد وهو لا يعلم ما في علم الله فيه خطر عظيم ، فإنه إن كان قد بقي عليه شيء من مخالفة فلا بد من نقض ذلك العهد.

____________________________________

إليه أهل النار من البؤس ، ثم قال : (١٢٨) (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) الآية ، يحتمل رفع القواعد وجهين : الوجه الواحد (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ) ما قعد من البيت ، أي استوطا فرفعه إبراهيم ، والوجه الآخر ، أنه أخذ القواعد وهي الحجارة التي هي أصلا وأساسا للبناء عليها ، وقد تكون تلك القواعد قبل ذلك له على ما روي ، وقد تكون حجارة أنشأها ابتداء واختارها للأساس ، ومعنى يرفعها وذلك إذا جعلت القاعدة على المكان الذي تريد البناء عليه فقد رفعتها على ذلك المكان بلا شك ، فأراد وضعها وإسماعيل ، وقوله : (مِنَ الْبَيْتِ) من أجل بناء البيت ، وإسماعيل يرفعه معه ، ذلك لأنهما أمرا بالبناء معا ، ففي أي شغل كان من البناء فقد حصل الامتثال لأمر الله ، وقد يحتمل أن يكون قوله مبتدأ في وقت رفع القواعد يقول إسماعيل (رَبَّنا) أي يدعو بهذا الدعاء ، أو ما في معناه مما يتضمن طلب القبول من الله فيما كلفاه من العمل (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) لدعائنا (الْعَلِيمُ) بعملنا وامتثال أمرك في ذلك (١٢٩) (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) يقولان في دعائهما : ربنا واجعلنا مسلمين ، يعني نفسه وابنه ، أي منقادين لأمرك متى أمرتنا بكل وجه (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) أي منقادة لأمرك أيضا ، وتأدب في ذلك ولم يقل كل ذريتي ، فإنه قد قيل له إن فيهم ظالمين : فقال : أمة منهم ، فكان كما دعا ، فجعل من ذريته رسلا ومؤمنين وصالحين إجابة لدعوتهما ، ثم قال : (وَأَرِنا مَناسِكَنا) قد تكون الرؤية بمعنى العلم ، ولا يكون العلم بمعنى الرؤية ، فلما كان موضوع الرؤية أعم جاء بها ، لأن من المناسك ما يحتاج فيه إلى الرؤية ، كالأماكن ، فلا بد من تعيينها للبصر ، ومن المناسك ما يكون فعلا ، كأكثر أفعال الحج مما يعلم ولا يرى ، وهو الحكم بما يجوز من ذلك وما لا يجوز ، فلهذا أتى بقوله : (أَرِنا) وقوله : (وَتُبْ عَلَيْنا) أما إبراهيم فمن قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) في طلب الإمامة وأشياء لا يعرفها ، وكذلك إسماعيل ، وقد تكون التوبة هنا بمعنى

٢٠١

(رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٢٩)

الحكمة ليست مطلوبة إلا من أجل ما تدل عليه ، واعلم أن الحكيم من العباد الذي ينزل كل شيء منزلته ، ولا يتعدى به مرتبته ، ويعطي كل ذي حق حقه ، لا يحكم في شيء بغرضه ولا بهواه ، ولا تؤثر فيه الأعراض الطارئة ، فينظر الحكيم إلى هذه الدار التي قد أسكنه الله فيها إلى أجل ، وينظر إلى ما شرع الله له من التصرف فيها من غير زيادة ولا نقصان ، فيجري على الأسلوب الذي قد أبين له ، ولا يضع من يده الميزان الذي قد وضع له ، في هذا الموطن ، فإنه إن وضعه جهل المقادير فإما يخسر في وزنه أو يطفف ، وقد ذم الله الحالتين ، وجعل تعالى للتطفيف حالة خاصة يحمد فيها التطفيف ، فيطفف هناك على علم فإنه رجحان الميزان ويكون مشكورا عند الله في تطفيفه ، فإذا علم هذا ولم يبرح الميزان من يديه لم يخط شيئا من حكمة الله في خلقه ويكون بذلك إمام وقته ، ومن الحكمة عدم إظهار الحق لعباده ، وتعريف الخلق به ، في الموطن الذي يؤدي ذكره إلى أذى الله ورسوله ، ومن الحكمة أن لا يعرض الحكيم بذكر الله ، ولا بذكر رسوله ، ولا أحد ممن له قدر في الدين عند الله ، في الأماكن التي يعرفها هذا الحكيم إذا ذكر الله فيها أو رسوله أو أحدا ممن اعتنى الله به ، كالصحابة عند الشيعة ، فإن ذلك داع إلى ثلب المذكور ، وشتمه ، وإدخال الأذى في حقه ، ففي مثل هذا الموطن لا يذكره.

____________________________________

الرجوع إليه في كل حال ، وهذا التفسير على معنى (فتاب عليهم ليتوبوا) وأما على ظاهر اللفظ فليس فيه توبة منهم ، فمعناه إذا تاب الله عليهم لم تقع منهم فيما بعد مخالفة ، فإن توبة العبد قد يرجع عنها ، ومن تاب الله عليه فلا يرجع ، ووجه آخر وهو قولهما : (وَتُبْ عَلَيْنا) أي ارجع علينا في كل حال بالرحمة والعطف واللطف والتوفيق والرشد والاستعمال في محابك ومرضاتك (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) ، ثم قال : (١٣٠) (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) فالسؤال في أن يكون الرسول منهم (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ) ذلك الرسول (آياتِكَ) ما أنزلت عليه من الصحف والكتب (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) أي ما في الكتاب مما خاطبتهم به ، أو يأمرهم بتعليم الكتاب حتى

٢٠٢

(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (١٣٠)

إلى الهوى يرجع السفه ، ودع عنك كلام من موّه. العقل عن السفاهة منزه ، وما هو بعاقل حتى يتنبه (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) الصلاح أشرف مقام يصل إليه العبد ، ويتصف به في الدنيا والآخرة ، فإن الصلاح صفة امتن الله بها على من وصفه بها من خاصته ، وهي صفة يسأل نيلها كل نبي ورسول ، والصلاح صفة ملكية روحانية ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول فيها : إذا قال العبد في التشهد «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» أصابت كل عبد صالح لله في السماء والأرض.

____________________________________

يعرفوا ما كتب لهم في الصحف المنزلة ، «والحكمة» أن يضعوا العبادات التي كلفتهم مواضعها ، ويرتبوها كما شرعتها زمانا وحالا ومكانا وقولا وفعلا وعقدا ، فإن الحكيم هو الذي يضع الأشياء مواضعها ، قال : (وَيُزَكِّيهِمْ) أي يطهرهم ويكثر الخير لهم ، قال تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) ثم قال : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) الذي لا تغالب ولا يمتنع عليك شيء فإنه يقول : لا راد لأمره ، ثم نعته ب (الْحَكِيمُ) تسليما له في فعله لعلمه بالأمور ، فإن اقتضت حكمته سبحانه فيما دعاه به خليله أجابه ، وإن لم يكن فالأمر إليه ، فهو سبحانه أعلم بمصالح عباده ، ولا سيما وقد تقدم له عليه‌السلام قوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) في سؤاله الأول في الإمامة لذريته ، ثم قال : (١٣١) (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) يقال : رغبت عن كذا إذا زهدت فيه ، والله تعالى يقول : (اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) فقال : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) عن الدين الحنيفي الذي هو الإسلام إلا سفيه في نفسه ، أي سخيف ضعيف الرأي والعقل ، ليس عنده رشد ، والسفه في اللسان الخفة ، والضمير في نفسه يعود على من سفه نفسه في موضع رفع ، وانتصب على التمييز ، كقوله غبن رأيه ، أي غبن رأيا ، وسفه نفسا ، والمعنى في ذلك واضح ، وقوله : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا) وقد علمتم أنا اصطفيناه أي صفيناه من الصفوة واجتبيناه واخترناه للخلة والإمامة في الدنيا (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي من الذين أدوا حقوق الله على التمام والكمال من غير أن يتخللها ما يفسدها ، المعنى

٢٠٣

(إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (١٣١)

الإسلام : أن يكون العبد منقادا إلى الله عند كل دعاء يدعوه إليه من غير توقف. (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) اعلم أن الربوبية نعت إضافي لا ينفرد به أحد المتضايفين عن الآخر فهي موقوفة على اثنين ، فمالك بلا ملك لا يكون وجودا وتقديرا ، ومليك بلا ملك لا يكون ، كذلك الرب بلا مربوب ، لا يصح وجودا وتقديرا.

(وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٣٢)

أي في حال حياتهم ، أي اثبتوا على حالكم الذي ارتضاه الدين لكم في المستقبل ، فأمرهم بالإسلام في المستقبل أي بالثبوت عليه.

____________________________________

أنه في هذه الزمرة التي بهذه الصفة يحشر يوم القيامة ، ثم قال : (١٣٢) (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) العامل في (إِذْ) اصطفيناه ، يقول : إن اصطفاءه في وقت أن قال له أسلم لما رأى الشمس آفلة قال : (يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) «قال له ربه يا إبراهيم أسلم» بما ألقى إليه من النداء في سره ، أو بملك أرسله إليه مبلغا قول ربه له أسلم ، قال : (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ)(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الآية ، وقال فيها : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) وسيأتي إن شاء الله الكلام عليها في موضعها ومعنى (أَسْلِمْ) اخضع لي منقادا ، قال من غير توقف : (أَسْلَمْتُ) أي انقدت وخضعت (لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي سيد العالم ومصلحهم ومالكهم ، وقد مضى تفسيره في الفاتحة ، ثم قال : (١٣٣) (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) الضمير في (بِها) يعود على ملة إبراهيم ، يقول : وصى بها إبراهيم عليه‌السلام أولاده ، وكذلك يعقوب أيضا وصى بها أولاده ، فقال لهم : (يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) أن يا بني فحذف أن ، والعامل فيها وصى لأنه في معنى القول ، ولو ظهر القول هنا في موضع وصى لم يصلح أن يكون هناك حرف أن ، فقولهم إن أن محذوفة لأن وصى في معنى القول ، ولو كان القول لم يحسن وجودها تخبيط ، والأولى أنه هكذا نطقت العرب ، فهي لغة محكية ، ودعوى الحذف فيها قول بلا برهان ، وقوله : (يا بَنِيَّ) إلى آخر الآية تفسير الوصية ،

٢٠٤

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (١٣٦)

أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم المؤمنون به أتباع كل نبي ، وكل كتاب ، وكل صحيفة ، جاء أو أنزل

____________________________________

فقالا : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) أي اختار لكم الدين الذي هو الإسلام ، وهو ملة إبراهيم ، فالألف واللام للعهد ، (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) فنهياهم عن الصفة لا عن الموت ، فإن الموت متحقق ، يقول مت وأنت موحد ، فليس الأمر بالموت ، وإنما الأمر بموت على هذه الصفة ، وفيه تنبيه على ملازمة هذا الدين أيام حياتهم ، لأن وقت الموت مجهول ، والحيوان في كل نفس ينتظره ، ولما كان الأمر هكذا ، خرج الكلام بالنهي عن الموت على غير صفة الإسلام مخرج الزموا هذا الدين أيام حياتكم (١٣٤) (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) الآية ، لما زعمت اليهود أن يعقوب أوصى بنيه عند الموت أن يموتوا على اليهودية ، فقيل لهم ، أتدعون على الأنبياء اليهودية في قولكم هذا ، أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت؟ فتكون (أَمْ) على هذا متصلة ، ومن جعلها منقطعة جعل الهمزة للإنكار ، والمعنى أي ما كنتم حاضرين يعقوب إذ حضر يعقوب الموت ، وقد يمكن أن يقال فيه أيضا إن الهمزة للاستفهام ، والمعنى أكنتم شهداء؟ واستفهم بأم ،

٢٠٥

من عند الله ، في الإيمان به ـ لا بالعمل بالحكم ـ ، فالشرائع كلها أنوار ، وشرع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين هذه الأنوار كنور الشمس بين أنوار الكواكب ، فإذا ظهرت الشمس خفيت أنوار

____________________________________

فإنه يستفهم بها كثيرا في الكلام المستأنف على كلام سبق ، فكأنه يقول : ما كنتم حاضرين ، فلم يبق إلا أن تعلموا ذلك من كتابكم أن يعقوب وإبراهيم كانا على اليهودية ، وأنتم تعلمون أن كتابكم ينطق بخلاف ما تزعمون ، وأنه قيل لكم : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فما أوصى إبراهيم بنيه الذي يعقوب منهم ـ فإنه ولد ولده ـ إلا بالملة الحنيفية وهو دين الإسلام ، فقولكم يناقض علمكم ، وقوله : (إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) فأتى بما فإنها تنطلق على كل شيء بخلاف من ، فكأنه يقول : أي شيء تعبدون من بعدي؟ وأما استفهامه بنيه لعلمه بأن قلوب الخلق بيد الله يقلبها كيف يشاء ، ولعلمه بأن أولاد الأنبياء قد يخرجون عن دين آبائهم ، وقد وقع هذا كله قبل يعقوب فيمن تقدم ، فأراد أن يرى ما يصرون عليه في قلوبهم بعد موته لينقلب مسرورا إن كان خيرا في جوابهم ، وإن سمع منهم غير ذلك فيدعو الله لهم ـ ما دام حيا ـ أن يجمعهم على الإسلام ، ولهذا قال (مِنْ بَعْدِي) فإنهم في هذا الوقت على دين أبيهم ، فقالوا : (نَعْبُدُ إِلهَكَ) أي نذل له بالطاعة لأمره ونوحده (وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ) تهمموا بتقديمه لما علموا من اصطفاء الله له بالخلة ، ولسنه ، ولأن ذلك مما يسر يعقوب ، وتلوه بإسماعيل ، فقالوا : (وَإِسْماعِيلَ) لأنه أسن من إسحق ، وجعلوا العم هنا أبا فإن أبا يعقوب إسحق ، وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : عم الرجل صنو أبيه ، فإن الأخوين من أب واحد كصنوان النخل (وَإِسْحاقَ) كل ذلك عطف بيان على (آبائِكَ) ثم قالوا : (إِلهاً واحِداً) لئلا يتوهم السامع الكثرة ، فهو بدل من إلهك وإله آبائك ، وقد قيل إن نصبه على الاختصاص ، أي نريد بقولنا إلهك وإله آبائك ، إلها واحدا (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) منقادون لما يأمرنا به وينهانا عنه ، وإنما قدموا يعقوب بالذكر على آبائه لحضوره ، وللحاضر مزية على الغائب عند المخاطب ، وربما ذكروه بالقصد الأول على وجه الاقتصار عليه ، ثم إنهم لما ذكروه خطر لهم أن يذكروا آباءه ، ينبهوه أنك كما عبدت إله آبائك كذلك نحن نعبد ما كانوا يعبدون ، إذ كان شرع اسم الإسلام لإبراهيم ، (١٣٥) (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) الآية ، تدل هذه الإشارة أن واحدا منهم قال : إنه ينتفع بانتسابه إلى آبائه الذين كانوا مع الأنبياء المتقدمين على دينهم ، فرد الله ذلك بقوله : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) أي انقضت مدتها وذهبت بعملها ، يقال خلى الرجل إذا صار إلى مكان ليس فيه غيره ، ومنه الخلوة والخلاء ، لانفراد الشخص فيه ، وقوله : (لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) يؤيد من يقول إنه لا ينوب أحد عن أحد في

٢٠٦

الكواكب واندرجت أنوارها في نور الشمس ، فكان خفاؤها نظير ما نسخ من الشرائع بشرعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع وجود أعيانها ، كما يتحقق وجود أنوار الكواكب ، ولهذا ألزمنا في شرعنا العام أن نؤمن بجميع الرسل ، وجميع شرائعهم أنها حق ، فلم ترجع بالنسخ باطلا ، ذلك

____________________________________

الأعمال البدنية ، ويحتج بقوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) وقوله : (ما كَسَبَتْ) من الخير والشر ، أي ما عملته من ذلك ، والذي أذهب إليه في هذه المسألة أن ليس للإنسان أن يطلب جزاءه إلا عن ما سعى فيه ، وليس له بطريق الجزاء إلا ما عمله ، وأما عمل غيره فلا يتعدى له من حيث هو عمل ، فإن العمل لا يتصف به إلا عامله وهو الصحيح ، وإنما الجزاء الذي عيّن الله على ذلك لعامله هو رحله يتصرف فيه كيف يشاء ، فيمسكه لنفسه ويهبه إن شاء لمن يريد ، فالذي يوهب له ذلك الثواب فليس هو له جزاء ، لأنه وصل إليه من غير عمل عمله ، ولكن من باب الهدية والمنة من صاحبه ، كالرجل يأخذ أجرة عمله فإن شاء أكلها ، وإن شاء تصدق بها ، وقد ورد في الشرع ما يؤيد قولنا ، وهذا نقول به في الخير ، وأما في الشر فلا ، فإن الشرع منع من ذلك ، قال تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) ، ثم قال : (وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) أيضا ولا يسألون عما كنتم تعملون (١٣٦) (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) ـ الآية ـ قولهم : (تَهْتَدُوا) أي تصيبوا طريق الحق ، المعنى أي يتبين لكم الحق ، إذا كنتم على اليهودية تقول اليهود ، وتقول النصارى كونوا نصارى ، وهما دينان مختلفان لأنه دين عن أهوائهم لا دين أنبيائهم ، فقال الله تعالى لنبيه : (قُلْ) لهم (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي نتبع نحن وأنتم كلمة بيننا وبينكم سواء (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) فهذه هي ملة إبراهيم ، وقد أخبرنا الله تعالى وهو في كتابكم أن إبراهيم ما كان يهوديا ولا نصرانيا ، ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ، وأنتم معشر اليهود تقولون : عزير ابن الله وأنتم معشر النصارى تقولون : المسيح ابن الله ، والمسيح هو الله ، فأشركتكم ، فكيف نتبعكم وأنتم ما اتبعتم ما أنزل إليكم؟ والقرآن مما أنزل إليكم فإني رسول إليكم جميعا (١٣٧) (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ) لما قالت اليهود لنا : (كُونُوا هُوداً) وقالت النصارى : (كونوا نصارى) قيل لنا : (قُولُوا) لهم (آمَنَّا بِاللهِ) أي بوحدانيته وبوجوده (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) وهو القرآن (وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) من الصحف والوحي (وَما أُوتِيَ مُوسى) وهو التوراة (وَعِيسى) وهو الإنجيل (وَما أُوتِيَ) أعطي (النَّبِيُّونَ) الألف واللام لاستغراق الجنس. (مِنْ رَبِّهِمْ) من عند ربهم من الكتب والشرائع (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) كما فرقتم ، فآمنتم ببعضهم

٢٠٧

ظن الذين جهلوا ، والأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي ، ولم يبعث عاما سوى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما سواه فبعثه خاص ، فنعلم من ذلك أن المحمدي مطلق الدعاء بكل لسان ، لأنه مأمور بالإيمان بالرسل وبما أنزل إليهم ، فما وقف الولي المحمدي مع وحي خاص إلا في الحكم بالحلال والحرام ، وأما في الدعاء ، وما سكت عنه ، ولم ينزل فيه شيء في شرع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يؤذن بتركه ، فلا يتركه إذا نزل به وحي على نبي من الأنبياء عليهم‌السلام ، رسولا كان أو غير رسول.

(فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) (١٣٨)

اعلم أن لهذه النشأة الإنسانية صورا ، كانت مبثوثة في العناصر والأفلاك ، قبل أخذ الميثاق عليه ، وللإنسان صورة في العدم ، وهذه الصور مرئية مبصرة لله تعالى ، وهي التي يتوجه عليها خطاب الله إذا أراد إيجاد مجموعنا في الدنيا بكن ، فنبادر ونجيب إلى الخروج ، من حضرة العدم إلى حضرة الوجود ، فينصبغ بالوجود وهو قوله تعالى : (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) أي أذلاء خاضعون.

____________________________________

وكفرتم ببعضهم ، وآمنتم ببعض ما في كتابكم وكفرتم ببعضه (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي منقادون مستسلمون لأوامره وما يكون منه إلينا ، فإن كنتم أنتم على الحق فقد آمنا به في هذا العموم ، وما أنتم على حق ، وإنما كان هذا تنبيها من الله لهم ليقولوا مثل ذلك على الإجمال فيسعدوا ، ولم يختلف المفسرون في الأسباط أنهم الأنبياء من أولاد يعقوب ، فمن رأى أن أولاد يعقوب لم يكن منهم أنبياء إلا ما نص الله عليه كيوسف ، كان الأسباط حفدته ويوسف من ولده ، ومن جعل الأسباط أولاد يعقوب ، قال : إنهم أنبياء ، وأن ما جرى منهم في حق أخيهم كان قبل نبوتهم ، قال الربيع : الأسباط اثنا عشر رجلا يوسف وإخوته ، ولد لكل رجل أمة من الناس سموا أسباطا ، قال ابن اسحق ـ وهذا ابن اسحاق هو الذي قال فيه أحمد بن حنبل : يؤخذ من حديثه ما رواه من

٢٠٨

(قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) (١٣٩)

الإخلاص النية ، روينا من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : (إنما الأعمال بالنيات ،

____________________________________

السير ـ قال : نكح يعقوب ابنة خاله ليا بنت ليان بن تمويل بن إلياس ، فولدت له روبيل ـ وهو أكبر ولده ـ وشمعون ولاوى ويهودا ـ وإليه تنسب اليهود ـ وريالون ويشحر وذببه بنت يعقوب ، ثم توفيت ليا ، فنكح يعقوب أختها راحيل بنت ليان خاله ، فولدت له يوسف وبنيامين ، وولد ليعقوب من سريتين كانتا له ، الواحدة اسمها زلفى والأخرى بلها ، أربعة نفر : دان وتغثالى من زلفى ، وجاد وأشر من بلها ، وقد روينا من غير هذا الطريق أن زلفى ولدت له دان ويقنوان ورنوان ، وولدت له بلها جاد وأشر وأنساخر ، ثم قال : (١٣٨) (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) الآية ـ فقوله : (فَقَدِ اهْتَدَوْا) مقابلا لقولهم حين قالوا لنا : (تَهْتَدُوا) إذا كنتم هودا أو نصارى ، وكان جوابنا لهم جواب إنصاف معرى من الأهواء التي دانوا هم الله بها ، فإنه جواب عن وحي منزل (وَإِنْ تَوَلَّوْا) يقول : وإن أعرضوا عن هذا الإيمان (فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ) أي في منازعة وحرب لله ورسوله ، ومعناه أنك أتيتهم بكلام يشق عليهم سماعه ، فأداهم ذلك إلى حرب ومنازعة فلا تهتم يا محمد (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) فهو قوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) أي الله يكفيني أمرهم ، وهو قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ) قال الله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما) أي نزاعا ، وهو أن يقول كل واحد أو يعمل ما يشق على الآخر (وَهُوَ السَّمِيعُ) ما يقولونه لكم (الْعَلِيمُ) بهم أنهم يباهتون ويكذبون على الله وعلى أنبيائهم وكتابهم (١٣٩) (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) الآية ، فعلة من صبغ كقعدة من قعد ، وذلك والله أعلم لما كانت النصارى تصبغ من دخل في دينها في ماء يقال له المعمودية لتطهره بذلك الصبغ عن كل دين سواه ، قال الله لنا ولهم : (صِبْغَةَ اللهِ) الذي هو الإيمان المطهر القلوب من الكفر والشرك (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) هو قوله : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ) فإن هذه الصبغة تسعده وتحله دار القرار ، وصبغتهم ليست كذلك ، لأنها من شرعهم الذي لم يأذن به الله ، ونصب صبغة الله على أن يكون بدلا من قوله : (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أو نصبا على الإغراء ، ويكون (وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) مبتدأ فإن كان (وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) عطفا على قوله : (آمَنَّا بِاللهِ) كان نصب صبغة الله على أن يكون مصدرا مؤكدا لقوله : (آمَنَّا بِاللهِ) وهو أوجه من الأول لانتظام الكلام على نسق واحد ، وقوله : (وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) أذلاء تحت أمره وحكمه ، (١٤٠) (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا

٢٠٩

وإنما لامرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها ، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) والنية لجميع الحركات والسكنات من المكلفين للأعمال ، كالمطر لما تنبته الأرض ، فالنية من حيث ذاتها واحدة ، وتختلف بالمتعلق ، وهو المنوي فتكون النتيجة بحسب المتعلق به لا بحسبها ، فإن حظ النية إنما هو القصد للفعل أو تركه ، وكون ذلك الفعل حسنا أو قبيحا ، وخيرا أو شرا ما هو من أثر النية ، وإنما هو أمر عارض عرض ، ميّزه الشارع وعينه للمكلف ، فليس للنية أثر البتة من هذا الوجه خاصة ، وإنما النية سبب في ظهور الأعمال الصالحة وغير الصالحة ، وليس لها إلا الإمداد ، وحقيقتها تعطي تعلقها بالمنوي ، وكون ذلك المنوي حسنا أو قبيحا ليس لها ، وإنما ذلك لصاحب الحكم فيه بالحسن والقبح ، فالمخاطب المكلف إن نوى الخير أثمر خيرا ، وإن نوى الشر أثمر شرا ، وما أتي عليه إلا من المحل من طيبه وخبثه ، فالإخلاص هو النية وإن فاتتك النية فاتك الخير كله ، فكثير ما بين فاعل بنية القربة إلى الله ، وبين فاعل بغير هذه النية ، والعبادة عمل وترك ، فالإخلاص مأمور به شرعا.

____________________________________

فِي اللهِ) الآية ، هذه المحاجة هو قوله : (فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ) أي في منازعة لكم في الله وما أنزل إليكم ، فقال الله لنبيه : (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) عندنا وعندكم ، فقد ثبت ذلك وأجمعنا عليه نحن وأنتم أن الله رب الكل فما فيه محاجة ، وادعيتم أنتم الشريك معه وهو عزير والمسيح ، ولم تأتوا على ذلك ببرهان ولا تجدونه ، وقد يئسنا من رجوعكم إلى ديننا ، ويئستم من رجوعنا إلى دينكم ، كلمة إنصاف قوله : (وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) أي ما عمل كل واحد منا من شيء يجده عند الله ، لا خلاف بيننا وبينكم في ذلك ، قال تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) غير أنه يظهر الحق معنا فنحن له مخلصون ، وهو قوله : (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) أي أخلصنا له الألوهية أن يكون له فيها شريك أو معين ولم تفعلوا أنتم ذلك (١٤١) (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ) الآية ، قد تكون أم هنا معادلة لهمزة تحاجوننا ، يقول : أتحاجوننا أم تقولون ، فإن الهمزة التي في أتحاجوننا يتصور فيها الاستفهام والإنكار ، وكذلك (أَمْ تَقُولُونَ) فتكون متصلة ، وتكون القراءة في تقولون بالتاء المنقوطة من فوق ، فإن كانت القراءة بالياء فهي منقطعة ، فإنه ذكر عن غائب ، والقراءة على الخطاب أولى ، والعطف أوجه في القراءتين ، على أن يكون أي الأمرين (إِنَّ إِبْراهِيمَ

٢١٠

(أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١) سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١٤٣)

(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) أي خيارا عدلا (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) فقد نص على عدالتنا بمجرد الإيمان ، وإن كان قد علم أنه يقع منا الجور والظلم والتعدي للحدود

____________________________________

وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى) فتباهتوا في ذلك ، لأن من ذكرتموهم كانوا قبل حدوث هذين الاسمين ، وإن أردتم المعنى الذي هو دين اليهودية أو النصرانية وإن حدث الاسم فقد أكذبكم الله في كتابكم وكتابنا ، فلهذا قال الله له : (قُلْ) لهم (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) فلا بد أن يقولوا : الله أعلم ، فاطلبوهم بذلك ، أي متى أعلمكم الله أنهم كانوا كذلك ، بل أنزل الله عليكم وعلينا أنهم كانوا حنفاء مسلمين ، لم يكونوا هودا ولا نصارى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) أي قد علموا أن الله شهد عندهم في كتابهم بذلك وكتموه ، ووجه آخر (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ) من الله ، وهو يعلم أن الله يعلم سرهم وعلانيتهم ، وقد علم أنه أعلمهم أنهم كانوا مسلمين ، فلم يؤدّوا هذه الشهادة وكتموها من الله ، فهذا غاية الجهل بالله

٢١١

المشروعة ، مع حفظ الإيمان بتحليل ما أحل الله وتحريم ما حرم الله ، وهذا ما أنزله الله تعالى في حق هذه الأمة ، فنحن نشهد على الأمم بما أوحى الله تعالى به إلينا من قصص أنبيائه مع أممهم ، فالشهادة بالوحي أتم من الشهادة بالعين ، فنأتي يوم القيامة يقدمنا القرآن ، ونحن

____________________________________

والجحود ، ويحتمل أن يكون من هنا في قوله : (مِنَ اللهِ) كقولنا إذا شهدنا لأحد بأمر ، هذه شهادة منّي له بذلك ، فيكون الكلام : ومن أظلم منا لو كتمنا شهادة منا لأحد عندنا ، ليعلم بذلك أهل الكتاب أن الله عرّض بهم في تكذيبهم بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبكون الأنبياء المذكورين على دين الإسلام وقوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وعيد وقد تقدم ، وكذلك (١٤٢) (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) تقدم الترجمة عنها (١٤٣) (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها ، قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) السفهاء الضعفاء الرأي الخفاف العقول من الناس ، يعني مشركي العرب واليهود والمنافقين ، وتقديمه الإخبار عن قولهم قبل قولهم ردع لكثير من شرهم ، لأن الخصم إذا حكى قول خصمه قبل وقوعه منه كان أقل لشغبه ، وذلك لتوهمه بمعرفة ذلك أنه قد استعد للجواب وأعد له جوابا قاطعا ، فيتبلد الخصم عند ذلك وتنكسر حدته ، وقولهم (ما وَلَّاهُمْ) استفهام عن السبب الموجب لتحويل القبلة ، فكل فريق منهم يحزر على قدر ما يقع له ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد صلى إلى بيت المقدس على ما قيل سبعة عشر شهرا ، وأكثر الروايات على ذلك ، وغاب عنهم ما في علم الله من انتهاء مدة الحكم في التوجه بالعبادة إلى البيت المقدس فينا وفيهم ، لأن جميع الناس مخاطبون بشرع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فشرع لنا التوجه إلى الكعبة حتى لا نبقى بلا شرع إذ لا بد أن نستقبل بالصلاة جهة ما أو جميع الجهات ، فيكون ذلك مشروعا حتى يكون الاستقبال عبادة نؤجر عليها وعلى الصلاة ، فهو خير على خير ، فهذا شرع حادث اتصل بشرع انتهت مدته في علم الله تعالى ، فأعلمنا بذلك ، ومثل هذا لا يسمى نسخا ، فإنه ما رفع ، وإنما انقضى زمانه فانقضى هو بانقضائه ، وحدث زمان فحدث شرع بحدوثه ، فتخيل الضعيف الرأي أن ذلك نسخ وليس كذلك ، فإن النسخ إنما يكون فيما حكمه أن يثبت دائما فيرفع ، وما كان الأمر كذلك ، فإنه ما كان في علم الله قط أن تستمر الصلوة إلى البيت المقدس دائما ، وإن غاب ذلك عنا فنحن في هذه المسألة غير معتبرين ، وإنما يعتبر ناصب الحكم وهو الله تعالى ، وما رأيت أحدا حقق هذه المسألة بل أطلقوا القول فيها من غير تحقيق ، فقال الله تعالى لما قالوا ذلك : «قل» يا محمد (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي المطلوب بالعبادة إنما هو الله تعالى ، فأية جهة شاء أن يكلف عباده عيّنها ، ويجعل ذلك صراطا مستقيما لمن شرعها له ، أي طريقا إلى سعادته ، وأتى بمن نكرة

٢١٢

نقدم سائر أهل الموقف ، ويقدم القرآء منّا من ليس له من القرآن مثله ، فأكثرنا قرآنا أسبقنا في التقدم والرقي في المعراج المظهر للفضل بين الناس يوم القيامة ، فإن للقراء منابر ، لكل منبر درج على عدد آي القرآن ، يصعد الناس فيه بقدر ما حفظوا منه في صدورهم ، ولهم منابر أخر لها درج على عدد آي القرآن ، يرقى فيها العاملون بما حققوه من القرآن ، فمن

____________________________________

وجعل الصراط مثله نكرة ، يقول : أي طائفة شئت كلفت بأي عبادة شئت ، فتكون صراطا له إلى سعادته مستقيما من كونه مشروعا منا ، وكما كان من جعلنا الكعبة أول بيت لنا وضعناه في الأرض لعبادنا ليحفوا به كما تحف الملائكة بعرشنا ، ويدخله عبادي كما تدخل الملائكة البيت المعمور ، وجعلناه خير البيوت ، وجعلناكم أنتم خير أمة أخرجت للناس ، وجعلناكم أمة وسطا شهداء على سائر الأمم ، جعلنا الأشرف من عبادي على سائر جنسهم يستقبل الأشرف من بيوتي على سائر البيوت التي نسبتها إليّ ، ومن تحت هذا البيت دحا الله الأرض على ما روي (١٤٤) (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) الآية ، يقول : ومثل ذلك ، الكاف للصفة ، (جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) أي خيارا عدلا ، فالعجب من هذا كالعجب من هذا ، فإن أفعال الله كلها عجيبة ، هي نفس الحكمة تجري على غير قياس ولا مثال ، هذه الآية دليل على أن المؤمن بالله ورسوله وما جاء من عنده محمول على العدالة ، مقبول الشهادة ، ليس للحاكم أن يرد شهادته ، ولا يسأل عن حاله ، ويحكم ولا يتوقف ، هذا هو الشرع المنزل ، فإن الله زكاه وعدله بالإيمان وجعله شاهدا مقبولا عنده ، وهو الحكم العدل ، وكذا فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد شهد عنده شخص برؤية الهلال ، فقال له : أتشهد أن لا إله إلا الله ، قال : نعم ، فقبل شهادته وأمر بلالا أن ينادي في الناس بالرؤية ، وأما قوله : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) يقول مؤمنين لم تروا منهم ما يؤدي إلى تجريحهم وليس لكم أن تبحثوا عنهم إذ ليس في الآية ذلك ويؤيد هذا قوله في من حضره الموت في السفر (ذوا عدل منكم) يعني مؤمنين (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) أي ممن ليس بمؤمن ، فإن ادعى الخصم تجريح الشاهد وأنه ذو جرحة في دينه ، جرحة ترد بها شهادته ، توقف الحاكم في الحكم ، وقيل للخصم : أقم البينة على ما ادعيته من جرحه ، فإن قامت البينة على ذلك عند الحاكم رد شهادته ، وإن لم تقم عزّر الخصم لافترائه عليه ، إلا أن يكون الخصم مجتهدا ، فتخيل فيما ليس بجرحة أنها جرحة ، فليس له تعزيره ، ويحكم بشهادة الشاهد ، ويكون الخصم قد أخطأ في اجتهاده ، والأوجه عندي في مسألة التجريح ، أن كل جرحة لا تقدح في صدق ما يقوله لا يجرح بها في شهادته ، كاللورية وغيرهم ، فإنهم لا يكذبون ولو مضت في ذلك نفوسهم وأموالهم وأولادهم ، وهم مع ذلك يسرقون ويفسقون بجميع أنواع الفسوق إلا الكذب ، وإنما قلنا إن

٢١٣

عمل بمقتضى كل آية بقدر ما تعطيه في أي شيء نزلت رقي إليها عملا ، وما من آية إلا ولها عمل في كل شخص لمن تدبر القرآن ، وفي القيامة منابر على عدد كلمات القرآن ، ومنابر على عدد حروفه ، يرقى فيها العلماء بالله ، العاملون بما أعطاهم الله من العلم بذلك ، فيظهرون

____________________________________

الوسط هو العدل لأن الوسط هو الذي يكون بين طرفين ، ونسبته إلى كل طرف كنسبته إلى الآخر فلا يميل إلى أحد الجانبين ، وكذا ينبغي للشاهد أن يقول الحق الذي يعرفه لا على جهة الميل إلى أحد الجانبين ، وكانت هذه الأمة نسبتها إلى عزمات أمر ربها فيما كلفها كنسبتها إلى رخصه ، لأنها من أمر ربها ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه] فأتى بكاف التشبيه للتساوي بين المحبتين بميله إلى كل جانب على السواء ، ولما كانت هذه الأمة ما غلت في دينها كما غلا أهل الكتاب ، فلم تفرط ولا قصرت في دينها ولا فرطت كما فرط من ترك النظر في الأدلة وقادته الشبه إلى ترك أشياء مما يجب الإيمان بها ولم تفرط في ذلك كانت أمة وسطا ، وكذا نسبتها إلى الرجاء والخوف ، فالوسط العام الذي تشترك فيه الأمة كلها ويقضي بعدالتها أنهم لم يفرقوا في إيمانهم بالرسل وما جاؤوا به بين واحد منهم ، ونسبتهم من حيث إيمانهم إلى كل واحد منهم على السواء ، ثم يعلو الوسط في الأمة خصوصا بعد خصوص بتفصيل ليس هذا موضعه إلى أن ينتهي إلى أخص وصف في نسبة ما يجري منه من خير وغير ذلك إلى الأسماء الإلهية ، ثم قال : إنه جعل هذه الأمة أمة وسطا (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) يوم القيامة ، إذا أنكروا تبليغ أنبيائهم إليهم رسالات ربهم مع كونهم ما شاهدوهم ، ولكن الغرض حصول العلم عند الشاهد فيما يشهد به ، لا سبب حصوله ، وقد علمنا قطعا بما أنزله علينا وأخبرنا به في كتابه أن الرسل بلغت أممها ، وحكى لنا قصصهم ، وهذا السبب أقوى من أن لو شاهدناهم ، فتثبت الشهادة قطعا للخبر الصدق ، ولهذا كانت شهادة خزيمة شهادة رجلين ، يقبل وحده ، ويجوز من هذه الآية أن يشهد الشاهد إذا حصل عنده العلم الذي يقطع به ، أي وجه حصل وإن لم يشهد ذلك ولا حضره ، بخلاف الحاكم فإنه لا يحكم بعلمه ولا يأثم ، والشاهد يأثم إن لم يشهد بعلمه ، وليس للحاكم أن يسأله كيف وصل إليه هذا العلم ، إلا إذا عرف أنه لم يشهد تلك القضية المشهود فيها ، فليس له أن يقبل شهادته إلا حتى يعرف السبب ويعمل بمقتضاه عند ذلك ، وأما قوله تعالى : (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) أي رقيبا عليكم في ذلك اليوم حتى تؤدوا الشهادة للأنبياء على أممهم ، ومنه قول عيسى عليه‌السلام : [وكنت عليهم شهيدا] أي رقيبا [ما دمت فيهم] وقوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ) وقد تكون على بمعنى اللام ، فإن حروف الجر تبدل بعضها من بعض ، ويعرف ذلك بالمعنى ، قال تعالى : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) أي للنصب وهي

٢١٤

على معارج حروف القرآن وكلماته بسور تلك الحروف والكلمات والآيات والسور والحروف الصغار منه ، وبه يتميزون عن أهل الموقف في هذه الأمة ، لأن أناجيلهم في صدورهم (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) فإن الدار الدنيا دار بلاء وفيها يظهر الصادق من الكاذب

____________________________________

الأصنام التي نصبوها للعبادة فكانوا يقربون لها ، فعلى هذا يخرج قوله : (وَيَكُونَ الرَّسُولُ) لكم [شهيدا] بعلامات قد جعل الله في أمته ، يعرف بها المؤمن منهم من غير المؤمن ، فيشهد للمؤمن ويشهد على الكافر ، فمن علامة المؤمنين أن لهم نورا يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ، ومن ذلك أن يأتوا غرّا محجلين من آثار الوضوء ، وقد يخرج على شهادته على الكفار ممن بعث إليهم فلم يؤمنوا به ، فإن رسالته عامة لجميع الخلق وكافرهم أكثر من مؤمنهم ، فغلّب الكثرة على القلة ، فأتى بعلى دون اللام ، وعطف ضمير المخاطب في عليكم على الضمير في تكونوا لما يتضمن ضمير المخاطب من المؤمنين ، فإن الأنبياء كلهم يوم القيامة يشهدون على أممهم لله بردهم دعوة الحق التي جاؤوا بها إليهم ، ثم قال تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) يقول : قبلة لك ، أي تتوجه إليها عند الصلوة وفي الدعاء ، الكعبة وبيت المقدس ، إلا ابتلاء لقومك ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي بمكة إلى الكعبة ، ثم صلى إلى البيت المقدس سبعة عشر شهرا ، ثم أمر باستقبال الكعبة ، كل ذلك اختبارا ومحنة لقومه ، ودلالة على صدقه ، وأنه في كتابهم من علاماته أن يصلي إلى القبلتين ، ولذا قال : [وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم] ثم قال [ليعلم الرسول والمؤمنون] لأنه سبحانه شرّك في الضمير بينه وبينهم تشريفا لهم ، لأنهم أهل القرآن ، فهم أهل الله وخاصته ، وهذا كثير في كلام العرب معروف غير منكور ، والذي يتعلق به من التأويل في جناب الحق هو أن يتعلق العلم بالكائن كما تعلق بسيكون ، فهو لتعلق العلم لا لاكتساب العلم ، ومنه قوله : [ولنبلونكم حتى نعلم] فقال : (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) فيما يشرع لكم على يده ، أي يقتدي به من غير معارضة ولا اعتراض ، (مِمَّنْ يَنْقَلِبُ) أي يرجع عنه (عَلى عَقِبَيْهِ) يعني إلى ضلالته التي جاء منها مقبلا على الرسول ليسمع منه ، فلما تبين له الهدى انقلب على عقبيه فأضله الله على علم [وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون] وهؤلاء الذين انقلبوا على أعقابهم في هذه المسألة وغيرها ، هم الذين يكون غدا جزاؤهم عند الله إذا قالوا للمؤمنين : [انظرونا نقتبس من نوركم قيل لهم] من جانب الحق [ارجعوا وراءكم] كما رجعتم عندما رأيتم نور الهدى في الدنيا على أعقابكم [فالتمسوا نورا] هنالكم ولن تجدوه ، وكثرت قالة الكفار والمنافقين في رجوع النبي عليه‌السلام إلى استقبال

٢١٥

(وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) ، اعلم أن للرأفة موطنا لا تتعداه ، وإن الله يحكم بها حيث يكون وزنها ، فإن الله ينزل كل شيء منزلته ، ولا يتعدى به حقيقته ، فالله هو الرؤوف تعالى مع أنه شرع الحدود ، وأمر بإقامتها ، وعذب قوما بأنواع العذاب الأدنى والأكبر.

(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (١٤٤)

لا يرفع حكم أن وجه الله حيثما توليت ، ولكن الله اختار لك ما لك في التوجه إليه سعادتك ، ولكن في حال مخصوص وهي الصلاة ، وسائر الأينيات ما جعل الله لك فيها هذا التقييد فجمع لك بين التقييد والإطلاق ، والمسجد الحرام موطن عبودية لأن السجود

____________________________________

الكعبة في الصلوة بما لا يفيد ذكره (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) إن هنا مخففة من الثقيلة ، ولهذا دخل في خبرها اللام لأنه يقرأ بالرفع على زيادة كان ، والضمير في كانت يعود على التولية أو الجعلة ، وكونها كبيرة حيث ثقلت عليهم ، وقد أخبر عن الصلاة أنها كبيرة إلا على الخاشعين ، أي ثقيلة شاقة ، فقد انضافت إليها كبيرة أخرى ، وهي التولية إلى الكعبة ، فزادتهم مشقة إلى مشقتهم (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) يقول إلا المؤمنون الذين ليس في قلوبهم مرض ، فإن ذلك كله هين عليهم محبوب لهم ، إذ ليس لهم غرض بتصريف مخصوص معين ، بل هم مرتقبون لما يصرفهم إليه الحق وما يصرفهم فيه ، ثم قال : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ) أي ليخيب (إِيمانَكُمْ) أي تصديقكم وصلاتكم إلى القبلة التي حولتم عنها ، لما علم أن بعضهم سيقدح ذلك في نفسه ، ويقول : هل له أجر في عمله الأول أم لا؟ فأخبره الله بأنه لا يضيع عمل عامل منهم ، قال تعالى : [إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا] وكيف يضيعه وهو الذي شرعه ووعد بالأجر عليه ووعده صدق (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ) عطوف عليهم ، ولذلك شرع لهم وأبان طريق سعادتهم ولم يعمّ عليهم ولا لبّس ، (رَحِيمٌ) بهم فيما أسبغ عليهم من النعم مع كفرهم به لعلهم يرجعون ، ثم أخذ يخاطب نبيه عليه‌السلام فقال : (١٤٥) (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) الآية ،

٢١٦

هو التطاطي ، وهو نزول من أعلى إلى أسفل ، وبه سمي الساجد ساجدا ، لنزوله من قيامه.

(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (١٤٦)

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) فإنهم مصدقون بكتابهم وهذا النعت فيه وقد أبصروه ، فيعلمون أنه عين هذا النعت ولا يعرفون الشخص الذي قام به

____________________________________

لما كانت اليهود تقول ما بال محمد يتبع قبلتنا ولا يتبعنا في ديننا ، ثقل ذلك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث نسبوه إلى اتباعهم في أمر ، وخاف على الضعفاء في إيمانهم من المؤمنين أن تتعلق بقلوبهم شبهة من ذلك تقدح في إيمانهم ، وكانت الكعبة قبلة إبراهيم أبيه عليه‌السلام ، ومن ملته التوجه إليها ، فكان يختارها على سائر الجهات من الأماكن ، فكان يستقبل السماء لكونها محل الدعاء شرعا ، ويكثر تقلب وجهه فيها في عموم أوقاته عسى أن يكون ذلك التقلب شرطا في علم الله في صرفه إلى الكعبة ، فكان يقلب وجهه في السماء حسا ووجه قلبه فيما يسمو من معالي الأمور مما يظهر به شرفه ، إذ كان البيت أشرف البيوت ، فقال الله له : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) يعني في طلب استقبال الكعبة (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ) يقال : وليته كذا إذا جعلته واليا عليه (قِبْلَةً تَرْضاها) أخبر الناس باعتنائه به حين لم يعمل ذلك مع غيره ، قال تعالى : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) واستقبال الكعبة منها ، فما كره استقبال بيت المقدس ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستحيل عليه أن يكره ما شرع له وإنما كان ذلك لما ذكرناه ، فأمره سبحانه وأوجب عليه ليكون الأجر أعظم بإتيان الواجب ، فإنه يقول : [ما تقرب إليّ أحد بأحب إلي من أداء ما افترضت عليه] فقال له : (فَوَلِّ وَجْهَكَ) في الصلاة ، ونزلت وهو في صلاة الظهر في شهر رجب قبل قتال بدر بشهرين ، فتحول في الصلاة بعد أن صلى منها ركعتين واستقبل الكعبة ، وحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال ، وسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين ، وهو مسجد بني سلمة ، وقوله : (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي ناحيته ومواجهته ، والمسجد الحرام هنا إنما هو الكعبة خاصة ، ونصبه على الظرف ، ولا وجه لمن قال

٢١٧

هذا النعت لجواز أن يقوم ذلك النعت بأشخاص كثيرين ، فدخلهم الاحتمال في الشخص لا في النعت. (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنه الحق فيكتمونه عن مقلديهم ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم عرفوه أنه صاحب هذا النعت ، فقوله : (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ) هم الذين يلبسون الحق بالباطل (لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) يقول : إن الحق أبلج لا لبس فيه ، لقوة الدلالة عليه.

____________________________________

إنه أراد المسجد لتعذر حصول العلم باستقبال البيت ، وما نحن مأمورين إلا بالاجتهاد حتى يغلب على ظننا أنا قد استقبلنا عين البيت ، وإن لم يكن في نفس الأمر على ذلك ، فما كلف الله نفسا إلا وسعها ، وعلى البعد المفرط يلزم في الحرم كله أي في استقباله ما يلزم في البيت ، فلا وجه لذلك القول ، ثم قال : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ) من أرض الله وأردتم الصلاة (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) ثم قال : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) يعني أهل التوراة والإنجيل (لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) يعني تحويلك إلى الكعبة وصلاتك إلى القبلتين ، فإنه مذكور في كتابهم ، وهو من جملة الأدلة على نبوتك ، ولكنهم قوم بهت قد ختم الله على قلوبهم (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) وعيد لهم ، وشفاء صدر وراحة لرسوله وللمؤمنين ، ثم قال : وإن كانت هذه من آياتك التي ظهرت لهم وعلموا صدقها ، يقول الله له : (١٤٦) (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ) يقول : ولئن جئتهم بجميع الآيات كلها التي تدل على صدقك (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) أي دينك ، ومنه القبلة المعروفة (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) أي دينهم وقبلتهم أيضا ، وذلك بشرى للنبي عليه‌السلام من ربه بثباته على استقبال الكعبة ، إذ في الإمكان أن يصرف إلى قبلتهم مرة أخرى كما صرف أولا ، ثم أخبر عنهم فقال : (وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) يعني اليهود والنصارى لا يتبع بعضهم دين بعض ولا قبلته مع اتفاقهم على مخالفتك ، ثم عرّض بهم في اتّباعهم أهواءهم ، فإنهم من الظالمين من بعد ما تبين لهم الحق ، وحذر أمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطاب فرض وتقدير ، وقد يفرض وقوع المحال مع العلم بأنه غير واقع ، لكن يؤتى به مفروضا لما فيه من الفائدة فقال (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) وهذه صفتهم ، وهو من قولهم : [إياك أعني فاسمعي يا جارة] ، ثم قال : (١٤٧) (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ) هذا مثل قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً) و (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) وهو كل كلام له وجهان ، وجه إلى ما قبله ، ووجه إلى ما بعده ، فيجوز الوقف عليه ثم يبتدئ به ، فيجوز أن يكون (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) صفة للظالمين له وجه إلى ذلك ، يقول : (إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) فإنهم ظلموا بعد ما جاءهم العلم بما جئت به ، ويقويه قوله : (مِنْ بَعْدِ

٢١٨

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٤٨)

(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) والعارف متصرف في كل وجهة لكونه يشاهد وجهه.

____________________________________

مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ) ثم يرجع القارئ بعد الوقوف عليه لبيان ما ذكرناه يبتدئ به فيقول : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) يعني أهل التوراة والإنجيل «يعرفونه» تحويل القبلة في كتابهم ، فالضمير يعود عليه هنا وأنه مذكور ، ومن أعاده على محمد عليه‌السلام فيتكلف وله موضع آخر (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) لا يشكون فيه ، فإن إخبار الله لا شك فيه ، وتقليده فيما أخبر به علم ، وتقليد الرجل المرأة أن هذا الولد له لا يقوى هذه القوة ، لإمكان الخيانة والكذب الذي يجوز عليها ، والله يستحيل عليه ذلك ، وإنما قرنه بمعرفة الأبناء وإن كان يتطرق إليه الشكّ لوجهين ، وهما : أن مثل هذا من حصول الفراش ، أو إلحاق الابن به في شرعهم هو ابنه شرعا ، ولا يجوز له إنكاره ، وقد كان هذا مقررا عندهم ، وفي الجاهلية يعرف ذلك من يعرف أنكحتهم ، فبهذا القدر وقع التشبيه وإلا كان المشبه أبين من المشبه به ، والمراد زيادة البيان في التشبيه ، ثم استثنى العلماء من أهل الكتاب الذين كتموا الحق بعد علمهم من العلماء الذين ما كتموه ومن المقلدين للكاتمين والمقرين ، فأخبر عنهم بكتمانهم الحق بعد علمهم به فقال : (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الألف واللام للعهد ولجنس الحق ، أي كل حق يأتيهم به ، أو الحق الذي تقدم ذكره من تحويل القبلة ، لأنه قد تقدم الإخبار عنهم في ذلك في قوله في أول القصة : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) ثم قال : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) بالنصب والرفع ، فنصبه على وجهين : الوجه الواحد على البدل من الحق المكتوم ، فإنه أبين من الحق الأول بإضافته إلى الرب في قوله : (مِنْ رَبِّكَ) والثاني أن يكون مفعولا لقوله : (وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ) ، ومن رفعه فعلى الابتداء (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) في كذبهم ، ويكون (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) تفسيرا لقول الله (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ) فهذا الحق ما هو ذلك الحق ، مع أنه عليه‌السلام لا يمتري في شيء مما يخبره الله ، ولكن فيه إشارة ودليل على الأخذ بالظاهر وترك التأويل لما يتطرق إلى الكلام من الاحتمالات في التأويل ، فكأنه يقول : هو كما أخبرتك لا تأويل فيه ، كما قال : (إِنْ هُوَ إِلَّا

٢١٩

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (١٤٩)

أي من كل جهة خرجت مصليا فاستقبل المسجد الحرام ، ويجوز صلاة الفرض داخل الكعبة ، إذ لم يرد نهي في ذلك ولا منع ، وقد ورد وثبت حيثما أدركتك الصلاة فصل ،

____________________________________

ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ) أي ظاهر ما فيه لغز ولا رمز كما يكون في الشعر ، فقال : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) لأنه بعث بالبيان الشافي ، ووضع الشعر ليس على هذا البناء وإن كان يقع فيه البيان ، ثم قال : (١٤٩) (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) يقول : ولكل أمة من الناس وجهة هو موليها أي جهة وقبلة يولي وجهه إليها ويستقبلها ، فمن جعل ضمير «هو» عائدا على الله يقول : أنا جعلته يولي نحوها ، وهنا وجهان الواحد : أن ذلك بقضائنا وإلهامنا إياه وإرادتنا ، والوجه الآخر قوله : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) فأصل نصبها قبلة كان منها على لسان الرسول الذي بعثناه لتلك الأمة ، أو يعود الضمير على الذي يولي وجهه نحو تلك الجهة ، ثم قال : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) أي اجروا مع الخيرات في الحلبة إلينا ، فإن الخيرات إلينا تقصد ، فإذا سابقتموها كنتم معها على طريق واحد فتوصلكم إلينا ، قال النبي عليه‌السلام : [والخير كله بيديك والشر ليس إليك] والخيرات كل عمل مشروع ، ووجه آخر فاستبقوا بالخيرات إلينا أي سابقوا بما شرعنا لكم ، اركبوها مستبقين إليّ ، ووجه آخر (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) فاستبقوا إلى الخيرات إذا رأيتموها ، فبادروا مستبقين إلى الأخذ بها ، وقوله : (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) موضع مخصوص للجمع فيه وزمان مخصوص ، فإنه تعالى مع عباده أينما كانوا ، قال تعالى : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) وهذا يؤيد أن الضمير في (هُوَ مُوَلِّيها) يعود على الله ، وإنما وقع التعريف بالإتيان لأنه من الممكنات ، فأخبر تعالى أنه واقع ، ووجه آخر تعريف للمنكرين ذلك المحيلين له بحكم جهلهم فيما غاب عنهم (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) منه إتيانهم (قَدِيرٌ) ثم عاد وقال : (١٥٠) (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فليس هذا بمعنى الأول من كل وجه ، فإن هناك الأمر بالتولية إلى شطر المسجد الحرام من موضعه ذلك وما فيه ذلك البيان ، لأنه قد يحتمل أن يقصد من ذلك الموضع لكونه شرقا أو جنوبا ، فقال له هنا : إنما يقصد لعينه من حيث خرجت ، لا تراعي شرقا ولا غربا ولا جنوبا ولا شمالا ، وإن كان في الأول ما يدل عليه في قوله : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) فإن ذكره على التعيين ، وتخصيصه يعطي من البيان أكثر من

٢٢٠